بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله رب الْعَالمين الرَّحْمَن الرَّحِيم مَالك يَوْم الدّين إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين
وَبعد فَلَمَّا كنت فِي بيروت من أَعمال سورية أَيَّام بعدى عَن مصر عقب حوادث سنة ١٢٩٩ هجرية ودعيت فِي سنة ١٣٠٣ إِلَى تدريس بعض الْعُلُوم فِي الْمدرسَة السُّلْطَانِيَّة وَمِنْهَا كَانَ علم التَّوْحِيد رَأَيْت أَن المختصرات فِي هَذَا الْفَنّ رُبمَا لَا تأتى على الْغَرَض من إِفَادَة التلامذة والمطولات تعلوعلى أفهامهم والمتوسطات ألفت لزمن غير زمانهم فَرَأَيْت من الْأَلْيَق أَن أمْلى عَلَيْهِم مَا هُوَ أمس بحالهم فَكَانَت آمالى مُخْتَلفَة تتغاير بتغاير طبقاتهم أقربها إِلَى كِفَايَة الطَّالِب مَا أمْلى على الْفرْقَة الأولى فِي أسلوب لَا يصعب تنَاوله وَإِن لم يعْهَد تداوله تمهيد مُقَدمَات وسير مِنْهَا إِلَى المطالب من غير نظر إِلَّا إِلَى صِحَة الدَّلِيل وَإِن جَاءَ فِي التَّعْبِير على خلاف مَا عهد من هَيْئَة التَّأْلِيف راميا إِلَى الْخلاف من مَكَان بعيد حَتَّى رُبمَا لَا يُدْرِكهُ إِلَّا الرجل الرشيد غير أَن تِلْكَ الأمالى لم تحفظ إِلَّا فِي دفاتر التلامذة وَلم أستبق لنفسى مِنْهَا شَيْئا وَعرض بعد ذَلِك مَا استقدمنى إِلَى مصر وَكَانَ من تَقْدِير الله أَن أشتغل بِغَيْر التَّعْلِيم حَتَّى أَتَى النسْيَان على مَا أمليت وَذهب عَن الخاطر جَمِيع مَا القيت إِلَى أَن خطر لى من مُدَّة أشهر خاطر الْعود إِلَى مَا تهواه نفسى ويصبو إِلَيْهِ عقلى وحسى وَأَن أشغل أَوْقَات فراغى بمدارسة شَيْء من علم التَّوْحِيد علما منى أَنه ركن الْعلم الشَّديد فَذكرت سَابق الْعَمَل وَتعلق بِمثلِهِ الأمل وعزمت أَن أكتب إِلَى بعض التلامذة ليرسل إِلَى مَا تَلقاهُ بَين يدى لكيلا أنْفق من الزَّمن مَا أَنا فِي أَشد الْحَاجة إِلَيْهِ فِي إنْشَاء مَا أرى التعويل عَلَيْهِ وَذكرت ذَلِك لأخى فأخبرنى أَنه نسخ مَا أمْلى على الْفرْقَة الأولى
1 / 3
فطلبته وقرأته فَإِذا هُوَ قريب مِمَّا أحب قد يحْتَاج إِلَيْهِ الْقَاصِر وَرُبمَا لَا يسْتَغْنى عَنهُ المكاثر على اخْتِصَار فِيهِ مَقْصُود ووقوف عِنْد حد من القَوْل مَحْدُود قد سلك فِي العقائد مَسْلَك السّلف وَلم يعب فِي سيره آراء الْخلف وَبعد عَن الْخلاف بَين الْمذَاهب بعد ممليه عَن أعاصير المشاغب وَلَكِن وجدت فِيهِ إيجازا فِي بعض الْمَوَاضِع رُبمَا لَا ينفذ مِنْهُ ذهن الْمطَالع وإغفالا لبَعض مَا تمس الْحَاجة إِلَيْهِ وَزِيَادَة عَمَّا يجب فِي مُخْتَصر مثله أَن يقْتَصر عَلَيْهِ فبسطت بعض عباراته وحررت مَا غمض من مقدماته وزدت مَا أغفل وحذفت مَا فضل وتوكلت على الله فِي نشره راجيا أَن لَا يكون فِي قصره مَا يحمل على إغفال أمره أَو يغض من قدره فَمَا من أحد بِدُونِ أَن يعين وَلَا بفوق أَن يعان وَالله وَحده ولى الْأَمر وَهُوَ الْمُسْتَعَان
1 / 4
مُقَدمَات
التَّوْحِيد علم يبْحَث فِيهِ عَن وجود الله وَمَا يجب أَن يثبت لَهُ من صِفَات وَمَا يجوز أَن يُوصف بِهِ وَمَا يجب أَن ينفى عَنهُ وَعَن الرُّسُل لإِثْبَات رسالتهم وَمَا يجب أَن يَكُونُوا عَلَيْهِ وَمَا يجوز أَن ينْسب إِلَيْهِم وَمَا يمْتَنع أَن يلْحق بهم
أصل معنى التَّوْحِيد اعْتِقَاد أَن الله وَاحِد لَا شريك لَهُ وسمى هَذَا الْعلم بِهِ تَسْمِيَة لَهُ بأهم أَجْزَائِهِ وَهُوَ إِثْبَات الْوحدَة لله فِي الذَّات وَالْفِعْل فِي خلق الأكوان وَأَنه وَحده مرجع كل كَون ومنتهى كل قصد وَهَذَا الْمطلب كَانَ الْغَايَة الْعُظْمَى من بعثة النبى ﷺ كَمَا تشهد بِهِ آيَات الْكتاب الْعَزِيز وسيأتى بَيَانه
وَقد يُسمى علم الْكَلَام إِمَّا لِأَن أشهر مَسْأَلَة وَقع فِيهَا الْخلاف بَين عُلَمَاء الْقُرُون الأولى هِيَ أَن كَلَام الله المتلو حَادث أَو قديم وَإِمَّا لِأَن مبناه الدَّلِيل العقلى وأثره يظْهر من كل مُتَكَلم فِي كَلَامه وقلما يرجع فِيهِ إِلَى النَّقْل اللَّهُمَّ إِلَّا بعد تَقْرِير الْأُصُول الأولى ثمَّ الِانْتِقَال مِنْهَا إِلَى مَا هُوَ أشبه بالفرع عَنْهَا وَإِن كَانَ أصلا لما يأتى بعْدهَا وَإِمَّا لِأَنَّهُ فِي بَيَانه طرق الِاسْتِدْلَال على أصُول الدّين أشبه بالْمَنْطق فِي تبيينه مسالك الْحجَّة فِي عُلُوم أهل النّظر وأبدل الْمنطق بالْكلَام للتفرقة بَينهمَا
هَذَا النَّوْع من الْعلم علم تَقْرِير العقائد وَبَيَان مَا جَاءَ فِي النبوات كَانَ مَعْرُوفا عِنْد الْأُمَم قبل الْإِسْلَام ففى كل أمة كَانَ القائمون بِأَمْر الدّين يعْملُونَ لحفظه وتأييده وَكَانَ الْبَيَان من أول وسائلهم إِلَى ذَلِك لكِنهمْ كَانُوا قَلما ينحون فِي بيانهم نَحْو الدَّلِيل العقلى وَبِنَاء آرائهم وعقائدهم على مَا فِي طبيعة الْوُجُود أَو مَا يشْتَمل عَلَيْهِ نظام الْكَوْن بل كَانَت مُنَازع الْعُقُول فِي الْعلم ومضارب الدّين فِي الْإِلْزَام بالعقائد وتقريبها من مشاعر الْقُلُوب على طرفى نقيض وَكَثِيرًا مَا صرح الدّين على لِسَان رؤسائه أَنه عَدو الْعقل نتائجه ومقدماته
1 / 5
فَكَانَ جلّ مَا فِي عُلُوم الْكَلَام تَأْوِيل وَتَفْسِير وإدهاش بالمعجزات أَو إلهاء بالخيالات يعلم ذَلِك من لَهُ إِلْمَام بأحوال الْأُمَم قبل الْبعْثَة الإسلامية
