لم يؤيد روسو قط أي وجهة نظر تقول بتحول نوع إلى نوع آخر، وهي وجهة النظر التي ستمسي الفكرة المحورية للرواية الداروينية عن التطور الطبيعي بعد أكثر من قرن من نشر «خطاب عن اللامساواة». فقد كان مقتنعا كل الاقتناع بثبات الأنواع في تسلسل المخلوقات التي خلقها الله، وعندما افترض أن الأورانجوتان قد يكون نوعا محتملا من أنواع الإنسان البدائي، فقد خمن أن هذا المخلوق كان يمشي منتصبا، وأن شكله كان أشبه بنا، وأنه كان متمايزا من الناحية الحيوانية عن القردة والقردة العليا. انصب اهتمامه بشأن هذه القردة حقا على اللغة، وفي مقابل بوفون وغيره من المؤرخين الطبيعيين وعلماء التشريح، أراد روسو وحسب أن يشدد على أنه، ما دامت اللغة تعبر عن التقاليد الاجتماعية ويتعين تعلمها، لا بد لنا ألا نعتبر المخلوقات التي تشبهنا جسمانيا لكنها تفتقر إلى إتقاننا للكلام الواضح البين أنها تنتمي للسبب هذا وحده إلى جنس متمايز عنا بالكامل (الأعمال الكاملة ، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). ومع ذلك، ففي تأملاته حول قردة الأورانجوتان، كان لروسو بعض الأثر على التاريخ المبكر للأنثروبولوجيا الطبيعية، وعلم الأحياء التطوري؛ وذلك لأن فرضيته أن الأجناس المتمايزة ظاهريا قد تكون متماثلة أو حتى متطابقة وراثيا فتحت احتمالية وجود علاقة تسلسلية للروابط في تسلسل الخلق، التي ستحل في نهاية المطاف محل فكرته عن الثبات، وتستبدل بها فكرة التحول. لم يتخيل أحد في القرن الثامن عشر الطبيعة البشرية باعتبارها أكثر عرضة للتغير في مسار تطورها. ولم يفترض أحد أن الإنسان الهمجي أقرب شبها بكثير إلى الحيوانات منه إلى الإنسان المتحضر. وما من أحد قبل روسو كان أقرب منه تصورا للتاريخ البشري باعتباره انحدارا للبشر من أحد القردة العليا. علاوة على ذلك، تصادف أن صورته التخمينية بالكامل لقردة الأورانجوتان باعتبارها نوعا من الهمج غير المتكلمين في حالتهم الطبيعية رسمت بدقة تجريبية أكبر من أي وصف لسلوك تلك القردة على مدار المائتي عام التالية على الأقل؛ أي حتى ظهرت الأعمال الميدانية التي اضطلع بها في جنوب شرق آسيا في أواخر ستينيات القرن العشرين بيروتي جالديكاس وجون ماكينون وبيتر رودمان. فتعليقا على حياة الترحال التي تعيشها هذه المخلوقات، ونظامها الغذائي النباتي، وعلاقاتها الجنسية المتباعدة، وحياتها المنعزلة الكسولة إلى حد كبير، سلط روسو الضوء على الفجوة الاجتماعية التي تفصل بيننا وبين أنواع معينة من القردة العليا التي تخفق أوجه الشبه البيولوجية بينها وبيننا، بما في ذلك فوق كل شيء تركيبة جيناتها، في إخفاء أوجه الاختلاف الشديدة في الخصال السلوكية. وعن طريق تصوير الطبيعة البشرية منزوعة من المجتمع على أنها تشبه حالة أكثر القردة العليا استقلالية، فإن تخميناته الخاصة بالحدود الحيوانية لجنسنا تشير إلى مدى تعقيد البعد الاجتماعي لحيواتنا بقدر ما تشير إلى بساطة حالتنا الأصلية.
