رسم الأهداف

تصانيف

رسم الأهدف المستقبلية وسبل تحقيقها في ضوء السنة النبوية الأستاذ الدكتور عبد القادر مصطفى المحمدي الجامعة العراقية (الاسلامية سابقًا) قسم الحديث النبوي

1 / 1

المقدمة إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمدًا عبده ورسوله ﷺ،وبعد: إنّ الأزمة الحقيقة التي يعيشها المسلمون اليوم هي افتقارهم إلى الأهداف الاستراتيجية التي تجعلهم يندمجون مع التطور الكبير الذي يشهده العالم، والسباق العلمي الذي يتنافس عليه غيرهم. والحقيقة أنّ للعالم عقلًا وقلبًا ومعدة، ودورنا اليوم هو دور المعدة التي تستهلك الصناعات والتكنلوجيا فقط!، فنحن نأكل ما لا نزرع، ونلبس ما لا نصنع! فالدول العربية اليوم تشهد نهمًا كبيرًا في استهلاك ما يصنعه الغرب والشرق، فإذا كان الشرق والغرب يتسابقون إلى من يصنع أحدث تكنلوجيا في الطائرات -مثلًا-،فنحن نتفاخر في أول من يشتريها، وبين ذين فرق! وما لم نتدارك أنفسنا فسيأتي يوم قريب نعجز عن ركوب هذه الطائرة ناهيك عن شرائها. فتحول العرب والمسلمون من محرِك للإحداث في العالم إلى محرَك، ومن مؤثِر إلى متأثِر، والسبب الرئيس في هذه الأزمة الحقيقية هي أزمة حضور في هذا العصر، فالأمة اليوم مغيبة بقدر كبير جدًا عن شهود هذه النهضة في العالم. ومن أهم الأسباب التي تقف وراء هذا النكوض الحضاري هو الأبتعاد عن جوهر الكتاب والسنة، واقتصار قرائتنا لهما على نية البركة والأجر حسب، دون الوقوف على مقصودهما وتدبر ما فيهما، فصار مثلنا اليوم: كالعيس في البيداء يقتلها الضمأ والماء فوق ظهورها محمول صار حالنا هكذا بعد ردح من التاريخ كنا فيه قادة، وللناس سادة، وكنا آنذاك روّاد حضارة، في وقت كان العالم كله يغط في نومه، وخيرهم من يمني نفسه أن يصل إلى معشار ما وصلت إليه الأمة المسلمة وقتئذٍ. أنا لا أريد جلد الذات -كما يقال- ولكن الحساب بقدر المسؤولية، وأمتنا ليست أمعة بين الأمم، ولم تكن في سلفها - ولا في لاحقها إن شاء الله تعالى- ذَنَبًا لحضارة من الحضارات، بل هي الأمة الرائدة القائدة التي تحمل مسؤولية إصلاح الارض وتمكين دين الله تعالى بالحكمة والموعضة الحسنة، فهي الأمة

1 / 2

الوسط، خير الأمم والشاهدة عليها، لذا فلزامًا علينا أنْ رسم الخطط، ونضع الرؤى والأهداف، ولزامنًا على أفراد هذه الأمة ومن يحمل همومها أن يحركوا الماء الراكد، ولو بحجر صغير -كبحثنا هذا-. فالتخطيط لرسم الأهداف هي المرحلة الأولى لبدء المشوار، وكل أمة لا ترسم أهدافًا جزئية آنية، وستراتيجية مستقبلية، هي أمة خاملة، ومن لم يكن له مشروع صار مشروعًا لغيره! فرجعة إلى كتاب الله وسنة نبيه ﷺ لنتفحص الآيات والأحاديث بقرآءة جديدة، قراءة يملؤها الأمل، والطموح لنستخرج الدرر الكامنة فيهما، ونحول (المسطور) في كتاب ربنا وسنة نبينا ﷺ إلى (منظور) في أرض الواقع، وهكذا حاولت في هذه الدراسة الموجزة أن نضع لنا بصمة في هذا الطريق الطويل عسى أن تكون الخطوة في الألف ميل. وأقول بكل ثقة إنّ في كتاب ربنا وسنة نبينا ﷺ من القواعد والثوابت التي يزعم الغربيون وكثير من الشرقيين أنهم مَنْ سجّل السابقة في ذلك، والحقيقة الصارخة أنّ للإسلام قصب السبق في ذلك، كما تبين في طيات هذا البحث، فالنبيّ ﷺ كان يخطط لأهدافه بأعلى مستويات التخطيط الدقيق، ووضع لنفسه أهدافًا قريبة، وأخرى بعيدة، ومن تأمل جيدًا في سيرته ﷺ يجد فيها أنواع فنون الإدارة، وأعلى مستويات القيادة، وأدق أنواع التخطيط ورسم الأهداف. وحاولت في هذه الدراسة - المتواضعة - تسليط الضوء على جزيئة مهمة وهي (رسم الأهداف) من خلال الحديث النبوي، موضحًا ماهية الأهداف، ومواصفاتها الجيدة، والقواعد العامة لتحديدها، ومن هم الشركاء في صناعتها. ومن أهم ما أنبه عليه ههنا: أنّ الأمثلة التي نذكرها ههنا هي ليست أمثلة جامدة في حقبة زمنية معينة، وليست خاصة بالنبي ﷺ بل هي دورس حيّة، سارية المفعول في كل زمان ومكان، وتخص كل أفراد الأمة، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ الأحزاب٢١. والأمة مأمورة باتباع النبي ﷺ في سنته، قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ آل عمران٣١. فهذا أمر من الله تعالى لنا باتباع النبيِّ ﷺ لا أنْ نقلده، وبينهما فرق كبير، فالاتباع هو اللحاق بالأول بعلم وفهم (١)، بخلاف التقليد الذي يعني: متابعة الإنسان لغيره فيما يقوله أو يفعله من غير نظر وتأمل في الدليل، كأن المتبع جعل قول الغير أو فعله قلادة في عنقه (٢).

(١) ينظر: الوقوف على مهمات التعاريف ص٣٧. (٢) المصدر نفسه ص١٠٦.

1 / 3

فالاتباع مظنة الأبداع، والتقليد مظنة الجمود (١). ولذا فالمطلوب هنا هو التأمل في سنة النبي ﷺ وسيرته العطرة، وتوظيف النصوص بطريقة تلائم حاجات الأمة ومتطلبات المرحلة، وتعالج الخمول الذي خيم على مجتمعنا اليوم، ولاسيما أن الله تعالى يسّر لنا ما كان يحلم به غيرنا في سالف الأزمان، فوسائل التواصل وسبل الاتصال مبذولة لطلبة العلم اليوم. ولا يفوتني التنويه إلى شحة الدراسات التي تعرضت للتخطيط ورسم الأهداف من خلال السنة النبوية، وكل من كتب في الأهداف -في حدود اطلاعي- فإنما تعرّض إليها ضمنًا لا أصلًا، وبطريقة إدارية بحتة، وغالب الأمثلة مكررة وتدور على حديث أو حديثين. لذا اجتهدت قدر المستطاع في توجيه النصوص حسب الخطة المرسومة، فجاء بهذا الشكل، فبحثي هذا إن كتب له القبول إنْ شاء الله يكون أوّلًا في بابه، وقد يكون نقطة انطلاق لرسالة علمية متخصصة في رسم الأهداف، والفضل بعد فضل الله تعالى يعود لـ (ندوة الحديث الشريف) المباركة في فتح هذه الأفاق الجديدة الإبداعية كما تعودنا عليها منذ انطلاقتها، وفق الله القائمين عليها، وجعله في ميزان حسناتهم. وقد اختصرت الكلام بغير اخلال فيه، ليتوافق مع الشروط المقررة في هذه الندوة، وحاولت الاقتصار على الأحاديث الصحيحة، إلاّ إذا لم يكن في الباب غيره، فأذكره وأنبه عليه في موضعه. وأخيرًا فهذه بضاعتنا مزجاة بين أيديكم، نسأل الله الكريم أنْ يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه، وأن يوفق أخوتي الباحثين للإستفادة منه وتطويره بالشكل الذي يحقق النفع الأكبر، وما كان فيه من صواب فمن توفيق الله وحده، وما كان فيه من خلل وقصور فمن ضعفي وقلة حيلتي. والحمد لله رب العالمين.