جَاءَ الْقُرْآن فنهج بِالدّينِ منهجا لم يكن عَلَيْهِ مَا سبقه من الْكتب المقدسة منهجا يُمكن لأهل الزَّمن الذى أنزل فِيهِ وَلمن يأتى بعدهمْ أَن يقومُوا عَلَيْهِ فَلم يقصر الِاسْتِدْلَال على نبوة النبى ﷺ بِمَا عهد الِاسْتِدْلَال بِهِ على النبوات السَّابِقَة بل جعل الدَّلِيل فِي حَال النبى مَعَ نزُول الْكتاب عَلَيْهِ فِي شَأْن من البلاغة يعجز البلغاء عَن محاكاته فِيهِ وَلَو فِي مثل أقصر سُورَة مِنْهُ وقص علينا من صِفَات الله مَا أذن الله لنا أَو مَا أوجب علينا أَن نعلم لَكِن لم يطْلب التَّسْلِيم بِهِ لمُجَرّد أَنه جَاءَ بحكايته وَلكنه أَقَامَ الدَّعْوَى وَبرهن وَحكى مَذَاهِب الْمُخَالفين وكر عَلَيْهَا بِالْحجَّةِ وخاطب الْعقل واستنهض الْفِكر وَعرض نظام الأكوان وَمَا فِيهَا من الْأَحْكَام والأتقان على أنظار الْعُقُول وطالبها بالإمعان فِيهَا لتصل بذلك إِلَى الْيَقِين بِصِحَّة مَا أدعاه ودعا إِلَيْهِ حَتَّى أَنه فِي سِيَاق قصَص أَحْوَال السَّابِقين كَانَ يُقرر لِلْخلقِ سنة لَا تغير وَقَاعِدَة لَا تتبدل فَقَالَ سنة الله الَّتِى خلت من قبل وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا وَصرح ﴿إِن الله لَا يُغير مَا بِقوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم﴾ ﴿فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لخلق الله﴾ واعتضد بِالدَّلِيلِ حَتَّى فِي بَاب الْأَدَب فَقَالَ ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحسن فَإِذا الَّذِي بَيْنك وَبَينه عَدَاوَة كَأَنَّهُ ولي حميم﴾ وتآخى الْعقل وَالدّين لأوّل مرّة فِي كتاب مقدس على لِسَان نبى مُرْسل بتصريح لَا يقبل التَّأْوِيل
وتقرر بَين الْمُسلمين كَافَّة إِلَّا من لاثقة بعقله وَلَا بِدِينِهِ أَن من قضايا الدّين مَالا يُمكن الِاعْتِقَاد بِهِ إِلَّا من طَرِيق الْعقل كَالْعلمِ بِوُجُود الله وبقدرته على إرْسَال الرُّسُل وَعلمه بِمَا يُوحى بِهِ إِلَيْهِم وإرادته لاختصاصهم برسالته وَمَا يتبع ذَلِك مِمَّا يتَوَقَّف عَلَيْهِ فهم معنى الرسَالَة وكالتصديق بالرسالة نَفسهَا كَمَا أَجمعُوا على أَن الدّين إِن جَاءَ بشىء قد يَعْلُو عَن الْفَهم فَلَا يُمكن أَن يأتى بِمَا يَسْتَحِيل عِنْد الْعقل
جَاءَ الْقُرْآن يصف الله بِصِفَات وَإِن كَانَت أقرب إِلَى التَّنْزِيه مِمَّا وصف
1 / 6
بِهِ فِي مخاطبات الأجيال السَّابِقَة فَمن صِفَات الْبشر مَا يشاركها فِي الإسم أَو فى الْجِنْس كالقدرة وَالِاخْتِيَار والسمع وَالْبَصَر وَعزا إِلَيْهِ أمورا يُوجد مَا يشبهها فِي الْإِنْسَان كالاستواء على الْعَرْش وكالوجه وَالْيَدَيْنِ ثمَّ أَفَاضَ فِي الْقَضَاء السَّابِق وفى الِاخْتِيَار الممنوح للْإنْسَان وجادل الغالين من أهل المذهبين ثمَّ جَاءَ بالوعد والوعيد على الْحَسَنَات والسيئات ووكل الْأَمر فِي الثَّوَاب وَالْعِقَاب إِلَى مَشِيئَة الله وأمثال ذَلِك مِمَّا لَا حَاجَة إِلَى بَيَانه فِي هَذِه الْمُقدمَة
فأعتبار حكم الْعقل مَعَ وُرُود أَمْثَال هَذِه المشابهات فِي النَّقْل فسح مجالا للناظرين خُصُوصا ودعوة الدّين إِلَى الْفِكر فِي الْمَخْلُوقَات لم تكن محدودة بِحَدّ وَلَا مَشْرُوطَة بِشَرْط للْعلم بِأَن كل نظر صَحِيح فَهُوَ مؤد إِلَى الِاعْتِقَاد بِاللَّه على مَا وَصفه بِلَا غلو فِي التَّجْرِيد وَلَا دنو من التَّحْدِيد
مضى زمن النبى ﷺ وَهُوَ الْمرجع فِي الْحيرَة والسراج فِي ظلمات الشُّبْهَة وَقضى الخليفتان بعده مَا قدر لَهما من الْعُمر فِي مدافعة الْأَعْدَاء وَجمع كلمة الْأَوْلِيَاء وَلم يكن للنَّاس من الْفَرَاغ مَا يخلون فِيهِ مَعَ عُقُولهمْ ليبتلوها بالبحث فِي مبانى عقائدهم وَمَا كَانَ من اخْتِلَاف قَلِيل رد إِلَيْهِمَا وَقضى الْأَمر فِيهِ بحكمهما بعد استشارة من جاورهما من أهل الْبَصَر بِالدّينِ إِن كَانَت حَاجَة إِلَى الاستشارة وأغلب الْخلاف كَانَ فِي فروع الْأَحْكَام لَا فى أصُول العقائد ثمَّ كَانَ النَّاس فِي الزمنين يفهمون إشارات الْكتاب ونصوصه ويعتقدون بالتنزيه ويفوضون فِيمَا يُوهم التَّشْبِيه وَلَا يذهبون وَرَاء مَا يفهمهُ ظَاهر اللَّفْظ
كَانَ الْأَمر على ذَلِك إِلَى أَن حدث مَا حدث فِي عهد الْخَلِيفَة الثَّالِث وأفضى إِلَى قَتله هوى بِتِلْكَ الْأَحْدَاث ركن عَظِيم من هيكل الْخلَافَة واصطدام الْإِسْلَام وَأَهله صدمة زحزحتهم عَن الطَّرِيق الَّتِى استقاموا عَلَيْهَا وبقى الْقُرْآن قَائِما على صراطه ﴿إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون﴾ وَفتح للنَّاس بَاب لتعدى الْحُدُود الَّتِى حَدهَا الدّين فقد قتل الْخَلِيفَة بِدُونِ حكم شرعى وأشعر الْأَمر قُلُوب الْعَامَّة أَن شهوات تلاعبت بالعقول فِي أنفس من لم يملك الْإِيمَان قُلُوبهم وَغلب الْغَضَب على كثير من الغالين فِي دينهم وتغلب هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ على أهل الْأَصَالَة مِنْهُم فَقضيت أُمُور غير مَا يحبونَ
1 / 7
وَكَانَ من العاملين فِي تِلْكَ الْفِتْنَة عبد الله بن سبأ يهودى أسلم وغلا فِي حب على كرم الله وَجهه حَتَّى زعم أَن الله حل فِيهِ وَأخذ يَدْعُو إِلَى أَنه الأحق بالخلافة وَطعن على عُثْمَان فنفاه فَذهب إِلَى الْبَصْرَة وَبث فِيهَا فتنته فَأخْرج مِنْهَا فَذهب إِلَى الْكُوفَة وَنَفث مَا نفث من سم الْفِتْنَة فنفى مِنْهَا فَذهب إِلَى الشَّام فَلم يجد فِيهَا مَا يُرِيد فَذهب إِلَى مصر فَوجدَ فِيهَا أعوانا على فتنته إِلَى أَن كَانَ مَا كَانَ مِمَّا ذَكرْنَاهُ ثمَّ ظهر بمذهبه فى عهد على فنفاه إِلَى الْمَدَائِن وَكَانَ رَأْيه جرثومة لما حدث من مَذَاهِب الغلاة من بعده
