[رسالة في الرد على ابن النغريلة اليهودي]

[ 47 - أ ب ] رد أبي محمد بن حزم على ابن النغريلة اليهودي لعنه الله

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وصلى الله على سيدنا محمد وآله قال أبو محمد علي بن أحمد بن حزم رضي الله عنه : الحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا وصلى الله على سيدنا محمد عبده ورسوله وسلم تسليما ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم :

1 - اللهم إنا نشكو إليك تشاغل أهل الممالك من أهل ملتنا بدنياهم عن إقامة دينهم ، وبعمارة قصور يتركونها عما قريب عن عمارة شريعتهم اللازمة لهم في معادهم ودار قرارهم ، وبجمع أموال ربما كانت سببا إلى انقراض أعمارهم وعونا لأعدائهم عليهم ، وعن حياطة ملتهم [ بها ] عزوا في عاجلتهم وبها يرجون الفوز في آجلتهم حتى استشرف لذلك أهل القلة ( 1 ) والذمة ، وانطلقت ألسنة أهل الكفر والشرك بما لو حقق النظر أرباب الدنيا لاهتموا بذلك ضعف همنا ، لأنهم مشاركون لنا فيما يلزم الجميع من الامتعاض للديانة الزهراء والحمية للملة الغراء ، ثم هم متردون بما يؤول إليه إهمال هذا الحال من فساد سياستهم والقدح في رياستهم ، فللأسباب أسباب ، وللمداخل إلى البلاء أبواب ، والله اعلم بالصواب . وقد قال علي بن العباس ( 2 ) : لا تحقرن سبيبا . . . كم جر أمرا سبيب وقال أبو نصر ابن نباتة :

صفحة ٤١

فلا تحقرن عدوا رماك . . . وإن كان في ساعديه قصر فإن السيوف ( 1 ) تجذ الرقاب . . . وتعجز عما تنال الإبر لاسيما إن كان العدو من عصابة لا تحسن إلا الخبث مع مهانة الظاهر فيأنس المغتر إلى الضعف البادي ، وتحت ذلك الختل والكيد والمكر ، كاليهود الذين لا يحسنون شيئا من الحيل ( 2 ) ولا آتاهم الله شيئا من أسباب القوة وإنما شأنهم ( 3 ) الغش [ 148 / أ ] والتخابث والسرقة ، على التطاول والخضوع ، مع شدة العداوة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم .

2 - وبعد فإن بعض من تقلى قلبه ( 4 ) للعداوة للإسلام وأهله وذوبت كبده ببغضه الرسول صلى الله عليه وسلم من متدهرة الزنادقة المستسرين بأذل الملل وأرذل النحل من اليهود التي استمرت لعنة الله على المرتسمين بها ، واستقر غضبه عز وجل [ على ] المنتمين إليها ، أطلق الأشر لسانه ، وأرخى البطر عنانه ، واستشمخت لكثرة الأموال لديه نفسه المهينة ، وأطغى توافر ( 5 ) الذهب والفضة عنده همته الحقيرة ، فألف كتابا قصد فيه ، بزعمه ، إلى إبانة تناقض كلام الله عز وجل في القرآن اغترارا ( 6 ) بالله أولا ، ثم بملك ضعفة ( 7 ) ثانيا ، واستخفافا بأهل الدين بدءا ، ثم بأهل الرياسة في مجانة ( 8 ) عودا ؛ فلما اتصل بي أمر هذا اللعين لم أزل باحثا عن ذلك الكتاب الخسيس لأقوم فيه بما أقدرني الله عز وجل عليه من نصر دينه بلساني وفهمي ، والذب عن ملته ببياني وعلمي ، إذ قد عدمها ، والمشكى إلى الله عز وجل ووجود الأعوان والأنصار على توفية هذا الخسيس الزنديق المستبطن مذهب الدهرية في باطنه ، المكفن بتابوت اليهودية في ظاهره ، حقه الواجب عليه من سفك الدماء واستيفاء ماله وسبي نسائه وولده ، لتقدمه طوره وخلعه الصغار عن عنقه ، وبراءته من الذمة الحاقنة ( 1 ) دمه ،

