جيوب مثقلة بالحجارة
فرجينيا وولف: النشأة والمأساة
رواية لم تكتب بعد1 (1921م)
حوار لم يتم مع فرجينيا وولف
المصادر والمراجع
جيوب مثقلة بالحجارة
فرجينيا وولف: النشأة والمأساة
رواية لم تكتب بعد1 (1921م)
حوار لم يتم مع فرجينيا وولف
المصادر والمراجع
صفحة غير معروفة
فرجينيا وولف ... رواية لم تكتب بعد
فرجينيا وولف ... رواية لم تكتب بعد
تأليف
فرجينيا وولف
ترجمة
فاطمة ناعوت
يلزم أن تحددي خانة بيضاء
على مسافة معقولة
من حصوات رابضة في قاع النهر،
حصوات
صفحة غير معروفة
ترقب الواقفة على الشاطئ،
مشجوجة الرأس،
تسمي الأشياء بأسماء جديدة
لأن معجمها - الذي جلبته من التبت -
لا يناسب سكان المدينة.
ف. ناعوت
من قصيدة «جلباب أزرق»
تصدير المراجع
بقلم د. ماهر شفيق فريد
يلتقي القارئ - على الصفحات التالية - بثلاثة نصوص: «رواية لم تكتب بعد»، وهي رواية قصيرة - أو نوفيللا - للروائية الإنجليزية فرجينيا وولف،
صفحة غير معروفة
1
ومحاورة تخيلية مع المؤلفة، وتقدمة بقلم المترجمة تحمل عنوان «جيوب مثقلة بالحجارة» في إشارة إلى انتحار فرجينيا وولف المأساوي قبل خمسة وستين عاما.
الرواية مروية بضمير المتكلم، ومسرح أحداثها - إن صح أن فيها أحداثا - عربة قطار يمر بالجزء الجنوبي الشرقي من الريف الإنجليزي، منطلقا من لندن. والراوية (الأغلب أنها امرأة) تشترك في العربة مع خمسة مسافرين لا يلبثون أن يهبطوا - واحدا في إثر آخر - في محطاتهم، فلا يتبقى معها سوى امرأة تختار الراوية أن تدعوها «ميني مارش». وتتخيل الراوية مواجهة كبرى بين هذه العانس الفقيرة؛ ميني مارش، وزوجة أخيها المدعوة «هيلدا». وثمة لمحات عن ميني مارش بأعين الآخرين، إلى جانب عيني الراوية؛ فالعاملون في المستشفى يتعجبون من نظافة ثيابها الداخلية؛ مما يدل على أنها (وإن تكن رقيقة الحال) سيدة حسنة التربية. ولا تلبث تخيلات الراوية الصامتة أن تقاطع وتنزل إلى الأرض من سبحاتها في الفضاء عندما تروح «ميني مارش» - إذ تستعد لأكل وجبتها الخفيفة؛ بيضة مسلوقة - تعلق بصوت عال: «البيض أرخص!» وعلى طريقة تداعي الأفكار، التي شهر بها جويس وفرجينيا وولف ووردورثي رتشاردسن، يستثير الفتات الأصفر والأبيض المتساقط من البيضة سلسلة من الصور.
الرواية عميقة الجذور في زمانها ومكانها. فهناك، مكانيا، إشارات إلى إيستبورن؛ وهي منتجع على شاطئ البحر، ولويس؛ وهي بلدة في شرقي مقاطعة سسيكس، وكاتدرائية القديس بولس في لندن (المقابل الإنجليزي لكاتدرائية القديس بطرس في روما) وغيرها.
وهناك ذكر لجريدة «التايمز»؛ كبرى الجرائد اليومية البريطانية، ول «الحقيقة» وهي مجلة أسبوعية كانت ذات رواج شعبي في يومها. وهناك ابتعاث لشخصيات من الماضي القريب والبعيد: مثل بول كروجر (1825-1904م)؛ وهو سياسي من الترنسفال، كان معارضا للنفوذ البريطاني في جنوب أفريقيا، ثم صار رئيسا لجمهورية البوير لمدة عشرين عاما، وتبينه صوره في معطف رسمي بوجه ملتح صارم، ومثل الأمير ألبرت (1819-1861م) زوج الملكة فكتوريا ملكة بريطانيا، ومثل السير فرنسيس وريك (1540-1596م) وكان مستكشفا إنجليزيا وقبطانا بحريا يأسر السفن الإسبانية، عند عودتها من أمريكا الجنوبية محملة بالذهب والفضة المسروقين من الهند (من صور الرواية الشعرية: صورة للهنود على شكل كتل متدحرجة من الرخام على جبال «الأنديز» لسحق الغزاة الأوروبيين). ومن الشخصيات التخيلية في الرواية: مندوب مبيعات مسافر، تختار له الراوية اسم «جيمس مجردج»، وتتخيله يبيع أزرارا، ثم تردف ذلك بوصف وجيز لبضائعه.
هذه - باختصار - قصة إنجليزية مغروسة في تربتها المحلية، ولا سبيل لتذوقها تذوقا كاملا - فثمة مستويات عدة للتذوق - إلا إذا كنت قد ركبت قطارا إنجليزيا يخترق بك الريف الإنجليزي، وخالطت ركابه، وعرفت كيف يعيش هؤلاء القوم وكيف يفكرون ويشعرون ويسلكون.
لكن الرواية - وهنا مكمن تشويقها وفرادتها - ثمرة حساسية حداثية تخترق طرائق السرد التقليدي والوصف الخارجي (على طريقة آرنولد بنيت وجولز ورذي وه. ج. ولز، ممن اشتدت المؤلفة في نقدهم)، وتحطم قواعد المنظور (أستعير العبارة من يوسف الشاروني)، لكي تنفذ من قشرة المظاهر الخارجية إلى اللب الروحي العميق، إلى مركز الأرض الباطني الموار بالحرارة والجيشان والانفعال. هذه بمعنى من المعاني، «ميتا-رقصة»، بمعنى أنها انكفاء على الذات الداخلية، وتأمل من جانب الراوية لطريقة كتابة رواية. وأزعم أنها تردنا إلى مقالة مؤرخة في عام 1925م لفرجينيا وولف، أعيد طبعها بعد وفاتها في كتابها المسمى «فراش موت الربان » 1950م، وعنوانها «السيد بنيت والسيدة براون»، وفيها تروي الكاتبة لقاء بينها - في عربة قطار متجه من رتشموند إلى وترلو - وبين سيدة ستطلق عليها اسم السيدة براون، وهي نسخة مبكرة من ميني مارش. تعاني الفقر، ويبتزها رجل يدعى السيد سميث لأسباب لا تفصح عنها الكاتبة تماما، ولكنها تظل في قلب تعاستها، محتفظة بكبريائها الإنساني وروحها النبيل.