توالت الْأَحْدَاث بعد ذَلِك وَنقض بعض الْمُبَايِعين للخليفة الرَّابِع مَا عقدوا وَكَانَت حروب بَين الْمُسلمين انْتهى فِيهَا أَمر السُّلْطَان إِلَى الأمويين غير أَن بِنَاء الْجَمَاعَة قد انصدع وانفصمت عرى الْوحدَة بَينهم وَتَفَرَّقَتْ بهم الْمذَاهب فِي الْخلَافَة وَأخذت الْأَحْزَاب فِي تأييد آرائهم كل ينصر رَأْيه على رأى خَصمه بالْقَوْل وَالْعَمَل وَكَانَت نشأة الاختراع فِي الرِّوَايَة والتأويل وغلا كل قبيل فافترق النَّاس إِلَى شيعَة وخوارج ومعتدلين وغلا الْخَوَارِج فَكَفرُوا من عداهم ثمَّ اسْتمرّ عنادهم وطلبهم لحكومة أشبه بالجمهورية وتكفيرهم لمن خالفهم زَمنا طَويلا إِلَى أَن اتضعضع أَمرهم بعد حروب أكلت كثيرا من الْمُسلمين وانتشرت فأرتهم فِي أَطْرَاف الْبِلَاد وَلم يكفوا عَن شعال الْفِتَن وَبقيت مِنْهُم بَقِيَّة إِلَى الْيَوْم فِي أَطْرَاف أفريقيا وناحية من جَزِيرَة الْعَرَب وغلا بعض الشِّيعَة فَرفعُوا عليا أَو بعض ذُريَّته إِلَى مقَام الألوهية أَو مَا يقرب مِنْهُ وَتبع ذَلِك خلاف فِي كثير من العقائد
غير أَن شَيْئا من ذَلِك لم يقف فِي سَبِيل الدعْوَة الإسلامية وَلم يحجب ضِيَاء الْقُرْآن عَن الْأَطْرَاف المتسائية عَن مثار النزاع وَكَانَ النَّاس يدْخلُونَ فِيهِ أَفْوَاجًا من الْفرس والسوريين وَمن جاورهم والمصريين والإفريقيين وَمن يليهم واستراح جُمْهُور عَظِيم من الْعَمَل فِي الدفاع عَن سُلْطَان الْإِسْلَام وآن لَهُم أَن يشتغلوا فِي اصول العقائد وَالْأَحْكَام بِمَا هدَاهُم إِلَيْهِ سير الْقُرْآن اشتغالا بحرص فِيهِ على النَّقْل وَلَا يهمل فِيهِ اعْتِبَار الْعقل وَلَا يغض فِيهِ من نظر الْفِكر
1 / 8
وَوجد من أهل الْإِخْلَاص من انتدب للنَّظَر فِي الْعلم وَالْقِيَام بفريضة التَّعْلِيم وَمن أشهرهم الْحسن البصرى فَكَانَ لَهُ مجْلِس للتعليم والإفادة فِي الْبَصْرَة يجْتَمع إِلَيْهِ الطالبون من كل صوب وتمتحن فِيهِ الْمسَائِل من كل نوع وَكَانَ قد التحف بِالْإِسْلَامِ وَلم يتبطنه أنَاس من كل مِلَّة دَخَلُوهُ حاملين لما كَانَ عِنْدهم راغبين أَن يصلوا بَينه وَبَين مَا وجدوه فثارت الشُّبُهَات بَعْدَمَا هبت على النَّاس أعاصير الْفِتَن وَاعْتمد كل نَاظر على مَا صرح بِهِ الْقُرْآن من إِطْلَاق الْعَنَان للفكر وشارك الدخلاء من حق لَهُم السَّبق من العرفاء وبدت رُءُوس المشاقين تعلو بَين الْمُسلمين
وَكَانَت أول مَسْأَلَة ظهر الْخلاف فِيهَا مَسْأَلَة الأختيار واستقلال الْإِنْسَان بإرادته وأفعاله الأختيارية وَمَسْأَلَة من ارْتكب الْكَبِيرَة وَلم يتب اخْتلف فِيهَا وأصل بن عَطاء وأستاذه الْحسن البصرى واعتزله يعلم أصولا لم يكن أَخذهَا عَنهُ غير أَن كثيرا من السّلف وَمِنْهُم الْحسن على قَول كَانَ على رأى أَن العَبْد مُخْتَار فِي أَعماله الصادرة عَن علمه وإرادته وَقَامَ يُنَازع هَؤُلَاءِ أهل الْجَبْر الَّذين ذَهَبُوا إِلَى أَن الْإِنْسَان فِي عمله الإرادى كأغصان الشَّجَرَة فِي حركاتها الأضطرارية كل ذَلِك وأرباب السُّلْطَان من بنى مَرْوَان لَا يحفلون بِالْأَمر وَلَا يعنون برد النَّاس إِلَى أصل وجمعهم على أَمر يشملهم ثمَّ يذهب كل إِلَى مَا شَاءَ سوى أَن عمر بن عبد الْعَزِيز أَمر الزهرى بتدوين مَا وصل إِلَيْهِ من الحَدِيث وَهُوَ أول من جمع الحَدِيث
ثمَّ لم يقف الْخلاف عِنْد الْمَسْأَلَتَيْنِ السابقتين بل امْتَدَّ إِلَى إِثْبَات صِفَات الْمعَانى للذات الإلهية أَو نَفيهَا عَنْهَا وَإِلَى تَقْرِير سلطة الْعقل فِي معرفَة جَمِيع الْأَحْكَام الدِّينِيَّة حَتَّى مَا كَانَ مِنْهَا فروعا وعبادات غلوا فِي تأييد خطة الْقُرْآن أَو تَخْصِيص تِلْكَ السلطة بالأصول الأولى على مَا سبق بَيَانه ثمَّ غالى آخَرُونَ وهم الأقلون فمحوها بالمرة وخالفوا فِي ذَلِك طَريقَة الْكتاب عنادا للأولين وَكَانَت الآراء فِي الْخُلَفَاء والخلافة تسير مَعَ الآراء فِي العقائد كَأَنَّهَا مبْنى من مبانى الِاعْتِقَاد الإسلامى
1 / 9
تَفَرَّقت السبل بِاتِّبَاع وَاصل وتناولوا من كتب اليونان مالاق بعقولهم وظنوا من التَّقْوَى أَن تؤيد العقائد بِمَا أثْبته الْعلم بِدُونِ تَفْرِقَة بَين مَا كَانَ مِنْهُ رَاجعا إِلَى أوليات الْعقل وَمَا كَانَ سرابا فِي نظر الْوَهم فخلطوا بمعارف الدّين مَالا ينطبق على أصل من أصُول النّظر ولجوا فِي ذَلِك حَتَّى صَارَت شيعهم تعد بالعشرات أيدتهم الدولة العباسية وَهِي فِي ريعان الْقُوَّة فغلب رَأْيهمْ وابتدأ علماؤهم يؤلفون الْكتب فَأخذ المتمسكون بمذاهب السّلف يناضلونهم معتصمين بِقُوَّة الْيَقِين وَإِن لم يكن لَهُم عضد من الْحَاكِمين
عرف الْأَولونَ من العباسيين مَا كَانَ من الْفرس فِي إِقَامَة دولتهم وقلب دولة الأمويين واعتمدوا على طلب الْأَنْصَار فيهم وَأَعدُّوا لَهُم منصات الرّفْعَة بَين وزرائهم وحواشيهم فعلا أَمر كثير مِنْهُم وهم لَيْسُوا من الدّين فِي شَيْء وَكَانَ فيهم المانوية واليزدية وَمن لادين لَهُ وَغير أُولَئِكَ من الْفرق الفارسية فَأخذُوا ينفثون من أفكارهم ويشيرون بحالهم وبمقالهم إِلَى من يرى مثل آرائهم أَن يقتدوا بهم فَظهر الْإِلْحَاد وتطلعت رُءُوس الزندقة حَتَّى صدر أَمر الْمَنْصُور بِوَضْع كتب لكشف شبهاتهم وَإِبْطَال مزاعمهم
فِيمَا حوالى هَذَا الْعَهْد كَانَت نشأة هَذَا الْعلم نبتا لم يتكامل نموه وَبِنَاء لم يتشامخ علوه وَبَدَأَ علم الْكَلَام كَمَا انْتهى مشوبا بمبادىء النّظر فِي الكائنات جَريا على مَا سنه الْقُرْآن من ذَلِك