(١) محاضرات في العقيدة الاسلامية، د. عبد القادر المحمدي ص١٥.

1 / 4

المبحث الأول: (الهدف) مفهومه، وشروط تحقيقه المطلب الأول: تعريف الهدف لغة واصطلاحًا جاء في العين:" والهَدَفُ: كلّ شيء عريض مرتفع. وأَهْدَفَ الشَّيءُ، إذا انْتَصَبَ" (١). وقال ابن فارس: الْهَاءُ وَالدَّالُ وَالْفَاءُ: أُصَيْلٌ يَدُلُّ عَلَى انْتِصَابٍ وَارْتِفَاعٍ. وَالْهَدَفُ: كُلُّ شَيْءٍ عَظِيمٍ مُرْتَفِعٍ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الرَّجُلُ الشَّخِيصُ الْجَافِي هَدَفًا. قَالَ: وَالْهَدَفُ: الْغَرَضُ. وَرَكَبٌ مُسْتَهْدِفٌ: عَرِيضٌ. وَامْرَأَةٌ مُهْدِفَةٌ: لَحِيمَةٌ. وَأَهْدَفَ لَكَ الشَّيْءُ: انْتَصَبَ. وَمِنَ الْبَابِ الْهِدْفَةُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النّاس. وفي الحديث:"أنّ النبيّ ﷺ كان إذا مرّ بهَدَفٍ مائل أو صدفٍ مائل أسرع المشي". (٢) " (٣). وأما الهدف اصطلاحًا: فقال ابن الأثير:" الهدف: كل بناء مرتفع مشرف ..، يقال: أهدف له الشيء واستهدف، إذا دنا منه وانتصب له مستقبلا " (٤). وقد وردت كلمة هدف أيضًا في حديث عبد الله بن جعفر قال: أردفني رسول الله ﷺ ذات يوم خلفه فاسر إليَّ حديثًا لا أخبر به أحدا أبدًا وكان رسول الله ﷺ أحب ما استتر به في حاجته هدف أو حائش نخل، .... الحديث " (٥). وقال المناوي:" الهدَف -محركًا- كل شيء عظيم مرتفع، والغرض وقولهم من صنف فقد استهدف أي انتصب كالغرض يرمى بالأقاويل " (٦). ومن معاني الهدف (الغرض)، وهذا الذي استعمله النبيّ ﷺ في أكثر من مناسبة، فقال ﷺ:"لا تتخذوا شيئًا فيه الروح غرضًا " (٧). ومنه ما أخرجه أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن مغفل المزني، قال: قال رسول الله ﷺ:" الله الله في أصحابي، الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضًا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم

(١) العين باب (هـ د ف) ٤/ ٢٨. (٢) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (٢٦٦٤١)،والبيهقي في شعب الايمان (١٣١٦)،وإسناده مرسل (٣) مقاييس اللغة ٦/ ٣٩ - ٤٩،وينظر الصحاح، للجوهري ٤/ ١٤٤٢. (٤) النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير ٥/ ٢٥١، بتصرف يسير، وينظر غريب الحديث لابن الجوزي ٢/ ٤٩٢. (٥) أخرجه أحمد١/ ٢٠٤،وإسناده صحيح. (٦) التوقيف على مهمات التعاريف ص٧٣٩. (٧) أخرجه مسلم ٣/ ١٥٤٩ (١٩٥٧)،وغيره.

1 / 5

فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله ﷿، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه" (١). قال المناوي:" الغرض: الهدف المقصود بالرمي، ثم جعل اسما لكل غاية يتحرى إدراكها، وقال الشريف: الغرض هو الفائدة المترتبة على الشيء من حيث هي مطلوبة بالإقدام عليه " (٢). فالأهدف والأغرض بمعنى واحد، وهما: الغاية التي يتحراها طالبها للوصول إلى مراده، ولا تتحقق إلا بالإقدام عليها، وقد تكون واحدة أو أكثر، كلية أو جزئية. المطلب الثاني: شروط تحقيق الأهداف (في ضوء السنة النبوية) لتحقيق الأهداف شروط مهمة يجب توفرها حتى تتحقق الأهداف، وأهم هذه الشروط: أولًا: أن يكون الهدف محددًا واضحًا: خلق الله تعالى هذا الكون بنظام دقيق، فهو يسير وفْق غاية محددة وهدف منشود، وهذا النظام الكوني البديع مرآة تدلّ على أنّ كل شيء فيه له هدف. قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ﴾ الأنبياء١٦، فالله ﷻ خلق هذا الكون ونظمه، وجعل له أهدافًا بينة وواضحة ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ القمر٤٩. فالأنسان -أي انسان - لو تامل قليلًا بتجرد تام في ملكوت السموات والأرض لما ملك نفسه أن يعترف بهذا الخالق العظيم. ولما كان الأنسان خليفة في هذه الأرض كان عليه أنْ يعرف الهدف الذي يعيش من أجله، ويسعى لتحقيقه، وإلاّ فإنه ولد وعاش وسيموت وهو لا يدري لم خلق وأين سيمضي. أما المسلم الدّاعي إلى الله فيجب عليه أولًا أن يُحدِّد الهدف من دعْوته، وتحديد الهدف يدفعه إلى سلوك السبل الصحيحة المرتّبة في حياته، فيكون لكلامه حينئذٍ أكثر نفعًا، وأبلغ تأثيرًا. وأزعم إنّ ما يَحدُث في ميدان الدّعوة اليوم من اخفاقات سببها في أغلب الأحيان عدم تحديد الأهداف ووضوحها، إذ يَتَشتّت ذهن المستمع في موضوعات شتَّى وفي أمور متنوِّعة، تجْعله ينصرف عن الدّعاة، لأنه لم يجد لديْهم هدفًا مُحدّدًا. ولقد حدّد الله ﷾ الهدَف من خلْق الإنسان قبل خلقه!،فقال: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ البقرة٣٠،وأمر الملائكة أن يسجدوا له فقال: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ

(١) أخرجه أحمد ٥/ ٥٧،والترمذي (٣٨٦٢)،وغيرهما، واسناده ضعيف. (٢) التوقيف على مهمات التعاريف ص ٥٣٦.

