- 6 - رسالة البيان عن حقيقة الإيمان
كتب بها رضي الله عنه إلى أبي أحمد عبد الرحمن بن خلف المعافري الطليطلي المعروف بابن الحوات ( 1 ) ، رضي الله عنه
[ 190 ب ] بسم الله الرحمن الرحيم ، وبه نستعين ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله قال الفقيه الحافظ أبو محمد علي بن حزم رضي الله عنه :
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد خاتم النبيين ، وعلى آله الطيبين ، وأزواجه أمهات المؤمنين ، وذريته الفاضلين ، وسلم تسليما كثيرا وبعد ، فإنه وردني يا سيدي وأخي كتابك ، أكرم كتب الأحبة في الله عز وجل ، وحمدت الله تعالى عز وجل على ما أدى إليه من صلاح حالك . وأورد علي صاحبنا أبو عبد الله محمد بن الحسن ( 2 ) - أكرمه الله - من خبرك ما أبهجني ، وملأ نفسي سرورا ، فلن تزال الدنيا بخير ، ما دام مثلك مرفوع اللواء ، معمور الفناء ، وحمدت الله عز وجل على ما ذكرته فيه من حسن معتقدك لي ، فهذا الذي يلزم بعضنا لبعض ، فنحن غرباء بين المتعصبين على من سلم لهم دنياهم ، ليسلم له دينه ، ووقفت على قولك فيه : إنه لولا خوف المشغبين ، وما دهينا ( 3 ) به من ترؤس الجاهلين ، لكتبت أقوالك ومذاهبك وبثثتها
صفحة ١٨٧
في العالم ، وناديت عليها كما ينادى على السلع.
1 - فاعلم يا أخي - وفقنا الله وإياك - أن خوفك المشغبين لا يكف عنك غرب أذاهم ، لو قدروا لك على مضرة ، وان كشفك الحق وصدعك به لا يقدم إليك مؤخرا عنك أتخشون الناس { فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين } ( التوبة : 13 ) . يقول الواحد الأول خالقنا لا إله إلا هو { فلا تخافوهم وخافون } ( آل عمران : 175 ) .
2 - يا أخي : اجتهد لربك ، وادع إليه وخفه في الناس ، يكفك الله تعالى أمرهم ، ولا تخفهم فيه ، فيدعك وإياهم ، وأعوذ بالله ، قد سبق ، قد سبق القضاء بما هو كائن فلن يرده حيلة محتال ، وكائن بالموت قد نزل ، فتركت ( 1 ) من تداريهم مسرورين بذهابك ، لا ينفعونك بنافعة . واذكر قول نبيك محمد عليه السلام لعلي رضي الله عنه ( 2 ) ' لأن [ 91 / أ ] يهدي الله بهداك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم ' .
3 - ولقد أضحكني قولك : إنك علمت من مذهبي أني أفصح بكل من قال مقالة ، فخشيت ان أفصح باسمك فيما لم تقله ، فمعاذ الله أن أفصح عنك أو عن غيرك ، إلا باليقين المحض ، وأما إذا علمت أن الأخ من إخواني يكره أن أفصح عنه بمقالة يقولها ، فهي مدفونة خلال الشغاف ، لا سبيل إلى تحريك لساني بها بيني وبين نفسي ، بحيث يمكن أن يسمعني سامع ، فكيف أن أبثها وأما أنا فلست أكره أن تبث عني ما أقوله على حسبه .
4 - وأما قولك : أما تقصد إلى ، إلى أن لا يؤثر عنك قول إلا حتى تستخير الله تعالى فيه كثيرا ، وتصحح نيتك في ذلك ، فحسن جدا وحال لا ينبغي لأحد تعديها ( 3 ) .
5 - وأما قولك : حتى إذا بلغت إلى حد الحسبة والصبر ، إن كانت محنة ، تناولت الأوكد فالأوكد ، فحالة أريد ألا تتصورها ولا تتمثلها فإنها مبخلة مجبنة ؛ وتذكر قول العامة : فلان يحب الشهادة والرجوع إلى البيت ؛ مع أني أرجو الكفاية من الله عز وجل والحماية ؛ واذكر قوله ووعده الصادق المضمون عندي إذ يقول
صفحة ١٨٨
تعالى { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز } ( الحج : 40 ) . والله يا أخي ، ولله الحمد ، لقد حماني تعالى ، وما اعدمني قط من مخالفي مقالتي من يذود عني ويذب عن حوزتي أشد الذب ، وإني لأدعو الله لهم مدى عمري . أولهم القاضي أبو المطرف عبد الرحمن بن أحمد بن بشر ( 1 ) وأبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الرؤوف ( 2 ) [ صاحب ] الأحكام ( 3 ) - نور الله وجهيهما ، وجازاهما بأفضل سعيهما ، فلقد قام لي منهما ما يقوم من الأخوين المحبين . ثم أبو العاصي حكم بن سعيد ( 4 ) ، غفر الله ذنبه ، وتغمد خطاياه ، وقارضه بالحسنى فإنه أبلى في جانبي أتم بلاء ؛ وما قصر يونس بن عبد الله بن مغيث شيخنا ( 5 ) نضر الله وجهه ، واكرم منقلبه ولقد [ 91 ب ] بلغ أبو جعفر أحمد بن عباس ( 6 ) من ذلك الغاية القصوى ، واستئثار الأجر الجزيل والذكر الجميل . برد الله مضجعه ، ولقاه الروح والريحان ؛ ثم الكاتب الفاضل ذو المآثر العالية والفضائل السامية والأعمال الزاكية والسعي المحمود ، أبو العباس
صفحة ١٨٩
المشغوف بالعلم وتقديم الحسنات كشغف غيره بالأموال واللذات ، صديقك ومحبك ومؤثرك ، لا زالت عليه من الله واقية في دنياه ، فلقد هيأه ويسره لمنافع عباده ، وأجرى الصالحات على يده كثيرا ، وألحقه إذا دعاه بنبيه في أعلى عليين ، آمين . وبالله المستعان ، وعليه الاتكال .
