ولكن أصحاب هذا المذهب حصروا أنفسهم في دائرة ضيقة ظلوا يدورون حولها حتى استنفدوا قواهم فهلكوا فيها، على أن «إليوت» و«سبندر» و«لويس»، وهم من شعراء العصر الحاضر، ظلوا يتبعون طريقة التصوير والتركيز والضغط حتى بعد اندثار مدرسة الصوريين، ولكنهم نحوا في ذلك بطبيعة الحال نحوا جديدا، وكان مما يدعو إليه المذهب الصوري اختيار اللفظ الموحي للتعبير عن المعنى، ويرجع ذلك إلى اعتقاد أصحاب ذلك المذهب أن المعنى المحدد للفظة ما يفقدها قوتها، وأن جمال الموسيقى الشعرية لا يكون إلا في غموض المعنى الصوتي للألحان، فكلما ألقت اللفظة ظلا من الغموض اكتسبت قوة وجمالا، وذلك لأنها تفتح لقارئها آفاقا مبهمة تتسع للتأمل!
ولا يغرب عن البال أن شعر «شكسبير» كان غنيا بالصور حتى إن الصوريين عجزوا عن اللحاق به في هذا المضمار، ولكن غزارة مادته حالت بينه وبين الضغط والتركيز، وقد جاء شعر «شيللي» كذلك على غرار ما دعا إليه المذهب الصوري، وكانت صوره من الكثرة بحيث تبهر البصر كالمرايا المتكسرة في طريق تنعكس عليه أشعة الشمس، ولكن المدرسة الشعرية الجديدة في «إنجلترا» وجهت اللفظ توجيها سيكولوجيا جديدا. وتفسير ذلك أن الكلمة عند «شكسبير» و«شيللي» والصوريين كانت كلمة واضحة تؤدي معناها مباشرة وتعني ما تقول، أو بعبارة أخرى: كانت تصدر عن العقل الواعي لتخلق صورة محددة أو عدة صور.
أما المدرسة الشعرية المشار إليها فقد اتجهت إلى تحديد التجربة الشعرية، وتحديد العلاقة بين العقل الواعي والعقل الباطن، وتحديد مهمة العقل الباطن في الأدب، واستغلال إمكانيات العقل الباطن، وبناء الشعر الحديث على الطريقة المسماة التداعي الحر
Free Associations ، وتقوم هذه الطريقة الأخيرة على الاسترسال وراء الكلمات؛ أي إن كل كلمة تجر الكلمة التي تليها حتى تنتظم القصيدة بأكملها، فإذا أعمل فيها القارئ فكره، وجد نفسه يموج في عالم لجب من المعاني والصور، وقد قال الشاعر الفرنسي «مالارميه» بمثل هذا حين زعم أن قيمة اللفظ تنحصر في خلق جو غامض يستر وراءه وضوحا عليك أنت أن تستجليه بخيالك!
والذي يعاب على هذا المذهب أنه ممعن في الذاتية ؛ أي إن الشاعر يعبر عن قرارة ذاته، ويتصيد أوهامه الغامضة محتفظا بمفاتيح أسرارها ويدع الناس يتخبطون وراء معانيه كيف شاءوا، ويختار كل منهم التفسير الذي يلائمه.
وإذا طوينا كشحا عن الانحرافات الأدبية الناشئة عن الويلات التي عانتها الإنسانية بعد كل من الحربين الكبيرتين الأخيرتين، فإننا نستطيع أن نكرر ما قلناه من أن الطابع العلمي هو طابع الشعر الجديد الذي عمد إلى مجاراة الحياة والأحياء، فأما مجاراته للحياة ففي طريق تأثره بها وتأثيره فيها وامتلائه بالحيوية الدافقة. وأما مجاراته للأحياء ففي طريق مشاركتهم في مشاعرهم، والتفاهم معهم ومخاطبتهم بلغتهم، فإن ازور عنهم ونبذهم ازوروا عنه ونبذوه.
نعم، يحرض الشعر في هذا العصر على أن يكون واضحا مفهوما حتى لذوي الثقافة الضحلة.
وقد كان الشاعر فيما مضى يصف الذهول مثلا، فيقول: إنه إغراق في الشرود، أو يقول شيئا شبيها بذلك، ولكن الشاعر المعاصر «سبندر» يقول عنه: «كنت ذاهلا كمريض مبنج على مائدة العمليات الجراحية.»
ثم إن الشاعر الحديث لا يتورع عن استعمال الكلمات المتداولة التي كان الشعر يترفع فيما مضى عنها، حريصا على تخير الألفاظ الشريفة الأنيقة، ويرجع سبب هذا التغير إلى أن اللفظ لا يتخير الآن لذاته أو لحسن السبك وفخامة الديباجة، ولكنه يتخير لأداء المعنى على أدق وجه وأوضحه، مع مراعاة تناسقه مع المعنى والموسيقى الشعرية، وهذا يتمشى مع نزول الشعر إلى الواقعية في بساطتها وصدقها.
رسالة الأخلاق
صفحة غير معروفة