وليس السرور من الماديات، بل هو شعور ينبعث من النفس ويشعر به القلب، وقد تبدو ظواهره على الوجه في شكل ابتهاج، أو ترتسم أماراته على الثغر في زي ابتسامة؛ ولهذا يرجح كون بواعث الانقباض والاستياء التي يشعر بها الإنسان في هذا العصر نفسية أيضا، ولو أن منشأها المؤثرات الخارجية.
ومن مقتضيات السرور الحقيقي الأمن والاطمئنان إلى الحياة والثقة بالنفس، وهي ما ينقص الناس. إن الرجال، بل والشبان يضنيهم التفكر في أمر الحياة وإن لم يكونوا من الفلاسفة. وكيف يطرق السرور هذه القلوب، ما دامت الأفكار مشتتة تعبة تود لو أن العالم لم يخلق والوجود لم يكن؟
إن الإفراط قد أودى بقوى الإنسان الحيوية فأصابها الانحطاط والوهن، وفسدت الحواس وضعفت المشاعر حتى قضي على جميع أسباب السرور؛ لكون الطبيعة لا تحتمل كل المفاسد التي يرتكبها المرء ويقتل بها النفس والعواطف. ولكن رغبة الإنسان في الحياة ومتاعها لم تزل حاكمة متحكمة في نفسه، تصرفها إلى التفتيش عن بواعث السرور أنى وجد، ولو كان باطلا ووهميا.
وكما أن الطبيب يلتجئ عند الضرورة إلى الوسائل الصناعية في التنفس والتغذية وغيرهما، متى كان المريض في حاجة إلى مثل ذلك، فكذلك ترى الناس يعنون بإيقاظ السرور من مرقده، وبعثه من قبره، فيضطرهم ذلك إلى استنباط الوسائل الآتية به والمؤدية إليه، بغير أن تردعهم النفقات الطائلة والعوائق الجمة. ولكنهم - مع ما كلفوا أنفسهم من المصاعب، وصنعوه من الممكن والمحال، وما أعدوه من المعدات - لم يذوقوا قطرة واحدة من السرور الحقيقي.
وهنالك فرق واضح بين السرور ومعداته، فكما أنه لا يكفي الحصول على القلم ليكون الإنسان كاتبا، ولا تأبط المزمار ليكون موسيقيا بارعا، فكذلك لا يكفيه أن يهيئ كل معدات السرور ليكون مسرورا. والمشاهد أن الكاتب المقتدر يكتفي بقصبة - لا قيمة لها - ليكتب ما يخلد الذكر ويعطر الاسم، وأن المصور الماهر يرسم بقطعة من الفحم ما يعد من المعجزات ويبقى من آيات الفن وبدع الدهر. فالعبرة إذن بالخبرة والموهبة وعليهما المعول. ومن عرف كيف يسر ويهنأ لا تكلفه السعادة نفقة ولا جهدا. ولكن هذه الموهبة لا تتفق مع السفسطة والغرور والإفراط، ومن لوازمها الثقة بالنفس والاعتدال في الفكر والعمل؛ فحيث تجد الاعتدال ترى السرور الحقيقي وتشعر بالسعادة الصالحة، كما أنك حيث تجد الزهر العطر تشتم عبيره المنعش. وكثيرا ما ترى الزهرة تنبت بين حجرين، أو تخرج في شق جدار متهدم، أو في جانب صخرة ملساء فتعجب وتدهش وتتساءل: كيف نبتت وكيف أزهرت وكيف صارت يانعة عاطرة؟ مع أنها لا توجد بهذا المنظر البهيج في حديقة غناء تسقى وتخدم، بل كثيرا ما ذبلت بين يدي المعجب بها، وذوت أمام ناظريه، وهو عاجز عن دفع ما حاق بها.
سائلوا الممثلين ورجال المراسح عن أكثر الناس سرورا وابتهاجا بالتمثيل الهزلي، يدلوكم على الجمهور الساذج، وهم محقون في ذلك؛ لأن هذا الصنف من الناس لم يختلف كثيرا إلى المراسح، بل لا يقصدها إلا نادرا فيرى الأشياء في بهجة الجديد وروائه، ويسمع الكلام كأنه غريب عن آذانه التي لم تعتد الهزل ولم تعرفه، فيجد لذة بعد جهد النهار وتعب الأسبوع. وهذه اللذة حقيقة بذلك النفر؛ لأنهم لم يذوقوها إلا بعد طويل الحرمان، وهم أعرف الناس بقيمتها، كما يعرف العامل الكادح قيمة الدرهم الحقير بعد طويل الكد والتعب. وزد على ذلك أن العامل الساذج يتأثر مما يشاهد تأثرا حقيقيا، كأنه حوادث واقعة غير شاك ولا مرتاب، فيلهو بما يرى ويسر سرورا حقيقيا لا يعرفه من يقضي حياته على المراسح ويعرف حقيقة التمثيل.
فمما يدعو للأسف أن البساطة سر السعادة وروحها أخذت تزول حتى من الوسط الساذج، وبعد أن كنا نندب حظ سكان المدن الذين اطرحوا وراء ظهورهم العادات والتقاليد الممدوحة، أخذنا ننظر بحزن واستياء إلى حال القرويين الذين اقتفوا خطوات المتحضرين في تلك المزالق الخطرة، فانكبوا على الكحول واعتادوا المقامرة وألفوا قراءة ما يفسد الأخلاق ويحرك العوامل الكامنة، فيطوح بالمرء إلى بؤرة الفساد والرذيلة.
زالت البساطة من ذلك الوسط بعد أن كانت هي دعامة الهناء والسعادة حينا من الدهر، فأخذت الحياة الملفقة مكانها وأفسدت كل صالح وقضت على كل حسن، وإن من يقارن بين الأعياد والأفراح التي كانت تقام في القرى وبين أمثالها اليوم؛ لتذوب نفسه حسرة وحزنا على ما فات.
أين ذلك الزمن الذي كان الناس فيه إخوانا يشمل عرس أحدهم كل أبناء الضيعة، فيجمعهم سامر واحد وتربطهم عاطفة واحدة، يستجلونها في غنائهم وصياحهم ورقصهم وتصفيقهم بعد أن يملئوا بطونهم طعاما مغذيا وماء قراحا؟
إن السرور والسعادة من المسائل الرئيسية في الحياة الدنيا، ولكن بعض العقلاء ذوي الرزانة يهملونها كأنها لا تستحق الاهتمام والذكر، وينفر منها المتمولون ذوو المطامع المادية الذين حصروا حياتهم في الكسب والادخار؛ لتوهمهم أنها مما يستدعي كثرة الإنفاق والتبذير. أما من نعرفهم في المجتمع بالشهوانيين فإنهم يبحثون عنها في غير مكانها، كما يبحث الخنزير عن الأقذار في الحديقة الفيحاء.
صفحة غير معروفة