شكل 1-5: الصورة الموجودة في صدر كتاب «ملاحظات على كتابات وسلوك جان جاك روسو» (لندن، 1767) لهنري فيوزيلي، وفيها يظهر روسو مشيرا إلى فولتير جاثما فوق البشرية، بينما العدالة والحرية على المشنقة.
ولكن، وفقا لمؤلفه «اعترافات»، كان أول عمل يؤلفه روسو في بيته الجديد هو «العقد الاجتماعي »، وهو مؤلف شرع في وضع خطة له بالفعل بينما كان في البندقية، وأمسى في ذلك الوقت عازما على جمع مادته في أفضل ما ألفه على الإطلاق. ولعل من الأفضل فهم مبادئ العقد الاجتماعي الحقيقي في مقابل صيغة الاتفاق المشئومة الواردة في «الخطاب» الثاني. فهذا العقد، إذا فهم الفهم الصحيح، سنراه يحقق للمواطنين حريتهم الحقيقية بدلا من أن يدمرها؛ وذلك بالمساواة بينهم تحت مظلة القانون بدلا من إخضاعهم لحكامهم السياسيين المعينين. فهو يرى في هذا الكتاب أن الحرية والمساواة معا هما المبدآن الجديران بأن يكونا أهم مكونات أي نظام تشريعي، وجزء كبير من هذا الكتاب مخصص لتفسير علة ذلك. وبعد أن ميز روسو بالفعل ما بين النطاقين الأخلاقي والسياسي من ناحية والطبيعي والمادي من ناحية أخرى لحياتنا، زعم أن الأشكال المميزة للحرية أو التحرر ملائمة لكل من الجانبين. وقال روسو إنه من دون الحكومة، يمكن للناس أن يكونوا أحرارا بشكل طبيعي بمعنى عدم الخضوع لإرادة الآخرين، لكن حريتهم سترتبط وحسب بإشباع رغباتهم الأساسية. وفي المجتمع السياسي الذي يقتضي إقامته التخلي عن حريتنا الطبيعية - في هذا المجتمع وحده - يمكننا إدراك الحرية المدنية أو الأخلاقية. والأولى تجعلنا معتمدين على المجتمع بأسره، بينما تخضعنا الثانية إلى القوانين المعبرة عن إرادتنا الجمعية. في «العقد الاجتماعي»، زعم روسو أن الدولة يمكن أن تكون أداة للحرية إذا كانت لرعاياها جميعا السيادة في الوقت نفسه؛ لأنه حينئذ وحسب يمكن القول بأن الناس يحكمون أنفسهم حقا. ولاحظ روسو أنه فقط عندما يشارك كل المواطنين بالدولة في العملية التشريعية، يستطيعون معا منع إساءة استخدام السلطة التي قد يسعى بعضهم إلى استغلالها. ورغم أن بعض معاصريه، مثل مونتسكيو وفولتير، أثنوا على المبادئ الليبرالية المنصوص عليها في الدستور الإنجليزي، حكم روسو، استنادا إلى هذه الأسس، على نظام الحكم البرلماني الإنجليزي بأنه لا يتوافق مع حرية الناخبين فيما يتعلق بتفويض السيادة من جانب الشعب لنوابه.
بعد أن نشر روسو «العقد الاجتماعي»، كتب «دستور كورسيكا» عام 1765، ومقالة «حكومة بولندا» حوالي عام 1771، بدعوة في المرتين من مواطنين بارزين في هذين النظامين الناشئين ليكون روسو مشرعا لهما. لو كانت كورسيكا نجت من الغزو، وبولندا من انقسامها، لكان من الممكن، في أواخر القرن الثامن عشر، أن نشهد كيف يمكن تطبيق مبادئ «العقد الاجتماعي» على دساتير دول حقيقية. لقد كان قصده دوما أن هذا ما ينبغي أن يكون عليه الحال، هكذا زعم روسو، فيما يتعلق بالسعي للجمع ما بين النظرية والممارسة السياسية، وهكذا كانت نية معجبيه ممن قاموا بالثورة الفرنسية لاحقا، ولو بطريقة مختلفة. وبمقابلة فلسفته بفلسفة أفلاطون ومور أيضا، أكد روسو أنه لم يطرح رؤية مثالية لا يمكن تحقيقها على أرض الواقع. على العكس من ذلك، فالغاية من «العقد الاجتماعي» بيان الأسس النظرية لشيء أقرب ما يكون إلى المراد، ويظهر هذا تحديدا في دستور جنيف، واعتقد روسو أنه لأن ذلك الدستور لم يتم تطبيقه، فقد استثار غضب السلطات الحالية لدولته الأم (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث). لقد كانت هذه واحدة من بين الحجج الرئيسية لعمله الثالث المكرس إلى حد بعيد للسياسة، ألا وهو «رسائل من الجبل» عام 1764.