1 / 6

فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ الحجر٢٩.وحدد له وظيفته في هذا الكون، فقال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ الذاريات٥٦،وحدّد ﷺ مضمونَ رسالته، والغايةَ منها، منذ أوّل يوم، إذ صعد على جبل الصفا في قلب مكة، فصدح بهدفه، فأخرج البخاري من حديث ابن عباس ﵁ قال:": لما نزلت ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ الشعراء٢١٤. صعد النبيّ ﷺ على الصفا فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي، لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أنْ يخرج أرسل رسولًا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش فقال ﷺ:" أرأيتكم لو أخبرتكم أنّ خيلا بالوادي تريد أنْ تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ ". قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقًا. قال:" فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ". فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا، فنزلت ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾ المسد:١،٢ " (١). فالنبيّ ﷺ جمع عشيرته وأقاربه على صعيد واحد، وحدد لهم الهدف الذي بعث من أجله، بكل وضوح ودقة وإيجاز، وكذا أخرج أحمد في مسنده من حديث أبي الزناد عن ربيعة بن عباد الديلي، قال: رأيت رسول الله ﷺ بصر عيني بسوق ذي المجاز يقول:" يا أيها النّاس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا". ويدخل في فجاجها والنّاس متقصفون عليه، فما رأيت أحدًا يقول شيئًا وهو لا يسكت، يقول:" أيها النّاس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا". إلاّ أنّ وراءه رجلًا أحول وضيء الوجه ذا غديرتين، يقول: إنّه صابئ كاذب. فقلت: من هذا؟ قالوا: محمد بن عبد الله، وهو يذكر النبوة قلت: من هذا الذي يكذبه؟ قالوا: عمه أبو لهب " (٢). ومن الدقة العالية للأهداف النبوية أنه حدد مطلبه من قومه بكلمة واحدة: (لا إله إلا الله)، ولكنهم رفضوها، قال ابن عباس ﵁:مرض أبو طالب فجاءته قريش وجاءه النبيّ ﷺ وعند أبي طالب مجلس رجل، فقام أبو جهل كى يمنعه، وشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي: ما تريد من قومك؟ قال: إني أريد منهم كلمة واحدة تدين لهم بها العرب، وتؤدى إليهم العجم الجزية". قال: كلمة واحدة! قال:" كلمة واحدة". قال:" يا عم قولوا لا إله إلا الله". فقالوا: إلها واحدًا (ما سمعنا بهذا فى الملة الآخرة إنْ هذا إلا اختلاق). قال: فنزل فيهم القرآن: ﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ* بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ ص ١و٢ إلى قوله: ﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾ ص ٧" (٣). فالنبيّ ﷺ حدد هدفه (كلمة واحدة)،وأخبرهم بالنتائج المستقبلية التي خطط لها النبيّ ﷺ، تدين لهم العرب، وتؤدي العجم الجزية إليهم، وهذا بالتأكيد ناتج عن تخطيط نبوي على مستوى عالٍ، فكأني بالنبيّ ﷺ

(١) أخرجه البخاري (٤٤٩٢)، ومسلم ١/ ١٩٢ (٢٠٤)،وغيرهما. (٢) الحديث صحيح، أخرجه أحمد ٤/ ٣٤١. (٣) أخرجه أحمد ١/ ٢٢٧،والترمذي (٣٢٣٢)، والنسائي في الكبرى (٨٧١٦)،وغيرهم

1 / 7

كان يجلس الساعات والأيام يفكر ويرسم الخطط لتحقيق الأهداف، وبالتأكيد يظلله الوحي ويسدد تلك الخطوات. لذا كان لهذا التحديد والوضوح أثر بالغ في التأثير في إسلام كثير من الصحابة، فالإنسان السوي يهمه وضوح الأهداف ودقة الرؤى في ما يطلب منه، لاسيما في مسألة تتعلق بنهايته المحتومة، وبآخرة إما إلى خلود في الجنة أو في النار-أعاذنا الله منها-. فعن عبد الله بن عباس ﵁ قال: بعثت بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافدًا إلى رسول الله ﷺ فقدم عليه وأناخ بعيره على باب المسجد ثم عقله ثم دخل المسجد ورسول الله ﷺ جالس فى أصحابه، وكان ضمام رجلا جلدًا أشعر ذا غديرتين، فأقبل حتى وقف على رسول الله ﷺ فى أصحابه، فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقال رسول الله ﷺ:" أنا ابن عبد المطلب". قال: محمد؟ قال:" نعم". فقال: ابن عبد المطلب: إني سائلك ومغلظ فى المسألة، فلا تجدنًّ فى نفسك. قال:" لا أجد في نفسي، فسل عما بدا لك". قال: أنشدك الله، إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك: آلله بعثك إلينا رسولًا؟ فقال:" اللهم نعم". قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك: آلله أمرك أنْ تأمرنا أن نعبده وحده لا نشرك به شيئًا، وأنْ نخلع هذه الأنداد التى كانت آباؤنا يعبدون معه؟ قال:" اللهم نعم". قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك: آلله أمرك أنْ نصلي هذه الصلوات الخمس؟ قال:" اللهم نعم". قال-ابن عباس-: ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة، الزكاة، والصيام، والحج، وشرائع الإسلام كلها، يناشده عند كل فريضة كما يناشده فى التي قبلها، حتى إذا فرغ قال: فإني أشهد أنْ لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمدًا رسول الله، وسأؤدي هذه الفرائض وأجتنب ما نهيتني عنه ثم لا أزيد ولا أنقص. قال: ثم انصرف راجعًا إلى بعيره، فقال رسول الله ﷺ حين ولّى:" إنْ يصدق ذو العقيصتين يدخل الجنة". قال: فأتى إلى بعيره فأطلق عقاله ثم خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه فكان أوّل ما تكلم به أنْ قال: بئست اللات والعزى. قالوا: مه يا ضمام اتق البرص والجذام اتق الجنون. قال: ويلكم إنهما والله لا يضران ولا ينفعان، إنْ الله ﷿ قد بعث رسولًا وأنزل عليه كتابًا استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أنْ لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأنّ محمدًا عبده ورسوله، وإني قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه. قال: فوالله ما أمسى من ذلك اليوم وفى حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلمًا. قال: يقول ابن عباس: فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة" (١).

(١) أخرجه أحمد ١/ ٢٥٠ و١/ ٢٦٤ و١/ ٢٦٥، والدارمي (٦٥٢)، وأبو داود (٤٨٧)،وغيرهم.

1 / 8

فالوضوح والدقة في تحديد الهدف غيرتا حال الرجل من حال إلى حال بهذه السرعة، وتحول إلى داعية إلى دين الله تعالى. ثانيًا: أن يكون الهدف قابلًا للتنفيذ قد يضع الأنسان لنفسه أهدافًا كبيرة، لكنه يفشل في تحقيقها لا لغلل فيها، وإنما لكونها غير قابلة للتنفيذ أصلًا، ربما من قبله فقط أو من قبل أي شخص آخر، لذا فالمؤسسات الناجحة هي التي تضع أهدافًا تقبل التنفيذ. والهدف القابل للتنفيذ هو الهدف الذي يناسب قدرات الشخص نفسه-أو المؤسسة- وإمكانياته ومستواه، لذا نجد في بعض مؤسساتنا اليوم مشاريع ضخمة تنطلق ولكنها سرعان ما تفشل بعد فترة وجيزة؛ كون تلك الأهداف غير قابلة للتنفيذ في ذلك البلد بالذات لسبب أو لآخر. وأحسب أن السبب الرئيس في هذا الفشل أن غالب هذه الطموحات لم تبنَ على أساس علمي ودراسة مسبقة، وإنما هي في العادة اجتهادات من أشخاص ربما مخلصين ولكنهم غير مؤهلين أو غير متدربين. ولنوضح ذلك بمثال من السيرة النبوية الكريمة: فأخرج البخاري من حديث أم المؤمنين عائشة زوج النبيّ ﷺ انّ رسول الله ﷺ قال:"الم تري أنّ قومك حين بنوا الكعبة، اقتصروا عن قواعد إبراهيم. قالت: فقلت: يا رسول الله، أفلا تردها على قواعد إبراهيم؟ فقال رسول الله ﷺ:" لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت" (١).وفي رواية: "لولا أنّ قومك حديث عهدهم بجاهلية -أو قال: بكفر. قال: يقول: ابن الزبير:- لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين في الأرض بابًا يدخل منه وبابًا يخرج منه". قال أبو إسحاق (٢):فانا رأيتها كذلك" (٣).

