رسالة في رؤية هلال ذي الحجة
محقق
أبي مصعب طلعت بن فؤاد الحلواني
الناشر
الفاروق الحديثة للطباعة والنشر
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤٢٤ هـ - ٢٠٠٣ م
تصانيف
رسالة في رؤية هلال ذي الحجة
2 / 597
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن ووفق للخير يا كريم
قال الشيخ الإمام العالم العلامة الأوحد الفهامة وحيد عصره، وفريد دهره: أبو الفرج عبد الرحمن ابن الشيخ الإمام شهاب الدين أحمد بن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى ونفعنا بعلمه. آمين.
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن مُحَمَّدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد، فقد وقع في هذا العام وهو عام أربعة وثمانين وسبعمائة حادثة، وهو أنه غم هلال ذي الحجة فأكمل الناس هلال ذي القعدة، ثم تحدث الناس برؤية هلال ذي الحجة، وشهد به إناس) (*) لم يسمع الحاكم شهادتهم، واستمر الحال عَلَى إكمال عدة شهر ذي القعدة فتوقف بعض الناس (عن) (**) صيام التاسع الَّذِي هو يوم عرفة في هذا العام. فقالوا: هو يوم النحر عَلَى ما أخبر به أولئك الشهود الذين لم تقبل شهادتهم، وقيل: إِنَّ بعضهم ضحى في ذلك اليوم، وحصل للناس بسبب ذلك اضطراب، فأحببت أن أكتب في ذلك ما يسره الله تعالى، وبه المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فنقول: هذه المسألة لها صورتان:
_________
(*) أناس: "نسخة".
(**) في: "نسخة".
2 / 599
إحداهما
أن يكون مستندًا إِلَى قرائن مجردة، أو إِلَى شهادة من لا تقبل شهادته إما لانفراده بالرؤية، أو لكونه ممن لا يجوز قبول قوله ونحو ذلك. فهذه المسألة قد اختلف الناس فيها عَلَى قولين:
أحدهما: أنه لا يصام في هذه الحالة. قال النخعي في صوم يوم عرفة في الحضر: إذا كان فيه اختلاف، فلا تصومن. وعنه قال: كانوا لا يرون بصوم يوم عرفة بأسًا إلا أن يتخوفوا أن يكون يوم الذبح. خرجهما ابن أبي شيبة في كتابه (١)، وسنذكر عن مسروق وغيره من التابعين مثل ذلك فيما بعد إِن شاء الله تعالى.
وكلام هؤلاء قد يقال -والله أعلم- أنه محمول عَلَى الكراهة دون التحريم. وقد ذكر شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية ﵀ في صوم هذا اليوم في هذه (الحالة) (*) أنه جائز بلا نزاع بين العُلَمَاء. قال: لأنّ الأصل عدم العاشر كما أنهم لو شكوا ليلة الثلاثين من رمضان هل طلع الهلال أم لم يطلع، فإنهم يصومون ذلك اليوم باتفاق الأئمة، وإنما يوم الشك الَّذِي رويت فيه الكراهة الشك في أول رمضان؛ لأنّ الأصل بقاء شعبان. انتهى.
فإما أن يكون اطلع عَلَى كلام النخعي وحمله عَلَى الكراهة، (فذلك نفي) (**) النزاع في جوازه، وإما أن يكون لم يطلع عليه. ومراده: أن يستصحب الأصل في كلا الموضوعين؛ لأنّ الأصل بقاء الشهر المتيقن وجوده، وعدم دخول الشهر المشكوك في دخوله. فكذلك هنا إذا شك في دخول ذي الحجة بنى الأمر عَلَى إكمال ذي القعدة؛ لأنّه الأصل ويصام يوم عرفة عَلَى هذا الحساب. وهو تكميل شهر ذي القعدة.
ولكن من السَّلف من كان يصوم يوم الشك في أول رمضان احتياطًا. وفرق
_________
(١) في "المصنف" (٢/ ٣٤١) برقم ﴿٩٧١٩، ٩٧٢٠﴾.
(*) الحال: "نسخة".
(**) فلذلك نفي: "نسخة".
2 / 600
طائفة منهم بين أن تكون السماء مصحية أو مغيمة، كما هو مشهور عن الإمام أحمد.