وبالطبع لم يضمن وجود استعداد للكمال لدى البشر البدائيين في حالتهم الطبيعية تطورهم الأخلاقي؛ وذلك لأن التطور «الحقيقي» لهذه الخصلة اعتمد على الاختيارات الفعلية التي لا بد أن الأفراد قد استقر رأيهم عليها في تبنيهم لمؤسساتهم المجتمعية والسياسية المتعددة. لقد ضمنت هذه الخصلة وحسب أنه يمكن أن يكون هناك تغير تراكمي في اتجاه أو آخر، وكانت متسقة مع تاريخ فساد الإنسان الأخلاقي بقدر ما كانت متوافقة مع تاريخ تطوره. وبحسب روسو، فقد أساء الإنسان حقا استخدام حريته فيما يتعلق بالخصال التي تشاركها مع جميع المخلوقات الأخرى، بحيث إنه، خلال مسار تطوره، كبت تعاطفه وحبه لذاته؛ مما أدى إلى فساد أخلاقه. وبينما تراجع تدريجيا تعويل الهمج على الطبيعة، فقد عودوا أنفسهم بالقدر نفسه وبشكل متزايد على اعتماد بعضهم على بعض؛ بحيث عبر الواحد منهم عن استعداده الأصلي للكمال بطريقة تتعارض مع حريته الطبيعية، إثر اختياره في المجتمع ليكون عبدا لنوازع جديدة فرضها هو على نفسه. لقد أدى كمال الفرد في واقع الأمر إلى «تقويض الجنس البشري»، بحسب ما انتهى إليه روسو؛ مما يثبت أن الاستعداد الذي نمتلكه للكمال هو مصدر كل مصائب البشر (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). لقد كان سوء استغلال هذه القدرة على الارتقاء بالذات لا القانون الطبيعي هو الذي أدى إلى تحول اختلافاتنا الجسمانية وحسب إلى فروق أخلاقية مهولة، ومن ثم لعب الدور الأكبر على الإطلاق في تأسيس اللامساواة الاجتماعية.
لو كانت الطبيعة هي التي خلقت الفروق الأولى المهملة بين الهمج، فلا بد أن المصادفة هي التي جمعت بينهم في بادئ الأمر. في العديد من الفقرات الواردة في «الخطاب» الثاني، وكذا في الفصل التاسع من «مقالة عن أصل اللغات»، خمن روسو أن ثمة حوادث وكوارث طبيعية مثل الفيضانات أو الثورات البركانية أو الزلازل لا بد أنها في المقام الأول ألفت بين الهمج المنعزلين وجمعتهم في مناطق قريبة بعضها من بعض، ربما عبر تشكل الجزر (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الأعمال الكاملة، المجلد الخامس؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). وبعيشهم على مقربة بعضهم من بعض، هجر أسلافنا حياة الترحال، وبصنعهم الأكواخ وغيرها من الملاجئ بالأدوات التي كانت الضرورة تستدعي اختراعها، شرعوا في التوطن وتكوين العائلات، وبهذا يكونون قد استهلوا حقبة التحول الأول في التاريخ البشري، مستحدثين معها فكرة بدائية عن الملكية، بحسب زعم روسو (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى)، على غرار الأفكار نفسها التي تناولها لاحقا إنجلز بإسهاب في مؤلفه «أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة». ولكن على فرض أن هذا هو ما كان عليه الحال، كان روسو مقتنعا بأن مثل هذا التحول في أسلوب حياة الهمج من الصعب أن يفضي إلى تطور اللامساواة الاجتماعية نفسها، ولو فقط لأن القوى التي أجبرتنا أصلا على الاجتماع بعضنا مع بعض، بحسب ملاحظته في الفصل الثاني من «مقالة عن أصل اللغات»، لا يمكن أن تطابق تلك التي لا بد أنها أبعدتنا بعضنا عن بعض لاحقا (الأعمال الكاملة، المجلد الخامس؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). إن الاختلافات الأخلاقية المنتشرة في المجتمع كانت من صنع البشر أنفسهم لا من صنع الطبيعة أو المصادفة، واللامساواة الاجتماعية لم تكن لتنشأ وحسب بسبب عيشنا على مقربة بعضنا من بعض.