(١) أخرجه البخاري (١٥٠٦)،و(٣١٨٨)،ومسلم ٢/ ٩٦٩ (١٣٣٣)،وغيرهما. (٢) السبيعي. (٣) أخرجه أحمد ٦/ ١٠٢.

1 / 9

فكان من جملة أهداف النبيّ ﷺ أنْ يهدم بناء الكعبة ويقيمه على أصل بناء إبراهيم الخليل ﵊، ويدخل الحجر، ويجعل لها بابين ..،وهو هدف رائع ونافع، لكنّ النبيّ ﷺ راعى عدم امكانية تنفيذه وقتئذٍ، كون النّاس قريببي عهد بجاهلية، وقد تتحقق مفسدة في الهدف أكبر من المنفعة، فترك النبيّ ﷺ تنفيذ هذا الهدف. وحينما جاء الوقت المناسب في خلافة عبد الله بن الزبير بن العوام ﵁ كان الوضع مناسبًا فنفّذ ابن الزبير هذا الهدف. ثالثًا: أن يكون الهدف واقعيًا: ونعني به أن يكون له أثر على الواقع لا أنه خيالي غير واقعي، أو هدف لا يتحقق بأي شكلٍ من الأشكال. ويقال: إنّ ملكًا خرج يومًا في رحلة تستغرق أيامًا في غابات مملكته الواسعة، وفي طريق عودته شعر بألم في قدميه، فقرر أن يفرش طرقات المملكة على طولها وعرضها جلدًا كي لا تتورم قدماه من جديد! وهذا عمل شاق جدًا، فقال له الوزير الفطن: يا سيدي لم لا تغطي قدميك بالجلد؟ (١) فالأهداف لابد لها من واقعية وإمكانية. ولذا سعى النبيّ ﷺ لإصلاح الشباب والحفاظ على السلوك القويم فهم عصب الأمة، والشريان الحي لها، وحياة الأمم بحياة شبابها، وضياعها بانحرافهم عن القيم والثوابت. فكان من أهم الأهداف النبوية تحصين الشباب من المزالق الفكرية والخلقية، إذن الهدف كان (حماية الشباب من الإنحراف) وهذا هدف واقعي، ليس خياليًا. وقد تعامل النبيّ ﷺ بواقعية تامة مع هذا الهدف، فمثلما منعهم من الزنا، دعاهم ورغبهم في الزواج وإنشاء الأسر القويمة، ولما كان هذا الهدف واقعيًا فقد ترك اثرًا واضحًا في نفوس الشباب، وتأمل كيف عالج النبيّ ﷺ غريزة ذاك الشاب الذي جاءه يريد من النبيّ ﷺ أن يبيح له الزنا دون النّاس، فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا. فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه. فقال ﷺ:" أدنه فدنا منه قريبًا"، قال فجلس، قال ﷺ:" أتحبه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال:" ولا النّاس يحبونه لأمهاتهم". قال:" أفتحبه لابنتك"؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك. قال:" ولا النّاس يحبونه لبناتهم". قال:" أفتحبه لأختك"؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال:" ولا النّاس يحبونه لأخواتهم". قال: "أفتحبه لعمتك؟ " قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال:" ولا النّاس يحبونه لعماتهم". قال:" أفتحبه لخالتك"؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك.

(١) ينظر: أفكار صغيرة لحياة كبيرة، كريم الشاذلي ص٧٩.

1 / 10

قال:" ولا النّاس يحبونه لخالاتهم". قال: فوضع يده عليه وقال:" اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه وحصن فرجه". فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء " (١). فعالجه النبيّ ﷺ بواقعية تامة، وجعله يقيس الحكم على نفسه، فقال (أترضاه لأمك ..) فالمقياس واقعي، لذا جعل الشاب ينأى بنفسه عن هذا العمل القبيح. أما إذا كان الحل (الهدف) خياليًا متقاطعًا مع الفطرة الإنسانية فإنه سيفشل حتمًا، لذا فشلت الكنيسة في تحقيق هدف (الرهبنة)، وكلنا سمع ويسمع وسيسمع بالشذوذ الجنسي والاغتصاب من قبل كثير من المترهبنين في كنائس الغرب والشرق، نسأل الله العافية. فالمشكلة أنهم خالفوا الفطرة ونقضوا المنطق وعارضوا الواقع، فالانسان مجبول بالفطرة على الميل إلى المرأة والأسرة والأولاد، وقد زُين ذلك لهم، قال تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ آل عمران١٤ لذا فالنبيّ ﷺ حث على الزواج وشجع الشاب على الانجاب، ورفض كل مظاهر الرهبنة؛ لأنها لا تمت إلى الحياة بصلة، وديننا هو دين الحياتين الدنيا والأخرة، ولهذا عنف النبيّ ﷺ أولائك النفر الذي استقلوا عمل النبيّ ﷺ وأرادوا الانحياز عن الفطرة، فأخرج مسلم وغيره من حديث أنس ﵁ أنّ نفرًا من أصحاب النبيّ ﷺ، سألوا أزواج النبيّ ﷺ عن عمله في السر؟ فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، وقال بعضهم: أصوم ولا أفطر، فقام ﷺ فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:" ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" (٢). رابعًا: أنْ يكون الهدف محددًا بوقت معين: الأهداف الناجحة هي التي تحمل خطة زمنية محددة، لها نقطة انطلاق ونقطة انتهاء. وكل هدف ليس له زمن محدد يكون عشوائيًا غير منضبط، فمثلًا: من أراد حفظ كتاب الله تعالى فلابد أن يضع لنفسه خطة زمنية مرسومة يومية وأسبوعية وشهرية، وهكذا كل مشروع لابد له من خطة زمنية ليحقق هدفه. ومن يتأمل في سيرة النبيّ ﷺ يلمس ذلك بوضوح، فمنه: قوله ﷺ:"لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا " (٣).

(١) أخرجه أحمد ٥/ ٢٥٦ باسناد صحيح. (٢) أخرجه مسلم ٤/ ١٢٩ (٣٣٨٤)،وغيره. (٣) أخرجه أحمد ١/ ٣٥٥، من حديث ابن عباس ﵁ باسناد صحيح.