وَحدثت فتْنَة القَوْل بِخلق الْقُرْآن أَو أزليته وانتصر للْأولِ جمع من خلفاء العباسيين وَأمْسك عَن القَوْل أَو صرح بالأزلية عدد غفير من المتمسكين بظواهر الْكتاب وَالسّنة أَو المتعففين عَن النُّطْق بِمَا فِيهِ مجاراة الْبِدْعَة وأهين فِي ذَلِك رجال من أهل الْعلم وَالتَّقوى وسفكت فِيهِ دِمَاء بِغَيْر حق وَهَكَذَا تعدى الْقَوْم حُدُود الدّين باسم الدّين
على هَذَا كَانَ النزاع بَين مَا تطرف من نظر الْعقل وَمَا توَسط أَو غلا من الإستمساك بِظَاهِر الشَّرْع وَالْكل على وفَاق على أَن الْأَحْكَام الدِّينِيَّة وَاجِبَة
1 / 10
الإتباع مَا تعلق مِنْهَا بالعبادات والمعاملات وَجب الْوُقُوف عِنْده وَمَا مس بواطن الْقُلُوب وملكات النُّفُوس فرض توطين النَّفس عَلَيْهِ وَكَانَ وَرَاء هَؤُلَاءِ قوم من أهل الْحُلُول أَو الدهريين طلبُوا أَن يحملوا الْقُرْآن على مَا حملوه عِنْد التحاقهم بِالْإِسْلَامِ وأفرطوا فِي التَّأْوِيل وحولوا كل عمل ظَاهر إِلَى سر بَاطِن وفسروا الْكتاب بِمَا يبعد عَن تنَاول الْخطاب بعد الْخَطَأ عَن الصَّوَاب وَعرفُوا بالباطنية أَو الإسماعيلية وَلَهُم أَسمَاء أخر تعرف فِي التَّارِيخ فَكَانَت مذاهبهم غائلة الدّين وزلزال الْيَقِين وَكَانَت لَهُم فتن مَعْرُوفَة وحوادث مَشْهُورَة
مَعَ اتِّفَاق السّلف وخصومهم فِي مقارعة هَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَة وأشياعهم كَانَ أَمر الْخلاف بَينهم جللا وَكَانَت الْأَيَّام بَينهم دولا وَلَا يمْنَع ذَلِك من أَخذ بَعضهم عَن بعض واستفادة كل فريق من صَاحبه إِلَى أَن جَاءَ الشَّيْخ أَبُو الْحسن الأشعرى فِي أَوَائِل الْقرن الرَّابِع وسلك مسلكه الْمَعْرُوف وسطا بَين موقف السّلف وتطرف من خالفهم وَأخذ يُقرر العقائد على أصُول النّظر وارتاب فِي أمره الْأَولونَ وَطعن كثير مِنْهُم على عقيدته وكفره الْحَنَابِلَة واستباحوا دَمه
وَنَصره جمَاعَة من أكَابِر الْعلمَاء كأبى بكر الباقلانى وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ والإسفراينى وَغَيرهم وَسموا رَأْيه بِمذهب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة فَانْهَزَمَ من بَين أيدى هَؤُلَاءِ الأفاضل قوتان عظيمتان قُوَّة الواقفين عِنْد الظَّوَاهِر وَقُوَّة الغالين فِي الجرى خلف مَا تزينه الخواطر وَلم يبْق من أُولَئِكَ وَهَؤُلَاء بعد نَحْو من قرنين إِلَّا فئات قَليلَة فِي أَطْرَاف الْبِلَاد الإسلامية
غير أَن الناصرين لمَذْهَب الأشعرى بعد تقريرهم مَا بنى رَأْيه عَلَيْهِ من نواميس الْكَوْن أوجبوا على المعتقد أَن يُوقن بِتِلْكَ الْمُقدمَات ونتائجها كَمَا يجب عَلَيْهِ الْيَقِين بِمَا تُؤَدّى إِلَيْهِ من عقائد الْإِيمَان ذَهَابًا مِنْهُم إِلَى أَن عدم الدَّلِيل يُؤدى إِلَى عدم الْمَدْلُول وَمضى الْأَمر على ذَلِك إِلَى أَن جَاءَ الإِمَام الغزالى وَالْإِمَام الرازى وَمن أَخذ مأخذهما فخالفوهم فِي ذَلِك وقرروا أَن دَلِيلا وَاحِدًا
1 / 11
أَو أَدِلَّة كَثِيرَة قد يظْهر بُطْلَانهَا وَلَكِن قد يسْتَدلّ على الْمَطْلُوب بِمَا هُوَ أقوى مِنْهَا فَلَا وَجه للحجز فِي الإستدلال
أما مَذَاهِب الفلسفة فَكَانَت تستمد آراءها من الْفِكر الْمَحْض وَلم يكن من هم أهل النّظر من الفلاسفة إِلَّا تَحْصِيل الْعلم وَالْوَفَاء بِمَا تنْدَفع إِلَيْهِ رَغْبَة الْعقل من كشف مَجْهُول أَو استسكناه مَعْقُول وَكَانَ يُمكنهُم أَن يبلغُوا من مطالبهم مَا شَاءُوا وَكَانَ الْجُمْهُور من أهل الدّين يكنفهم بحمايته ويدع لَهُم من إِطْلَاق الْإِرَادَة مَا يتمتعون بِهِ فِي تَحْصِيل لَذَّة عُقُولهمْ وإفادة الصِّنَاعَة وتقوية أَرْكَان النظام الْبُشْرَى بِمَا يكشفون من مساتير الْأَسْرَار المكنونة فِي ضمائر الْكَوْن فَمَا أَبَاحَ الله لنا أَن نتناوله بعقولنا وأفكارنا فِي قَوْله ﴿خلق لكم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا﴾ إِذْ لم يسْتَثْن من ذَلِك ظَاهرا وَلَا خفِيا وَمَا كَانَ عَاقل من عقلاء الْمُسلمين ليَأْخُذ عَلَيْهِم الطَّرِيق أَو يضع العقبات فِي سبيلهم إِلَى مَا هُدُوا إِلَيْهِ بعد مَا رفع الْقُرْآن من شَأْن الْعقل وَمَا وَضعه من المكانة بِحَيْثُ يَنْتَهِي إِلَيْهِ أَمر السَّعَادَة والتمييز بَين الْحق وَالْبَاطِل والضار والنافع وَبعد مَا صَحَّ من قَوْله ﵇ أَنْتُم أعلم بشئون دنياكم وَبعد ماسن لنا فِي غَزْوَة بدر من سنة الْأَخْذ بِمَا صدق من التجارب وَصَحَّ من الآراء
لَكِن يظْهر أَن أَمريْن غلبا على غالبهم الأول الْإِعْجَاب بِمَا نقل إِلَيْهِم عَن فلاسفة اليونان خُصُوصا أرسطو وأفلاطون ووجدان اللَّذَّة فِي تقليدهما لبادىء الْأَمر والثانى الشَّهْوَة الْغَالِبَة على النَّاس فِي ذَلِك الْوَقْت وَهُوَ أشأم الْأَمريْنِ زجوا بِأَنْفسِهِم فِي المنازعات الَّتِى كَانَت قَائِمَة بَين أهل النّظر فِي الدّين واصطدموا بعلومهم فِي قلَّة عَددهمْ مَعَ مَا انطبعت عَلَيْهِ نفوس الكافة فَمَال حماة العقائد عَلَيْهِم وَجَاء الغزالى وَمن على طَرِيقَته فَأخذُوا جَمِيع مَا وجد فِي كتب الفلاسفة مِمَّا يتَعَلَّق بالإلهيات وَمَا يتَّصل بهَا من الْأُمُور الْعَامَّة وَأَحْكَام الْجَوَاهِر والأعراض ومذاهبهم فِي الْمَادَّة وتركيب الْأَجْسَام وَجَمِيع مَا ظَنّه المشتغلون بالْكلَام يمس شَيْئا من مبانى الدّين واشتدوا فِي نَقده وَبَالغ الْمُتَأَخّرُونَ مِنْهُم
1 / 12