6 - أما قولك : إنك تتناول في خلال ما تتناول بضروب من السياسة فحسن جدا ، جعلنا الله وإياك من الداعين إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة .
7 - ومن اعجب ما مر بي منذ دهر قولك في كتابك : إنه بلغك عني أني أقول عنك إنك تقول : لا إدام إلا الخل ؛ من أجل حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ' نعم الإدام الخل ' ( 1 ) . فاعلم - يا أخي - انه قد ساءني هذا جدا أن أكون عندك بهذا المحل ، وأقل ما أقول لك : والله الذي لا أقسم بسواه - ولو علمت أعظم من هذا القسم لأقسمت به لك ، وأعوذ بالله أن أعتقد في العالم قسما غيره ، فكيف مثله ، فكيف أشد منه - إن كنت قط سمعت هذه المقالة من أحد من خلق الله تعالى يحيكها لي عنك ، ولا رأيتها عنك في كتاب ، ولا طنت على أذني حتى رأيتها في كتابك ، فكيف أن أحكيها عنك ، فأستجيز الكذب البحت عليك ! حاشا الله من هذا . وليس هذا النص من دليل الخطاب ، إنما كان يمكن أن يتأول على من يقول بدليل الخطاب : لا نعم الإدام إلا الخل . وأما القطع بان لا إدام غيره ، فليست هذه القضية مقتضية هذه الاخرى ؛ فبالله ما أعرضت عن كل شرير يريد أن يسمع الناس سبهم على ألسنة [ 92 / أ ] غيرهم .
8 - ورأيت المدرجة ووقفت عليها . أسأل الله أن يجعلنا وإياك ممن يستمع القرآن والقول فيتبع احسنه ، والجملة التي أوردت من قولي فيها فهو قولي أيضا . وكذلك وقفت على الفصول التي ذكرتني بها ، أحسن الله جزاءك على ذلك ، فهكذا تكون الناس .
9 - أولها قولك : انظر هل فرض الله تعالى النظر أم لا ( 2 ) فجوابي إنه لم يفترض قط في التوحيد وصحة النبوة وجميع الشرائع ، النظر ؛ بل إنما افترض في كل ذلك اتباع رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فقط . ولو فرضه الله تعالى فيها ، ما جاز قبولها
صفحة ١٩٠
من أحد حتى يقرر على الوجه الذي صح به عنده التوحيد والشريعة كلها . فتثبت يا أخي ها هنا ، فإن نظري ونظرك لا يحكمان على ميراث الأمة عن نبيها صلى الله عليه وسلم ؛ وإنما افترض على الناس في الشرائع كلها شيئا واحدا وهو الائتمار لما جاء به الوحي من عند الله تعالى فقط . فهذا الوجه خاصة ، هو الذي افترض على الناس عقده ، والقول به ، والعمل . وأما طرق الاستدلال التي عني بها المتكلمون فما افترضها الله تعالى قط على أحد . وأقول قولة أقدم لك فيها مقدمة تصلح بعض ما يمكن أن ينكره منكر من قولي وهي : إني أريد [ أن ] أقول قولا يعيذني الله من أن أقوله مفتخرا أو ممتدحا ، لكن سياق الكلام والحجة أوجب أن أقوله وهو : إني ولله الحمد لست بمبخوس الحظ من هذا العلم ، اعني علم أهل الكلام وطريقهم في الاستدلال ( 1 ) فيظن ظان أني إنما قلت ما قلت عداوة لعلم جهلته ، لا ، ولكن الحق لا يجوز أن يتعدى . وأما قول الله تعالى { أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق من شيء } ( الأعراف : 185 ) وقوله { أو لم يتفكروا } وقوله { أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي ، أفلا يؤمنون } ( الأنبياء : 30 ) الآية ، [ 92 ب ] وسائر الآيات التي في معنى هذا ، فإنك يا أخي إن تدبرتها ، كفينا التعب ؛ وهي أنها كلها بلفظ الحض لا بلفظ الأمر ، وهذا قولي نفسه ، وأما الأمر بالاعتبار فليس من هذا الباب ، إنما هو الأمر بالاتعاظ بمن هلك ممن عصى الله تعالى فيخاف العاصي له عز وجل مثل ذلك فقط ، وليس شيء من هذا يوجب انه لا يصح لأحد اسم التوحيد وحكمه عند الله تعالى إلا بأن يكون اعتقاده إياه من طريق الاستدلال .