والأرجح، بحسب مقترح روسو، أنها نبعت من الطريقة التي اتبعها الهمج ل «تحديد» جيرانهم، فور أن بدءوا يلتقون بتواتر غير معتاد. فعندما بدأ أسلافنا، في مستوطناتهم البدائية، في مصادفة الأشخاص أنفسهم يوما بعد يوم، لا بد أنهم بدءوا يلاحظون إلى حد ما تلك الخصال التي ميزتهم بعضهم عن بعض. ولا بد أنهم أدركوا تدريجيا من بينهم الأقوى أو الأكثر مهارة أو بلاغة أو وسامة، على سبيل المثال. وبصفة عامة، لا بد أنهم شرعوا في ملاحظة الفروق في بنية أجسامهم التي ترجع إلى الطبيعة. ولا بد أن كل إنسان أيضا حدد ذاته في ضوء السمات التي بدا أن الآخرين أقروا بها باعتبارها معبرة عن سلوكه. ولا بد أنه شرع في مقارنة نفسه بالأشخاص الذين أصبحوا تدريجيا أكثر ألفة بالنسبة إليه، ولا بد أنه بدأ يرى بعض الأهمية في الفروق التي لاحظها. وفي عزو قيمة لخصائص بعينها وإعلائها على غيرها، حول أسلافنا تبايناتهم الطبيعية إلى فروق أخلاقية، وصرفوا انتباههم إلى مواهب جيرانهم، وودوا أيضا لو ينالون الإعجاب لمهاراتهم الخاصة. ويبدو أنهم حسدوا الذين يتمتعون بخصال تختلف عما يملكونه من سمات أو احتقروهم؛ وبذلك بدأ التوزيع غير العادل للتقدير العام في التفريق بينهم في طبقات اجتماعية. وبينما «يعيش الهمجي متقوقعا داخل ذاته، فإن الإنسان الاجتماعي يعيش خارج ذاته دوما، ولا يقدر على العيش إلا في نفوس الآخرين» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). وفي تصنيفاتهم للسمات التي حددوا بها جيرانهم، لا بد أن البشر البدائيين حولوا النظام الأساسي لتمييز الصفات الطبيعية إلى نظام ترتيبي لتصنيف التفضيلات الأخلاقية؛ «حيث نتج عن هذه التطورات الجديدة»، بحسب نص روسو، «توليفات قاتلة للبراءة والسعادة» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). بالنسبة إلى مونتسكيو أو سميث، لا بد أن الرغبة في نيل احترام الآخرين خلقت احتياجات مشتركة ومصالح تجارية خففت من وطأة الرغبات النهمة للإنسان البدائي، ولكن بالنسبة إلى روسو لا بد أن هذه المحاكاة وما يلازمها من سعي لتحسين الذات عن طريق مزاولة التجارة كانت بدلا من ذلك مسئولة عن التقويض الاجتماعي للاكتفاء الذاتي البشري في الحالة البدائية لجنسنا.
وبالطبع ما كانت الخصال البشرية المتعددة التي قدرها أسلافنا الهمج لتتجلى كلها في الوقت عينه. ولا بد أن أسلافنا ميزوا من بينهم من يتمتعون بأعظم قوة (وهي صفة جسدية) قبل أن يحكموا أيهم أكثر وسامة أو بلاغة (وهي صفات اجتماعية كما هو واضح تعتمد على الذوق)، وبحسب رواية روسو فإنه من الصعب أن نعرف السبب وراء اعتبار الأفراد لبعض السمات الشخصية أجدر بالإجلال والاحترام من غيرها. لكنه كان مقتنعا بأنه فور أن شرع البشر في عزو أهمية لاختلافاتهم، فلا بد أنهم بذلك هموا بتشكيل مؤسساتهم الاجتماعية. إن براعة وبلاغة البشر البدائيين تحديدا اللتين يشير إليهما روسو في أولى هذه الفقرات من الجزء الثاني من «الخطاب» الثاني لا بد أنهما جعلتا تأسيس فكرة الملكية الشخصية ممكنا. ولا بد أن المؤسس الحقيقي للمجتمع المدني؛ إذ وجد الناس على قدر كاف من السذاجة لتصديق زعمه بأن قطعة الأرض التي سيجها تخصه، استغل براعته في التعامل مع الأرض وبلاغته في التعاطي مع جيرانه بطريقة تصبغ شرعية على أكثر علاقاتنا الحاسمة أساسية التي تربط بعضنا ببعض.
