رسالة إلى أهل الثغر بباب الأبواب
محقق
عبد الله شاكر محمد الجنيدي
الناشر
عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية،المدينة المنورة
رقم الإصدار
١٤١٣هـ
مكان النشر
المملكة العربية السعودية
تصانيف
العقائد والملل
وأنه يفعل ما يشاء، (ويفضل على من يشاء، كما قال: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ ١ وقال: ﴿عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ﴾ ٢ وبين تعالى أنه ليس يجري في أفعاله مجرى خلقه بقوله ﷿: ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ ٣، وقال تعالى: ﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ ٤.
الإجماع الثالث عشر
وأجمعوا على أن القبيح من أفعال خلقه ما نهاهم عنه، وزجرهم عن فعله، وأن الحسن ما أمرهم به، أو ندبهم إلى فعله، أو أباحه لهم، وقد دل ﷿ على ذلك بقوله: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ ٥.
_________
١ ما بين المعقوفتين ساقط من (ت)، والآية من سورة الجمعة (٤) .
٢ سورة الأعراف آية: (١٥٦) .
٣ سورة الأنبياء آية: (٢٣) .
٤ سورة البروج آية: (١٦) .
يؤكد الأشعري ما سبق أن قرره في بداية هذا الإجماع، وهي مسألة الهدى والضلال، ويستدل بهذه الآيات على أن الله ﷾ يفعل ما يشاء، ولا يرد على فعله ما يرد على فعل العبيد، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فمن أكرمه وهداه وأدخله الجنة فبفضله ورحمته، ومن أضله وأدخله النار فبعدله وحكمته.
٥ سورة الحشر آية: (٧) .
يقرر الأشعري في هذا الإجماع مذهب أهل السنة والجماعة في مسألة الحسن والقبح، ويبين أن القبيح ما قبحه الشرع، والحسن ما حسنه الشرع.
وذهبت المعتزلة والكرامية: إلى أن الحسن والقبح راجع إلى العقل وأوجبوا على العباد فعل الحسن والكف عن القبيح حتى ولو لم يرد بذلك شرع، يقول الشهرستاني عن المعتزلة: "وقال أهل العدل: المعارف كلها معقولة بالعقل، واجبة بنظر العقل، وشكر المنعم واجب قبل ورود السمع والحسن والقبح صفتان ذاتيتان للحسن والقبيح" (انظر الملل والنحل ١/٤٨، ١٠٣) .
ويظهر من كلام الأشعري - كما ذكر ابن تيمية - أن الأشياء في ذاتها ليست حسنة ولا قبيحة إلا بعد ورود الشرع بالتحسين أو التقبيح، ويميل ابن تيمية إلى أن الشيء قد يشتمل على مصلحة أو مفسدة، أي: يكون حسنًا، أو قبيحًا قبل ورود الشرع بذلك، كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم مشتمل على فساده، لكن لا يلزم من ذلك أن يثاب فاعل المصلحة، أو يعاقب فاعل المفسدة قبل ورود الشرع، فترتيب الثواب والعقاب على الفعل لا يكون إلا بعد ورود الشرع، كما قال تعالى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ . (انظر مجموع الفتاوى ٨/٤٣٤، ٤٣٥) .
وما ذكره ابن تيمية هو الصواب، كما تشهد له الفطرة وتؤيده الطباع السليمة، ولذلك لما أتى الوحي للرسول ﷺ وكان وقتئذٍ غريبًا عليه، وخشي منه على نفسه قالت له زوجته خديجة ﵂: "والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك تصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم... الخ" (انظر البخاري كتاب بدء الوحي ١/٣) .
ففهم السيدة خديجة ومعرفتها أن هذه صفات حميدة لو توفرت في شخص حفظ برعاية الله وعنايته دليل على أن الصفات الحميدة تدرك بالعقل وكذلك الحال في القبيحة.
وقد يتوهم متوهم أن هناك توافقًا بذلك بين السلف والمعتزلة في هذه المسألة، والأمر ليس كذلك، وذلك أن المعتزلة ترتب الثواب والعقاب على تحسين العقل وتقبيحه قبل ورود الشرع، أما السلف فيقولون: إن الأشياء قد تكون حسنة أو قبيحة قبل ورود الشرع ولكن لا يثبت لها حكم قبل ورود الشرع فالثواب والعقاب مترتب على ما جاء به الشرع ومن جهته فقط، وفي ذلك يقول ابن تيمية أيضًا: "والنصوص الدالة على أن الله لا يعذب إلا بعد الرسالة كثيرة ترد على من قال من أهل التحسين والتقبيح أن الخلق يعذبون في الأرض بدون رسول أرسل إليهم" (انظر مجموع الفتاوى ٨/٤٣٥) .
1 / 137