10 - وأما قولك : انظر الأدلة المحرمة للتقليد ( 2 ) فأنا أريد أن تتفقد وان تتدبر كلامي ، فإنك تجده صفرا من مدح التقليد ، ومملوءا من ذمه ؛ وليس في قولي إن من اتفق له معرفة الحق بمعنى اعتقاده من جهة التقليد فإنه من أهل الحق عند الله تعالى
صفحة ١٩١
وإن كان مذموما في تقليده لا في اعتقاده الحق ، ما يوجب علي أني أبيح التقليد ، وأنا لم أبحه قط ، لا في التوحيد ولا في غيره . إنما هو عندي كإنسان خرج ليسرق فأتفق له أن وجد متاعا له قد كان سرق منه فأخذه : هو مصيب في اعتقاده الحق ، مسيء في تقليده ، وتأمل القرآن كله لا تجد فيه إلا الحض على البحث لا على إيجابه ألبتة ، وإنما تجد فيه ذم التقليد إذا وافق الباطل فقط ، فهنالك ذم الله تعالى اتباع الآباء والسادة والكبراء والأحبار ، وهنا ذمه الله على كل حال . وأما إذا وافق الحق فقد قال الله عز وجل { والذين آمنوا واتبعناهم ذرياتهم بإيمان ، ألحقنا بهم ذرياتهم } ( الطور : 21 ) ، وأمر الله تعالى باتباع ما اجمع عليه أولو الأمر منا بخلاف أولي إذا اختلفوا ، فبهذا جاءت النصوص ولا مدخل للنظر على ما جاء به كلام الله تعالى . ( 1 )
11 - وأما قولك لي أن النظر ما في الفطرة من خطأ الاقتصار على الدعوى ، فلم أحمد ذلك أصلا ، ولا أمرت به ، وإنما قلت وأقول إن [ 93 / أ ] المقلد مذموم في تقليده ، فإن أصاب الحق بتوفيق الله عز وجل له إليه ، فهو من أهل الحق ، وإن حصل عليه بطريق غرر ، وهما عملان متغايران ، وفق في أحدهما ولم يحمد ( 2 ) في الآخر . وهذا جواب قولك لي : إذ كل قائل مدع ، فيجب أن لا يؤخذ بقول أحد من المختلفين والقائلين أو يؤخذ بقول جميعهم وكلا الأمرين خطأ . فتأمل يا أخي ، إنك ألزمتني ما لا يلزمني وأنا لم آمر قط بالتقليد : فاضبط عني : إنما قلت التقليد مذموم فإن أدى إلى باطل فصاحبه إما كافر إذا وافق كفرا ، وإما فاسق إذا وافق خطأ في الشريعة ، وإما مخطئ فيه إذا وافق الصواب بالبخت ( 3 ) ، ولم أقل قط إنه واجب ، أو يؤخذ بقول مدع ، ولا أنه جائز فضلا عن أن يكون واجبا ، ولا أنه ممكن أيضا ؛ ولا قلت قط إنه جائز أن يؤخذ فيقول قائلا ما بلا دليل ، فكيف أن أوجبه ! لكن قلت إن القول بالحق واجب لأنه حق .
12 - وأما قولك لي : فكان عندك جائزا أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم : قلدوني في قولي ، فجوابي إنه عليه السلام لم يقله ، ولو قاله لواجب ولكنه لم يقله ، لكن قال : قولوا لا إله إلا الله وإني رسول الله ، فهذا واجب بيقين عند الله تعالى وعند
صفحة ١٩٢
كل مسلم . ولم يقل عليه السلام قط ، ولا أحد من الخلفاء بعده ، إنه لا يلزمكم هذا القول أن تقولوه إلا حتى تستدلوا وتناظروا وتعرفوا الجوهر من العرض ، ومعاذ الله أن يكون هذا واجبا ويغفله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتتفق الأمة الفاضلة كلها على إبطاله وإغفاله ، حتى جاءت المعتزلة والأشعرية ( 1 ) ، وهما الطائفتان المعروف ( 2 ) قدرهما عند المسلمين . فها هنا قف يا أخي وقفة ، وتأمله بقلب سليم ، فإنه أظهر من كل ظاهر .
13 - وأما قولك لي : لو جاز أن يقلد لجاز أن يقلد غيره ، فهذا لا يلزمني لأنه الحق ، وغيره [ 93 ب ] هو المبطل الباطل . فمن سكنت نفسه إلى قوله عليه السلام ، ولم تنازعه إلى دليل وقبله وقاله ، فقد وفق للخير والهدى ؛ ومن نازعته نفسه ولم تقنع إلا ببرهان ، فهذا هو الذي يلزمه النظر والاستدلال ، ويلزمنا البيان له والمحاجة والمجادلة بالتي هي أحسن ، وإقامة البرهان عليه . وهكذا فعل عليه السلام ، فإنه قبل الإسلام ممن أسلم بلا اعتراض ، ومن حاجة أتاه بالآيات ، ودعاه إلى المباهلة وتمني الموت وأقام عليه حجة البرهان الواضح . فتأمل هذا تجده كما أقول لك ، ودع عنك بالله حماقات أهل السفسطة المسخرين لحماقات كتب ابن فورك ( 3 ) والباقلاني ( 4 ) ، وما هنالك ، فما سرني انتساخك لكتابه المعروف ' بالدقائق ' وستقف عليه إن شاء الله تعالى وتتدبره ، فلتعلم أن الكاغد مخسور في نسخه ، بل المداد على تفاهة قدره .