2
والحوار التخيلي الذي يعقب الرواية، نقلته فاطمة ناعوت عن شبكة الإنترنت ثم قامت بترجمته. وهو يلقي أضواء على جوانب من حياة فرجينيا وولف وفكرها وفنها: صورة الحياة في بريطانيا في أثناء سنوات الحرب العالمية الثانية، ونزعة الكاتبة النسوية في كتابيها: «غرفة خاصة»،
3
صفحة غير معروفة
و«ثلاثة جنيهات»، وطفولتها وخلفيتها العائلية، وعلاقتها بزوجها ليونارد وولف، ومقالاتها وقصصها القصيرة، وطريقتها في التأليف الروائي، وانتحارها غرقا في نهر أوز القريب من بيتها، ومذكراتها التي دأبت على كتابتها منذ سن الخامسة عشرة. وكلها أمور ضرورية لفهم رواياتها الكبرى التي أحلتها مكانا رفيعا بين روائيي النصف الأول من القرن العشرين. «رواية لم تكتب بعد»
4
مثل أغلب أعمال فرجينيا وولف، قصيدة نثر متطاولة، وجوهرة محكمة الصنع أحسن الصائغ نحتها، ولكنها، إلى جانب إنجازها التقني،
5
بل قبل ذلك، رحلة في أعماق النفس، تصطنع منهج المونولوج الداخلي وتتوسل بتدفق تيار الشعور والصورة الشعرية المحلقة والأسلوب الانطباعي إلى الغوص في أعماق الشخصية، وما تموج به من صفاء وكدر، وما يعتريها من تقلبات متصلة.
هذه روائية مرهفة الحس، حادة الذكاء (كان عارفوها يخشون سخريتها اللاذعة)، مصقولة الأسلوب، مدربة الحساسية، تستحق أن يذكر اسمها - في نفس واحد - مع عمالقة الرواية السيكولوجية من أمثال هنري جميز، وكونراد، وجويس، ولورنس، وبروست.
هذا - في تصوري - كتاب يقدم للقارئ متعة ثلاثية:
فهناك أولا فن فرجينيا وولف القصصي الذي يمتاز بتقمصه دخائل النفس وقصده في التعبير وخلوه من الزوائد والحواشي.
وهناك ثانيا تقدمة فاطمة ناعوت الجامعة بين سعة المعرفة بموضوعها والقدرة على تقمص خبرة الكاتبة على نحو يجعل من التقدمة أثرا فنيا، بحقه الخاص، ليس فيه دوجماطية النقاد الأكاديميين، ولا سطحية النقاد الانطباعيين .
وهناك ثالثا قصة فرجينيا وولف في ثوبها العربي الراهن ، حيث جاورت المترجمة فيه بين أمانة النقل مع طلاقة الأداء.
صفحة غير معروفة
في مؤتمر «الترجمة وتفاعل الثقافات»، الذي أقامه المجلس الأعلى للثقافة على امتداد أربعة أيام من 29 مايو إلى 1 يونيو 2004م، ألقت فاطمة ناعوت بحثا بعنوان «ترجمة الشعر: فعل إبداع». وأحسب أن دعواها في هذا البحث يمكن أن تنسحب على كافة ألوان الترجمة الأدبية سواء كان النص المترجم قصيدة أو رواية أو قصة قصيرة أو مسرحية أو مقالة. ولأن قصة فرجينيا وولف - كما أسلفت - تدخل، بمعنى من المعاني، في باب الشعر المنثور، فقد حرصت المترجمة على أن تمتص جزءا من الطاقة الشعرية للنص، وسعت إلى أن تخرج بإبداع مواز، لا مجرد تابع ذي درجة أدنى. وسيجد القارئ - الذي يتجشم جهد معارضة ترجمتها على الأصل - أنها قد وفقت في مسعاها وأضافت إلى اللغة العربية - شأن الصانع البارع - جوهرة صغيرة محكمة الصنع.
جيوب مثقلة بالحجارة
(تقدمة المترجمة)
فرجينيا وولف، «الثورة الهادئة»، بتعبير مايكل بننجام وكما وصفها بعض أصدقائها المقربين. وهي إحدى أهم القامات في الأدب الإنجليزي ورواده في حركة التحديث الروائي. صنعت إسهاما مهما في تغيير شكل الرواية الإنجليزية؛ إذ نجح حسها التجريبي في تطوير الأسلوب الشعري خلال السرد القصصي والروائي عبر اعتمادها التقنيات التجريبية مثل: المونولوج الداخلي،
1
الانطباعية الشعرية،
2
السرد غير المباشر،
3
المنظور التعددي،
صفحة غير معروفة
4
إضافة إلى ما يعرف نقديا ب «تيار الوعي».
5
يعتمد منهجها الكتابي على استشفاف حيوات شخوصها من خلال الغور داخل أفكارهم واستدعاء خواطرهم وهو ما يسمى «استثارة حالات الذهن الإدراكية»، حسيا ونفسيا، والذي يشكل نموذجا لطرائق تداعيات الوعي البشري. تفعل وولف ذلك من خلال رصد وتسجيل لحظات الوعي المتناثرة داخل الذات وداخل المخ البشري لتعيد ترتيبها وفق صورة تشكيلية ترسمها وولف بحنكتها الروائية.
تلتقي تقنياتها تلك مع تقنيات كل من «بروست» و«جويس»،
6
متجاوزة بذلك التقنية التقليدية في القص والرواية، التي انتهجت الوصف الخطي المتنامي زمنيا والرصد الموضوعي للحدث، والتي ميزت رواية القرن التاسع عشر.
عمد أسلوبها إلى تصاعد الوعي الذهني لشخوص روايتها في تزامن مع التصاعد السردي للحدث. الكتل الزمنية تتراص متوازية في الذاكرة وبالتالي في الرؤية الدرامية. المشاهد غير المكتملة تتقاطع وتشتبك لتخلق لوحة أرحب وأشد تعقيدا. التنوع الأسلوبي للقص داخل الرواية الواحدة يذكر القارئ دائما أن خطا شعريا أو خياليا متورط في العمل.