والاحتياط هنا إِنَّمَا يعتبر في استحباب صيام الثامن والتاسع من ذي الحجة مع الشك احتياطًا، كما قال ابن سيرين وغيره أنه مع اشتباه الأشهر، (وفي) (*) شهر المحرم يصام منه ثلاثة أيام احتياطًا، ليحصل بذلك صيام يوم التاسع والعاشر، ووافقه الإمام أحمد عَلَى ذلك.
وقد رُوي عن ابن عباس ﵁ أنه كان يعلل صيام التاسع مع العاشر بالاحتياط أيضًا خشية فوات صوم يوم عاشوراء. وأما أن الاحتياط ينهض إِلَى تحريم صيام يوم التاسع من ذي الحجة لمجرد الشك، فكلآ؛ لأنّ الأصل بقاء ذي القعدة وعدم استهلال ذي الحجة، فلا يحرم صوم يوم التاسع منه بمجرد الشك، كما يجب صوم الثلاثين من رمضان مع الشك في استهلال شوال؛ لأنّ الأصل عدمه وبقاء رمضان.
القول الثاني: أنه يصام ولا يلتفت إِلَى الشك، وهو مروي عن عائشة ﵂ من وجوه. قال عبد الرزاق (١) في كتابه: أبنا معمر، عن جعفر بن برقان، عن الحكم وغيره، عن مسروق أنه دخل هو ورجل معه عَلَى عائشة يوم عرفة فقالت عائشة: يا جارية، خوضي لهما سويقًا وحليه، فلولا أني صائمة لذقته، قالا: أتصومين يا أم المؤمنين ولا تدرين لعله يوم النحر؟! فقالت: إِنَّمَا يوم النحر إذا نحر الإمام وعظم الناس، والفطر إذا أفطر الإمام وعظم الناس". وروي من وجوه أخر. رواه أبو إسحاق السبيعي عن مسروق قال: " (دخلت عَلَى عائشة أنا وصديق لي) (**) يوم عرفة فدعت لنا بشراب، فقالت: لولا أني صائمة لذقته. فقلنا لها: أتصومين والناس يزعمون أن اليوم يوم النحر؟! قالت: الأضحى يوم يضحي الناس، والفطر
_________
(*) في: "نسخة".
(١) في "مصنفه" (٤/ ١٥٧) برقم ﴿٧٣١٠﴾.
(**) دخلت أنا وصاحب لي عَلَى عائشة: "نسخة".
2 / 601
يوم يفطر الناس". رواه الإمام أحمد، عن ابن نمير وابن فضيل، كلاهما عن الأعمش، عن أبي إسحاق به، خرجه عنه ابنه عبد الله في كتاب "المسائل" وخرّجه أيضًا عبد الله، عن أبيه، عن ابن مهدي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي عطية ومسروق قالا: "دخلنا عَلَى عائشة" في اليوم الَّذِي يشك فيه الأضحى، فقالت: خوضي لابني سويقًا وحليه، فلولا أني صائمة لذقته. فقِيلَ لَهُا: يا أم المؤمنين، إِن الناس يرون أن اليوم يوم الأضحى! فقالت: إِنَّمَا يوم الأضحى يوم يضحي الإمام وجماعة الناس" (١) وكذا رواه شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي عطية، ومسروق عن عائشة بنحوه عنهم.
ورواه دلهم بن صالح، عن أبي إسحاق، عن أبي عطية ومسروق، عن عائشة. واختلف عليه في رفع آخر الحديث، وهو "إِنَّمَا الأفضحى يوم يضحي الإمام" فمن أصحابه من رفعه عنه وجعله من قول النبي ﷺ، ومنهم من وقفه عَلَى عائشة، وهو الصحيح. ورواه أيضًا مجالد، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة بنحوه موقوفًا أيضًا.
فهذا (الأثر) (*) صحيح عن عائشة ﵂ إسناده في غاية الصحة، ولا يعرف لعائشة في ذلك مخالف من الصحابة، ووجه قولها أن الأصل في هذا اليوم أن يكون يوم عرفة؛ لأنّ اليوم المشكوك فيه، هل هو من ذي الحجة أو من ذي القعدة: الأصل فيه أنه من ذي القعدة، فيعمل بذلك استصحابًا للأصل.
ومأخذ آخر: وهو الَّذِي أشارت إِلَيْهِ عائشة ﵂، أن يوم عرفة هو يوم مجتمع الناس مع الإمام عَلَى التعريف فيه، ويوم النحر. هو الَّذِي
_________
(١) وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (٧٣١٠) من طريق آخر عن مروق أنه دخل هو ورجل معه عَلَى عائشة.