14 - وأما قولك : أما الرسول فلا تجب طاعته إلا بعد معرفة الله ضرورة ، إذ من جهل ( 5 ) المرسل وقدره ، وما يلزم من طاعتهن لم يلزمه اتباع مرسله ولا طاعته ، هذا
صفحة ١٩٣
ما لم يدفعه عقل ، فمعرفة الله مقدمة على معرفة رسله ، هنا انتهى قولك . وهذا قول يجب أن تتأمله ، فليس على ما ذكرت ، ولا كانت معرفة الله واجبة قبل الرسل . قال الله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } ( الإسراء : 15 ) . فإذا سقط العذاب ( 1 ) عن كل من لم يأته رسول بنص كلام الله تعالى ، بيقين ندري أن كل ما لا يعذب الله تعالى عليه ولا ينكره فليس واجبا بل إنما وجبت على الناس معرفة الله بدعاء الرسل عليهم السلام ، إليه تعالى فقط ، لا قبل ذلك . يا أخي قولك في وجوب معرفة الله تعالى قبل الرسل ، والوجوب فعل يقتضي موجبا بضرورة العقل ، فقل لي : من أوجب المعرفة فإن قلت عن الله تعالى أوجبها . قلنا لك : فمن أين [ 94 / أ ] زعمت أن الله تعالى أوجبها فإن قلت : بضرورة العقل ، ادعيت على العقول ما ليس فيها ( 2 ) ، وجمهور الناس من أصحاب الحديث والفقهاء والخوارج والشيعة متفقون مصرحون بان معرفة الله تعالى لا تلزم إلا بمجيء الرسل ودعائهم إلى الله تعالى فقط . وإن قلت : إن العقل أوجب ذلك فرضا ، فهذا محال ظاهر ، والعقل لا يحرم شيئا ولا يوجبه ، والعقل عرض [ من ] الأعراض محمول في النفس ومن المحال أن تحكم الأعراض وتوجب وتشرع ؛ وإنما في العقل معرفة الأشياء على ما هي عليه فقط من كيفياتها ولا مزيد . وهذا باب قد أحكمته غاية الإحكام في صدر كتاب ' أصول الأحكام ( 3 ) . فتأمل هذا الفصل تجده كما قلت . ولا تحسنن ( 4 ) ظنك بكل ما تجده لأولئك المهذرين السوفسطائيين على الحقيقة ، المتسمين بالمتكلمين الذين يأتونك بألف كلمة من هذرهم ( 5 ) ينسي آخرها أولها ، وليست إلا الهذيان والتخليط وقضايا فاسدة بلا برهان ، بعضها ينقض بعضا .
15 - وأما قولك : مع أن ظواهر الشريعة دلت على لزوم المعرفة والعلم بالله عز
صفحة ١٩٤
وجل ، من ذلك قوله { فاعلم أنه لا إله إلا هو } ( محمد : 19 ) والمقلد غير عالم ولا عارف ، فإنما المأمور بهذا العلم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، المأمور بعقب هذا الأمر بالاستغفار للمؤمنين ، وهو عليه السلام قد علم الله تعالى بأعظم البراهين ، من مشاهدة الملائكة ، ومشاهدة السموات سماء سماء ، ومكالمة الله تعالى ، ورؤية المعجزات على يده ، فهو المأمور بالعلم حقا ، وأما سائر الناس فلم يؤمروا قط بهذا ، وإنما أمروا بان يقولوا شهادة الإسلام بألسنتهم ويعتقدوها بقلوبهم ، فهذا هو الذي أمروا به حتى لا تجد انهم أمروا بغير ذلك أصلا . فمن شرهت نفسه إلى العلم المحقق فليطلب الاستدلال ، كما فعل إبراهيم عليه السلام [ 94 ب ] في إحياء الطير ، ومن لم تنازعه نفسه ، فلو فعل ذلك لكان حسنا ؛ ومن لم يفعل ، لم يخرج بذلك من كونه من أهل الحق إذا وقفه الله تعالى .