إن تبني تيار الوعي في السرد القصصي، والذي يتراوح بين التفاصيل الدنيوية اليومية العادية وبين الإسهاب الغنائي، إضافة إلى الخبرة العالية بطرائق تشكل المشهد، هما من أهم أدوات وولف الكتابية، التي أظهرت لقارئها مدى أهمية استغلال وتنمية قدرات الخيال التشكيلي في حياتنا اليومية، كما هو لدى المبدع، في بناء النص.
اشتهرت وولف باستدعاءاتها الشعرية التي تستخلصها من ميكانيزم التفكير والشعور البشري. كانت، مثل بروست وجويس، قادرة بامتياز على استحضار كافة التفاصيل الواقعية والحسية من الحياة اليومية، غير أنها دأبت على انتقاد أسلوب مجايليها «آرنولد بينيت» و«جون جولز وورثي» بشأن اهتمامهما البالغ برسم واقعية ميكروسكوبية وثائقية مفرغة من الفن، وهو ما انسحب عليهما من روائيي القرن ال 19. كانت ترى أن الواقعيين المعاصرين الذين يزعمون الموضوعية العلمية الحيادية هم زائفون بالضرورة، ما داموا لا يعترفون بحقيقة أنه لا حياد تاما في الرؤية، لأن «الواقعية» يتم رصدها على نحو مختلف باختلاف راصديها. الأسوأ من ذلك، من وجهة نظرها، أن محاولتهم الوصول للموضوعية العلمية الدقيقة تلك؛ غالبا ما ينتج عنها محض تراكم زمني للتفاصيل.
صفحة غير معروفة
كانت وولف تطمح إلى الوصول إلى طريقة أكثر شخصانية وأكثر دقة كذلك في التعامل مع الواقع روائيا. لم تكن بؤرة اهتمامها «الشيء» موضوع الرصد، ولكن «الطريقة التي يرصد بها الشيء» من قبل «الراصد». وقالت في هذا الأمر: «دعونا نرصد الذرات أثناء سقوطها فوق العقل بترتيب سقوطها نفسه، دعونا نتتبع التشكيل مهما كان مفككا وغير مترابط التكوين، سنجد أن كل مشهد وكل حدث سوف يصيب رمية في منطقة الوعي.»
قارن النقاد بين كتابات وولف وبين ما أنتجه فنانو المدرسة ما بعد الانطباعية
post-impressionism
في الفن التشكيلي من حيث التأكيد على التنظيم التجريدي لمنظور الرؤية من أجل اقتراح شبكة أوسع للدلالات والرؤى.
تعتبر وولف، إلى مدى أبعد من أي روائي آخر باستثناء جويس، أول من أنتج الرواية الإنجليزية الحديثة، التي نأت بشدة عن الشكل التقليدي المطمئن آنذاك منذ القرن التاسع عشر، بكل ما تحمله تلك الرواية من ملحمية البطولة، وفرط العاطفة، والإعلاء الأخلاقي المتزمت، وكذا رؤاها الجامدة المتجمدة الدوجمائية، ثم الهيكل الكلاسيكي الثابت؛ استهلال مباشر واضح، متن وذروة، ثم نهاية ختامية تبشيرية أو إصلاحية.
أضحت الرواية في يد وولف أكثر بريقا والتباسا وتوترا، موشاة بخيط رهيف من الفوضوية والتحرر والشعرية أيضا، كما أنها اهتمت بالأساس بالبشر المهمشين أو الذين يعانون من مشاكل نفسية ما. لم تحفل كثيرا بكتابة رواية تبشيرية أو إصلاحية، لكنها عمدت إلى إظهار كيف تنصهر الحياة في ألوانها الخاصة بكل ما فيها من تقاطعات اليومي البسيط والعميق الفلسفي. وبطبيعة الحال استمرت الرواية التقليدية تكتب منذ وبعد عصر فرجينيا وولف، لكنها بعد وولف لم تعد مطلقا كما كانت.
آمنت وولف بأن الرواية التي كتبت في عصرها وما قبله، ببنائها المحكم وزخم العاطفة والحماس بها، كانت تتصل بالعالم وبالبشر على نحو عبثي. وشبهت ذلك بقارب مليء بالمستعمرين والمبشرين الذين يغامرون باقتحام دغل متشابك وكثيف بقصد غزوه وإخضاعه. وتقول وولف عبر رواياتها إن العالم أشد ضخامة وتعقيدا وغير قابل للاختراق والإخضاع على أي نحو، وإن القيمة الجمالية الفنية هي الهدف الأوحد للقص؛ ولذا فإن أي كاتب يحاول أن يطهر الدغل من أشجار كرمه أو من نباتاته الشيطانية المتسلقة سوف يثير ذعر الضواري والوحوش ولن يسلم من غضبتها. كأنما يحاول أن يفرد طاولة للشاي أمام تلك الكواسر ثم يذهب في شرح البروتوكولات والتقاليد حول ما يجب وما لا يجب فعله من تقاليد المائدة. هذا ما يفعله الكاتب حين يكتب تلك النهايات السليمة والنافعة الطوباوية ذات الطابع الإصلاحي.
قدمت وولف شهادة للعالم، عبر كتاباتها، رصدت وسجلت فيها طرزه ونماذجه، لكنها لم تسع مطلقا إلى تقويمه أو إخضاعه ضمن أية منظومة خاصة، لأنها آمنت أن الكون ينتج نظامه الخاص بنفسه . من أجل هذه الرؤية الحداثية، اتهمت وولف دائما، من قبل الإصلاحيين، بأنها تكتب من أجل لا شيء.
الملمح الأساسي لعبقرية وولف، الظاهرة منذ بداية مشروعها الأدبي هو إصرارها على تأكيد مراوغة العالم بوصفه أوسع وأكثر تعقيدا من أن نضع اشتباكاته تحت بؤرة النقد من خلال أية حياة فردية. «جرب أن تدخل «وعي» إنسان؛ أي إنسان، وسوف تجد نفسك فورا منقادا إلى حيوات العشرات من البشر الآخرين الذين يكملون، ويتقاطعون مع، حياة هذا الإنسان، كل على نحو مختلف.»