(*) أثر: "نسخة".
2 / 602
يجتمع الناس مع الإمام عَلَى التضحية فيه، وما ليس كذلك فليس بيوم عرفة ولا يوم أضحى، وإن كان بالنسبة إِلَى عدد أيام الشهر هو التاسع أو العاشر.
وقد روي ذلك عن النبي ﷺ مرفوعًا من وجوه متعددة. خرَّجه الترمذي (١) من طريق المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: "الصوم يوم (يصوم الناس) (*)، والفطر يوم يفطرون، والأضحى يوم يضحون" وقال: حسن غريب.
وخرَّجه أبو داود (٢) وابن ماجه (٣) من طريق ابن المنكدر، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ نحوه، بدون ذكر "الصوم" وخرّجه الترمذي (٤) من حديث ابن المنكدر، عن عائشة، عن النبي ﷺ وقال: صحيح.
وقد روي عن عائشة من وجوه أخر مرفوعًا، وروي عن أبي هريرة من قوله موقوفًا. وروى السفاح بن مطر، عن عبد العزيز بن عبد الله ابن خالد بن أسيد (٥) أن النبي ﷺ قال: "يوم عرف اليوم الَّذِي يعرف الناس فيه" مرسل حسن، احتج به الإمام أحمد عَلَى أن الناس إذا وقفوا في يوم عرفة خطأ أجزأهم حجهم، وقال مجاهد: "الأضحى يوم يضحون، والفطر يوم يفطرون، والجمعة يوم يجمعون" خرَّجه عبد الله بن الإمام أحمد.
...
_________
(١) برقم (٦٩٧).
(*) يصومون: "نسخة".
(٢) برقم (٢٣٢٤).
(٣) برقم (١٦٦٠) من طريق ابن سيرين، عن أبي هريرة.
(٤) برقم (٨٠٢).
(٥) أخرجه أبو داود في "المراسيل" (١٤٩).
2 / 603
الصورة الثانية
أن يشهد برؤية هلال ذي الحجة من يثبت الشهر به، لكن لم يقبله الحاكم إما لعذر ظاهر، أو لتقصير في أمره. ففي هذه الصورة. هل يقال: يجب عَلَى الشهود العمل بمقتضى رؤيتهم، وعلي من يخبرونه ممن يثق بقولهم أم لا؟ فقد يقال: إِنَّ هذه المسألة تخرج عَلَى الخلاف المشهور في مسألة المنفرد برؤية هلال شوال، هل يفطر عملًا برؤيته أم لا يفطر إلا مع الناس؟
وفي ذلك قولان مشهوران للعلماء:
أحدهما: لا يفطر. وهو قول عطاء، والثوري، والليث، وأبي حنيفة، وأحمد، وإسحاق. وروي مثله عن عمر بن الخطاب.
والثاني: يفطر. وهو قول الحسن بن صالح، والشافعي، وطائفة من أصحابنا. وروي عن مالك كلا القولين.
قالت طائفة من أصحابنا: هذه المسألة تبنى عَلَى هذا الأصل، وهو الصحيح من المذهب، فعلى قول من يقول: لا يفطر المنفرد برؤية هلال شوال، بل يصوم ولا يفطر إلا مع الناس. فإنه يقول: يستحب صيام يوم عرفة للشاهد الَّذِي لم تقبل شهادته بهلال ذي الحجة؛ لأنّ هذا هو يوم عرفة في حق الناس، وهو منهم. ومن قال في الشاهد بهلال شوال يفطر سرًّا. قال ها هنا: إنه يفطر ولا يصوم؛ لأنّه يوم عيد في حقه. قال: وليس له التضحية قبل الناس في هذا اليوم، كما أنه لا ينفرد بالوقوف بعرفة دون الناس بهذه الرؤية؛ لأنّ الذين أمَرُوا بالفطر في آخر رمضان إِنَّمَا أمَرُوا به سرًّا ولم يجيزوا له إظهاره، والانفراد بالذبح والوقوف فيه من مخالفة الجماعة ما في إظهار الفطر. وهذا ما ذكره الشيخ تقي الدين أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله تعالى- مع أنه قد روي عن سالم بن عبد الله بن عمر أنه انفرد
2 / 604
بالوقوف بعرفة وحده دون الناس. ذكره الإمام أحمد وخرّجه عبد الرزاق عن سفيان الثوري، عن (عمر) (*) بن محمد قال: شهد نفر أنهم رأوا هلال ذي الحجة، فذهب بهم سالم إِلَى والي الحج وهو ابن هشام، فأبى أن يجيز شهادتهم، فوقف سالم بعرفة لوقت شهادتهم، فلما كان اليوم الثاني وقف مع الناس. لكن الذبح ليس هو مثل الوقوف؛ لأنّه لا ضرورة في تقديمه لامتداد وقته بخلاف الوقوف. وقد يقال: إِنَّ صيام هذا اليوم في حق الشاهد، أو من أخبره به ينبني عَلَى اختلاف المأخذ في الأمر لمن انفرد برؤية هلال الفطر بالصيام مع الناس.