16 - وأما قولك : وأريد أن تتأمل قولك : لا يلزم من معرفة الباري تعالى والنبوة إلا ( 1 ) ما دعاهم إليه نبيهم المختوم به الرسل من صحة الإعتقاد : هل ( 2 ) الذي دعاهم إليه من الإعتقاد هو المعرفة أو غيرها فإن كانت المعرفة ، فلا تكون إلا بتقديم البراهين وإلا كانت غير معرفة . وإن كانت غيرها فالمعرفة لم تفرض ، وغنما فرض غيرها ؛ ويجب أن تعرف ما ذلك المفترض ، وفي إيثار هذا الكلام ما فيه - فنعم يا أخي قد تأملته جدا وأنا ثابت عليهن والحمد لله رب العالمين . وأنا أكرره فأقول : لم يفترض الله تعالى على الناس قط [ إلا ] ( 3 ) الإقرار بألسنتهم بدعوة الإسلام واعتقاد تحقيقها بقلوبهم فقط ؛ وأما المعرفة التي لا تكون إلا ببرهان فما كلفوها قط . وأما من عبر ( 4 ) عن صحة الإعتقاد بالمعرفة فإن الجواب عن هذا دخول في استعمال الألفاظ المشتركة التي استعمالها أس البلاء . لكن نقول لك : عن كنت تعبر بالمعرفة عن صحة الإعتقاد للحق ، فالناس مكفلون هذا . وإن كنت تعني بقولك المعرفة : العلم المتولد عن البرهان فما كلف الناس قط هذا . وهذا علم الأنبياء عليهم السلام ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وجميع أمته بعده حتى حدث من تعرف ، فأتوا بقول إذا حققته لزم التقصير البين للنبي صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين بعده .
صفحة ١٩٥
17 - وأما قولك لي : وأرغب أن تتأمل قولك ' حاشا من كان عقده انه لو كان أبوه يهوديا أو نصرانيا لكان يهوديا أو نصرانيا ، فهذا ليس عقده بصحيح ( 1 ) . ثم قلت أنت : وهل من لم يكن عارفا بالأدلة ولا واثقا بها وكان مقلدا إلا على ذلك وهل يرتفع أحد من هذا العقد الذي ليس بصحيح عندك [ 95 / أ ] حتى يعتقد الدين ، لا لان آباءه اعتقدوه ولا أن قومه اعتقدوه إلا عن معرفة بالبراهين الصحيحة ومعرفة الحق مجردا ، وإنما لحظت هذا وما تصل به ، لان ( 2 ) الدليل الذي اقتصرت عليه ليس بصحيح عندك ؛ فغن الرسول لم يقتصر ( 3 ) على دعواه فيما دعا إليه ولا رضي عمن ( 4 ) قلده - هذا نص قولك - فاعلم يا أخي أن كل من اعتقد الحق عن غير استدلال فليس على ما ذكرت ، بل أكثر الأمة والحمد لله ممن لا يدري يتهجي لفظة ' استدلال ' فكيف أن يعرف معناها ، تجده لو خير بين أن يعذب بأنواع العذاب ، إلى انقضاء عمر الدنيا ، وبين أن يفارق الإسلام لتخير بلا شك أنواع العذاب ، ونجده لو كفر أبوه وأهل بلاده بعد أن يفارق الإسلام لتخير بلا شك أنواع العذاب ، ونجده لو كفر أبوه وأهل بلاده بعد ان تحقق عقد الإسلام في قلبه ، لاستحل دم أبيه وولده وأهل بلده ، وهذا أمر تشاهده بنفسك من أكثر العوام الذين أنت تدري انهم لم يعرفوا الدين قط من طريق الاستدلال . وأما من تعتقد انه لو كفر أهل بلده لكفر هو معهم ، فهذا عند الناس كلهم كافر غير صحيح لاعتقاده ، فتأمل هذا تجده كما أقول لك أيضا ، والله أعلم .
18 - وأما قولك لي : إن الرسول عليه السلام لم يقتصر على دعواه فيما دعا إليه ولا رضي عمن قلده ، فكلام غير محقق ، بل ما اقتصر قط عليه السلام إلا على دعائه فقط ، إلا من طالبه بآية ، فحينئذ أتاه بها ، وأما من لم يطلبه بها فما قال له عليه السلام قط : لا تؤمن حتى ترى آية ، وما زال عليه السلام راضيا عمن اتبعه ورضي به ، وغن لم يطلبه بدليل على ما أورد بعد هذا إن شاء الله تعالى ، فصح أن الدليل الذي استدللت به في غاية الصحة ، وانه عيان مشهور منقول نقل الكواف ، لا معترض فيه ، والحمد لله رب العالمين .
19 - وأما قولك في الخبر الصحيح ( 5 ) : ' وأما المنافق أو المرتاب [ 95 ب ] فهو
صفحة ١٩٦
الذي يقول سمعت الناس يقولون شيئا فقلته ، وان المؤمن هو الذي يقول جاءنا بالبينات والهدى ' فخبر صحيح وهو حجتي عليك لأنه صلى الله عليه وسلم إنما حكى القول ' سمعت الناس يقولون شيئا فقلته ' عن منافق أو مرتاب ، وإنما أتيت أنا على محقق بقلبه ليقينه نافر عن الشك والجحد كل النفار إلا أنه فتح ( 1 ) الله عز وجل له في ذلك الحق بالبخت لا عن استدلال ؛ وهذا بعينه هو الذي يقول بقلبه ولسانه في الدنيا كما نقول ، إذا مات ، جاءنا بالبينات والهدى ، فتأمل هذا تجده كما قلت لك ، والحمد لله رب العالمين .