بعد تأسيس فكرة الملكية الخاصة، لا بد أن التعدين والزراعة تطورا للارتقاء بإنتاجية الأرض، وفي الوقت نفسه زيادة الفروق الأخلاقية بين الذين يملكونها والذين لا يملكونها. وبينما يرى الشعراء أن الذهب والفضة هما اللذان جعلا البشر متحضرين في البداية، اتبع روسو، واصفا هنا التحول الثاني الكبير في التاريخ البشري، الفلاسفة الذين يزعمون بأن هذا التحول لا بد أنه حدث تقريبا إبان زراعة الذرة والتنقيب عن الحديد، وهو ما جعل الأوروبيين بالفعل أسرى احتياجات جديدة، لكنهم لم يدمروا أمريكا الهمجية (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). في «مقالة عن أصل اللغات» التي تتبنى وجهة نظر مختلفة نوعا ما عن المجتمع البدائي في فصلها التاسع، تجاهل روسو رواية التحولين الكبيرين في التاريخ المبكر للإنسان، مفضلا، على غرار تيرجو والمؤرخين الاسكتلنديين المعاصرين له القائمة أعمالهم أساسا على التخمين، التعليق على مراحل الصيد والرعي والزراعة من تطورنا التي يقابلها الإنسان الهمجي والبربري والمتحضر على الترتيب، بحسب ملاحظة روسو (الأعمال الكاملة، المجلد الخامس؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). لكن، لا يوجد ذكر محدد لبوفندورف أو كوندياك أو بوفون في أي موضع في مقالته، التي لا تتبع عكس ترتيب رؤى هوبز ولوك وهو الأمر المحوري جدا لحجته في «الخطاب» الثاني. وهنالك، زعم أنه عندما خضعت كل الأرض المتوافرة بشكل واضح بفعل التوريث وزيادة عدد السكان لحقوق الملكية، ما من أحد كان يستطيع أن يحصل على ملكيته أو يزيد من رقعتها إلا على حساب الآخرين. ولا بد أن حالة المجتمع المدني بالتبعية أدت إلى اندلاع الحرب، وجعلت الأثرياء من أسلافنا عرضة لخطر أكبر من الفقراء، ما دام أنهم لم يخاطروا وحسب بحياتهم، بل وبممتلكاتهم أيضا؛ لذا، تشكل لديهم حافز قوي على نحو خاص للتفاوض من أجل الوصول لحالة من السلام ظاهريا يفرضها القانون، وتنفذها قوات الشرطة. وحفاظا على حياتهم، لا بد أن الفقراء تخلوا عن حقوقهم في الحصول على أي نصيب من ممتلكات الأثرياء، وبهذا تمكن الأفراد المهرة والفصحاء بالمجتمع، الأقرب شبها بالأشخاص «المجتهدين والعقلانيين» الذين وصفهم لوك في الفصل الخامس من مؤلفه «الأطروحة الثانية عن الحكومة»، من تأمين ثروتهم بالكامل وحمايتها من الغير؛ إذ مارسوا حيلة «أحالت اغتصابا بارعا إلى حق نهائي» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). إذا كان قد ثبت خطأ الفلاسفة القانونيين حيال الطبيعة البشرية، فقد كانوا رغم ذلك دقيقين إلى حد كبير في توصيفاتهم للتاريخ البشري، على فرض أن تصور لوك للملكية الخاصة لا بد أنه سبق تصور حالة الحرب لهوبز، وكان سببا رئيسيا له حقا.