فِي تأثرهم حَتَّى كَاد يصل بهم السّير إِلَى مَا وَرَاء الإعتدال فَسَقَطت مَنْزِلَتهمْ من النُّفُوس ونبذتهم الْعَامَّة وَلم تحفل بهم الْخَاصَّة وَذهب الزَّمَان بِمَا كَانَ ينْتَظر الْعَالم الإسلامى من سَعْيهمْ
هَذَا هُوَ السَّبَب فِي خلط مسَائِل الْكَلَام بمذاهب الفلسفة فِي كتب الْمُتَأَخِّرين كَمَا ترَاهُ فِي كتب البيضاوى والعضد وَغَيرهم وَجمع عُلُوم نظرية شَتَّى وَجعلهَا جَمِيعًا علما وَاحِدًا والذهاب بمقدماته ومباحثه إِلَى مَا هُوَ أقرب إِلَى التَّقْلِيد من النّظر فَوقف الْعلم عَن التَّقَدُّم
ثمَّ جَاءَت فتن طلاب الْملك من الأجيال الْمُخْتَلفَة وتغلب الْجُهَّال على الْأَمر وفتكوا بِمَا بقى من أثر الْعلم النظرى النابع من عُيُون الدّين الإسلامى فانحرفت الطَّرِيق بسالكيها وَلم يعد بَين الناظرين فِي كتب السَّابِقين إِلَّا تحاور فِي الْأَلْفَاظ أَو تناظر فِي الأساليب على أَن ذَلِك فِي قَلِيل من الْكتب أختارها الضعْف وفضلها الْقُصُور
ثمَّ انتشرت الفوضى الْعَقْلِيَّة بَين الْمُسلمين تَحت حماية الجهلة من ساستهم فجَاء قوم ظنُّوا فِي أنفسهم مالم يعْتَرف بِهِ الْعلم لَهُم فوضعوا مالم يعد لِلْإِسْلَامِ قبل باحتماله غير أَنهم وجدوا من نقص المعارف أنصارا وَمن الْبعد عَن ينابيع الدّين أعوانا فشردوا بالعقول عَن مواطنها وتحكموا فِي التضليل والتكفير وغلوا فِي ذَلِك حَتَّى قلدوا بعض من سبق من الْأُمَم فِي دَعْوَى الْعَدَاوَة بَين الْعلم وَالدّين وَقَالُوا لما تصف ألسنتهم الْكَذِب هَذَا حَلَال وَهَذَا حرَام وَهَذَا كفر وَهَذَا إِسْلَام وَالدّين من وَرَاء مَا يتوهمون وَالله جلّ شَأْنه فَوق مَا يظنون وَمَا يصفونَ وَلَكِن مَاذَا أصَاب الْعَامَّة فِي عقائدهم ومصادر أَعْمَالهم من أنفسهم بعد طول الْخبط وَكَثْرَة الْخَلْط شَرّ عَظِيم وخطب عميم
هَذَا مُجمل من تَارِيخ هَذَا الْعلم ينبئك كَيفَ أسس على قَوَاعِد من الْكتاب الْمُبين وَكَيف عبثت بِهِ فِي نِهَايَة الْأَمر أيدى المفرقين حَتَّى خَرجُوا بِهِ عَن قَصده وبعدوا بِهِ عَن حَده
والذى علينا اعْتِقَاده أَن الدّين الإسلامى دين تَوْحِيد فِي العقائد لَا دين تَفْرِيق فِي الْقَوَاعِد الْعقل من أَشد أعوانه وَالنَّقْل من أقوى أَرْكَانه وَمَا وَرَاء
1 / 13
ذَلِك فنزغات شياطين وشهوات سلاطين وَالْقُرْآن شَاهد على كل بِعَمَلِهِ قَاض عَلَيْهِ فِي صَوَابه وخطله
الْغَايَة من هَذَا الْعلم الْقيام بغرض مجمع عَلَيْهِ وَهُوَ معرفَة الله تَعَالَى بصفاته الْوَاجِب ثُبُوتهَا لَهُ مَعَ تنزيهه عَمَّا يَسْتَحِيل اتصافه بِهِ والتصديق برسله على وَجه الْيَقِين الذى تطمئِن بِهِ النَّفس اعْتِمَادًا على الدَّلِيل لَا استرسالا مَعَ التَّقْلِيد حَسْبَمَا أرشدنا إِلَيْهِ الْكتاب فقد أَمر بِالنّظرِ وَاسْتِعْمَال الْعقل فِيمَا بَين أَيْدِينَا من ظواهر الْكَوْن وَمَا يُمكن النّفُوذ إِلَيْهِ من دقائقه تحصيلا لليقين بِمَا هدَانَا إِلَيْهِ ونهانا عَن التَّقْلِيد بِمَا حكى عَن أَحْوَال الْأُمَم فِي الْأَخْذ بِمَا عَلَيْهِ آباؤهم وتبشيع مَا كَانُوا عَلَيْهِ من ذَلِك واستتباعه لهدم معتقداتهم وإمحاء وجودهم الملى وَحقّ مَا قَالَ فَإِن التَّقْلِيد كَمَا يكون فِي الْحق يأتى فِي الْبَاطِل وكما يكون فِي النافع يحصل فِي الضار فَهُوَ مضلة يعْذر فِيهَا الْحَيَوَان وَلَا تجمل بِحَال الْإِنْسَان
أَقسَام الْمَعْلُوم
يقسمون الْمَعْلُوم إِلَى ثَلَاثَة أَقسَام مُمكن لذاته وواجب لذاته ومستحيل لذاته ويعرفون المستحيل بِمَا عَدمه لذاته من حَيْثُ هِيَ أما الْوَاجِب فَهُوَ مَا كَانَ يُوجد لموجد ويعدم لعدم سَبَب وجوده وَقد يعرض لَهُ الْوُجُوب والاستحالة لغيره وَإِطْلَاق الْمَعْلُوم على المستحيل ضرب من الْمجَاز فَإِن الْمَعْلُوم حَقِيقَة لَا بُد أَن يكون لَهُ كَون فِي الْوَاقِع ينطبق عَلَيْهِ الْعلم والمستحيل لَيْسَ من هَذَا الْقَبِيل كَمَا ترَاهُ فِي أَحْكَامه وَإِنَّمَا المُرَاد مَا يُمكن الحكم عَلَيْهِ وَإِن كَانَ فِي صُورَة يخترعها لَهُ الْعقل ليتوصل بهَا إِلَى الْحِكَايَة عَنهُ
حكم المستحيل
وَحكم المستحيل لذاته أَن لَا يطْرَأ عَلَيْهِ وجود فَإِن الْعَدَم من لَوَازِم ماهيته من حَيْثُ هى فَلَو طَرَأَ الْوُجُود عَلَيْهِ لسلب لَازم الْمَاهِيّة من حَيْثُ هِيَ
1 / 14
عَنْهَا وَهُوَ يُؤدى إِلَى سلب الْمَاهِيّة عَن نَفسهَا بالبداهة فالمستحيل لَا يُوجد فَهُوَ لَيْسَ بموجود قطعا بل لَا يُمكن لِلْعَقْلِ أَن يتَصَوَّر لَهُ مَاهِيَّة كائنة كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ فَهُوَ لَيْسَ بموجود لَا فى الْخَارِج وَلَا فِي الذِّهْن
أَحْكَام الْمُمكن
من أَحْكَام الْمُمكن لذاته أَن لَا يُوجد إِلَّا بِسَبَب وَأَن لَا يَنْعَدِم إِلَّا بِسَبَب وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا وَاحِد من الْأَمريْنِ لَهُ لذاته فنسبتهما إِلَى ذَاته على السوَاء فَإِن ثَبت لَهُ أَحدهمَا بِلَا سَبَب لزم رُجْحَان أحد المتساويين على الآخر بلامر جح وَهُوَ محَال بالبداهة
وَمن أَحْكَامه أَنه إِن وجد يكون حَادِثا لِأَنَّهُ قد ثَبت أَنه لَا يُوجد إِلَّا بِسَبَب فإمَّا أَن يتَقَدَّم وجوده على وجود سَببه أَو يقارنه أَو يكون بعده وَالْأول بَاطِل وَإِلَّا لزم تقدم الْمُحْتَاج على مَا إِلَيْهِ الْحَاجة وَهُوَ إبِْطَال لِمَعْنى الْحَاجة وَقد سبق الِاسْتِدْلَال على ثُبُوتهَا فيؤدى إِلَى خلاف الْمَفْرُوض والثانى كَذَلِك وَإِلَّا لزم تساويهما فِي رُتْبَة الْوُجُود فَيكون الحكم على أَحدهمَا بِأَنَّهُ أثر والثانى مُؤثر تَرْجِيحا بِلَا مُرَجّح وَهُوَ مِمَّا لَا يسوغه الْعقل على أَن عَلَيْهِ أَحدهمَا ومعلولية الآخر رُجْحَان بِلَا مُرَجّح وَهُوَ محَال بالبداهة فَتعين الثَّالِث وَهُوَ أَن يكون وجوده بعد وجود سَببه فَيكون مَسْبُوقا بِالْعدمِ فِي مرتبَة وجود السَّبَب فَيكون حَادِثا إِذْ الْحَادِث مَا سبق وجوده بِالْعدمِ فَكل مُمكن حَادث