فهمت وولف أن أية «شخصية» كتبت عنها، حتى الشخصيات الهامشية، كانت «تزور» روايتها من خلال «رواية» ذاتية تخص تلك الشخصية، وأن تلك الرواية غير المكتوبة تضم، إلى جانب مشروعها الرئيس، آلام وأقدار تلك الشخصية؛ هذه الأرملة، أو ذاك الطفل، أو تلك العجوز المسنة، أو حتى المرأة الشابة التي لم تظهر في رواية «الخروج في رحلة بحرية»
صفحة غير معروفة
7
إلا في مشهد عبورها الحديقة العامة فقط.
بعد روايتين تقليديتين نسبيا، بدأت وولف في تطويع مداخلها التي مهدت لها اللعب على بنية مخيالية أكثر رحابة حيث:
التطور المشهدي المتصاعد حل محله التشكيل عن طريق التراص الرؤيوي.
الاشتباك المباشر مع الواقع والتراكم الزمني استبدل بهما التراوح الملتبس للعقل بين الذاكرة وبين الوعي.
ومن ناحية أخرى يربط المشهد المركب للتيمة الرمزية بين شخوص ليس من علاقة واضحة بينهم في القصة ذاتها.
كل تلك التقنيات ألقت على عاتق القارئ متطلبات جديدة في فن التلقي، من مقدرة على تخليق وإعادة بناء الصورة الكلية من جزئيات متناثرة ليست بادية الصلة. من هنا كانت صعوبة قراءة فرجينيا وولف.
في رواية «غرفة يعقوب»
8
1922م نجد أن صورة البطل الكلية تتركب من سلسلة من وجهات النظر الجزئية المختبئة داخل النص والتي ترسم بورتريها إنسانيا وسيكولوجيا له من خلال شخوص العمل. وفي رواية «الأمواج»
صفحة غير معروفة
9
1931م، ثمة منظور - متعدد الرؤى لشخوص الرواية في حواراتهم الذاتية مع أنفسهم خلال علاقة كل منهم بالشخص الميت - في الرواية - «بيرسيفال» - يتم تكسيره على عشرة فصول، تلك الفصول بدورها تكون منظورا إضافيا يصف رحلة يوم واحد من الفجر إلى وقت الغسق.
الرواية الأخرى التي تلعب فيها وولف لعبة الزمن أيضا؛ أي رواية اليوم الواحد، هي «مسز دالواي»،
10
عملها الأشهر، حيث ترتب البطلة، السيدة دالواي، لحفل المساء وفي أثناء ذلك تستدعي - ذهنيا - كامل حياتها مثل شريط سينمائي منذ الطفولة حتى عمرها الراهن في الخمسين.
مشكلات الهوية ومدى التحقق والإخفاق لدى شخوص سردها هي الهم الثابت لدى وولف والمحرك الأول وراء تلك الإزاحات المنظورية في أعمالها. ولذا غالبا ما تلجأ وولف إلى تجسيد الشخصيات غير المتحققة وغير المكتملة؛ ومن ثم إلى البحث عن الشيء الذي سوف يحقق اكتمالها.
ترتكز كتابة وولف على لحظات الوعي العليا، وبالمقارنة ببعض أعمال جويس التي تتناول البصيرة كنوع من القوى الأسطورية، نجد أن وولف تعالج الأمر كملكة ذهنية حين يفعل العقل أقصى طاقاته ليعتمد الخيال.
لا أحد يقرأ وولف بغير أن يؤخذ بالاهتمام الفائق الذي تعطيه للمخيلة الإبداعية. فشخوصها الرئيسيون يفعلون حواسهم فيما وراء المنطق العقلي، كما أن أسلوبها السردي يحتفي بالدوافع الجمالية التي تنظم الأبعاد المتنافرة في كل متناغم متسق. ترى وولف أن الكائن البشري لا يكون مكتملا إذا لم يشحذ طاقاته الحدسية والتخيلية في أقصى درجاتها. ومثل كل كتاب الحداثة، نجد وولف مفتونة بالعملية الإبداعية ولحظات الكتابة، وغالبا ما تضع إشارة لها في أعمالها، فنجدها حينا تصف كفاح الرسام من أجل بناء لوحته في «صوب المنارة»،
11
وفي حين آخر تجسد حال الكاتب وذوبانه من أجل بناء روايته، كما في «رواية لم تكتب بعد»
صفحة غير معروفة
12
التي تناولناها بالترجمة ضمن هذا الكتاب.
إذن تحاول وولف في هذين العملين استكشاف طرائق تخلق العمل الإبداعي في مخيلة العقل البشري. فقد لاحظت وولف أنه لا يمكن لقارئ الرواية (المكتملة) أو لمشاهد اللوحة التشكيلية (المكتملة) أن يستقرئ خطوات ميكانيزم هذا التخلق الإبداعي المعقد: الملاحظة، الغربلة، التنظيم الإحداثي والحدثي (من إحداثيات وحدث)، رسم خريطة العلاقات والتأويلات ... إلخ، ثم الصياغة وإعادة الصياغة حتى يكتمل العمل فنا سويا. فالعقل البشري يقوم بأشد العمليات تعقيدا لتنظيم الوعي والإدراك مع الملموسات، الأمر الذي لا يمكن رصده أو نقله بشكل كلي وتام داخل إطار وصفي محدد مهما بلغت دقته. ومن هنا جاءت فكرة هذه الرواية التي لم تكتب بعد.
في «رواية لم تكتب بعد» ترصد وولف حالات التخلق الذهني لجنين رواية في طريقها إلى التخلق عن طريق أخذ القارئ عبر بدايات رواية لم تكتمل بعد، راصدة كيف يمكن أن تكتمل على أنحاء متباينة. تتحرك القصة أماما وخلفا بين حائطين من الخيال والواقع، كل يسهم في احتماليات الرواية ليحفر نهرا من الاقتراحات والاقتراحات البديلة، كل ذلك يتم داخل ذهن الراوية التي تختبر وتعالج كل الرؤى الممكنة اتكاء على مراقبتها شخصية امرأة معينة تجلس أمامها في إحدى كبائن القطار عبر رحلة إلى جنوب لندن. على الجانب الآخر، ترصد الراوية كل الكلمات الفعلية والإيماءات التي يأتي بها راكبو نفس الكابينة؛ ومن ثم ترسم - ذهنيا - اقتراحات متخيلة لكل منهم عبر خلق روائي تم من خلال الملاحظة، التقمص العاطفي، وتجسيد ما تشاهده خلال الرحلة ليتفق وتصورها المبدئي. يظهر هذا في آلية استدعاء التداعيات الذهنية للمحيطين من خلال قراءة أفكارهم وسلوكهم ثم التعامل ذهنيا ونفسيا مع تلك التداعيات.