20 - وأما قولك لي : ويجب أن تنظر في القول إنه عليه السلام لم يدع أحدا إلى غير هذا عموما ، وإذا لم يدع إليه فهو تكلف ، وإذا كان تكلفا فكيف يرجع إليه من اختلج في صدره شيء أو كيف يجده فنعم يا أخي ما دعا عليه السلام إلى غير هذا ، ومن العجب أن يكون دعا إلى غير هذا واتفقت الأمم على كتمان هذا وطيه . أترى هذا يا أخي ممكنا حاشا لله من هذا ، ونعم ، هو تكلف حسن ممن لم تنازعه نفسه إليه . وأما تعجبك بقولك : فكيف يرجع إليه من اختلج في صدره شيء أو كيف يجده أما علمت أن شرب الدواء والكي تكلف وأن من احتاج إليهما لدفع ضرر حل به وجب عليه أن يرجع إليهما فأي عجب في هذا وأنا لم أحتج عليك بهذا التظير ، وإنما أريتك إن هذا الذي أنكرت وجوه موجود في العالم ، وإنما طلب الاستدلال لتعلم القرآن كله ، وتعلم الكتاب ليس فرضا لكنه تكلف حسن ممن تكلفه ، وهما فرض على من قصد ضبط الديانة للناس ، والاستكثار من الخير والعلم فقط .
21 - وأما قولك : فإن قيل هو مندوب إليه ، ولذلك كان له عليه أجر ، قيل فجائز لجميع الأمة تركه ولا إثم عليها في إغفاله ، وإذا كان هذا أدى إلى أن يكون جميع الشرع [ 96 / أ ] بأيدينا دعوى ، وفي هذا ما لا يخفى ، فاعلم انه مندوب إليه كما قلنا ببرهان انه لم يأت به قط أمر من عند الله تعالى ولا من رسوله صلى الله علي
صفحة ١٩٧
وسلم ، وأما قولك فجائز لجميع الأمة تركه ولا إثم عليها في إغفاله ، فنعم هو كذلك ، وهذه صفة ما لم يأت به أمر من عند الله تعالى ، ولو ( 1 ) أن الأمة كلها التقت بالقبول وصحة العقد ، ولم يكن فيها منازع ولا كافر ، ما احتيج إلى الاستدلال ألبتة ، إذ لم يأت بإيجابه أمر من الله عز وجل ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم .
22 - وأما قولك : إذا كان هذا ، أدى إلى أن جميع الشرائع بأيدينا دعوى ، وفي هذا ما لا يخفى ، فغن الله تعالى حض على الاستدلال كما قلنا ولم يفترضه ، وعلمنا إياه ولم يوجب تعلمه على أحد ، وأوجب علينا مناظرة المعاندين بالبراهين ؛ وأنا يا أخي لم أنكر هذا قط ، وغنما قلت إن من لم تنازعه نفسه إليه ، وأنس إلى اعتقاد صحة الإسلام والإقرار به فهو مسلم صحيح الإسلام عند الله تعالى ، وإن المعتقد لذلك ( 2 ) عن استدلال أفضل فألزمتني ما لم يلزمنيه قولي ( 3 ) .
23 - وأما قولك : فينظر فيما فرض الله تعالى من تدبر القرآن وما فيه من الدلائل . فتدبر القرآن فرض ، ومعنى تدبره فهم معاني ألفاظه . وكيف لا يكون فرضا وهو بيان ما افترض ، وقد تدبرناه ولله الحمد فلم نجد فيه فرض قبل الرسل ، وهذا قولنا والحمد لله ، وهنا انتهى قولك وما اقتضاه من جواب .
24 - ثم أنا أبتدئك بما يلزم بعضنا لبعض من بيان الحق وتعاطي البراهين ، فأقول لك وبالله تعالى التوفيق : قبل كل شيء أريد أن تنظر في كلامي بعين ( 4 ) سليمة من الأعراض ومن الاستحسان معا ، وبنفس بريئة من النفار والسكون معا ، لا ( 5 ) كما ينظر المرء بما
صفحة ١٩٨
لم يسمعه قط ، فيسبق إليه منه قبول [ 96 ب ] يسهل عليه الباطل أو نفار يوعر عليه الحق . فمن هذين السعيين تاه أكثر الناس وفارقوا المحجة .