إن الأشكال المتمايزة للحكومة التي لا بد أن البشر تبنوها في البداية - الملكية والأرستقراطية وحتى الديمقراطية - كلها تدين في ظهورها، بحسب اقتراح روسو، للدرجات المختلفة للامساواة السائدة إبان تأسيسها (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). ولكن حيث إن كل شكل من أشكال الحكومة كان الهدف منه إضفاء المشروعية على تفاوتنا الأخلاقي والتأسيس له، لا بد أنه اتبع في كل حالة نمطا مماثلا من أنماط التطور. ولا بد أنه وسع تدريجيا سلطان الأثرياء، وفي الوقت نفسه زاد من التزامات الفقراء، حتى تحولت غالبية العلاقات بين البشر في المجتمع إلى علاقات بين سادة وعبيد. ولا بد أن المؤسسات التي تأسست في بداية الأمر بالاتفاق أفسحت في نهاية المطاف المجال لوجود سلطة تعسفية، ولا بد أن الحكومات بعد فترة أصبحت ترهق رعاياها بأعباء ثقيلة جدا لدرجة أنها لم تعد تستطيع الحفاظ على السلام الذي أقيمت من أجل ضمانه؛ لذا، خضع المجتمع المدني للتغير الثوري، ولا بد أن البشر فروا من الأزمات الدورية لتطورهم السياسي فقط باللجوء إلى سادة جدد أقنعتهم بلاغتهم الملتوية بتبني المزيد من مبادئ الاستعباد والاستبداد التي توضع أطرها في خضم الفوضى والثورة (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). علق روسو على هذا قرابة ختام مؤلفه قائلا: «وهنا آخر حد للامساواة وأقصى نقطة تغلق الدائرة» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). تأسست حالة طبيعية جديدة حيث الهيمنة والسيادة للأقوى، لكنها حالة طبيعية ليست بنقائها الأول، بل حالة تعتمد بدلا من ذلك على الفساد المفرط.
إن هذا التصوير للمراحل الثورية لتاريخنا الاجتماعي التي لا بد أنها أنتجت في بداية الأمر حكم الطغاة وقضت عليه بعد ذلك قدر لإنجلز أن يصفه لاحقا في كتابه «الرد على دورينج» باعتباره «نفيا للنفي»، ومن ثم فهو تأويل جدلي للتاريخ البشري مهد الطريق للتأويل الخاص بماركس في نفس الإطار. وحقيقة الأمر أن ماركس نفسه لم يوافق قط على هذا الحكم، وفضل، شأنه شأن هيجل، أن ينظر لروسو باعتباره فيلسوفا تنويريا ملتزما تجاه الحقوق الطبيعية المجردة للبشر التي كان تحقيقها إبان الثورة الفرنسية بمثابة إيذان بانتصار سياسي للطبقة البرجوازية. لكن، لو كان قد قرأ «خطاب عن اللامساواة» بالعناية التي أولاها إنجلز للجزء الثاني منه تحديدا، لربما لاحظ وجود نظرية لتطور الملكية الشخصية واللامساواة الاجتماعية قريبة بشكل مدهش من مفهومه الشخصي عن التاريخ باعتباره تتابعا من الصراعات الطبقية خفف من وطأته حكم القانون الأيديولوجي. لم يكن روسو ثانية ماركسيا جدا في تفسيره للمجتمع كما كان في الصفحات الختامية من «الخطاب» الثاني.