صفحة ٤٢

المانعة من ماله وأهله ، وحسبنا الله تعالى ونعم الوكيل . فأظفرني القدر بنسخة رد فيها عليه رجل من المسلمين ، فانتسخت الفصول التي ذكرها ذلك الراد عن هذا الرذل الجاهل ، وبادرت إلى بطلان ظنونه الفاسدة بحول الله تعالى وقوته ؛ ولعمري عن اعتراضه الذي اعترض به ليدل على ضيق باعه في العلم ، وقلة اتساعه في الفهم على ما عهدناه عليه [ 148 ب ] قديما ، فإننا ندريه عاريا إلا من المخرقة ، سليما إلا من الكذب ، صفرا إلا من البهت ؛ وهذه عقوبة الله تعالى المعجلة لمن سلك مسلك هذا الزنديق اللعين مقدمة ، أما ما أعد الله له ولأمثاله من الخلود في نار جهنم [ فهو ] المقر لعيون أولياء الله عز وجل فيه وفي ضربائه ، وبالله تعالى التوفيق ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

3 - الفصل الأول :

فكان أول ما اعترض به هذا الزنديق المستسر باليهودية ، على القرآن بزعمه أن ذكر [ قول ] لله عز وجل : { وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك } ( النساء : 78 ) قال هذا المائق ( 2 ) الجاهل : فأنكر في هذه الآية تقسيم القائلين بأن ما أصابهم من حسنة فمن الله وما أصابهم من سيئة فمن عند محمد ، وأخبر أن كل ذلك من عند الله ؛ قال : ثم قال في آخر هذه الآية : { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } ( النساء : 79 ) قال هذا الزنديق الجاهل : فعاد مصوبا لقولهم ومضادا لما قدم في أول الآية :

4 - قال أبو محمد بن حزم : لو كان لهذا الجاهل الوقاح أقل بسطة أو أدنى حظ من التمييز لم يتعرض بهذا الاعتراض الساقط الضعيف ، والآية المذكورة مكتفية بظاهرها عن تكلف تاويل ، مستغنية ببادي ألفاظها عن تطلب وجه لتأليفها ، ولكن جهله أعمى بصيرته وطمس إدراكه . وبيان ذلك أن الكفار يقولون : إن الحسنات الواصلة إليهم هي من عند الله عز وجل وان السيئات المصيبة لهم ( 3 ) في دنياهم هي من عند محمد صلى الله عليه وسلم ، فأكذبهم الله تعالى في ذلك ، وبين وجه ورود حسنات الدنيا وسيئاتها على كل من فيها بان الحسنات السارة هي من عند الله تعالى بفضله على الناس ، وان كل سيئة يصيب الله تعالى بها إنسانا في دنياه فمن [ 149 / أ ] قبل نفس المصاب بها بما يجني على نفسه من تقصيره فيما يلزمه من أداء حق الله تعالى الذي لا يقوم به أحد ، وكل ذلك من عند الله تعالى جملة ، فأحد

صفحة ٤٣

الوجهين ( 1 ) وهو : الحسنات فضل من الله تعالى مجرد لم يستحقه أحد على الله تعالى إلا حتى يفضل به عز وجل من احسن إليه من عباده ، والوجه الثاني وهو السيئات تأديب من الله تعالى أوجبه على المصاب بها تقصيره عما يلزمه من واجبات ربه تعالى .

5 - ولا يستوحشن ( 2 ) مستوحش فيقول : كيف يكون النبي صلى الله عليه وسلم المخاطب بهذا الخطاب مقصرا في أداء واجب ربه تعالى فليعلم أن التقصير ليس يكون معصية في كل وقت ، وإنما يكون النبي عليه السلام منزها عن تعمد المعصية صغيرها وكبيرها . وأما تأدية شكر الله تعالى وجميع حقوقه على عباده فهذا ما لا يستوفيه ملك ولا نبي فكيف من دونهما ، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' إن أحدكم لا يدخل الجنة بعمله ' فقيل له : ولا أنت يا رسول الله فقال : ' ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ' ( 3 ) ، أو كما قال عليه السلام .

