وأعني بالتجريد استعمال خصائص العقل بدون الاستعانة بالمرئيات، أو بعبارة أخرى: «التعقل
Intellect » المبني على مجرد ربط الأفكار منطقيا.
ومما تقرر في هذا الباب أن الإنسان لم يمكن ظهور خاصية التجريد فيه إلا في أثناء التطور البشري لا في أوله.
ففي الإنسان الأول إذن كان التجريد موجودا، ولكنه قليل وضيق الحدود، ولم يكن تجريدا عقليا بمعنى الكلمة، بل كان تجريدا عاطفيا
Emotion ، وكان لصيقا لا ينفصل عن المرئيات، وزيادة على ذلك فقد كان هذا التجريد العاطفي ضيق النطاق جدا، بحيث لم يكن يتعدى التقديس والخوف، وتوضيحا لذلك أنقل ما قاله «ليفي برول» بالحرف الواحد في وصف العقلية الإنسانية البدائية: «كانت هذه العقلية غير متميزة التفاصيل، بحيث لم تستطع أن تتبين المرئيات لنفسها، قائمة بذاتها بدون أن تغمرها الإحساسات التي استثارتها هذه المرئيات، والواقع أن هذه الإحساسات والانفعالات، جزء من تلك العقلية من المرئيات والأشياء.»
ويمكن إيجاز تطور الوعي في أنه «محاولة» تطليق العنصر العاطفي، من العنصر الواقعي، وبعبارة أخرى: محاولة «لتصفية» ما هو مختلط، وإيجاد «خانات» تتميز فيها المحتويات التي وراءها، ومن ثم اخترعت الحروف الأبجدية «كرموز » لما وراءها، ويمكن أن ندعو هذه الرموز بدلالات
Concepts ، لما خلفها من المحتويات
Contents .
ثم تتطور المسألة إلى الدور الثاني وهو أن هذه «الرموز
Symbols » تؤخذ لذاتها، وتستعمل في التجريد العنصري بقطع النظر عما يخالف المحتويات التي دلت عليها.
صفحة غير معروفة