رغم ذلك، ينبغي أن نضع في الاعتبار أن روسو، على النقيض من ماركس، تصور حجته كاستعراض «تخميني» لأصول اللامساواة. لم يكن الهدف من أفكاره طرح تاريخ للبشرية بقدر ما كان وضع نظرية للطبيعة البشرية، وقد استقى وصفه للماضي من فهمه للحالة الأخلاقية التي أصبح عليها جنسنا. وكان روسو يرى أن السمات الأساسية لطبيعتنا يمكن الكشف عنها فقط إذا كان بالإمكان أن نتأملها بمعزل عن السمات المعاصرة السطحية لسلوكنا، بحيث ينبغي نزع الإنسان الطبيعي من المواطن، بدلا من أن يتشكل الإنسان المتحضر من الهمجي. وحيث إن روسو بدأ بحثه من خلال منظور الحالة الحالية للبشرية، فمن المنطقي ألا تعتمد محاولته لبناء صورة الماضي القائمة على الافتراض كثيرا على أي تاريخ لأحداث فعلية. فقد أشار إلى أنه قد نحى كل الحقائق جانبا (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى)؛ حيث إنها لا تؤثر على المسألة. وكانت استقصاءاته افتراضية لا تاريخية، وتسعى لتفسير طبيعة الأشياء دون أن تؤكد أصلها الفعلي. ولذا كانت الحالة الطبيعة التي عرضها مصممة باعتبارها عالما خياليا أقصيت منه السمات الفاسدة للمجتمع، ولم تكن نقطة انطلاقه الماضي السحيق الذي لم يتبق منه سوى معلومات محدودة على أي حال، بل العالم الحاضر الذي نعرفه جميعا تمام المعرفة. لقد صيغ «خطاب عن اللامساواة» بقدر أقل كتاريخ عام للجنس البشري وبقدر أكبر كنظرية للطبيعة البشرية طرحت في شكل تاريخ، ولم يكن من المرجح العثور على الهمج المنعزلين الذين وصفهم روسو بأنهم أسلاف الإنسان الحديث بين البشر البدائيين الذين عاشوا في الماضي السحيق تماما كما كان من المستبعد العثور على الكائنات الحديثة كليا لهوبز وبوفندورف ولوك. آمن روسو بأنه لم يكن هناك إنسان طبيعي قط حقا، لكنه استطاع طرح نظرية عن تغيرنا الأخلاقي نسبة إلى مثل هذه الشخصية (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).
بالطبع إذا كانت الحالة الطبيعية محض خيال، فمن المنطقي أنه لن يجدي أن نحاول العودة إليها، وذلك كما أوضح روسو نفسه في أطول حاشية في مقالته (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). وزعم روسو لاحقا في مؤلفه «محاورات» أن «الطبيعة البشرية لا تخطو خطوة للوراء قط» (الأعمال الكاملة، المجلد الأول). وما إن نهجر براءتنا المفقودة حتى لا يمكننا استعادتها فيما بعد. وحتى هذا النوع من المجتمع البدائي الذي لا بد أنه نشأ فيما يصفه روسو ب «أكثر الحقب سعادة واستقرارا» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى) كان مجتمعا لا يمكن أن يأمل الإنسان المتحضر في استعادته. إن تلك الحالة البدائية التي كان أسلافنا يعيشون فيها ببساطة وفي سلام ووئام بعضهم مع بعض هي في مكان ما بين ماض خيالي وحاضر واقعي، وتحوي عناصر من الزمانين. ولو كان البشر قد عاشوا في هذه الحالة، لربما كان من الأفضل لهم ألا يفارقوها، لكن العالم الذي فقد من المستحيل استعادته، والحالة المستخلصة من الحاضر لم تقدم المبادئ الأخلاقية الملائمة للأجيال القادمة. وكما اتضح في رده على الهجوم الموجه إلى «الخطاب» الأول من قبل الملك ستانيسواف، في محاولتنا العودة إلى حالتنا الطبيعية، من الممكن أن نغرق في الفوضى والدمار، وليس بالإمكان محو شرور المجتمع الفاسد بادعاء الجهل.
صفحة غير معروفة