1 / 11

فالهجرة على عضم منزلتها في الإسلام، حتى قال تعالى في فضلهم ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ التوبة٢٠ وقال النبيّ ﷺ في فضل الهجرة:" لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار ... " (١). وقد أمر النبيّ ﷺ أصحابه بالهجرة بيدأن لها زمنًا محددًا، فكانت الهجرة فرض عين ثم نسخت بهذا الحديث (٢)، فالنبيّ ﷺ رسم لها خطة زمنية محددة، ابتدأت في ساعة وانتهت في ساعة. قال الحافظ في الفتح:" وإنما كان كذلك؛ لأنّ مكة بعد الفتح صارت دار إسلام فالذي يهاجر منها للمدينة إنما يهاجر لطلب العلم أو الجهاد لا للفرار بدينه بخلاف ما قبل الفتح" (٣). ومن ذلك أنّ الله تعالى شرع لنبيه ﷺ إعطاء سهم من أسهم الزكاة لمن يريد أن يتالفه للإسلام، فكان النبيّ ﷺ يعطي الرجل الغني من مال الزكاة والخمس؛ ليقربه من الدين ويتألفه حتى يقوى عوده في الإسلام ويعايش كبار المسلمين فيقوى ويصلب في الدين، فعن أنس ﵁، قال: قال النبيّ ﷺ: "إني أعطي قريشا أتألفهم، لأنهم حديث عهد بجاهلية" (٤).ومن هؤلآء صفوان بن أمية، فأخرج مسلم من حديث صفوان أنّه قال: «والله لقد أعطاني رسول الله ﷺ ما أعطاني، وإنه لأبغض النّاس إليّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب النّاس إليّ" (٥). فالهدف من هذا السهم هو تأليف القلوب للإسلام في فترة من الفترات الزمنية المحددة، وينتهي زمنه بقوة الدين في نفوس النّاس، لذا فإن عمر بن الخطاب ﵁ أوقف هذا السهم. قال ابن تيمية:"وما شرعه النبيّ ﷺ شرعًا معلقًا بسبب إنما يكون مشروعًا عند وجود السبب: كإعطاء المؤلفة قلوبهم؛ فإنه ثابت بالكتاب والسنة. وبعض النّاس ظنَّ أنَّ هذا نسخ، لما روي عن عمر ﵁: أنه ذكر أن الله أغنى عن التألف، ﴿فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾ الكهف٢٩، وهذا الظن غلط؛ ولكن عمر استغنى في زمنه عن إعطاء المؤلفة قلوبهم، فترك ذلك لعدم الحاجة إليه؛ لا لنسخه" (٦).

(١) أخرجه بتمامه البخاري (٧٢٤٤)،وغيره. (٢) ينظر: فتح الباري، ابن حجر ٧/ ٢٥٩. (٣) المصدر نفسه ١٠/ ١٨٥. (٤) أخرجه البخاري (٢٩٧٧)،ومسلم ٢/ ٧٣٣ (١٠٥٩)،وغيرهما. (٥) صحيح مسلم ٤/ ٠٦٨ «٢٣١٣). (٦) مجموع الفتاوى ٣/ ٢٦٠.

1 / 12

ثم إنّ وعي كثير منا بالوقت ضعيف، ولذا فإن استخدامنا له في حل مشكلاتنا محدود، والزمن عنصر في تكوين الأهداف وتراكمها، وطريقة حلها، ووجود هدف في حياة الواحد منا يجعل وعيه بقيمة الزمن أعظم، ويساعده هذا الوعي على استخدامه في تغيير أوضاعه. وأتساءل ماذا بإمكاننا أن نفعل تجاه جهلنا بعلم من العلوم المعاصرة؟ فإننا سنجد أنّه في الوقت الحاضر لا نستطيع أن نفعل أي شيء يذكر تجاه ذلك، أما إذا احترمنا الزمن وخططنا لخمس سنين-مثلًا- فسنجد أننا نستطيع فعل الكثير؛ وذلك بسبب وجود خطة، واستهداف للمعالجة، وهما يعتمدان على عنصر الزمن. فكثير من الخلل المنهجي في تصور أحوالنا، وحل أزماتنا، يعود إلى ضيق مساحة الرؤية، ومساحة الفعل معًا، وذلك كله بسبب فقد النظر البعيد المدى (١). خامسًا: وضع الأهداف الجزئية: لا نعني بالجزئية أنها هامشية، وإنما هي أهداف مرحلية توصل بمجموعها إلى الهدف الأكبر، المقصود من ذلك الفعل، وهذه الأهداف الجزئية يجب ألا تتقاطع مع الهدف الأصل أو تتنافر معه، لأنها لن تصبح اهدافًا جزئية حينئذٍ، بل تتحول إلى معوق عن تحقيق الهدف الكبير. فلو أراد أحد منّا بناء مدرسة فلابد أولًا من موقع مناسب، وتصميم مناسب، وأساتذة أكفاء، وطلبة، ومناهج علمية، فتحقيق كل واحدة من هذه هدف جزئي، وبمجموعها يتحقق الهدف الكبير، وكل واحدة من هذه الجزئيات مهمة بمفردها لتحقيق التكامل من الهدف (إنشاء المدرسة). فلو تهيأ موقع مناسب، وطلبة، ووسائل متطورة، بلا أساتذة، فلن يتحقق الهدف، وكذا لو تهيأ طلبة وأساتذة ووسائل بلا مكان مناسب فلن يتحقق الهدف، وهكذا في بقية الأهداف الجزئية، فهي تكاملية غير متضادة. ولنوضح المسألة بمثال من السنة النبوية: أخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عباس ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن:" إنك ستأتي قومًا أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أنْ يشهدوا أنْ لا إله إلاّ الله وأنّ محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أنّ الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أنّ الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب " (٢).

(١) ينظر: من أجل إنتاجية أفضل أهمية رسم الأهداف، د. عبد الكريم بكار، صيد الفوائد، مقال على الشبكة العنكبوتية. (٢) أخرجه البخاري (١٤٢٥)، ومسلم ١/ ٥٠ (١٩)،وغيرهما.

1 / 13

فهذه الأجزاء تتكامل بمجموعها فتشكل الإسلام، ولا يفهم منه أنّ من أقر بالشهاديتن، والصلاة ثم جحد الزكاة أنه على الإسلام، بل هذه الأهداف الجزئية يكمل بعضها بعضًا، فلا تقبل الشهادتان بلا صلاة، ولا صلاة بلا زكاة، وهذا التكامل في الأهداف الجزئية قد فهمه أعظم رجل بعد النبيّ ﷺ في الأمة أبو بكر الصديق حينما قاتل مانعي الزكاة، فأخرج الشيخان من حدث أبي هريرة ﵁ قال: لما توفي رسول الله ﷺ وكان أبو بكر ﵁ وكفر من كفر من العرب، فقال عمر ﵁ كيف تقاتل النّاس؟ وقد قال رسول الله ﷺ:" أمرت أنْ أقاتل النّاس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلاّ بحقه وحسابه على الله ". فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإنّ الزكاة حق المال والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعها. قال عمر ﵁ فوالله ما هو إلا أنْ قد شرح الله صدر أبي بكر ﵁ فعرفت أنه الحق" (١). ومن يتأمل مراحل الدعوة النبوية، المرحلة السرية، والعلنية، والهجرة، وإقامة الدولة، والفتوحات، كلها مراحل متكاملة غير متضاد ولا متقاطعة، وكانت كل واحدة من هذه الأجزاء هدفًا مستقلًا في فترة زمنية معينة، تكاملت لتشكل الهدف الكبير (دعوة الإسلام). ومن ذلك أيضًا: الأهداف الرئيسة التي حققها النبيّ ﷺ في أوّل مقدمه المدينة المنورة، وهي (بناء المسجد، المؤاخاة، وثيقة المدينة) فهذه أهداف جزئية تتكامل ضمن هدف كبير هو بناء الدولة المؤسساتية. فأول مؤسسة بنيت في دولة الإسلام هي (المسجد)، فالمسجد كان مكان عبادة، وملتقى الأخوة والمدرسة التعليمية وهو كذلك كان مقر القيادة منه تنطلق الجيوش وفيه تعقد اللقاءات الداخلية والخارجية (٢)، ومن النكت اللطيفة التي نبه إليها الإمام البخاري في صحيحه أنه عنون بابًا (التعاون في بناء المسجد) (٣) فالنبيّ ﷺ بنى هو وأصحابه متعاونين هذه المؤسسة الضخمة، وفي هذا تأثير روحي كبير في نفوس المسلمين. ثم جاء الهدف الثاني: (المؤاخاة): وهو هدف مهم جدًا ذوب فيه النبيّ ﷺ الاختلافات القبلية والنفسية بين المسلمين، فلا فرق بين أسود وأبيض، ولا غني أو فقير، فالميزان التقوى، فتقدمت رابطة الدين على رابطة الدم، وهذه الخطوة كانت هامة للغاية ولاسيما بين فئات مختلفة في أشياء كثيرة، ففيهم القرشي

