يريد: اخترت الدهماء من هاتين الفرسين يا رجلًا يجري في جوده مجرى المطر وهذا كلام يشهد تكلفه واستكراهه ببعده عن مدرجة البيان. ومن كلامه الهجين قوله في هجاء ابن كيغلغ:
) وإذا أشارَ محدثًا فكأنهُ ... قرْدٌ يقهقهُ أو عجوزٌ تلطمُ (
فقال أبو الطيب: أما طالعت في هذه القصيدة قولي:
) يحمي ابن كيَغلغَ الطريقَ وعرْسهُ ... ما بينَ رِجلهاَ الطرّيقُ الأعظمُ (
فقلت: هذا من قول الفرزدق:
وتركتَ عرْسكَ يا جريرُ كأنهاّ ... للناسِ بارِكةً طريقٌ معملُ
فقال جرير يرد فيها عليه:
وعجانٌ جِعثنَ كالطرّيقِ المُعملِ
وفي هذه القصيدة يقول:
) يرنو إليكَ معَ العفافِ وعندهُ ... أنّ المجوسَ تصيبُ فيما تحكمُ (
وهذا من قول أبي تمام:
بأبي منْ إذا رآها أبوها ... أقبلتْ قال ليت أناّ مجوسُ
فقال: ما علي حرج في البيت يشذ عن مدرجة الإحسان، واللفظ يند عن شرك البيان. قلت فأخبرني عن قولك:
) بليتُ بلى الأطلال إنْ لم أقفْ بها ... وقُف شحيحٍ ضاعَ في الترْبِ خاتمُهْ (
كيف قلته أشحيح أم شجيج؟ فقال: أنا قلته بحاء لا غير، هذا معنى اخترعته: إنما اجتذبته من قول هميان بن قحافة:
فُهنّ حَيرى كَمُضلاتِ الخَدمْ
فبين اللفظتين بون بعيد وقد أوحشت في قولك:
) بَليتُ بلىِ الأطلالِ إنْ أقفْ بها (
وأسأت في العبارة عناّ أخذته فأتممت البيت به. فانظر إلى قول أبي نؤاس في منى بيت هميان، ما أعجبه وأحسن مذهبه وأفصحه وأوضحه حين يقول:
لقد طالَ في رسْمَ الدّيارِ بكائي ... وقد طالَ ترْدادي بها وعنائي
كأني مُريغُ في الديارِ طَريدةً ... أراها أمامي مرةً وورائي
قلت: وقد كررت معنى قولك:) بليتُ بلي الأطلال (فقلت، إلا أنهُ لم يأت موجزًا إيجازك فيما تقدم:
) ما زالَ كلُ هزيمِ الوَدق ينُحلها ... والسقمُ ينحلني حتى حكتْ جسدي (
وقد عمدت في هذا البيت إلى أحسن بيت وأشرفه عبارة، فأعدته في عبارته في عبارة مجتذبة، وألفاظ غير مستعذبة.
قال محمد بن وهيب:
طَللاِنِ طالَ علَهما الأبدُ ... دَثرا فلا علْمُ ولا قصَدُ
لبساَ البِلى فكأنّما وجدَا ... بعْدَ الأحبةِ مثلَ ما أجدُ
فلو لم يكن في هذين البيتين من محاسن اللفظ إلا قوله:) لبسا البلى (فإنها استعارة واقعة حلوة. ولو شاء قائل إنها في هذا الموضع أحسن موقعًا منها معها في قول الجعدي:
لَبستُ أناسًا فأفنَيتُهْم ... وأفَنيتُ بعدَ أناسٍ أناساَ
أو من قول الآخر:
ما الضّجيعُ ثناها إليَهِْ ... تدَاعَتْ عليَهِ فكانتْ لباساَ
على أن بعض العرب قد قال وأوفى على كل مقال:
ألمْ تَرَ أنّ الريْحَ بينَ مُوَيسلٍ ... وجاَوا إذا هبتْ عليك تطيبُ
وأحسن الآخر كل الإحسان بقوله:
لمنْ طللُ وقَفتُ بهِ طريقاَ ... أسائلُ ربعُه الخلقَ السّحيقاَ
لسَمىَ لا تَغَيرَ ربعُ سلمىَ ... وألبَسَتَ الرَواعدَ والبرُوقاَ
وقول محمد بن وهيب:
لبساَ البلَ فكأنّما وَجداَ
مأخوذ من قول معلى الطائي:
لَبسنَ البلىِ حتى كأن رسومهاَ ... طَعمنَ الهوىَ أو ذُقنَ هجرَ الحبائبِ
ومن هذا أخذ البحتري قوله:
بينَ الشقّيقةِ فاللّوىَ فالأجَرعَِ ... دمنُ حبُسنْ على الرّياحِ الأربْعِ
فكأنّما ضَمنتْ مغانيَها الذي ... ضمنتهُ أحشاءُ المحبّ المُوجعِ
وكإساءتك في أخذ هذين البيتين في قولك:
) وكمْ للهوىَ من فتىً مدْنفٍ ... وكم للنوّى من قتيلٍ شهيدِ (َ
فإنّك سرقت عجز هذا البيت افحش سرقٍ من جميل، ومن محاسن قوله:
لكُلّ حديثٍ بينهنّ بشَاشةُ ... وكلٌ قتيلٍ عندهنّ شهيدُ
وما كنت أرى ذا رويةٍ يستجيز أن يهتك حرمه هذا البيت، ويأتي إلى هذه الألفاظ الرطبة العذبة فيحيلها إلى ذلك اللفظ السفساف والنظم المتهالك ومن تبديله الحسنة بالسيئة قوله
) تهَلَل قبلَ تسليمي عليْهِ ... وألقى مالهُ قبلَ الوِسادِ (
ولولا تسمحه في تناول هذه المعاني التي تقدم أربابها فيها، وسبق إلى اختراعها، لخل لسانه كما يخل لسان الفصيل الملهج: وما يصنع بقوله:
) تَهَلل قَبلَ تسليمي علَيهِ (
مع قول زهير:
1 / 16