عيون رواحلي إن حرت عيني
وكل بغام رازحة بغامي
إذ يفسره على أن المتنبي يسخر من نفسه حين يقول إنه حين يضل طريقه يصبح مثل البعير فلا يرى إلا ما يرى، بل ويصبح صوته مثل صوت ناقته! وقد كنت قد درجت على تفسير البيت طبقا لما جاء في شرح الديوان (للبرقوقي أو اليازجي) من أن الرواحل تهديه إذا حار، وغني عن البيان أنني كنت أحار أنا نفسي في إدراك هذا المرمى! فما وجه الفخر في أن الناقة تبصر حين لا يبصر، أو أن أصوات النوق تحاكي صوته؟ وقد نهج هذا النهج - مع اختلاف في زاوية المدخل - أحمد عبد المعطي حجازي في كتابه قصيدة لا.
وربما كان السبب في قلة الأمثلة على تفاوت النغمات في أدبنا العربي هو احتفالنا التقليدي بالجد ونفورنا من الهزل، والواقع أننا نفترض للتراجيديا قيمة إنسانية أعلى بكثير من الكوميديا، وأحيانا ما نفصح عن ذلك حين نشطب عمل كاتب شطبا يكاد يكون كاملا حين نصفه بأنه هازل، ونحن ننصح أبناءنا بألا يعمدوا إلى الهزل «إلا بمقدار ما تعطي الطعام من الملح» - كما يقول الشاعر - وكأن يتجهموا كأنما لا بد أن يصاحب الجد في العمل تقطيب وجهاته!
أقول إننا درجنا على ذلك دون مبرر في الحقيقة سوى تقاليد «الرواية» أي اعتماد الأدب العربي منذ عصوره الأولى على الرواة، واعتماد الجهود الدينية التي صاحبت انتشار دين الله الحنيف أيضا على الرواية ومن ثم على السند، وهذا يقتضي أن يكون الرواة ممن يعرف عنهم الجد والابتعاد عن الهزل أيا كانت المناسبة، ولقد ذكر مثلا في أحد الكتب القديمة (المستطرف للأبشيهي) أن أحد الرواة «لم يبسم طول حياته ومات دون أن يرى أحد سنه» (يقصد أسنانه) (ص72) كما تكثر الإشارات إلى أن فلانا كان «كثير الضحك» بمعنى أنه «يحب الهزل» ومن ثم فرواياته يمكن أن تكون غير صادقة! ومن الطبيعي في هذا الجو الذي يتطلب الجد (بمعنى التجهم) حتى يتمكن الإنسان من اكتساب مكانته الوقورة في المجتمع فتقبل شهادته أمام القاضي، ويروى عنه ما يروى من أحداث العصر وشعر الماضي وأدبه، أقول إن الطبيعي في هذا الجو الغائم الملبد أن تفرض على الأدب «نغمة» واحدة، وأن يعمد الأديب إلى بث الطمأنينة في قلوب سامعيه (أو قرائه في مرحلة لاحقة) بأن يؤكد لهم أنه صادق في كل ما يقول، وأنه لا يهزل مطلقا، ولا يحب اللهو أو الطرب أو السرور!
ويشهد الله أنني لم أكن أتصور أن ذلك يمكن أن يكون صحيحا، حتى كتب لي أن أعاشر أقواما من بقاع شتى في الوطن العربي الشاسع، وأرى بنفسي كيف يعجز إنسان عن الابتسام طول عمره (أو لعدة أعوام هي الزمن الذي عشناه معا في الغربة) ثم أفهم ما قصده ابن بطوطة حين زار مصر في القرن الرابع عشر الميلادي وقال:
وأهل مصر ذوو طرب وسرور ولهو، شاهدت بها مرة فرجة بسبب برء الملك الناصر من كسر أصاب يده، فزين أهل كل سوق سوقهم، وعلقوا بحوانيتهم الحلل والحلي. وثياب الحرير، وبقوا على ذلك أياما. (ص32، دار التراث، بيروت، 1968م)
وهو يعجب للعمل الدائب («الذي ما يتوقف أبدا») ومع ذلك يلاحظ طيب المعشر («مؤانسة الغريب») ورقة الطبع («اللطف») والميل إلى الضحك والسخرية من كل شيء! لقد دهش الرجل دهشة كبيرة، وكل من يقارن ما قاله ابن بطوطة عن مصر بما قاله عن البلدان الأخرى التي زارها سيدهش لاختلاف الطبع اختلافا بينا، وسيزداد دهشه حين يدرك أن التراث العربي المشترك (تراث اللغة والأدب) لم يؤثر في تفاوت الطباع، وأعتقد أن العكس هو الصحيح فإن الطبع المصري الميال إلى «الطرب والسرور واللهو»، حتى في أحلك فترات تاريخنا، قد أثر على نغمة الأدب الذي نكتبه وجعلنا نحتفل بالكوميديا احتفالنا بالحياة نفسها (فالكوميديا في أحد تعريفاتها (احتفال بالحياة) - ويلي سايفر الكوميديا، انظر كتابنا فن الكوميديا) ولم يولد لدينا التقسيم الكلاسيكي الذي صاحب الآداب اليونانية والرومانية من استخدام الشعر مثلا في التراجيديا والنثر في الكوميديا، أو اقتصار الفصحى على الأولى والعامية على الثانية، فامتزج هذا وذاك في آدابنا الحديثة إذ كتبت التراجيديا بالعامية وبالنثر، وكتبت الكوميديا بالفصحى وبالشعر!
ولسوف يسهل على قارئ الترجمات الحديثة أن يكتشف النغمات المتفاوتة حين يلتزم المترجم الأمانة في ترجمته؛ فلا يجفل من استخدام كلمة عامية أو تعبير عامي يساعده على نقل النغمة، وحين يدرك أن للغة مستويات متعددة هي التي تساعد الكاتب على «الصعود» أو «الهبوط» في نغماته - دون أن يكون لذلك علاقة مباشرة بالسلم الاجتماعي للغة! فإذا أدركنا ذلك وضعنا أيدينا على العيب الأساسي الذي شاب ترجمات شيكسبير حتى منتصف هذا القرن ، وخصوصا مشروع الجامعة العربية. فالمترجمون بلا استثناء يستخدمون الفصحى المعربة المنثورة، ويلتزمون بقوالب العربية القديمة «الجزلة» مهما كانت طبيعة النص الذي يتعرضون له، ومهما كان مستوى لغة المتحدث أو «نغمته». ولا يقولن أحد إن ذلك لون من ألوان الترجمة، الهدف منه تقديم معنى الألفاظ فحسب، فترجمة الأدب (ولا أقول الشعر) لا تتطلب معاني ألفاظ مفردة فقط، بل إن معاني الألفاظ المفردة نفسها تتأثر بالنغمة وتتفاوت من موقف إلى موقف في المسرحية.
ومن الطبيعي أن أقول ذلك كي أبسط منهجي في الترجمة وأدافع عنه؛ فترجمة مقطوعة شعرية صلبها الوزن وعمادها الإيقاع تتطلب الاقتراب من هذا الوزن وذلك الإيقاع، وما أكثر ما نردد أقوالا عربية كان يمكن أن تختزل إلى النصف أو الربع لولا الوزن! ومن هذا الباب جاء ظلم مترجمي العربية من المستشرقين الذين تنحصر معرفتهم بالعربية في الألفاظ المفردة، فنحن حين نستشهد بقول شاعر «كناطح صخرة» إشارة إلى جهد من يحاول المحال، فنحن نشير في الحقيقة إلى بيت كامل يقف على قدميه وهو:
صفحة غير معروفة