لكن الجزء الذي أثار، في حياته، غضب العامة الشديد نحو مؤلفه «العقد الاجتماعي» كان الفصل قبل الأخير الذي يتناول الدين المدني. أكد روسو هنا على أهمية الأساس الديني وكذا السياسي لمسئولياتنا المدنية الذي بناء عليه يؤدي المواطنون ويحبون واجبهم باعتباره مسألة تتعلق بالإيمان الوطني مع ضمهما معا في إيمان بإله قدير وخير وغفور. إن هذا الجانب من فكره، الذي استلهمه جزئيا من مكيافيللي الذي كان معجبا بأفكاره، زج بروسو في صراع مع كلا المؤسستين الدينية والسياسية المعاصرتين له وكثير من نقادهما البارزين. بالنسبة إلى المفكرين المهتمين بإصلاح نظام الحكم القديم، بدا حماسه الديني مرة أخرى خيانة للتنوير واستنهاضا خبيثا للإيمان الأعمى في فجر عصر العقل. من ناحية أخرى، فإن إدانته السريعة للمسيحية التي وصفها بأنها تناسب الحكومة المستبدة أكثر من غيرها أثار ثائرة الكنيسة والسلطات السياسية على حد سواء. علاوة على ذلك، فقد كان قسم «عقيدة كاهن سافوي» في روايته «إميل » التي نشرها روسو تقريبا في الوقت نفسه الذي نشر فيه مؤلفه «العقد الاجتماعي»، بمثابة التعبير الأكمل والأكثر بلاغة عن فلسفته الخاصة بالدين الطبيعي بالمقارنة بالدين المنزل من السماء، الأمر الذي أثار استياء تلك السلطات بقدر أكبر.
ولم يسلم روسو قط في واقع الأمر من الاستهجان؛ فقد حظر مؤلفاه «إميل» و«العقد الاجتماعي» أو صودرا في باريس، وأحرقا في جنيف. وجد روسو نفسه مضطرا للفرار من إحدى المدينتين وعرضة للاعتقال في الأخرى، وبذا كان في عام 1762 مطاردا وهاربا من العدالة، وقد اندهش من سرعة ردة الفعل الرسمية لآرائه التي كان يراها مجرد رؤى مختلفة متعلقة بالمسيحية مقارنة بالرؤى الإلحادية للكثير من المفكرين، وكذلك من الإخفاق المبدئي لأبناء وطنه في إغاثته. في مايو 1763، وهو في قمة القنوط، وبعد أن وجد ملاذا مؤقتا في موتييه، على مقربة من نوشاتيل، الخاضعة للولاية الاسمية لفريدريش العظيم، ملك بروسيا، تخلى روسو عن جنسيته الجنيفية. بعدها ظل مشردا، واضطر أن يسافر عادة متخفيا وتحت اسم مستعار، وأصبح تحت رحمة الذين عرضوا عليه حمايته الذين كان هدفهم الأساسي، كما كان روسو يظن أحيانا، نصب فخاخ له وتشويه سمعته. كان ديفيد هيوم من بين هؤلاء، حيث صحب روسو في يناير 1766 شخصيا إلى إنجلترا، واستقر فيها حوالي 18 شهرا، وتحديدا في ووتون في ستافوردشير. وغلبت عليه في تلك الفترة شكوك في وجود مؤامرة دولية لتشويه سمعته، ألقت به في بحر من الأسى، وتسببت لهيوم في إزعاج شديد. وفاقم الاضطهاد الحقيقي من جنون الاضطهاد الذي أصيب به روسو لا محالة على الأقل بداية من أواسط ستينيات القرن الثامن عشر، ولبقية حياته ظل مقتنعا بأن رفاقه القدماء في طليعة عصر التنوير - ديدرو ودالمبير ودولباك وجريم - بمساعدة فولتير وأصدقائه النبلاء الذين طالما مقتوه، اتحدوا مع أعدائه السياسيين في شبكة ضخمة من أجل التآمر ضده. وبعد أن عاد إلى فرنسا بعد تعهده بالامتناع عن نشر كتاباته، وجد راحته في الانعزال، ودراسة علم النبات، وتوحده الغنائي الرومانسي مع الطبيعة، بحسب ما ورد في آخر أعماله البارزة ، وأفضلها على الإطلاق لدى بعض القراء «أحلام يقظة جوال منفرد»، الذي ظهر بعد وفاته بالتزامن مع ظهور الجزء الأول من مؤلفه «اعترافات». في عام 1778، وبعد أن انتقل مرة أخرى إلى ملتجأ في شمال باريس تماما بفترة وجيزة، في إيرمنوفيل، الذي وفره له الماركيز دي جيراردان، توفي متأثرا بسكتة دماغية «دون أن ينطق بكلمة واحدة»، بحسب ما جاء على لسان أرملته (المراسلات الكاملة، الرسالة رقم 8344)، مما يناقض الادعاءات الواهية بأنه مات منتحرا.