وفي ذلك مآخذ:
أحدها: الخوف من التهمة بالفطر.
والثاني: خوف الاختلاف وتشتت الكلمة، وأن يجعل لكل إنسان مرتبة الحاكم، وقواعد الشرع تأبى ذلك، وهو الَّذِي ذكره الشيخ مجد الدين ابن تيمية وغيره.
والثالث: أنه لم يكمل نصاب الشهادة برؤيته وحده. وهذا مأخذ الشيخ موفق الدين بن قدامة المقدسي من أصحابنا.
والرابع: ما ذكره الشيخ تقي الدين ابن تيمية ﵀ أن الشهر: هو ما اشتهر وظهر، والهلال: ما استهل به وأعلن دون ما كان في السماء من غير رؤية ولا اشتهار، فإن اسم الشهر والهلال لا يصدق بدون اشتهار رؤيته، وترتيب الفطر والنسك عليه. فما لم يكن كذلك فليس بهلال ولا شهر، فأما عَلَى المأخذ الأول فلا يظهر الأمر للشاهد (هنا بالصوم) (**)؛ لأنّ الفطر يوم عرفة لا يخشى منه تهمة كما في رمضان.
_________
(*) عمرو: "نسخة".
(**) بالصيام: "نسخة".
2 / 605
فيتوجه الأمر بصيام هذا اليوم مع الناس؛ لأن فطره يؤدي إِلَى أن يفطر أكثر الناس يوم عرفة مع اعتيادهم لصيامه في سائر الأعوام. وهذا فيه تفريق الكلمة، وافتئات عَلَى الإمام.
وأما عَلَى المأخذ الثالث: فيقال: إِن كان هناك شاهدان فصاعدًا، فقد كمل نصاب الشهادة، فيعملان هما ومن يثق بقولهما بشهادتهما. وكذا قال الشيخ موفق الدين -رحمه الله تعالى- في الشاهدين بهلال الفطر إذا رُدَّت شهادتهما أنهما يفطران هما ومن يثق بقولهما. وخالفه في ذلك الشيخ مجد الدين.
وقال: وقياس المذهب خلاف ذلك بناء عَلَى المأخذ الأول والثاني.
وأما عَلَى المأخذ الرابع: فيتوجه ما ذكره الشيخ تقي الدين ﵀، وهو ظاهر المروي عن عائشة ﵂ وغيرها من السَّلف. وعليه تدل الأحاديث السابقة أن الأضحى يوم يضحي الناس، والفطر يوم يفطرون، وعرفة يوم يعرفون.
والمنقول عن الصحابة كابن عمر، وعن كثير من التابعين كالشعبي، والنخعي، والحسن، وابن سيرين وغيرهم: يقتضي أن لا ينفرد عن الجماعة بصيام ولا فطر.
وأحمد يرى أنه لا ينفرد عن الجماعة بالفطر كمن رأى هلال شوال وحده.
وأما الانفراد عن الجماعة بالصيام ففيه عنه روايتان، مثل صيام يوم الغيم إذا لم يصمه الإمام والجماعة معه، ومثل صيام من رأى هلال رمضان وحده وردت شهادته، فإنّ في وجوب صيامه عَلَى الرأي عن أحمد روايتين. والمنصوص عنه في رواية حنبل أنه لا يصوم، وهو قول طائفة من السَّلف. كعطاء، والحسن، وابن سيرين، ومذهب إسحاق. وعلى هذا فقياس مذهبه أنه لا ينفرد عن الجماعة بالفطر في يوم عرفة إذا صامه الإمام والناس ورآه من لم يؤخذ بقوله. فإن في الأمر بفطره وتحريم صيامه مفسدة المخالفة للإمام وجماعة المسلمين.