(١) أخرجه البخاري (١٣٣٥)، ومسلم ١/ ٥١ (٢٠)،وغيرهما. (٢) وللمزيد ينظر: دلائل النبوة للبيهقي ٢/ ٥٤٦،والسيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة، أبو شهبة ٢/ ٣٠،،والرسول القائد محمود شيت خطاب ص٧٧. (٣) كتاب الصلاة، أبواب المساجد باب (٣٠) ١/ ١٧١.

1 / 14

والفارسي والرومي، والحبشي، والغفاري، والدوسي، والأوسي والخزرجي، ... الخ، اضف إلى الخلافات الكبيرة بين الأوس والخزرج، ووجود العدو القديم الجديد (اليهود) الذين يتربصون بالمؤمنين، ثم الطابور الثالث (أهل النفاق)، فكانت المؤاخاة مهمة جدًا لضبط العلاقات والروابط الاجتماعية (١). ثم جاء الهدف الثالث: وهو تنظيم العلاقات بين المسلمين وبين غير المسلمين فجاءت الوثيقة النبوية ببنود مهمة أرست القواعد والمبادئ، بما يحقق العدالة والمساواة التامة بين البشر، وأن يتمتع بنو الإنسان على اختلاف ألوانهم، ولغاتهم، وأديانهم، بالحقوق والحريات بأنواعها،"ولا تزال المبادئ التي تضمنها الدستور -في جملتها- معمولًا بها، والأغلب أنها ستظل كذلك في مختلف نظم الحكم المعروفة إلى اليوم ... وصل إليها النّاس بعد قرون من تقريرها، في أول وثيقة سياسية دونها الرسول ﷺ " (٢). فهذه الأهداف الثلاثة هي جزئية يكمل بعضها بعضًا، وهي تصب في تحقيق هدف كبير هو إقامة دولة إسلامية، ولاسيما أنّ الدولة كانت تمر بمنعطف تاريخي كبير، فهي تمر باختبار مهم والكل يتربص بها غلطًا أو تقصيرًا، فهي تحولت من جماعة إلى أمة، ومن مرحلة الاستضعاف والتهجير إلى مرحلة الاستقرار والتمكين. فالأهداف الجزئية مهمة جدًا، ورسم الخطط والمناهج بهذا الأهداف من واجبات القيادة، وتنظيم هذه الأهداف وترتيبها حسب الأولويات، لتحقيق الهدف الرئيس. يقول أساتذة التخطيط:" (فكر عالميًا وتصرف محليًا)،أي يجب أن تفكر بشكل شامل واسع، تستطيع من خلال تقييم قدراتك، وتحديد موقعك على خارطة أحلامك بدقة. لكن حينما تبدأ العمل يجب أن تصرف اهتمامك إلى تلك الأشياء الصغيرة التي تستطيع انجازها، والتي تحسب في خانة انجازاتك، إن الهدف الجزئي يكون ممكنًا نظرًا لسهولة القيام به، لكن الهدف الكبير يكون خياليًا نظرًا لشكنا في امكانية القيام به، وكثيرًا ما تصبح الأحلام الكبيرة مجرد أمنيات في عقل أصحابها لأنهم لم يجزئوها وينجزوها مرحلة تتبعها أخرى .... فالأحلام الكبيرة والأمجاد العظيمة ممكنة ونقدر عليها بشرط أن نخطط لها جيدًا، ونجزئها إلى مراحل ونضع لكل مرحلة خطة عمل ووقتًا للبدء والانتهاء" (٣).

(١) ينظر: السيرة النبوية، ابن كثير ٢/ ٣٢٦،ودراسات في السيرة، عماد الدين خليل ص١٢٥،والإدارة العربية والاسلامية فكرًا وتطبيقًا، د. عامر الكبيسي ص٥٢. (٢) النظام السياسي في الإسلام، محمد أبو فارس ص٦٥،،وينظر: وقفات تربوية مع السيرة النبوية، أحمد فريد ص١٦٦،ووثيقة المدينة المنورة دراسة تحليلة، د. عبد القادر المحمدي ص ٢٥. (٣) أفكار صغيرة لحياة كبيرة، كريم الشاذلي ص١٠٤

1 / 15

المبحث الثاني: معايير تحقيق الأهداف (في ضوء السنة النبوية) لكي تكون الأهداف ناجحة ودقيقة فلابد من معايير يقاس عليها تحقيق هذه الأهداف، ومن هاتيك المعايير: المطلب الأول: تحديد العمل المطلوب انجازه، ومَنْ يقوم به، ومتى يقوم به، ولماذا يقوم به فهذه الأسئلة مهمة للغاية من أجل انجاح الهدف، ولنوضح ذلك بأمثلة من السنة النبوية: أخرج الشيخان من حديث السيدة عائشة ﵂ في صلاة أبي بكر ﵁ بالنّاس، قالت: لما ثقل رسول الله ﷺ جاء بلال يؤذنه بالصلاة. فقال: "مروا أبا بكر فليصلِّ بالنّاس" قالت: فقلت يا رسول الله، إنّ أبا بكر رجل أسيف وإنّه متى يقم مقامك لا يسمع النّاس فلو أمرت عمر، فقال: "مروا أبا بكر فليصلِّ بالنّاس".قالت: فقلت لحفصة قولي له: إنّ أبا بكر رجل أسيف وإنّه متى يقم مقامك لا يسمع النّاس، فلو أمرت عمر، فقالت له: فقال رسول الله ﷺ: " إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصلِّ بالنّاس". قالت: فأمروا أبا بكر يصلي بالنّاس، قالت: فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله ﷺ من نفسه خفة فقام يهادى بين رجلين، ورجلاه تخطان في الأرض، قالت: فلما دخل المسجد سمع أبو بكر حسه، ذهب يتأخر، فأومأ إليه رسول الله ﷺ، قم مكانك، فجاء رسول الله ﷺ حتى جلس عن يسار أبي بكر، قالت: فكان رسول الله ﷺ يصلي بالنّاس جالسًا، وأبو بكر قائمًا يقتدي أبو بكر بصلاة النبيّ ﷺ ويقتدي النّاس بصلاة أبي بكر" (١). وقد اختلف أهل العلم في صلاة النبيّ ﷺ هذه وهل وقف على يمين أبي بكر أو شماله، على أقوال لسنا بصدد نقاشها، حتى قال بعضهم: إنّه كان لهذه الصلاة إمامان النبيّ ﷺ لأبي بكر، وأبو بكر ﵁ للناس، فلتنظر في محلها (٢)، وإنما الذي نريده ههنا أنّ النبيّ ﷺ حدد هدفًا واضحًا وشخص له أبا بكر ﵁. فالهدف واضح، أراد النبيّ ﷺ للأمة أن تتهيأ لاستقبال أبي بكر ﵁ من بعده إمامًا في الصلاة، وحريّ بمن وقف هذا الموقف أنْ يكون إمامهم في الدولة، فهي تهيئة للخليفة القادم بعد أيام قليلة، ولهذا أصرّ على تقدمه للصلاة بالنّاس ﵁ حال حياته ﷺ،وحين رأى النبيّ ﷺ منظر الصفوف خلف ابي بكر ﵁ في اليوم التالي سره، فتبسم له رضى لما يراه بأبي هو وأمي ونفسي والنّاس أجمعين.