25 - فأقول إليك يا أخي : كان إسلام خيار أهل الأرض بعد النبيين عليهم السلام كخديجة وعائشة أمي المؤمنين ، وأبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب ، وسعد بن أبي وقاص ، وبلال ، وزيد بن حارثة ، وخالد بن سعيد بن العاصي ، وعمرو بن عبسة ، وعثمان بن عفان ، والزبير وطلحة ، وزينب وأم كلثوم وفاطمة ورقية ، بنات النبي صلى الله عليه وسلم . فهل ذكر قط أحدهم أو جميعهم أو غيرهم عنهم أنهم لم يسلموا حتى سألوا آية وطلبوا معجزة ، وعرض عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم برهانا هل كان أكثر من أن دعا الإسلام خديجة إلى الإسلام وأبا بكر عليهما الرضوان ، فلم تكن لهما كبوة ولا تردد ؛ وأما عائشة وعلي وزينب وأم كلثوم وفاطمة ورقية فهل كان إسلامهم إلا على تدريب الكافل والأبوين ولا مزيد وسكت عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما ، لأنه قد قيل إنهما لم يسلما إلا بعد معجزة رأياها . فلعمري يا أخي إن قال قائل : إن هؤلاء المذكورين لم يسلم منهم أحد إلا عن معجزة طلبها فعرضت عليه ليقولن ما يشهد قلبه بأنه كاذب فيه ثم لا يبقى أحد في العالم لم يدر شيئا من السير والأخبار إلا كذبه ودرى أنه كاذب . 26 - تفكر يا أخي كيف أسلم النجاشي وبأذان والمنذر بن ساوى وعباد ( 1 ) وجيفر ابنا الجلندى وذو الكلاع وذو ظليم وذو مران وذو زود وهؤلاء ملوك بلادهم ( 2 ) ؛ وكيف أسلم الستة من الأنصار ، والاثنا عشر ، والثلاثة وسبعون الذين هم خيار أهل الأرض . هل طلب واحد منهم معجزة أو رغب آية تفكر في هذا ، ودعنا من استبشاع مخالفة هذيان المتكلمين ( 3 ) الذين لم ينتج الله تعالى على أيديهم إلا افتراق الكلمة ، وتفكير المسلمين بعضهم بعضا . [ 97 / أ ] ألم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( 4 ) ' دعوا لي صاحبي فإن الناس قالوا كذبت ، وقال أبو بكر صدقت ' ولذلك سمي الصديق .
صفحة ١٩٩
27 - فتفكر يا أخي في نفسك : كيف كان إسلامك مذ بلغت مبلغ التكليف وتوجه إليك الخطاب من الله عز وجل ، عن استدلال كان منك من تلك الليلة فهذا بعيد جدا ، وإن كان استدلالا بعد ذلك فكيف تعرف نفسك بين بلوغك إلى وقت استدلالك ، أترى تلزم نفسك حكم الكفر معاذ الله من هذا .
28 - ثم أقول لك : الناس أربعة : فإنسان استدل فأداه استدالاله إلى حق مأجور مرتين . وآخر استدل وبحث ونظر ، فأداه ذلك إلى دهرية أو تبرهم أو منانية أو بعض أنواع الكفر ، فهذا كافر مخلد في النار إن مات على ذلك ، أو أداه إلى قول الأزارقة وأصحاب الأصلح أو بعض البدع المهلكة ، فهو فاسق ، وآخر قلد فاتفق له الحق فهو من أهل الحق ، وهكذا عوام أهل الإسلام كلهم ، وآخر قلد فأداه ذلك إلى الباطل ، فهو إما كافر وإما فاسق .
29 - وتثبت فيما قلت لك من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس كلهم ، فهو برهان ضروري منقول نقل الكواف ، لا يشك فيه مسلم موحد ولا ملحد في أنه عليه السلام لم ( 1 ) يقل لأحد دعاه إلى الإسلام : لا تسلم حتى تستدل . وهذه كتبه إلى كسرى وقيصر والملوك ، وذكر رسله إلى البلاد . ما في شيء منها ولا في بعوثه وغزواته إيجاب استدلال ، فإن جاز عندك أن يتفق الناس كلهم على كتمان هذا . فأعيذك بالله من أن يجوز هذا عندك .
30 - ثم اعلم يا أخي ن الفرقة المحدثة لهذه المقالة . فرقة أنت تدري أنها غير مرضية عند جميع أئمة الهدى قديما وحديثا . وأنهم مطعون عليهم في أديانهم مظنون ( 2 ) بهم السوء في اعتقادهم . وبرهان ذلك أنهم أجسر الناس على عظيمة تقشعر منها عند جميع الأمة مرذولين إلى أن يبلغ ( 3 ) إلى الذين لقينا منهم . ولقد قال لي بعض إخواني كلاما أقوله لك - قال : أسألك بالله هل بلغك أن أحدا أسلم على يدي متكلم من هؤلاء المتكلمين ، واهتدى على أيديهم من ظلالة . وهل أسلم من أسلم واهتدى من اهتدى إلا بالدعاء المجرد الذي مضى عليه السلف فوالله يا أخي ما وجدت لقوله جوابا ، بل ما وجدتهم أحدث الله تعالى على أيديهم إلا الفرقة والشتات والتخاذل وافتراق
صفحة ٢٠٠
الكلمة والجسر على كل طامة وعظيمة وتكفير المسلمين بعضهم بعضا ، وهذا أمر مشاهد . ثم هم في خلال ذلك أبعد الناس عن المجيء ببرهان حق ، وأكثرهم سفسطة وتخليطا واضطرابا وتناقضا .