الْمُمكن يحْتَاج فِي عَدمه إِلَى سَبَب وجودى لِأَنَّهُ الْعَدَم سلب وَالسَّلب لَا يحْتَاج إِلَى إِيجَاد بداهة فَيكون عدم الْمُمكن لعدم التَّأْثِير فِيهِ أَو لعدم مَا كَانَ سَببا فِي بَقَائِهِ أما فِي وجوده فَيحْتَاج إِلَى سَبَب وجودى ضَرُورَة لِأَن الْعَدَم لَا يكون مصدرا للوجود فالموجود إِن حدث فَإِنَّمَا يكون حُدُوثه بإيجاد وَذَلِكَ كُله بديهى
كَمَا يحْتَاج الْمُمكن إِلَى السَّبَب فِي وجوده ابْتِدَاء يحْتَاج إِلَيْهِ فِي الْبَقَاء لما بَينا أَن ذَات الْمُمكن لَا تقتضى الْوُجُود وَلَا يرجح لَهَا الْوُجُود عَن الْعَدَم إِلَّا للسبب
1 / 15
الخارجى الوجودى فَذَلِك لَازم من لَوَازِم مَاهِيَّة الْإِمْكَان لَا يفارقها من حَيْثُ هِيَ فَلَا يكون للممكن حَالَة يقتضى فِيهَا الْوُجُود لذاته فَيكون فِي جَمِيع أَحْوَاله مُحْتَاجا إِلَى مُرَجّح الْوُجُود عَن الْعَدَم لَا فرق بَين الِابْتِدَاء والبقاء
معنى السَّبَب على مَا ذكرنَا منشأ الإيجاد ومعطى الْوُجُود وَهُوَ الذى يعبر عَنهُ بالموجد وبالعلة الموجدة وبالعلة الفاعلة وبالفاعل الحقيقى وَنَحْو ذَلِك من الْعبارَات الَّتِى تخْتَلف مبانيها وَلَا تتباين مَعَانِيهَا وَقد يُطلق السَّبَب أَحْيَانًا على الشَّرْط أَو الْمعد الذى يهيء الْمُمكن لقبُول الإيجاد من موجده وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنى قد يحْتَاج إِلَيْهِ فِي الإبتدء ويستغنى عَنهُ فِي الْبَقَاء وَقد تكون الْحَاجة إِلَى وجوده ثمَّ عَدمه وَمن هَذَا الْقَبِيل وجود الْبناء فَإِنَّهُ شَرط فِي وجود الْبَيْت وَقد يَمُوت الْبناء وَيبقى بِنَاؤُه وَلَيْسَ الْبناء واهب الْوُجُود للبيت وَإِنَّمَا حركات يَدَيْهِ وحركات ذهنه وأطوار إِرَادَته شَرط لوُجُود الْبَيْت على هَيئته الْخَاصَّة بِهِ
وَبِالْجُمْلَةِ فيوجد فرق بَين توقف الْمُمكن على شىء وَبَين استفادته الْوُجُود من شىء فالتوقف قد يكون على وجود ثمَّ عدم كَمَا فِي توقف الخطوة الثَّانِيَة على الأولى فَإِن الأولى لَيست واهبة الْوُجُود للثَّانِيَة وَإِلَّا وَجب وجودهَا مَعهَا مَعَ أَن الثَّانِيَة لَا تُوجد إِلَّا إِذا انعدمت الأولى وَأما استفادة الْوُجُود فتقتضى سبق مَالك للوجود يُعْطِيهِ للمستفيد مِنْهُ وَأَن يكون وجود المستفيد مستمدا من وجود الْوَاهِب لَا يقوم إِلَّا بِهِ فَلَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ دونه فِي حَال من الْأَحْوَال
الْمُمكن مَوْجُود قطعا
نرى أَشْيَاء تُوجد بعد أَن لم تكن وَأُخْرَى تنعدم بعد أَن كَانَت كأشخاص النباتات والحيوانات فَهَذِهِ الكائنات إِمَّا مستحيلة أَو وَاجِبَة أَو مُمكنَة لَا سَبِيل إِلَى الأول لِأَن المستحيل لَا يطْرَأ عَلَيْهِ الْوُجُود وَلَا إِلَى الثانى لِأَن الْوَاجِب لَهُ الْوُجُود من ذَاته وَمَا بِالذَّاتِ لَا يَزُول فَلَا يطْرَأ عَلَيْهِ الْعَدَم وَلَا يسْبقهُ كَمَا سيجىء فِي أَحْكَام الْوَاجِب فهى مُمكنَة فالممكن مَوْجُود قطعا
1 / 16
وجود الْمُمكن يقتضى بِالضَّرُورَةِ وجود الْوَاجِب
جملَة الممكنات الْمَوْجُودَة مُمكنَة بداهة وكل مُمكن مُحْتَاج إِلَى سَبَب يُعْطِيهِ الْوُجُود فجمله الممكنات الْمَوْجُودَة محتاجة بِتَمَامِهَا إِلَى موجد لَهَا فإمَّا أَن يكون عينهَا وَهُوَ محَال لاستلزامه تقدم الشَّيْء على نَفسه وَإِمَّا أَن يكون جزأها وَهُوَ محَال لاستلزامه أَن يكون الشىء سَببا لنَفسِهِ وَلما سبقه إِن لم يكن الأول ولنفسه فَقَط إِن فرض أول وبطلانه ظَاهر فَوَجَبَ أَن يكون السَّبَب وَرَاء جملَة الممكنات وَالْمَوْجُود الذى لَيْسَ بممكن هُوَ الْوَاجِب إِذْ لَيْسَ وَرَاء الْمُمكن إِلَّا المستحيل وَالْوَاجِب والمستحيل لَا يُوجد فَيبقى الْوَاجِب فَثَبت أَن للممكنات الْمَوْجُودَة موجدا وَاجِب الْوُجُود
وَأَيْضًا الممكنات الْمَوْجُودَة سَوَاء كَانَت متناهية أَو غير متناهية قَائِمَة بِوُجُود فَذَلِك الْوُجُود إِمَّا أَن يكون مصدره ذَات الْإِمْكَان وماهيات الممكنات وَهُوَ بَاطِل لما سبق فِي أَحْكَام الْمُمكن من أَنه لَا شىء من الماهيات الممكنة بمقتض للوجود فَتعين أَن يكون مصدره سواهَا وَهُوَ الْوَاجِب بِالضَّرُورَةِ
أَحْكَام الْوَاجِب
الْقدَم والبقاء وَنفى التَّرْكِيب
من أَحْكَام الْوَاجِب أَن يكون قَدِيما أزليا لِأَنَّهُ لَو لم يكن كَذَلِك لَكَانَ حَادِثا والحادث مَا سبق وجوده بِالْعدمِ فَيكون وجوده مَسْبُوقا بِعَدَمِ وكل مَا سبق بِالْعدمِ يحْتَاج إِلَى عِلّة تعطيه الْوُجُود وَإِلَّا لزم رُجْحَان الْمَرْجُوح بِلَا سَبَب وَهُوَ محَال فَلَو لم يكن الْوَاجِب قَدِيما لَكَانَ مُحْتَاجا فِي وجوده إِلَى موجد غَيره وَقد سبق أَن الْوَاجِب مَا كَانَ وجوده لذاته فَلَا يكون مَا فرض وَاجِبا وَهُوَ تنَاقض محَال وَمن أَحْكَامه أَن يطْرَأ عَلَيْهِ عدم إِلَّا لزم سلب مَا هُوَ للذات عَنْهَا وَهُوَ يعود إِلَى سلب الشىء عَن نَفسه وَهُوَ محَال بالبداهة
من أَحْكَامه أَن لَا يكون مركبا إِذْ لَو تركب لتقدم وجود كل جُزْء من