ترسم وولف عملية الخلق الإبداعي كتجربة كاملة: بدايات خاطئة يتم استبدالها، ثم تصحيح النغمة ودرجة التماسك الدرامي، فمثلا، لا بد أن يجد الراوية جريمة متخيلة ارتكبتها البطلة «ميني مارش» لتتفق الحال مع ملامح الأسى المرسومة على وجهها، كذلك استبدال نبات السرخس بنبات الخلنج ليكون أكثر مناسبة مع المشهد المرسوم (بمعرفة الراوية) فيكتمل على نحو أفضل، إضافة أو طرح شخوص للرواية. ولا تغفل وولف حساب «الراوية» ذاتها كقوة دافعة في العمل، بالرغم من سعيه عادة في معظم الروايات، أعني الراوية، إلى التعالي فوق الحدث والشخوص، حيث يبدأ من أرض الرصد الصلبة، بعين العليم غير المتورط. لكن روح الفنان داخل وولف أجبرتها على الضلوع في الدراما طوال الوقت كراو غير عليم ومشارك ومتورط في الحدث.
ومثلما فعل بودلير في قصيدة «النوافذ»،
13
حين اعتمد الخيال كحيلة ذهنية من أجل انتزاع الأمن من الحياة وخلق شيء من الثقة بالنفس، أكدت وولف في تلك الرواية على حتمية انتصار روح الخلق الإبداعي داخل الفنان على روح العدمية والقنوط التي تصيب المبدع أحيانا. فكلما أثبتت حكايتها الأولى فشلها وتراءى لها كم أن حبكتها تبدو مضحكة سرعان ما تستجيب لروح المبدع داخلها وتشرع في نسج حبكة جديدة.
في هذه النوفيللا الثرية غزيرة التفاصيل، التي هي مشروع رواية لم تكتمل، وفي ذات الوقت عمل مكتمل البنية على نقصانه المتعمد، نلمس اشتجار الأبعاد الكثيفة للواقع الموضوعي، مع الراوية والناقد في آن، مع المحلل الذاتي داخل الراصد، بما لا يعطي مجالا للنهاية أن تكتمل. يتنامى الهاجس الإلهامي داخل المبدعة التي تنشد «عالما رائعا، مشاهد ملونة، وشخصيات أسطورية تنتظر أن تخلق»، لتقف الرواية على الحافة الحرجة بين النقص والاكتمال.
فرجينيا وولف: النشأة والمأساة
صفحة غير معروفة
ولدت فرجينيا ستيفن في 25 يناير 1882م، لأسرة شديدة المحافظة أو ما كان يطلق عليها أسرة فيكتورية (نسبة إلى العصر الفيكتوري).
الأب هو «ليزلي ستيفن»،
1
وكان مؤرخا بارزا، وناقدا أدبيا ويعد أحد أفراد الطبقة «الأرستقراطية الفكرية»
2
في بريطانيا آنذاك. عرف كأحد رواد المدرسة الفلسفية الأجنوستيكية أو ما تعرف ب «اللاأدري».
3
وله إصدارات في مجالات الفلسفة والشعر والأدب والنقد الاجتماعي. كما أصدر «المعجم القومي للسير الذاتية».
4
كان له أثر هائل على تكون ذهنية فرجينيا ومنظومتها العقائدية.
صفحة غير معروفة
الأم هي «جوليا جاكسون داكوورث»
5
من نسل عائلة «داكوورث» التي اشتهرت بريادتها عالم الطباعة والنشر. كان لأسرة فرجينيا اهتمام بالتيارات الفكرية والفنية السائدة آنذاك حتى إن بعض أشهر الفنانين - ما قبل الرافائليين - وقتها أعجبوا بجوليا (الأم) ورسموا بورتريهات عديدة لها.
كان أبوها صديقا لكل من «هنري جيمس»، «تينيسون»، «ماثيو آرنولد»، و«جورج إليوت». على أنه، برغم ثقافته الواسعة، وفق عادة تلك الأيام، قد دفع فقط بشقيقيها، «أدريان وثوبي»، إلى التعليم النظامي في المدارس والجامعات، في حين تلقت «فرجينيا» وشقيقتها «ڤينيسا» (التي ستغدو الرسامة فينيسيا بيل فيما بعد) تعليمهما في المنزل بحي هايد بارك جيت،
6
واعتمدتا على مكتبة أبيهما الضخمة لتحصيل الثقافة والعلوم.
علقت المرارة بروح فرجينيا، على نحو ذاتي، استياء من عدم ذهابها إلى المدرسة، وعلى نحو موضوعي أعم، استياء من عدم المساواة في معاملة الولد والبنت؛ احتجاجا على ما تنطوي عليه تلك التفرقة من دلالة تشي بصغر قيمة المرأة في نظر المجتمع، ومن ثم انحطاط نظرته إلى فكرها وشكه في جدارتها الذهنية للتعلم. وكذلك ساءها استكانة المرأة ذاتها، وقبولها الأمر على ذلك النحو السلبي غير المقاوم، وانصياعها لذلك التمايز وكأنه مسلمة لا جدال فيها. وقد عبرت عن تلك الفكرة في كثير من مقالاتها المؤيدة للحركات النسوية التحررية. ثمة صدمات عنيفة في طفولة وولف وشبابها ظللت حياتها بمسحة حزن لازمتها حتى لحظة انتحارها في النهر عام 1941م. أولا التحرش الجسدي من قبل أخيها غير الشقيق «جيرالد داكوورث»، ثم موت أمها في فجر مراهقتها (تلك الحادثة كانت الإرهاصة المباشرة التي سببت انهيارها العقلي الأول). أخذت أختها غير الشقيقة «ستيللا داكوورث» مكان الأم لها، لكنها لم تلبث أن ماتت أيضا بعد أقل من عامين، كما عايش «ليزلي ستيفن»، الأب، موتا بطيئا مؤجلا منذ داهمه السرطان. وفي الأخير تزامن موت شقيقها «ثوبي» عام 1906م مع توغل الانهيار النفسي والعقلي المزمن بها، فرافق حياتها ولم يفرقهما غير الموت.