2 / 606
ومثل هذا لا يكاد يخفى؛ بل يظهر وينتشر، كما وقع في هذا العام، وربما يؤدي إِلَى أن يجعله كثير من الناس يوم النحر، فتنحر فيه الأضاحي، كما وقع في هذا العام أيضًا. وهذا من أبلغ الافتئات عَلَى الإمام وجماعة المسلمين، وفيه تشتيت الكلمة، وتفريق الجماعة، ومشابهة أهل البدع، كالرافضة ونحوهم؛ فإنهم ينفردون عن المسلمين بالصيام والفطر وبالأعياد، فلا ينبغي التشبه بهم في ذلك. (وتحقيق) (*) هذا: أن التقدم عَلَى الإمام بذبح النسك منهي عنه. كالتقدم عليه بالصيام، والتقدم عليه بالدفع من عرفة، والتقدم عليه بصلاة الجمعة. ولذلك منع طائفة من أصحابنا - كأبي بكر عبد العزيز- أهل الأعذار أن يصلوا الظهر يوم الجمعة حتى يصلي الإمام الجمعة.
ولذلك تنازع العُلَمَاء: هل يجوز التقدم عَلَى الإمام بالذبح يوم النحر، أم لا يجوز الذبح حتى يذبح الإمام نسكه؟ وفيه قولان مشهوران للعلماء ولا خلاف بينهم أن الأفضل أن لا يذبح الناس حتى يذبح الإمام.
وقال الحسن في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ (١)، قال: لا تذبحوا قبل الإمام. خرَّجه ابن أبي حاتم.
فإن قيل: أليس قد أمر النبي ﷺ أصحابه عند وجود الأئمة الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها أن يصلوا الصلاة لوقتها وأن يجعلوا صلاتهم معهم نافلة، مع أن في ذلك افتئاتًا عَلَى الأئمة واختلافًا عليهم؟ ولهذا كان بنو أمية يشددون في ذلك ويستحلفون الناس عند مجيئهم للصلاة أنهم ما صلوا قبل ذلك. ومع هذا فقد أمر النبي ﷺ بالصلاة في الوقت سرًّا، وبالصلاة معهم نافلة لدفع شرهم وكفِّ أذاهم.
وهذا يدل عَلَى أنه لا يجوز لأحد ترك ما يعرفه من الحق لموافقة الأئمة وعموم الناس؛ بل يجب عليه العمل بما يعرفه من الحق في نفسه، وإن كان
_________
(*) تحقق: "نسخة".
(١) الحجرات: ١.
2 / 607
فيه مخالفة للأئمة وعموم الناس المتبعين لهم وحينئذ فلا يجوز أن يؤمر من رأى الهلال، أو من أخبره برؤيته من يثق به أن يتبع الإمام والجماعة معه، ويترك ما قد عرفه من الحق.
فالجواب: أن ما نحن فيه ليس من هذا القبيل، وذلك أن الصلاة لها وقت محدود في الشرع معلوم أوله وآخره علمًا ظاهرًا، فمن غيره من الأئمة (لم تجب) (*) متابعته في ذلك؛ لأنّ فيه موافقة عَلَى تغيير الشريعة. وذلك لا يجوز فنظير هذا من مسألتنا أن يشهد شهود عدول عند حاكم برؤية هلال ذي الحجة أو رمضان، فيقول: هم عندي عدول ولا أقبل شهادتهم أو نحو ذلك مما يظهر فيه أنه تعمد ترك الواجب بغير عذر، فهنا لا يلتفت إِلَيْهِ ويعمل بمقتضى الحق، وإن كان يظهر له التقية إذا خيف من شره. كما أمر النبي ﷺ بالصلاة مع أولئك الأمراء نافلة. وهذا بخلاف الأمور الاجتهادية التي تخفى ويسوغ في مثلها الاجتهاد، كقبول الشهود وردهم؛ فإن هذا مما تخفى أسبابه.
وقد يكون الحاكم معذورًا في نفس الأمر؛ ففي مثل هذا لا يجوز الافتئات عَلَى الأئمة ونوابهم ولا إظهار مخالفتهم، ولو كانوا مفرطين في نفس الأمر، فإن تفريطهم عليهم لا عَلَى من لم يفرط. كما قال النبي ﷺ في الأئمة: "يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم" خرَّجه البخاري (١) والله اعلم.
انتهى ما ذكره الشيخ -رحمه الله تعالى.
...
_________
(*) لم تجز: "نسخة".
(١) برقم (٦٩٤).
2 / 608