فمن الواجب تجريد الحياة من الأعباء الباطلة، وتحريرها من هذا الرق وتمييز مواضع الأمور وأهميتها، والاعتقاد بأن الوسيلة الوحيدة لرقي النوع البشري هي العناية بتهذيب الروح والخلق.
وكما أن فائدة المصباح لا تقوم بحسن زخرفه ودقة صناعته، ولا بنفاسة معدنه، بل بمقدار ضوئه وسطعانه، فكذلك لا يجوز تعيين مرتبة الإنسان وقدر قدره بما ملكت يداه، ولا بسعة عيشه، ولا ببسطة جاهه لا، ولا بطول باعه في العلميات أو الفنيات فإنما المرء بخلقه وأدبه.
ومع أن صور الحياة تختلف باختلاف الأزمان وتفاوت العقول، فأي عاقل ينكر خطر الانتقال الفجائي من طور إلى طور، أم من يقول: إن الاعتدال سيء المغبة، أو إن خطته هي غير خطة الإصلاح المؤدية إلى الغاية الشريفة؟
روح الاعتدال
يتوهم الناس أن للاعتدال دلائل ظاهرة تدل عليه، كعدم التأنق في الملبس واختيار المسكن البسيط وما أشبه ذلك. ولكن هذا الظن فاسد وباطل، وإننا لنربأ بالناقد البصير أن يمر به غني متبجل في مركبته ومتوسط حال ماش على قدميه ومعدم يتعثر بأسماله البالية؛ فيبادر إلى تقرير حكمه في كل من الثلاثة مستندا على هذه الظواهر؛ قد يجوز أن يكون ذلك الغني المترفه - رغما عن بسطة الرزق وسمو المركز الاجتماعي ومظاهر الجاه والثروة - معتدلا في أمره ليس عبدا للمال ولا أسيرا لحب الظهور. وقد يجوز أن يكون الرجل المتوسط قانعا بما في يده، لا يغبط الغني ولا يحسده على عزه وجاهه، ولا يحتقر الفقير لحاجته ولا يزدريه لعوزه. كما أنه يتأتى أن يكون ذلك الفقير المعدم طموحا لما لا يتفق مع فاقته، غير ميال للعمل عدوا للقناعة يمني نفسه بالسعة، وهو عائش في ظل الخمول والبطالة.
فمن أبعد الناس عن الاعتدال السائل الذي يعتاش من التسول وهو قادر على العمل والارتزاق، وذلك المجامل الذي يقول ما لا يعتقد إرضاء لمحدثه واستدرارا لماله، وذلك الطفيلي المتملق الذي يعيش على موائد مقربيه المخدوعين في أمره؛ فأولئك وجودهم عالة على الغير، وحياتهم عبء على المجتمع. ولو فحصت نياتهم وأفكارهم لعرفت أن أمانيهم تنحصر في الظفر بما يستطاع مما يتنعم به الغني الممتع. وفي عداد هؤلاء الممقوتين الطموع ومن لا مبدأ له والمذبذب والبخيل والمتكبر والمتقلب.
وليس الاعتدال صفة تختص بها طبقة من الناس دون سواها، كما أن المظاهر ليست من مميزاته والدلائل عليه. فهو موجود في كل طبقات المجتمع الإنساني على السواء، ويظهر على صور مختلفة وأشكال متباينة. وليس المراد بهذا القول عدم وجود أدلة ظاهرة تدل عليه، أو مميزات خاصة يعرف بها؛ إذ جل القصد من هذا التوكيد النجاة من الخلط بين الأعراض الباطلة والجواهر الحقيقية؛ فالاعتدال روح لا مادة، والإنسان المعتدل هو الذي ينحصر اهتمامه في أن يكون إنسانا «بكل معنى الكلمة» فيتكمل بكل صفات الرجولة ليكون رجلا لا أكثر ولا أقل. وليس هذا يسيرا ينال ولا صعبا يستحيل كما يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، على أنه لا يتأتى تحقيقه إلا إذا ارتبطت الإرادة والعمل بنواميس الاجتماع، وطابقت مشيئة الخالق وحكمته في خلق الإنسان ووجوده. ومعنى هذا أن تقف الخلائق عند الحد المعين لكل منها، وأن تكون لما خلقت له فقط، فيبقى الطير طيرا والحجر حجرا والإنسان إنسانا، فلا يصير ثعلبا محتالا ولا يمسخ وحشا ضاريا.
الحياة عبارة عن اتحاد المادة بالقوة وعملهما معا، غير أن بعض الماديين قد ذهلوا عن ماهية الحياة. ولما كانت رغبة الإنسان واهتمامه منصرفين إلى زيادة قيمة الحياة والسمو بها إلى الأوج الأعلى، فلا يمكن تشبيه الوجود بالمادة الأولى الأساسية لكل شيء. وليس الغرض ماهية الوجود، بل نتيجته ومؤداه. كما أن العبرة ليست بمادة الأثر الثمين، ولكن بما فيه من إحكام وإبداع. والمواد تختلف اختلافا نوعيا؛ فمنها الذهب والرخام والخشب والتراب، ومع أن للذهب قيمة ثمينة فقد يسيء صانع في صنعة ما يصوغه منه فيحط من قيمته، ويوفق آخر إلى عمل أثر خالد من التراب، لا يقدر له ثمن ولا تجد له قيمة. فالحكمة إذن في صوغ حياة الإنسان وتنسيقها؛ لتكون في أجمل وأجل مظاهرها الصادقة التي ترفع قيمتها وتشرف قدرها.
ومن الصفات المحسنة ذات الاعتبار في جميع الأزمنة وسائر الأمكنة العدل والحب والحقيقة والحرية والإحساس والشعور، وهذه الصفات تلائم كل أفراد الهيئة الاجتماعية على اختلاف الطبقات في كل العصور، وليس من المحال اعتيادها والتطبع بها مهما اختلفت درجات الناس في التربية والتهذيب. ومن هذا نعرف أن قيمة الرجل ليست بماله ولا بمميزاته الشخصية، بل بصفاته وبالكمالات التي عني لها، فالعبرة بالصفة الحقيقية لا بالرونق الظاهر.
ومن البديهي أنه لا يمكن الوصول إلى هذه الغاية بدون جهد وتعب؛ لأن روح الاعتدال ليست مما يتوارث، ولكنها جعالة جهاد طويل وثمرة سعي متواصل.
صفحة غير معروفة