إثر موت أبيها عام 1904م، ضرب المرض العقلي فرجينيا للمرة الثانية وحاولت الانتحار. ثم انتقلت مع شقيقتها «ڤينيسا» وشقيقها «آدريان» إلى منزل في مجاورة «بلوومز بيري»
7
جوار المتحف البريطاني وسط لندن؛ البيت الذي سيصبح فيما بعد مركزا لنشاط «جماعة بلوومز بيري» الأدبية
صفحة غير معروفة
Bloomsbury group .
في 10 أغسطس عام 1912م تزوجت فرجينيا من المنظر السياسي والناقد «ليونارد وولف»
8
الذي كان عائدا من الخدمة كمدير إدارة في «سيلان» (سريلانكا الآن). وكان لزوجها دور إيجابي مهم في تشجيع فرجينيا على الكتابة والنشر. وكانا قررا أن يتعيشا من الكتابة والصحافة. وفي عام 1917م اشتريا آلة طباعة صغيرة جدا (قالت إن بوسعها وضعها على طاولة مطبخ) على سبيل الهواية، غير أن تلك المطبعة كانت نواة لدار نشر «هوجارث»
9
التي تحولت إلى مشروع مهم عام 1922م. وقد نشرت فرجينيا كل أعمالها تقريبا عن تلك الدار. كما نشرت تلك الدار أعمالا مهمة لأدباء آخرين مثل «ت. إس. إليوت» في قصيدة «الأرض الخراب»، وأيضا بعض أعمال كل من «ماكسيم جوركي»، «إي إم فورستر»، «كاترين مانسفيلد» وغيرهم.
10
كما أصدرت ترجمة للأعمال الكاملة لسيجموند فرويد في 24 مجلدا. وبالرغم من أن وولف لم تتوقف عن الكتابة والنشر خلال الثلاثينيات من القرن الماضي، إلا أن الحزن بسبب موت الكثير من أصدقائها في الحرب، وأيضا التوتر من حال الحرب ذاتها والترويع الدائم الذي عايشوه بسبب التهديد النازي، كل تلك الأمور قد أثرت بالسلب عليها وعلى كتابتها كما يقول الخبراء.
بعد الحرب العالمية الأولى (1914-1918م) ظن الناس استحالة نشوب حرب بهذا الحجم مجددا بعد كل الهول الذي رأوه وعظم حجم الخسائر التي تكبدها العالم بأسره من جراء الحرب الأولى؛ لهذا سببت الحرب العالمية الثانية (1939-1945م) صدمة مروعة وانهيارا للكثيرين. شهدت وولف انفجار بيتها بقنبلة عام 1840م. وكانت مرتعبة من فكرة فقد أصدقاء جدد في الحرب بعدما فقدت الكثير منهم في الحرب الأولى، هذا إضافة إلى خوفها من غزو النازيين لإنجلترا، فعقدت العزم وزوجها على الانتحار سويا بالغاز حال حدوث ذلك.
واستكمالا للتأثير السلبي للحروب على نفسية فرجينيا وولف وجهازها العصبي، يلزم أن نشير أيضا إلى الحرب الأهلية الإسبانية التي وقعت بين عامي 1936م و1939م. تلك الحرب التي اشتعلت إثر صراع نشب بين حزب المحافظين الفاشستي وبين الحكومة الديمقراطية الإسبانية. كانت إيطاليا وألمانيا تنظران إلى إسبانيا باعتبارها أرض اختبار خصبة للأسلحة والتكتيكات القتالية؛ ولذا تحالفتا مع حزب المحافظين الإسباني ضد الحكومة. وعبثا حاولت عصبة الأمم تفعيل سياسة عدم الانحياز؛ أقامت حاجزا بشريا من خفر الحدود في محاولة منها لمنع وصول المؤن إلى كلا الجانبين المتصارعين؛ لكن في الأخير هزم المحافظون الحكومة الشرعية للبلاد وفرضوا على إسبانيا النظام الفاشستي الديكتاتوري.
صفحة غير معروفة
في تلك الحرب قتل «جوليان بيل»؛ ابن شقيق فرجينيا، أثناء مشاركته كأحد أفراد الحائط البشري. ربما نفهم من تلك الأحداث لماذا كرهت وولف الحرب دائما، ولم كانت في كثير من مقالاتها داعية للسلام. (1) جماعة «بلوومز بيري»
11
الأدبية
بدأت فكرة جماعة «بلوومز بيري» في التكون عام 1906م، حين بدأ «ثوبي» شقيق فرجينيا في عقد اجتماعات أسبوعية للأصدقاء الأدباء من زملاء كامبريدج. أسموها «أمسيات الثلاثاء». تلك الأمسيات التي ستشكل إسهاماتها النواة الأولى لجماعة «بلوومز بيري» فيما بعد. واختاروا مكان اللقيا ذات الحي الذي كانت تسكنه فرجينيا وشقيقتها فينيسا؛ أي ميدان جوردون. كان المحرك في توحيد المفاهيم والاهتمامات الجمالية والفكرية لدى أعضاء الجماعة نابعا في الأساس من تأثير الفيلسوف ج. إ. موور (1873-1958م) وكتابه العمدة «مبدأ الأخلاق».
12
ضمت الجماعة، ضمن آخرين: إ. إم. فورستر، ليتون ستراتشي، كليف بيل، فينيسا بيل (شقيقة وولف)، دانكين جرانت، وليونارد وولف (زوجها). ومع مطلع الثلاثينيات توقفت الجماعة عن الظهور المنتظم مثلما كانت في صورتها الأولى.
من كلمات وولف عن لقاءات تلك الجماعة كما جاء في كتاب «لحظات الوجود»
13
ل «جيني سكالكيند»: «... ومن أسباب سحر وجمال أمسيات الثلاثاء تلك، اصطباغها بروح التجريد والذهنية على نحو مدهش. لم يكن فقط الكتاب الشهير «مبادئ الأخلاق» للفيلسوف موور هو الذي أغرقنا في مناقشات وحوارات حول الفلسفة والفن والدين والوجود؛ لكنه الجو العام أيضا، الذي يمكنني وصفه ب «المثالية في أقصى طاقاتها». الشباب، الذين وصفتهم ذات مرة في هايد بارك بأنهم «عديمو الأخلاق»، كانوا يناقشون وينتقدون حواراتنا بنفس الحماس والحدة كما يفعلون فيما بينهم، لم يكادوا يلحظون ما نرتدي من ثياب أو كيف كان مظهرنا الأنثوي، لم يشعرونا أننا نساء، هذا شيء رائع!» (2) بدايات الكتابة
مع نهاية عام 1904م شرعت فرجينيا في كتابة مقالات وتحقيقات لجريدة «الجارديان»،
صفحة غير معروفة
14
ثم انتقلت مع عام 1905م إلى الكتابة في ملحق «التايمز» الأدبي،
15
واستمرت في الكتابة بها لعدة سنوات. وكانت في تلك الآونة تقوم بالتدريس في جامعة مسائية للعمال من الرجال والنساء.
