إن الكثيرين من الشبان لا يتبعون عند زواجهم العادات القويمة المألوفة، وينزعون إلى العادات المبتدعة جريا وراء التمدن الكاذب، فبدلا من أن يقتدوا بآبائهم في حياتهم ومعيشتهم الاقتصادية يندفعون مع تيار الغرور والتقليد، فيبذرون ذات اليمين وذات اليسار، ويتطرفون في الأفكار العقيمة والأقوال السخيفة والأعمال الصبيانية، فيفرغ المتزوج ما في وسعه ليبتاع فرش الدار وأثاثها على آخر طرز مبتدع، نافرا من كل مألوف شب عليه واعتاد مشاهدته ولمسه في داره، وعذره في ذلك أنه ابن العصر الجديد الذي هو خليق بزخرف المدنية الحاضرة. على أن ذلك يمحو من ذاكرته كل أثر للماضي ويذكره دائما بما يراه في الأندية والمجتمعات والمراقص العمومية، يذكره بالشطط والنزق فيطير إلى حيث يكرع كأس المدنية حتى ثمالتها، ولا يعود إلى داره إلا متعبا منهوكا، فيسلم جسمه إلى الرقاد ويقهره سلطان النعاس، فلا يفتح عينيه حتى يذكر موعدا يوشك أن يفوت ميقاته، وما هي إلا أن يهب إلى ملابسه هبوب الخاطف إلى لقطته، ويطير إلى حيث يودع الفضيلة والراحة والسعادة.
عجيب ألا يقدر الإنسان على البقاء لحظة في داره بين ما جمع من أثاث العصر الجديد ورياشه البديعة! إنها بلا روح ولا ذكرى فهي لا تؤثر على النفس والروح، إن ولع الناس بطول الغيبة عن منازلهم وعائلاتهم لشديد، كأنما هم يخافون قرب انقضاء العالم، فيبادرون إلى إشباع النفس بملاذ الحياة والتردد على جميع الأمكنة، وهم في ذلك أشبه شيء بتلك الخيالات السينماتوغرافية إذا ظهرت في ناحية لا تلبث أن تغادرها بسرعة، وإن هذه الجماعة لا يطيقون البقاء بين ذويهم، بل يفضلون الكدر خارج منازلهم على السرور والسعادة في دورهم وقصورهم. فهل هكذا كان شأن السالفين أم كانوا يقيمون على أرائكهم وبين أهليهم ما خلوا من أعمالهم، ولهم من السكينة مظهر جليل، ولمرآهم وقار وهيبة يشعر بها القريب والبعيد؟ كانوا إذا تزاوروا فللسمر وتبادل الود وتوثيق روابط الألفة والإخاء.
إلا أنه لو بعث امرئ من قبره ورأى حياة اليوم وأبناء هذا العصر، لظن المجانين قد فروا من مستشفيات المجاذيب وجعلوا يعبثون بالراحة ويقلبون نظام العالم. إن الفساد عم كل الطبقات ولم تخل منه الضياع والقرى، وحذا الناس حذو بعضهم في هذه الطريق المحفوفة بالمكاره، حتى أصبح من المدنية ودلائل الرقي هجر الدور لتعمير الحانات والمواخير.
وليس الفقر ونكد العيش الذي يشكو منه العالم بكاف للدلالة على سوء الحالة التي وصل إليها أبناء العصر الحاضر. ولو تساءلت عن السبب الذي يدعو القروي إلى هجر داره، وقضاء أغلب أوقاته في حانة القرية، مع أن الدار هي بذاتها التي نشأ فيها وألف أركانها وقاعاتها ودرج منها أبوه وجده لم تتبدل ولم تتغير، ولو تساءلت عن السبب الذي جعله يتأفف من المجتمعات العادية في ضوء القمر في عرصات الدور، حيث كان يغني مع رفاقه ويضحك بملء فيه لكان الجواب على ذلك: إنه أخذ من الحضارة والمدنية بقسط عظيم.
اللهم إن كانت المدنية هي هذا الفساد الذي يخرب الدور ويفرط عقد العائلات، ويزج بالرجال في مواخير الفجور وحانات الخمور، ويفسد العقول والنفوس ويميت الضمائر، ويطرد السرور من القلوب ويقتلع السعادة من البيوت الآهلة؛ فإنها لبئس المدنية وخير منها البداوة والهمجية.
المدنية الصحيحة بعيدة عن مثل هذه النقائص بعد الخير عن الشر، وما هذه إلا إفراط لإرضاء شهوة النفس وتقليد نشأ عن ضعف الإرادة، والتورط في المضار بغير تفكير ولا تدبير، وعن إهمال الواجبات العائلية والابتذال في سبيل الملاذ المضرة بالصحة والسمعة، وترك الاعتدال في العيش والسرور.
ولا يقوم هذا الاعوجاج غير الرجوع إلى العادات القديمة الحسنة، واحتقار هذه المضار المتفشية احتقارا ينفر منها النفس ويردعها عن الغي؛ عساها ترعوي وتنشط للتطهر من أدران تلك الحياة المرتبكة. إن من عادات الأقدمين في اللهو والسرور ما يشرح الصدور، ويبعث في القلوب الفرح والابتهاج، فلو تعمد تلك الوسائل نفر من الشاردين، وقارن بين الأغاني القديمة المهذبة وبين ما يتغنى به اليوم دعاة الفجر والفساد، لتهييج العواطف وسحر العقول، لعرف الفرق بين الفضيلة والرذيلة والميزة بين العفاف والدعارة.
زينة المرء الخلق، فالأخلاق حلية الرجال ودليل التكمل، وكل فرد سفلت أخلاقه سقط في نظر الناس، والأمة مجموع الأفراد فمتى انسرح أفرادها من الأخلاق الفاضلة تجردت الأمة من دلائل الكمال، وخلا مكانها بين مصاف الشعوب الراقية. فالحكمة في الاحتفاظ بالأخلاق والعادات القومية احتفاظ العارفين بالآثار النفيسة، فإنها عنوان الكمال والدليل المحس على الرقي والتحضر.
وقد يلاحظ أن هذا محال على كثيرين؛ لوفرة جهلهم كل ما يختص بالحياة العائلية والأخلاق الفاضلة. والحقيقة أن المحال أو العسير إنما هو وجود روح الاعتدال التي تحبب الحياة العائلية إلى الإنسان، فإذا ما وجدت سهل غيرها من وسائل السعادة على المرء؛ لأنه يستطيع أن يقلد الحسن كما استطاع أن يقلد غيره من المفاسد والمضار.
إن الحياة العائلية لا تحتاج أفرادا عديدين، أو دارا مشيدة، أو سعة ليست في استطاعة العائل؛ فالرجل يستطيع أن يهنأ في كوخه، وينعم مع زوجته، ويجعل السعادة ترفرف على خصهما الحقير متى عرف كيف يعيش ويبعد عن مزالق الحياة الفاسدة ويقمع شهوة النفس الخبيثة.
صفحة غير معروفة