شكل 1-6: بورتريه لروسو منسوب إلى جروز.
ولكن، رغم أن روسو أمسى منعزلا عن مفكري عصر التنوير الكبار، فقد كان له الكثير من المريدين الشغوفين به أيضا في شتى أرجاء فرنسا وبين الدوائر الراديكالية في جنيف، والأهم من ذلك ربما في الدول المستنيرة الموجودة على أطراف أوروبا، ألا وهي: إيطاليا واسكتلندا وألمانيا؛ حيث كان كانط وجوته أبرز المعجبين به من الجيل أو الجيلين التاليين. وأثناء الثورة الفرنسية، عندما عرضت مخطوطة كتاب روسو «اعترافات» على المؤتمر الوطني، ونقل جثمانه رسميا إلى باريس، كان أثره على الحياة والفكر في القرن الثامن عشر في ذروته. ولا توجد أية شخصية بارزة في عصره مثل روسو عبرت بقدر أكبر من الوضوح عن التزام الثوريين بمبادئ الحرية والمساواة والإخاء، ولا يوجد من أبدى إخلاصا أعمق لنموذج السيادة الشعبية الذي بشر تبنيه في فرنسا بنهاية نظام الحكم القديم. ويعد المسار المهني السياسي لروبسبيير الملقب بالنزيه - بالتحديد معارضته للمحسوبية واللاهوت الكهنوتي ووطنيته وترويجه لعبادة الكائن الأسمى، وكذا الكثير من الممارسات خلاف ذلك - أعظم تجل عملي على الإطلاق لمبادئ روسو. لم يدع روسو نفسه قط إلى الثورة، وكان حكمه على الثورات السياسية بأنها أسوأ من الداء الذي تعتزم علاجه، ولم يعقد آمالا كبيرة على الخلاص السياسي للبشرية. لكنه تنبأ بأزمة وشيكة ستحل بأوروبا، وحلول عصر ثوري، وتمنى تفادي هذا التحول الثوري. وعندما اندلعت الثورة الفرنسية بعد عقد من وفاته، خط كثير من قادتها رغم ذلك برامجهم ودساتيرهم في ظل الضوء الساطع لفلسفته. وبسبب هذا، لقي روسو نقدا لاذعا واعتبروه أحقر مفكري القرن الثامن عشر بأسره عندما انهارت الثورة وتمخض عنها في بداية الأمر إرهاب اليعاقبة، ومن بعده البونابرتية، وبحسب النقاد، أفضت في نهاية المطاف إلى شمولية حديثة بصفة عامة.
الفصل الثاني
الثقافة والموسيقى وفساد الأخلاق
قال روسو في مؤلفه «اعترافات» إنه ذهل عندما قرأ إعلان أكاديمية ديجون بمجلة ميركور دي فرانس في عددها الصادر في أكتوبر 1749 عن مسابقة أفضل مقالة تجيب عن السؤال التالي: «هل يساهم إحياء الفنون والعلوم في تهذيب الأخلاق؟» كتب روسو يقول: «فور أن قرأت هذا الإعلان، تجلى لي عالم آخر وأمسيت رجلا مختلفا» (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ اعترافات). توقف روسو عند شجرة ليلتقط أنفاسه، وانفعل إلى حد الهذيان تقريبا بفعل رؤية متحمسة للخيرية الطبيعية للبشر والتناقضات الخبيثة للنظام الاجتماعي؛ مما أشعل في عقله معظم الأفكار الأساسية للأعمال التي ستصبح بعد ذلك أعماله الرئيسية، ولو أنه لم يستعد منها قط سوى خيال باهت لها. ورغم ذلك، بينما يشكل «خطاب حول الفنون والعلوم» التعبير الفوري الأول عن تلك الرؤية، صار روسو في نهاية المطاف يعتبره واحدا ضمن أسوأ كتاباته الرئيسية. فالنص الذي استهل به مشواره الأدبي لم يكن يتمتع بنظام ولا بترتيب منطقي ولا بهيكل محدد، على حد وصف روسو له متحسرا. ورغم أنه كان حافلا بالدفء والقوة، فإنه كان، بشهادة روسو نفسه، أوهن أعماله المحتفى بها وأدناها اتساقا (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ اعترافات). ولقد كان هذا المؤلف أيضا، وهو ما لاحظه القادحون فيه سريعا، أقل أعماله أصالة.
صفحة غير معروفة