نشرت أولى رواياتها «الخروج في رحلة بحرية»
16
عام 1915م؛ أولى أعمال وولف التي خطتها حين كان عمرها 24 عاما. استغرقت كتابتها تسع سنوات، بدأتها عام 1908م وانتهت منها عام 1913م، لكنها لم تنشر إلا بعد ذلك التاريخ بعامين بواسطة أخيها نصف الشقيق «جيرالد دوكوورث»، تزامنا مع بداية إصابتها بالمرض العقلي آنذاك.
في عام 1919م ظهرت روايتها الواقعية «الليل والنهار»
17
التي تدور أحداثها في لندن وترصد التناقض بين حياتي صديقتين ، كاترين وماري، وطرائق تعامل كل منهما مع مدينة الضباب. وتعد رواية تقليدية إصلاحية كتبتها وولف ربما لتثبت لنفسها وللآخرين أن بوسعها كتابة نمط روائي كلاسيكي.
صفحة غير معروفة
عام 1921م أصدرت أولى مجموعاتها القصصية بعنوان «الإثنين أو الثلاثاء»
18
وتتكون من ثماني قصص، من بينها «رواية لم تكتب بعد»، التي نحن بصدد ترجمتها.
أما «غرفة يعقوب»
19
عام 1922م، فكانت مستوحاة من حياة وموت شقيقها «ثوبي»، وتعد روايتها التجريبية الأولى.
على أنها برواياتها الثلاث: «مسز دالواي»
20
1925م، «صوب المنارة»
21
صفحة غير معروفة
1927م، ثم «الأمواج»
22
1931م، استطاعت وولف ترسيخ اسمها كأحد رواد الحداثة في الأدب الإنجليزي.
تعد «الأمواج» من أعقد رواياتها، إذ تتتبع فيها حيوات ستة أشخاص منذ الطفولة الأولى وحتى مراحل الشيخوخة عبر حوار ذاتي أحادي (مونولوج) يناجي كل واحد فيه نفسه.
كتب الناقد «كرونيبيرجر» في نيويورك تايمز: «إن وولف لم تكن حقا مهتمة بالبشر، لكن اهتمامها الأكبر كان بالإشارات الشعرية في الحياة، مثل لحظات التحول بين الفصول، بين الليل والنهار، الخبز والنبيذ، النار والصقيع، الزمن والفضاء، الميلاد والموت؛ أي التحول والتناقض بوجه عام.» «أورلاندو»
23
1928م، رواية استوحت خيوطها من خلال ارتباطها الحميم بالروائية والشاعرة الأرستقراطية فيتا ساكفيل-ويست. ويعدها النقاد بمثابة سيرة ذاتية.
رواية «السنوات»
24
عام 1937م التي أجمع النقاد تقريبا على جمالها، ثم المجموعة القصصية الثانية التي نشرت بعد موتها «بيت مسكون بالأشباح»
صفحة غير معروفة
25
التي صدرت عام 1943م.
وفي أثناء الحرب العالمية، كانت وولف قد أصبحت في بؤرة المشهد الأدبي تماما، سواء في لندن أو في بلدتها الأم «رومديل» بالقرب من ليويز وسسيكس. عاشت وولف في «ريتش موند» في الفترة ما بين عامي1915م و1924م، ثم في «بلوومز بيري» من عام 1924م وحتى عام 1939م. لكنها ظلت مداومة على زيارتها لمنزلها في «رومديل» منذ 1919م حتى لحظة مصرعها انتحارا عام 1941م.
عملت وولف على تطوير تقنياتها الأدبية فكرست قلما نسائيا رفيعا يناقش وينتقد هموم المرأة وحياتها في مقابل الهيمنة الذكورية وسيادة وجهة نظر الرجل في الواقع والوجود والكتابة.
في مقالها «السيد بينيت والسيدة براون»، ساجلت وولف بعض الروائيين الواقعيين الإنجليز مثل جون جولز وورثي، ه. ج. ويلز وغيرهما، حيث اتهمتهم بمعالجة القشور واللعب فوق منطقة السطح، بينما ينبغي، من أجل اختراق العمق، تقليص المساحة المحظورة في تناول الحياة، والاستفادة من أدوات الكتابة المتاحة مثل تفعيل تيار الوعي، والحوارات الذاتية للشخوص، وكذا الانصراف عن السرد الخطي والبناء الهندسي للحدث والزمن. (3) الملمح النقدي لأهم رواياتها «الخروج في رحلة بحرية» رواية توظف أكثر التيمات الروائية قدما وقداسة؛ الرحلة. تدور حول قدر «راشيل فينريز» التي ماتت أمها النشطة المتسلطة وهي بعد طفلة في الحادية عشرة، لتتركها تشب مع أبيها الخامل وعمتيها العانسين. لم تتواءم راشيل عضويا كما ينبغي حتى غدا عمرها 24 عاما. لدرجة أنها لم تكن تعرف شيئا عن الجنس اللهم عدا الشذرات السطحية المستقاة من المدرسة. مع هذا كانت عازفة بيانو بارعة. أسرها الفن والبيانو فتلخص حلمها ومثالها الأعلى في كلمة «فنانة»، حد أن غدت غير متوائمة مع كل مفردات الحياة باستثناء «الفن».
تبدأ الرواية برحلة بحرية في المحيط على سطح باخرة متواضعة تدعى «إفروزين».
26
الباخرة تبحر من إنجلترا صوب جنوب أمريكا ثم إلى أعلى حيث الأمازون. كانت راشيل في رفقة عمتها هيلين آمبرووز، وهي امرأة في بدايات الأربعين حاسمة وغير عاطفية، وهي إحدى الشخصيات المحورية في الرواية إلى جانب راشيل.