1 / 17
أَجْزَائِهِ على وجود جملَته الَّتِى هى ذَاته وكل جُزْء من أَجْزَائِهِ غير ذَاته بِالضَّرُورَةِ فَيكون وجود جملَته مُحْتَاجا إِلَى وجود غَيره وَقد سبق أَن الْوَاجِب مَا كَانَ وجوده لذاته وَلِأَنَّهُ لَو تركب لَكَانَ الحكم لَهُ بالوجود مَوْقُوفا على الحكم بِوُجُود أَجْزَائِهِ وَقد قُلْنَا إِنَّه لذاته من حَيْثُ هِيَ ذَاته وَلِأَنَّهُ لَا مزجح لِأَن يكون الْوُجُوب لَهُ دون كل جُزْء من أَجْزَائِهِ بل يكون الْوُجُوب لَهَا أرجخ فَتكون هِيَ الْوَاجِبَة دونه نفى التَّرْكِيب فِي الْوَاجِب شَامِل لما يسمونه حَقِيقَة عقلية أَو خارجية فَلَا يُمكن لِلْعَقْلِ أَن يحاكى ذَات الْوَاجِب بمركب فَإِن الْأَجْزَاء الْعَقْلِيَّة لَا بُد لَهَا من منشأ انتزاع فِي الْخَارِج فَلَو تركبت الْحَقِيقَة الْعَقْلِيَّة لكَانَتْ الْحَقِيقَة مركبة فِي الْخَارِج وَإِلَّا كَانَ مَا فرض حَقِيقَة عقلية اعْتِبَارا كَاذِب الصدْق لَا حَقِيقَة
كَمَا لَا يكون الْوَاجِب مركبا لَا يكون قَابلا للْقِسْمَة فِي أحد الامتدادات الثَّلَاث أَي لَا يكون لَهُ امتداد لِأَنَّهُ لَو قبل الْقِسْمَة لعاد بهَا إِلَى غير وجوده الأول وَصَارَ إِلَى وجودات مُتعَدِّدَة وهى وجودات الْأَجْزَاء الْحَاصِلَة من الْقِسْمَة فكون ذَلِك قبولا للعدم أَو تركبا وَكِلَاهُمَا محَال كَمَا سبق
الْحَيَاة
معنى الْوُجُود وَإِن كَانَ بديهيا عِنْد الْعقل وَلكنه يتَمَثَّل لَهُ بالظهور ثمَّ الثَّبَات والاستقرار وَكَمَال الْوُجُود وقوته بِكَمَال هَذَا الْمَعْنى وقوته بالبداهة
كل مرتبَة من مَرَاتِب الْوُجُود تستتبع بِالضَّرُورَةِ من الصِّفَات الوجودية مَا هُوَ كَمَال لتِلْك الْمرتبَة فِي الْمَعْنى السَّابِق ذكره وَإِلَّا كَانَ الْوُجُود لمرتبة سواهَا وَقد فرض لَهَا مَا يتجلى للنَّفس من مثل الْوُجُود لَا ينْحَصر وأكمل مِثَال فِي أى مراتبه كَانَ مَقْرُونا بالنظام والكون على وَجه لَيْسَ فِيهِ خلل وَلَا تشويش فَإِن كَانَ ذَلِك النظام بِحَيْثُ يستتبع وجودا مستمرا وَإِن فِي النَّوْع كَانَ أدل على كَمَال الْمَعْنى الوجودى فى صَاحب الْمِثَال
1 / 18
فَإِن تجلت للنَّفس مرتبَة من مَرَاتِب الْوُجُود أَن تكون مصدرا لكل نظام كَانَ ذَلِك عنوانا على أَنَّهَا أكمل الْمَرَاتِب وأعلاها وأرفعها وأقواها
وجود الْوَاجِب هُوَ مصدر كل وجود مُمكن كَمَا قُلْنَا وَظهر بالبرهان الْقَاطِع فَهُوَ بِحكم ذَلِك أقوى الوجودات وأعلاها فَهُوَ يستتبع من الصِّفَات الوجودية مَا يلائم تِلْكَ الْمرتبَة الْعليا وكل مَا تصَوره الْعقل كمالا فِي الْوُجُود من حَيْثُ مَا يُحِيط بِهِ من معنى الثَّبَات والاستقرار والظهور وَأمكن أَن يكون لَهُ وَجب أَن يثبت لَهُ وَكَونه مصدرا للنظام وتصريف الْأَعْمَال على وَجه لَا اضْطِرَاب فِيهِ يعد من كَمَال الْوُجُود كَمَا ذكرنَا فَيجب أَن يكون ذَلِك ثَابتا لَهُ فالوجود الْوَاجِب يستتبع من الصِّفَات الوجودية الَّتِى تقتضيها هَذِه الْمرتبَة مَا يُمكن أَن يكون لَهُ
فمما يجب أَن يكون لَهُ صفة الْحَيَاة وهى صفة تستتبع الْعلم والإرادة وَذَلِكَ أَن الْحَيَاة مِمَّا يعْتَبر كمالا للوجود بداهة فَإِن الْحَيَاة مَعَ مَا يتبعهَا مصدر النظام وناموس الْحِكْمَة وهى فِي أى مراتبها مبدأ الظُّهُور والاستقرار فِي تِلْكَ الْمرتبَة فهى كَمَال وجودى وَيُمكن أَن يَتَّصِف بهَا الْوَاجِب وكل كَمَال وجودى يُمكن أَن يَتَّصِف بِهِ وَجب أَن يثبت لَهُ فَوَاجِب الْوُجُود حى وَإِن باينت حَيَاته الممكنات فَإِن مَا هُوَ كَمَال للوجود إِنَّمَا هُوَ مبدأ الْعلم والإرادة وَلَو لم تثبت لَهُ هَذِه الصّفة لَكَانَ فِي الممكنات فَإِن مَا هُوَ كَمَال للوجود إِنَّمَا هُوَ مبدأ الْعلم والإرادة وَلَو لم تثبت لَهُ هَذِه الصّفة لَكَانَ فِي الممكنات مَا هُوَ أكمل مِنْهُ وجودا وَقد تقدم أَنه أَعلَى الموجودات وأكملها فِيهِ
وَالْوَاجِب هُوَ واهب الْوُجُود وَمَا يتبعهُ فَكيف لَو كَانَ فاقدا للحياة يُعْطِيهَا فالحياة لَهُ كَمَا أَنه مصدرها
الْعلم
وَمِمَّا يجب لَهُ صفة الْعلم وَيُرَاد بِهِ مَا بِهِ انكشاف شىء عِنْد من ثبتَتْ لَهُ تِلْكَ الصّفة أى مصدر ذَلِك الانكشاف مِنْهُ لِأَن الْعلم من الصِّفَات الوجودية الَّتِى تعد كمالا فِي الْوُجُود وَيُمكن أَن تكون للْوَاجِب وكل مَا كَانَ كَذَلِك وَجب أَن يثبت لَهُ فَوَاجِب الْوُجُود عَالم
1 / 19
ثمَّ البداهة قاضية بِأَن الْعلم كَمَال فِي الموجودات الممكنة وَمن الممكنات من هُوَ عَالم فَلَو لم يكن الْوَاجِب عَالما لَكَانَ فِي الموجودات الممكنة مَا هُوَ أكمل من الْمَوْجُود الْوَاجِب وَهُوَ محَال كَمَا قدمنَا ثمَّ هُوَ واهب الْعلم فِي عَالم الْإِمْكَان وَلَا يعقل أَن مصدر الْعلم يفقده
علم الْوَاجِب من لَوَازِم وجوده كَمَا ترى فيعلو على الْعُلُوم علو وجوده عَن الوجودات فَلَا يتَصَوَّر فِي الْعُلُوم مَا هُوَ أَعلَى مِنْهُ فَيكون محيطا بِكُل مَا يُمكن علمه وَإِلَّا تصور الْعقل علما اشمل وَهُوَ إِنَّمَا يكون لوُجُود أكمل وَهُوَ محَال
مَا هُوَ لَازم لوُجُود الْوَاجِب يغنى بغناه وَيبقى بِبَقَائِهِ وَعلم الْوَاجِب من لَوَازِم وجوده فَلَا يفْتَقر إِلَى شَيْء مَا وَرَاء ذَاته فَهُوَ أزلى أبدى غنى عَن الْآلَات وجولات الْفِكر وأفاعيل النّظر فيخالف عُلُوم الممكنات بِالضَّرُورَةِ
مَا يُوجد من الممكنات فَهُوَ مُوَافق لما انْكَشَفَ بذلك الْعلم وَإِلَّا لم يكن علما