(١) أخرجه البخاري (٦٣٣)،وغيرها من المواضع، ومسلم ١/ ٣١٣ (٤١٨)،وغيرهم. (٢) ينظر: فتح الباري، ابن رجب ٤/ ٨٣ - ٨٦،وشرح النووي ٤/ ١٤٢ - ١٤٦وفتح الباري ابن حجر٢/ ١٥٢ - ١٥٤.

1 / 16

قال النووي: " سبب تبسمه ﷺ فرحه بما رأى من اجتماعهم على الصلاة، واتباعهم لإمامهم، وإقامتهم شريعته، واتفاق كلمتهم، واجتماع قلوبهم، ولهذا استنار وجهه ﷺ على عادته إذا رأى أو سمع ما يسره يستنير وجهه" (١). فلذا أصرّ النبيّ ﷺ على إمامة ابي بكر، رغم محاولة أم المؤمنين عائشة ﵂ من صرفه إلى عمر ﵁ ثاني رجل في الإسلام بعد أبي بكر ﵁، لحرصها على أبيها من تشاؤم النّاس، قالت:" والله، ما بي إلاّ كراهية أن يتشاءم النّاس، بأول من يقوم في مقام رسول الله ﷺ " (٢)،إلا أنّ النبيّ ﷺ غضب، لحرصه على إمامة الصديق ﵁،ومما يؤكد أنّ النبيّ ﷺ رضي بهذا الفعل أمامة أبي بكر الصديق للناس من بعده، أنه حين خرج للصلاة وأراد أبو بكر الرجوع عن الإمامة أشار إليه ان اثبت، والله أعلم. وكذا قول عمر ﵁ لما طلب منه أبو بكر أن يصلي بالنّاس مكانه حين أرسل له رسول الله ﷺ بذلك فقال:"أنت أحق بذلك" (٣).قال النووي معلقا على هذا الحديث:" فيه فوائد منها فضيلة أبي بكر الصديق ﵁ وترجيحه على جميع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وتفضيله وتنبيه على أنه أحق بخلافة رسول الله ﵁ من غيره" (٤). وعلى كل حال فالهدف هنا واضح المعالم، فالعمل المطلوب: (الإمامة –إمامة الصلاة وإمامة الدولة من بعده).ومن يقوم به؟: (أبو بكر الصديق)، ومتى؟ (الآن)،وكذا في المستقبل القريب (بعد وفاته ﷺ)،ولماذا؟: لأن الأمة لابد لها من إمام يقودها من بعده ﷺ. ومن الأمثلة الأخرى أيضًا: أرسال النبيّ ﷺ مصعب بن عمير ﵁ إلى (يثرب)، بعد بيعة العقبة الأولى، وأمره أن يعلمهم القرآن ويبين لهم الإسلام. فهذا الهدف مكتمل الشروط: العمل واضح: التعريف بالإسلام (سفير النبيّ ﷺ إليهم).ومن يقوم به؟ (مصعب بن عمير ﵁). ومتى يقوم به؟ (من العقبة الأولى إلى الحج-العقبة الثانية-).ولماذا؟ لينشر دين الله في النّاس، ويمهد لمقدم المسلمين، وكذا ينقل تصوره إلى النبيّ ﷺ عن حال يثرب. وهنا نكتة عظيمة تظهر عظمة قيادة النبيّ ﷺ،وذلك في اختيار مصعب بن عمير (تحديدًا) دون سائر الصحابة ﵃،والسبب كما يبدو أنّ يثرب تحمل صفات المدينة من الناحية العمرانية، والإقتصادية،

(١) شرح مسلم ٤/ ١٤٢. (٢) كما في لفظة لمسلم ١/ ٣١٣ (٤١٨)،وغيرهم. (٣) قطعة من حديث أخرجه مسلم ١/ ٣١١ (٤١٨). (٤) شرح مسلم ٤/ ١٣٧،وينظر فتح الباري ٢/ ١٥٤.

1 / 17

والإجتماعية، والثقافية، وعامة أهلها يغلب عليهم طباع أهل المدن، خلافًا لمكة التي هي قرية يمتاز أهلها -عمومًا- بالشدة والقوة، فإرسال مصعب الذي نشأ في بيت دلال وغنى أقرب إلى التفاهم والتعامل مع أهل يثرب، ولذا فإنه نجح بامتياز في مهمته، وتأمل في قصته مع أسيد بن حضير وسعد بن معاذ ﵁ حينما جاءاه، وتكلما معه بغلظة وهدداه: فقال بكل هدوء:" أو تجلس فتسمع؟ فإن سمعت خيرا قبلته، وإن كرهت شيئا أو خالفك أعفيناك عنه ".فأسلم الرجلان وقومهما! فلو كان غير مصعب في هذا الموقف لما تحمل مثل هذا منهما، فالقائد الناجح هو الذي يضع الرجل المناسب في المكان المناسب وهذا منهج النبيّ ﷺ (١). المطلب الثاني: تحديد المعيار الكمي، والنوعي لقياس الإنجاز: وأعني به أن يكون للهدف المنشود معيارًا كميًا أو نوعيًا يمكننا من خلاله قياس نسبة الإنجاز، فمثلًا عندما أقول: أنا أريد أن أقرأ ثلاثة فصول من كتاب كذا خلال يومين. فإنه يمكن القياس بخلاف لو قلت: (أريد أن أقرأ كتابًا) فتحتاج أن تكون الأهداف قابلة للقياس، لكي نعرف هل نحن نجحنا أم أخفقنا؟ فلابد من وضع التاريخ والزمن والكميات كي يمكن قياس الهدف. يقول الدكتور عبد العزيز بكار: "إنّ كل هدف ليس معه معيار لقياسه وللكشف عما أنجز منه، وما بقي؛ ليس بهدف. ولذا فإنّ من يملك أهدافًا واضحة يحدثك دائمًا عن إنجازاته، وعن العقبات التي تواجهه. أما من لا يملك أهدافًا واضحة، فتجده مضطربًا، فتارة يحدثك أنه حقق الكثير الكثير، وتارة يحدثك عن خيبته وإخفاقه؛ إنه كمن يضرب في بيداء، تعتسفه السبل، وتشتته مفارق الطرق! نجد هذا بصورة أوضح لدى الجماعات؛ فالجماعة التي لا تملك أهدافًا واضحة محددة، تظل مشتتة الرأي في حجم ما أنجزته، ولا يكاد خمسة من أبنائها يتفقون في تقويمهم لذلك! لا يكفي أن يكون الهدف واضحًا، بل لا بد من تحديد توقيت لإنجازه، فالزمان ليس ملكًا لنا إلى ما لا نهاية، وطاقاتنا قابلة للنفاد، ثم إن القيمة الحقيقية للأهداف، لا تتبلور إلاّ من خلال الوقت الذي يستغرقه الوصول إليها، والجهد والتكاليف التي نحتاجها، ولهذا كله فالبديل عن وضوح الهدف، ووضوح تكاليفه المتنوعة، ليس سوى العبث والهدر والاستسلام للأماني الخادعة! " (٢)

(١) السيرة النبوية، ابن حبان ١/ ١٠٩،وتنظر القصة بتمامها هناك. (٢) من أجل إنتاجية أفضل أهمية رسم الأهداف، د. عبد الكريم بكار، وينظر: العمل المؤسسي، د محمد أكرم العدلوني ص١٨٧.

