فقال له أمين الصندوق: ماذا أصابك؟
وسكت بيرابو هنيهة ثم قال: ألم نضبط بالأمس حساب الصندوق سوية؟ - نعم، وأذكر فيه اثنين وثلاثين ألف فرنك، منها أوراق مالية قيمتها ثلاثون ألفا كانت موضوعة في طي محفظة خضراء.
فقال بيرابو بصوت مختنق: إن تلك المحفظة قد سرقت، وقد سلمت مفاتيح الصندوق منذ ساعة إلى فرناند روشي، لثقتي به، ولاضطراري إلى الخروج.
ثم غطى وجهه بيديه كمن يريد أن يظهر خجله لعزمه على تزويج ابنته برجل لص.
ولم يمض على ذلك مدة وجيزة حتى شاع أمر فرناند عند جميع عمال الوزارة، وكان الجميع يتلقون هذا النبأ بالارتياب؛ لإجماعهم على احترام فرناند ولثقتهم من أمانته، ولكن كل ما مر به من الحوادث كاستيلائه على مفاتيح الصندوق، وخروجه من الوزارة راكضا يدل على وقوع التهمة عليه، ولا سيما تركه قبعته ليوهم أن خروجه مؤقت فلا يلتفت أحد إليه، ولا يبحث عنه قبل أن يتمكن من الفرار، وكانوا يعلمون أنه لم يكن ذا يسار، فتوهموا أنه طمع بما اؤتمن عليه من المال، ثم مرت الساعات ولم يعد فثبت الجرم وقضي على هذا البريء. (17) الشرطة
بينما كانت هذه الحوادث تجري في الوزارة كان فرناند التعيس يعدو في شارع سانت لويز حتى وصل إلى منزل بيرابو، فصعد إليه وطرق الباب ففتحت له الخادمة، ولما عرفته اعترضت سبيله ولم تدعه يدخل، فقالت له: إن المسيو بيرابو قد ذهب. - إني أريد أن أرى السيدات. - إنهن خرجن أيضا. - إذن أنتظرهن.
وأبعد الخادمة محاولا الدخول، فاعترضت أيضا في سبيله وقالت: إن انتظارك لا يجديك نفعا، فإنهن غادرن باريس، ولا يرجعن إليها قبل ثلاثة أيام.
فارتعش فرناند وقال: هذا محال. - ولكن هي الحقيقة أظهرتها لك حسبما بلغتها.
ورجع فرناند وهو يتعثر في مشيته كالشارب الثمل، ومشى في الأسواق مشية المجانين، وهو لا يعلم أين يسير، وقد أخذ منه اليأس بعدما تيقن من سفر هرمين، وتغلب على عواطفه حتى أضاع رشده، ثم اشتدت عليه تلك الأزمة، فسقط على قارعة الطريق مغميا عليه، وتسارع إليه الناس للاعتناء به، وفيما هم يهتمون بإنهاضه إذ مرت بهم مركبة فوقفت للحال ونزلت منها فتاة عليها مظاهر الغنى، واخترقت الجماهير حتى وصلت إلى فرناند وأحنت عليه إحناء الأم على ولدها، ثم وضعت يدها على قلبه، ومذ أحست بحركة فيه صاحت صيحة فرح وهي تقول: حبيبي فرناند.
فابتعد عنها جميع الناس، وكلهم واثق أن انصرافه لم يكن إلا عن يأس في الحب، أما تلك الفتاة وكانت باكارا فإنها أمرت السائق أن ينقل فرناند إلى المركبة، ثم صعدت في إثره خببا إلى منزلها.
صفحة غير معروفة