هبطت المرأتان في سانتا مارينا؛ إحدى قرى الساحل الجنوب الأمريكي، أخذتا مقامهما في فيلا بدائية ذات حديقة مهملة وتورطتا في التعامل مع مرتادي الفندق الوحيد في القرية، الذين كان من بينهم شابان هما: القديس جون هيريست، الذي يشبه إلى حد بعيد ليتون ستراتشي وسيقع في حب هيلين، والآخر هو تيرينس هيوات، وهو روائي طموح (الشخصية التي من خلالها ستعبر وولف عن معظم آرائها حول فن الكتابة عبر الكثير من الجدل والحوارات التي سيقيمها ذلك الشخص )، وهو سوف يحب راشيل.
أخيرا يقوم بعض أعضاء الفوج بعمل الرحلة الثانية في النهر صوب الغابة، وهنا تأخذ الأحداث مسارات أخرى ويتبدل كل شيء. «الخروج في رحلة بحرية» تحكي قصة العشاق التعسين المنهزمين ويتم رصدهم ضمن أصداء كورال من قصص أخرى ووجهات نظر مغايرة، أي عبر منهج التعدد المنظوري. «السيدة دالواي» 1925م (الرواية التي نسجت حولها رواية «الساعات» للروائي «مايكل كاننجام»
صفحة غير معروفة
27
الصادرة عام 2002م - والفائزة بجائزة بارتليز)، عبارة عن شبكة شديدة الاشتباك والتعقيد مجدولة من أفكار مجموعة من البشر خلال يوم واحد من حياتهم. ثمة حدث واحد بسيط، وراءه حركة شديدة التسارع والديناميكية من الحاضر إلى الماضي ثم إلى الحاضر ثانية من خلال ذاكرة الشخوص. البطلة المحورية «كلاريسا دالواي» مضيفة لندنية ثرية، تقضي نهار أحد الأيام منهمكة في الإعداد لحفل المساء، تستدعي حياتها قبل الحرب العالمية الأولى؛ ذكرياتها قبل زواجها من «سبتيمس دالواي» وقبل صداقتها للمرأة غريبة الأطوار «سالي سيتون» التي ستعود بلقبها الجديد «السيدة روستر»، ثم تستدعي علاقتها ب «بيتر ويلش» الذي ما زال متيما بها. وأثناء الحفل، الذي لم يحضره المجند الإنجليزي «ريتشارد سبتيمس» (صديقها القديم الشاعر، الذي أقيم الحفل على شرفه من أجل تكريمه لفوزه بجائزة في الأدب، وكان قد آثر العزلة في منزله البسيط إثر أصابته في الحرب العالمية بصدمة نفسية تسمى «صدمة القذيفة».
28
وكان أحد أول المتطوعين في الحرب). يقع الحدث الأكبر.
عند وصول رئيس الوزراء بالضبط إلى مكان الحفل في بيت كلاريسا، يقوم «سبتيمس» بإلقاء نفسه من شرفة منزله المنعزل على مرأى من «مسز دالواي» التي راحت إليه لتصطحبه إلى الحفل فباغتها وانتحر بعد حوار قصير معها فحواه أنه يفضل الذهاب إلى الموت عوضا عن انتظاره. من المقاطع الشهيرة في الرواية: «كان أول ما تبدى لها، تلك الممارسات الطائشة التي تخرق الآداب الاجتماعية وتقاليد اللياقة، لكن تلك الممارسات في جانب آخر تحولت إلى رمية سهم في السؤال الوجودي الأكبر الذي يلازم حياتنا. بينما تغادر مسز دالواي الحفل خلسة لتتجه نحو شرفتها، تتأمل القضبان الحديدية الرأسية التي تشكل سور الحديقة وتفكر: ثمة قضبان مماثلة تسور جسد «سبتيمس» التعس، وتسأل عما إذا كان هناك هدف وخطة وراء حياتنا؟ لماذا نستمر في الحياة في وجه الألم والمأساة؟» «صوب المنارة»: رواية ذات بناء ثلاثي الأبعاد: الجزء الأول، يتعرض لحياة أسرة فيكتورية (كلاسيكية محافظة)، الثاني، يرصد حقبة زمنية مدتها أعوام عشرة، بينما يتناول الجزء الثالث أحد الصباحات التي تخلد الأشباح فيها للنوم. الشخصية المحورية في الرواية، مسز رامساي، مستوحاة من شخصية والدة وولف، وكذا بقية الشخصيات في الدراما كلها متكئة، بشكل أو بآخر، على ذكريات وولف مع عائلتها. «أورلاندو» 1928م رواية خيالية فانتازية. يتتبع السرد فيها مصير البطل الذي تحول من هوية ذكورية، داخل بلاط المحكمة الإليزابيثية، إلى الهوية المؤنثة. الكتاب مزود بصور لصديقة وولف «فيتا ساكفيل ويست» في ثياب أورلاندو الرجل. وعن العلاقة الملتبسة بين وولف وفيتا، حسب «نيجل نيكلسون»، فإن المبادرة كانت من جانب وولف الخجول رغم اتساع خبرة فيتا. وقد تزامنت تلك العلاقة مع أعلى ما أبدعته وولف أدبيا. في عام 1994م استثمرت «إليين أتكينس» خطابات وولف وفيتا في خلق إبداع درامي خلال مسرحية «فيتا وفرجينيا» بطولة «أتكينس» و«فانيسا ريدجريف». (4) النسوية في كتابات وولف
في رسالة لصديقتها «فيتا ساكفيل»
29
تكلمت فرجينيا عن تلك المرحلة المبكرة من حياتها قائلة: «هل تتخيلين في أي بيئة نشأت؟ لا مدرسة أقصد إليها؛ أقضي يومي مستغرقة في التأمل وسط تلال من كتب أبي؛ لا فرصة على الإطلاق لالتقاط ما يحدث هناك خلف أسوار المدارس؛ اللعب بالكرة، المشاحنات الصغيرة، تبادل الشتائم، التحدث بالسوقية، الأنشطة المدرسية، وأيضا الشعور بالغيرة!»
عبر مشروعها الأدبي؛ ظهرت ملامح الرفض والثورة في مقالات كثيرة رصدت وولف خلالها تباين التوجهات الاجتماعية نحو كل من المرأة والرجل. رافضة أن تكون الحتمية البيولوجية أساسا للتمايز الحقوقي بين الجنسين. أهمها تلك المقالات المجموعة بعنوان «غرفة تخص المرء»،
30
صفحة غير معروفة