6 - فإنما أنكر الله تعالى على الكفار في الآية المتلوة آنفا قولهم للنبي عليه السلام : عن ما أصابهم من سيئة فهي منك يا محمد ، وأخبر عز وجل أنها من عند أنفسهم ، وأن كل ذلك من عند الله تعالى ؛ فلم يفرق المجنون بين ما أوجبه الله تعالى من أن كل من أصابته سيئة فمن نفسه ، وبين ما ذكر الله تعالى من قول الكفار لمحمد صلى الله عليه وسلم : إن ما أصابهم من سيئة فمنك يا محمد . فأي ظلم يكون اعظم من ظلم من جهل أن يفرق بين معنيي هذين اللفظين

7 - وإنما كان الكفار يتطيرون بمحمد صلى الله عليه وسلم عندما يرد عليهم من نكبة تعرض لهم ( 4 ) بكفرهم وخلافهم له عليه [ 149 ب ] السلام ، كما تطير إخوانهم قبلهم بموسى صلى الله عليه وسلم إذ قال تعالى حاكيا عنهم قولهم : { فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله } ( الأعراف : 131 ) . وما أرى هذا الزنديق الأنوك إذ ( 5 ) اعترض بهذا الاعتراض كان إلا سكران الخمر ، وسكر عجب الصغير إذا كبر

صفحة ٤٤

، والخسيس إذا أشر ، والذليل الجائع إذا عز وشبع ، والسفلي إذا أمر وشط ، والكلب إذا دلل ونشط ، فإن لهذه المعاني مسالك خفية ( 1 ) في إفساد الأخلاق التي تقرب من الاعتدال . وكيف بخلق سوء متكرر في الخساسة والهجنة والرذالة والنذالة واللعنة والمهانة ولله در القائل ( 2 ) : [ إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ] . . . وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا ووضع الندى في موضع السيف بالعلا . . . مضر كوضع السيف في موضع الندى وهذا الذي قلنا هو المفهوم من نص الآية دون تزيد ولا انتقاص ولا تبديل لفظ ، والحمد لله رب العالمين كثيرا .

8 - ولكن لو تذكر هذا المائق الجاهل ما يقرأونه في كفرهم البدل وإفكهم المحرف بأخرق تحريف وأنتن معان - حاشا ما خذلهم الله تعالى في تركه على وجهه ليبدي فضائحهم ، فأبقوه تخبيثا من الله تعالى لهم ليكون حجة عليهم ، من ذكر عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم - في كتابهم الذي يسمونه : ' التوراة ' إذ يقولون فيه في السفر الرابع عن موسى صلى الله عليه وسلم انه قال مخاطبا لله عز وجل ( 3 ) : ' يا رب كما حلفت قائلا : الرب وديع ذو حن عظيم بعفو عن الذنب والسيئة وليس ينسى شيئا من المآثم ، الذي يعاقب بذنب الوالد الولد في الدرجة الثانية والرابعة ' . ويقرأون فيه أيضا في أول السفر الأول ( 4 ) : ' إن قاين ابن آدم عاقبه الله في السابع من ولده ' ثم يقرأون في الكتاب المذكور نفسه في السفر [ 150 و ] الخامس منه : ' إن الله تبارك وتعالى قال لموسى : لا تقتل الآباء لأجل الأبناء ، ولا الأبناء لأجل الآباء ، ألا كل واحد يقتل بذنبه ' - فلو تفكر هذا الجاهل المائق وعظيم التناقض لشغله عظيم مصابه عن أن يظن بقول الله تعالى الذي هو الحق الواضح الواحد غير المختلف : { قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا * ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } وهذا قد بيناه

صفحة ٤٥