31 - فإن قال قائل : قد ذممت التقليد ، وأبو بكر وخديجة وعائشة وعلي وخالد ابن سعيد وعمرو بن عبسة والأنصار رضي الله عن جميعهم مقلدون أفهم مذمومون ( 1 ) في تقليدهم قلنا وبالله تعالى التوفيق : لسنا نقول هذا ، ولكنا قد بينا في غير هذا الموضع أن التقليد هو لمن اتبع من لا ( 2 ) يؤمر باتباعه فهذا هو المذموم في تقليده وإن أصاب الحق . وأما من اتبع من افترض الله تعالى عليه اتباعه ، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فليس يسمى مقلدا ، بل هو موفق مطيع لله تعالى ، محسن ، سواء ( 3 ) اتبعه في عقدة الإسلام أو فيما دون ذلك من الاعتقادات أو العبادات والأحكام . وقد بينا أيضا في غير هذا الموضع أنه قد تقع الضرورة بخبر الواحد ويصح به العلم المتيقن ، وكل هؤلاء وقع لهم العلم الحق واليقين ( 4 ) الضروري بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالإسلام وبصحة نبوته . هذا ما لا شك فيه عندنا ألبتة ، ولا يجوز غير هذا ألبتة . ولقد كانوا أعلم وأفضل وأجل وأسلم وأتم من أن يستجيبوا لقول قائل ، بلا برهان ( 5 ) لولا أن الله تعالى أنزل السكينة عليهم كما قال الله عز وجل : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم [ 98 / أ ] فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا } ( الفتح : 18 ) وكما قال تعالى { حبب إليكم الإيمان وزينة في قلوبكم ، وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون ، فضلا من الله ونعمة . والله عليم حكيم } ( الحجرات : 7 ) .
32 - وأيضا فقد صح برهان واضح أن الله تعالى خلق كل شيء في العالم من حامل ومحمول ، ولا ثالث لهما في العالم ، فإذا ذلك كذلك ، فهو تعالى خالق الإيمان في قلوب المؤمنين ، فمن خلق الله تعالى الإيمان في قلبه ولسانه فهو مؤمن صحيح الإيمان ، سواء خلقه في قلبه ولسانه دون استدلال أو خلقه باستدلال ؛ وكذلك الكفر أيضا :
صفحة ٢٠١
من خلق الله تعالى الكفر [ في قلبه ] أو خلقه على لسانه فهو كافر محض .
33 - وأيضا فقد يستدل الدهر كله من لا يوفق للحق كما استدل الفيومي ( 1 ) والمقمس وأبو ريطة اليعقوبي واذرباذ الموبذ ( 2 ) وأبو علي يزدان بخت المناني ( 3 ) ، ثم من فرق المسلمين : هشام بن الحكم ( 4 ) وعلي بن منصور ( 5 ) والنظام وغيره ، فبعضهم يسر للكفر وبعضهم يسر للإيمان ولضلال البدعة معا .
33 - وقد يدعي المجتهدون في نصر أقوال مالك وأبي حنيفة أنهم مستدلون جهدهم وقد ملأوا الدنيا صحائف سمجة ، ولم ييسروا إلا للخطاء في أكثر أقوالهم ، وقد ييسر الله تعالى للإيمان والسنة من لا يستدل ، فالكل فعل الله تعالى ، فمن يسر للحق ، فهو محق كيفما اعتقده ، ومن يسر للباطل فهو مبطل كيفما اعتقده .
34 - فإن قلت : بأي شيء يعرف الموفق للعلم الصحيح أن هذا حق وأن هذا باطل قلنا : بالبراهين ، وهذا ما لا نخالفك فيه ، إلا أن عدم الاستدلال بالبرهان لا يخرج الحق عن أن يكون حقا في ذاته ولا الباطل عن أن يكون باطلا في ذاته . والله تعالى يخلق الإيمان والكفر في قلوب عباده ، وهم طبقات ( 6 ) : فمنهم من يخلق الإيمان في قلبه ضرورة بداءة كما خلق الله في قلوبنا معرفة [ 98 ب ] أن الكل أكثر من الجزء ، وأن الحلو حلو والمر مر ، وهذا أرفع درجات الإيمان ، وهذا إيمان الملائكة والأنبياء عليهم السلام ؛ ومنهم من خلق الإيمان في قلبه ضرورة عن تصديق مخبر كإسلام من
صفحة ٢٠٢
ذكرنا من الصحابة ، رضي الله عنهم ، الذين صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في خبره ، ومنهم من خلق الإيمان في قلبه ضرورة عن استدلال وبرهان برؤية المعجزات أو نقلها إليه ، وهذه صفة إيمان المستدلين منا ، ومنهم من خلق الإيمان في قلبه بغير سبب ، وهذه صفة إيمان المحققين من العوام ، ولا إيمان لمن خرج من هذه الطباق .
وكذلك خلق الله تعالى الكفر في قلوب عباده ، فمنهم من خلقه تقليدا ، ومنهم من خلقه في قلبه حسدا للعرب وللنبي صلى الله عليه وسلم ، ومنهم من خلقه في قلبه اتباعا لهوى وقع له أو سكونا إلى الشك ، ومنهم من خلقه في قلبه استدلالا ببعض الأدلة الفاسدة ، ومنهم من حكم الله تعالى عليهم بالكفر وإن اعتقد الإيمان وعمل به وأعلنه ، لكن خرق الإجماع في بعض أقواله كمن أقر بنبي بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، أو كذب بآية من القرآن أو بشريعة مجتمع عليها ، أو عمل عملا يكون به كافرا ، إن شاء الله تعالى .
فهذا بيان جميع هذه المسألة ، والحمد لله رب العالمين ، ثم السلام عليك أيها الأخ المحمود ، ورحمة الله وبركاته .
تمت بحمد الله عز وجل وصلى الله على سيدنا محمد وسلم تسليما كثيرا والحمد لله وحده
صفحة ٢٠٣