قابلت الفتاة سميح أول مرة في هذه المكتبة، كان يتردد عليها لشراء الكتب القديمة، يدعوه «حافظ» إلى كوب شاي، يجره إلى الحديث عن الفلاسفة العرب، أهمهم عنده ابن سينا، صاحب القانون في الطب، يسأم سميح الحديث معه، يتأمله طويلا كأنما يتأمل قطعة من الآثار القديمة في المتحف، يرشف الشاي الأسود على مضض، دون أن يظهر الضيق، نوع من المجاملة أو الرقة، والإحساس المرهف بمشاعر الآخرين.
في يوم كانت تتصفح كتابا قديما بعنوان «مقدمة ابن خلدون»، سمعت الصوت من خلفها: إيه رأيك أهديك الكتاب ده؟
لم تكن تعرف شيئا عن ابن خلدون، ولا تعرف شيئا عن سميح، رأته مرة وأكثر في المكتبة من دون أن تنتبه، ملامحه هادئة لا تثير الدهشة، لا تحدث صدمة الإفاقة من بحر الحياة اليومية، كان اليوم يمضي وراء اليوم من دون أن يستوقفها شيء خارق للعادة، لا وجها يثير خيالها، ولا كتابا يحرك عقلها، يمضي بها الزمن ساكنا مثل سطح بركة ماء لا يتحرك، مثل النيل في أيام الحر، لا نسمة واحدة تحرك أوراق الشجر، الهواء معدوم والشجر مقطوع، البيوت متلاصقة بالخرسانة المسلحة، الخضرة متلاشية، الشوارع من الزفت أو القطران الأسود، مدينة القاهرة تقول عنها مريم الشاعرة مدينة الأسمنت المسلح، في قصيدة لها بعنوان، قاهرتي.
قرأت الفتاة مقدمة ابن خلدون من الغلاف إلى الغلاف، لم تفهم من الكتاب إلا القليل، كان هو أول من جمعهما هي وسميح، داخل مكتبة الشرق المكتومة الهواء، المكتظة بالكتب والتراب ودخان الشيشة من رائحة الحشيش.
كان سميح يختلف عنها، أنيق الشكل والملابس، هي لا تنظر إلى المرآة، تعيش القلق وعدم الاستقرار، يتمتع هو بالهدوء والراحة، يسكن في شقة واسعة تطل على النيل في جاردن سيتي، بجوار بيت كارمن ورستم، هي تعيش في غرفة مظلمة داخل الزقاق تحوطها الميكروفونات الزاعقة ليل نهار.
انجذب سميح إليها كما ينجذب الشيء إلى نقيضه، وهي انجذبت إليه كالفراشة تنجذب إلى النور، ليس كالمرأة تنجذب إلى الرجل. •••
الطلقة ترمقها بعينها الواسعتين كأنما هما عيناها، رأتهما وهي طفلة في المرآة وفي الخيال، جلبابها بلون الأرض، ذراعاها الناحلتان بلون الخشب المحروق، عظام ركبتيها بارزة صخرة، يتيمة وحيدة في الصحراء، مقلتاها السوداوان نجمتان تلمعان في سماء مظلمة.
مديرة الملجأ وراء مكتبها الخشبي الكالح، يحتل نصف مساحة الغرفة، يختفي جسمها الضخم تحت خيمة سوداء من الرأس إلى القدمين. عيناها ثقبان غائران داخل الخضم الأسود، عينا ثعلب أو فأر داخل المصيدة، لا تكفان عن الحركة والذبذبة، في يدها عصا من الخيزران طويلة رفيعة مثل الكرباج، تلسع بها أرداف الأطفال، تشبه الغولة والمارد الأسود الجبار في الأساطير وقصص ألف ليلة وليلة، وحكايات الجان والعفاريت الزرق.
في أيام الحر ولهيب الصيف، تجلس في الفناء تحت ظل شجرة الكافور، ترفع نقابها الأسود عن فمها لترشف الشاي الأسود، تمسح حبات العرق عن أنفها بيد داخل القفاز الأسود، تدس بوز الشيشة في فتحة فمها، ليخرج الدخان من ثقبي عينيها. لو رآها «سلفادور دالي» يرسمها على شكل خفاش ضخم أو قنفد أسود. - شايفة البنت اللي واقفة هناك وعينيها بتطق شرار خلي بالك منها، أصلها بنت حرام، شوفي واقفة تبحلق إزاي وكل عين تندب فيها رصاصة! - دي بنت غلبانة يا أبلة بعبع. - إيه؟ بتقولي إيه؟ - متأسفة يا ست المديرة، زلة لسان! - يعني إيه زلة لسان يا اسمك إيه؟ - غلطة يا ست المديرة، سبحان من لا يسهو.
اشتعلت عيناها المدفونتان في الحفرتين بالغضب، كان الأطفال ينادونها «أبلة بعبع» من وراء ظهرها، كلمة البعبع تعني المرعب، نادتها الفتاة بالاسم من دون أن تنتبه، بسبب السهو، وسبحان من لا يسهو، تردد هذه العبارة حين تنسى شيئا، الله سبحان وتعالى هو الذي لا يسهو. تتظاهر المديرة بنسيان اسمها، تحت حجة مشاغلها الكثيرة:
صفحة غير معروفة