من أَدِلَّة ثُبُوت الْعلم للْوَاجِب مَا نشاهده فِي نظام الممكنات من الإحكام والإتقان وَوضع كل شىء فِي مَوْضِعه وَقرن كل مُمكن بِمَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي وجوده وبقائه وَذَلِكَ ظَاهر لجلى النّظر بِمَا يُشَاهد فِي الْأَعْيَان كبيرها وصغيرها علويها وسفليها فَهَذِهِ الروابط بَين الْكَوَاكِب وَالنّسب الثَّابِتَة بَينهَا وتقديرحركاتها على قَاعِدَة تكفل لَهَا الْبَقَاء على الْوَضع الذى قدر لَهَا وإلزام كل كَوْكَب بمدار لَو خرج مِنْهُ لاختل نظام عالمه أَو الْعَالم بأسره وَغير ذَلِك مِمَّا فصل فِي عُلُوم الْهَيْئَة الفلكية كل ذَلِك يشْهد بِعلم صانعه وَحِكْمَة مُدبرَة
اعْتبر بِمَا ترَاهُ جزئيات النباتات والحيوانات من توفيتها قواها وإيتائها مَا تحْتَاج إِلَيْهِ فِي تَقْوِيم وجودهَا من الْآلَات والأعضاء وَوضع ذَلِك فِي موَاضعه من أبدانها وإيداع غير الحساس مِنْهَا كالنبات قُوَّة الْميل إِلَى تنَاول مَا يُنَاسِبه من الْغذَاء دون مَا يلائمه فترى بزْرَة الحنظل تدفن بجوار حَبَّة الْبِطِّيخ فِي أَرض وَاحِدَة ثمَّ تسقى بِمَاء وَاجِد وتنمى بعناية وَاحِدَة وَلَكِن تِلْكَ تمتص من الْموَاد مَا يغذى المر الزعاق وَهَذِه تتَنَاوَل مَا يغذى حُلْو المذاق وإرشاد الحساس مِنْهَا
1 / 20
إِلَى اسْتِعْمَال مَا منح من تِلْكَ الأدوات والأعضاء وسوق كل قُوَّة من قواه إِلَى مَا قدرت لَهُ فَهُوَ الذى يعلم حَالَة الْجَنِين وَهُوَ نُطْفَة أَو علقَة وَيعلم حَاجته مَتى تَكَامل خلقه وأنشأه نشأة الحى المستقل فى عمله إِلَى الأيدى والأرجل والأعين والمشام والآذان وَبَقِيَّة المشاعر الْبَاطِنَة ليستعمل ذَلِك فِيمَا يُقيم وجوده وَبَقِيَّة من العوادى عَلَيْهِ وَحَاجته إِلَى الْمعدة وَالْقلب والكبد والرئة وَنَحْوهَا من الْأَعْضَاء الَّتِى لَا غنى عَنْهَا فِي النمو والبقاء إِلَى الْأَجَل الْمَحْدُود للشَّخْص أَو للنوع
هُوَ الذى يعلم حَالَة الجروة من الْكلاب مثلا وَأَنَّهَا مَتى كَبرت تَلد أَجزَاء مُتعَدِّدَة فيمنحها أطباء متكثرة وَغير ذَلِك مِمَّا لَا يُسْتَطَاع إحصاؤه وَقد فصل الْكثير مِنْهُ فِي كتب النباتات وحياة الْحَيَوَان وَمَا يُسمى التَّارِيخ الطبيعى وفنون مَنَافِع الْأَعْضَاء والطب وَمَا يتبعهُ على أَن الباحثين فِي كل ذَلِك بعد مَا بذلوا من الْجهد وماصرفوا من الهمم وَمَا كشفوا من الْأَسْرَار لم يزَالُوا فِي أول الْبَحْث
هَذَا الصَّنِيع الذى إِنَّمَا تتفاضل الْعُقُول فى فهم أسراره وَالْوُقُوف على دقائق حكمه أَلا يدل على أَن مصدره هُوَ الْعَالم بِكُل شىء الذى أعْطى كل شىء خلقه ثمَّ هدى هَل يُمكن لمُجَرّد الِاتِّفَاق الْمُسَمّى بِالصَّدَقَةِ أَن يكون ينبوعا لهَذَا النظام وواضعا لتِلْك الْقَوَاعِد الَّتِى يقوم عَلَيْهَا وجود الأكوان عظيمها وحقيرها كلا بل مبدع ذَلِك كُله هُوَ من لَا يعزب عَن علمه مِثْقَال ذرة فِي الأَرْض وَلَا فى السَّمَاء وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم
الْإِرَادَة
مِمَّا يجب لواجب الْوُجُود الْإِرَادَة وهى صفة تخصص فعل الْعَالم بِأحد وجوهه الممكنة
بعد مَا ثَبت أَن واهب وجود الممكنات هُوَ الْوَاجِب وَأَنه عَالم وَأَن مَا يُوجد من الْمُمكن لَا بُد أَن يكون على وفْق علمه ثَبت بِالضَّرُورَةِ أَنه مُرِيد لِأَنَّهُ إِنَّمَا يفعل على حسب علمه ثمَّ إِن كل مَوْجُود فَهُوَ على قدر مَخْصُوص وَصفَة مُعينَة
1 / 21
وَله وَقت وَمَكَان محدودان وَهَذِه وُجُوه قد خصصت لَهُ دون بَقِيَّة الْوُجُوه الممكنة وتخصيصها كَانَ على وفْق الْعلم بِالضَّرُورَةِ وَلَا معنى للإرادة إِلَّا هَذَا
أما مَا يعرف من معنى الْإِرَادَة وَهُوَ مَا بِهِ يَصح للْفَاعِل أَن ينفذ مَا قَصده وَأَن يرجع عَنهُ فَذَلِك محَال فى جَانب الْوَاجِب فَإِن هَذَا الْمَعْنى من الهموم الكونية والعزائم الْقَابِلَة للْفَسْخ وهى من تَوَابِع النَّقْص فِي الْعلم فتتغير على حسب تغير الحكم وَتردد الْفَاعِل بَين البواعث على الْفِعْل وَالتّرْك
الْقُدْرَة
وَمِمَّا يجب لَهُ الْقُدْرَة وهى صفة بهَا الإيجاد والإعدام وَلما كَانَ الْوَاجِب هُوَ مبدع الكائنات على مُقْتَضى علمه وإرادته فَلَا ريب يكون قَادِرًا بالبداهة لِأَن فعل الْعَالم المريد فِيمَا علم وَأَرَادَ إِنَّمَا يكون بسلطة لَهُ على الْفِعْل وَلَا معنى للقدرة إِلَّا هَذَا السُّلْطَان
الإختيار
ثُبُوت هَذِه الصِّفَات الثَّلَاث يسْتَلْزم بِالضَّرُورَةِ ثُبُوت الأختيار إِذْ لَا معنى لَهُ إِلَّا إصدار الْأَثر بِالْقُدْرَةِ على مُقْتَضى الْعلم وعَلى حكم الْإِرَادَة فَهُوَ الْفَاعِل الْمُخْتَار لَيْسَ من أَفعاله وَلَا من تصرفه فِي خلقه مَا يصدر عَنهُ بالعلية الْمَحْضَة والاستلزام الوجودى بِدُونِ شُعُور وَلَا إِرَادَة وَلَيْسَ من مصَالح الْكَوْن مَا يلْزمه مراعاته لُزُوم تَكْلِيف بِحَيْثُ لَو لم لم يراعه لتوجه عَلَيْهِ النَّقْد فيأتيه تنزها عَن اللائمة تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وَلَكِن نظام الْكَوْن ومصالحه الْعُظْمَى إِنَّمَا تقررت لَهُ بِحكم أَنه أثر الْوُجُود الْوَاجِب الذى هُوَ أكمل الوجودات وأرفعها فالكمال فِي الْكَوْن إِنَّمَا هُوَ تَابع لكَمَال المكون وإتقان الإبداع إِنَّمَا هُوَ مظهر لسمو مرتبَة الْمُبْدع وَبِهَذَا الْوُجُود الْبَالِغ أَعلَى غايات النظام تعلق الْعلم الشَّامِل والإرادة الْمُطلقَة فصدر ويصدر على هَذَا النمط الرفيع
1 / 22