1 / 18

وأوضحه بمثال من السنة النبوية: أخرج مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك ﵁، أنّ رسول الله ﷺ أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه، قال: "من يردهم عنا وله الجنة؟ " - أو "هو رفيقي في الجنة" -، فتقدم رجل من الأنصار، فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضا، فقال: "من يردهم عنا وله الجنة؟ "- أو "هو رفيقي في الجنة" -، فتقدم رجل من الأنصار، فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله ﷺ لصاحبيه: "ما أنصفنا أصحابنا" (١). فالمعيار هنا واضح، وهو (من يردّ هؤلآء الكفار عنّا) (جزاه الله الجنة)،فالكم: (هؤلآء الكفار)، والجزاء واضح (له الجنة)، لذا فقوله ﷺ:"ما أنصفنا أصحابنا":هو تصريح بالرضى على صنيع هؤلآء السبعة، وعتب على من لم يثبت من الصحابة ﵃ أجمعين (٢). ومنه ما أخرجه البخاري عن عثمان ﵁ أنّ رسول الله ﷺ قال:" من حفر (٣) رومة فله الجنة ... من جهز جيش العسرة فله الجنة " (٤). فالمعيار الكمي واضح (شراء البئر بمبلغ كذا وتسيبه للمسلمين) والجزاء (له الجنة)، (تجهيز جيش العسرة بالمال والسلاح والمؤنة) والجزاء (له الجنة). لذا كان النبيّ ﷺ حريصًا على تدريب الأمة على مراجعة نسبة الإنجاز وقياسها، لأنه إن لم يكن هناك مقياس واضح لنسبة الأنجاز سنتنتج العشوائية والاضطراب في النتائج، وضياع الأهداف بمرور الوقت، لذا كان ﷺ يسأل أصحابه أحيانًا (من تصدق اليوم)، فيحدد لهم المعيار، ومنه: ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ:"من أصبح منكم اليوم صائما؟ " قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ " قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن أطعم منكم اليوم مسكينا". قال أبو بكر: أنا، قال:

(١) أخرجه مسلم ٣/ ١٤١٥ (١٧٨٩)،وغيره. (٢) ينظر: المفهم لما اشكل من تلخيص مسلم، القرطبي ١١/ ١٤٣،وشرح النووي ٤/ ٤٠٠. (٣) وجاءت في رواية (يشتري بئر رومة) وقد استشكله بعض أهل العلم، ووجهه الحافظ ابن حجر فقال في الفتح ٥/ ٤٠٨:" بمد فقال له النبيّ ﷺ:"تبيعنيها بعين في الجنة؟ " فقال يا رسول الله ليس لي ولا لعيالي غيرها، فبلغ ذلك عثمان ﵁ فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم ثم أتى النبيّ ﷺ، فقال: أتجعل لي فيها ما جعلت له؟ قال ﷺ:"نعم". قال: قد جعلتها للمسلمين وإن كانت أولا عينا فلا مانع أن يحفر فيها عثمان بئرا ولعل العين كانت تجري إلى بئر فوسعها وطواها فنسب حفرها إليه ". (٤) أخرجه البخاري (٢٦٢٦).

1 / 19

"فمن عاد منكم اليوم مريضًا"؟ قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله ﷺ: "ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة" (١). المطلب الثالث: تحديد الإطار الزمني المطلوب لإنجاز العمل من البدهي أنّ لكل هدف يراد له النجاح زمنًا ثابتًا واضحًا، حتى لا تمر الأيام وربما السنون فيتآكل الهدف ويصبح سرابًا. لذا فالمؤسسات الناجحة تحترم الزمن لأنه ذو قيمة معتبرة، أما المؤسسات الفاشلة فهي لا تحترم الوقت ولا تحسب حسابه، ومع شديد الأسى هذا حال كثير من مؤسساتنا في البلاد العربية! ولهذا تجد كثيرًا من البلاد التي تحترم الزمن تنهض في سنوات قليلة وتحتل مراكز متقدمة في الأحصائيات العالمية، كما حدث لماليزيا التي كانت قبل عقدين أو أكثر بقليل من الدول النامية، وها هي اليوم تبلغ مراتب متقدمة، وكذا تركيا التي كان يغشاها الفساد الإداري والمادي والأخلاقي قبل عقد واحد تقريبًا، وهي اليوم تسير بخطى ممتازة نحو النجاح، وكذا دولة الإمارات العربية المتحدة التي سجلت قصب السبق بين الدول العربية، واحتلت مراكز متقدمة، ولكن غالب الدول العربية اليوم هي في ذنب القافلة، (لا يكادون يفقهون قولًا)، كل عناصر التقدم والنهوض بين يديها، (أموال، وماء، وأرض، وناس، وحضارة، وقيم، ....) لكنها تحتاج إلى مثل ذي القرنين، يربط كل العناصر للنهوض. ومن أهم عناصر النهوض هو احترام الزمن، ومن يتأمل في ديننا الحنيف يجد غالب أعمال الشريعة، ترتبط بالزمن فالصلوات مرتبطة بأوقات، والصيام، والزكاة، والحج، له أوقات معتبرة، إن تهاونت أو تأخرت عن الوقت المحدد خرج وقتها وأوجب عليك القضاء، والقضاء ليس كالأداء في الإجر والحكم. ومن تأمل قليلًا يجد عناية الشرع بالزمن عناية فائقة فهو لا يتعامل بالساعات بل بالدقائق والثواني، فمن صلّى قبل قت الصلاة بدقيقة واحدة لم تقبل منه، ومن تعمد الإفطار قبل وقته بدقيقة واحدة وجب عليه القضاء! أي نظام يريد منا ربنا ﷻ. ولنوضح بالامثلة من السنة النبوية: أخرج الشيخان من حديث ابن عمر ﵁ قال: قال النبيّ ﷺ لنا لما رجع من الأحزاب:" لا يصلينَّ أحد العصر إلاّ في بني قريظة ".فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها. وقال بعضهم: بل نصلي لم يرد منا ذلك فذكر للنبي ﷺ فلم يعنف واحدًا منهم" (٢).

(١) أخرجه مسلم ٤/ ١٨٥٧ (١٠٢٨). (٢) أخرجه البخاري (٩٠٤)،وومسلم ٣/ ١٣٩١ (١٧٧٠)،وغيرهما.

1 / 20