[رسالة في الرد على ابن النغريلة اليهودي]
[ 47 - أ ب ] رد أبي محمد بن حزم على ابن النغريلة اليهودي لعنه الله
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وصلى الله على سيدنا محمد وآله قال أبو محمد علي بن أحمد بن حزم رضي الله عنه : الحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا وصلى الله على سيدنا محمد عبده ورسوله وسلم تسليما ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم :
1 - اللهم إنا نشكو إليك تشاغل أهل الممالك من أهل ملتنا بدنياهم عن إقامة دينهم ، وبعمارة قصور يتركونها عما قريب عن عمارة شريعتهم اللازمة لهم في معادهم ودار قرارهم ، وبجمع أموال ربما كانت سببا إلى انقراض أعمارهم وعونا لأعدائهم عليهم ، وعن حياطة ملتهم [ بها ] عزوا في عاجلتهم وبها يرجون الفوز في آجلتهم حتى استشرف لذلك أهل القلة ( 1 ) والذمة ، وانطلقت ألسنة أهل الكفر والشرك بما لو حقق النظر أرباب الدنيا لاهتموا بذلك ضعف همنا ، لأنهم مشاركون لنا فيما يلزم الجميع من الامتعاض للديانة الزهراء والحمية للملة الغراء ، ثم هم متردون بما يؤول إليه إهمال هذا الحال من فساد سياستهم والقدح في رياستهم ، فللأسباب أسباب ، وللمداخل إلى البلاء أبواب ، والله اعلم بالصواب . وقد قال علي بن العباس ( 2 ) : لا تحقرن سبيبا . . . كم جر أمرا سبيب وقال أبو نصر ابن نباتة :
صفحة ٤١
فلا تحقرن عدوا رماك . . . وإن كان في ساعديه قصر فإن السيوف ( 1 ) تجذ الرقاب . . . وتعجز عما تنال الإبر لاسيما إن كان العدو من عصابة لا تحسن إلا الخبث مع مهانة الظاهر فيأنس المغتر إلى الضعف البادي ، وتحت ذلك الختل والكيد والمكر ، كاليهود الذين لا يحسنون شيئا من الحيل ( 2 ) ولا آتاهم الله شيئا من أسباب القوة وإنما شأنهم ( 3 ) الغش [ 148 / أ ] والتخابث والسرقة ، على التطاول والخضوع ، مع شدة العداوة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم .
2 - وبعد فإن بعض من تقلى قلبه ( 4 ) للعداوة للإسلام وأهله وذوبت كبده ببغضه الرسول صلى الله عليه وسلم من متدهرة الزنادقة المستسرين بأذل الملل وأرذل النحل من اليهود التي استمرت لعنة الله على المرتسمين بها ، واستقر غضبه عز وجل [ على ] المنتمين إليها ، أطلق الأشر لسانه ، وأرخى البطر عنانه ، واستشمخت لكثرة الأموال لديه نفسه المهينة ، وأطغى توافر ( 5 ) الذهب والفضة عنده همته الحقيرة ، فألف كتابا قصد فيه ، بزعمه ، إلى إبانة تناقض كلام الله عز وجل في القرآن اغترارا ( 6 ) بالله أولا ، ثم بملك ضعفة ( 7 ) ثانيا ، واستخفافا بأهل الدين بدءا ، ثم بأهل الرياسة في مجانة ( 8 ) عودا ؛ فلما اتصل بي أمر هذا اللعين لم أزل باحثا عن ذلك الكتاب الخسيس لأقوم فيه بما أقدرني الله عز وجل عليه من نصر دينه بلساني وفهمي ، والذب عن ملته ببياني وعلمي ، إذ قد عدمها ، والمشكى إلى الله عز وجل ووجود الأعوان والأنصار على توفية هذا الخسيس الزنديق المستبطن مذهب الدهرية في باطنه ، المكفن بتابوت اليهودية في ظاهره ، حقه الواجب عليه من سفك الدماء واستيفاء ماله وسبي نسائه وولده ، لتقدمه طوره وخلعه الصغار عن عنقه ، وبراءته من الذمة الحاقنة ( 1 ) دمه ،
صفحة ٤٢
المانعة من ماله وأهله ، وحسبنا الله تعالى ونعم الوكيل . فأظفرني القدر بنسخة رد فيها عليه رجل من المسلمين ، فانتسخت الفصول التي ذكرها ذلك الراد عن هذا الرذل الجاهل ، وبادرت إلى بطلان ظنونه الفاسدة بحول الله تعالى وقوته ؛ ولعمري عن اعتراضه الذي اعترض به ليدل على ضيق باعه في العلم ، وقلة اتساعه في الفهم على ما عهدناه عليه [ 148 ب ] قديما ، فإننا ندريه عاريا إلا من المخرقة ، سليما إلا من الكذب ، صفرا إلا من البهت ؛ وهذه عقوبة الله تعالى المعجلة لمن سلك مسلك هذا الزنديق اللعين مقدمة ، أما ما أعد الله له ولأمثاله من الخلود في نار جهنم [ فهو ] المقر لعيون أولياء الله عز وجل فيه وفي ضربائه ، وبالله تعالى التوفيق ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
3 - الفصل الأول :
فكان أول ما اعترض به هذا الزنديق المستسر باليهودية ، على القرآن بزعمه أن ذكر [ قول ] لله عز وجل : { وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك } ( النساء : 78 ) قال هذا المائق ( 2 ) الجاهل : فأنكر في هذه الآية تقسيم القائلين بأن ما أصابهم من حسنة فمن الله وما أصابهم من سيئة فمن عند محمد ، وأخبر أن كل ذلك من عند الله ؛ قال : ثم قال في آخر هذه الآية : { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } ( النساء : 79 ) قال هذا الزنديق الجاهل : فعاد مصوبا لقولهم ومضادا لما قدم في أول الآية :
4 - قال أبو محمد بن حزم : لو كان لهذا الجاهل الوقاح أقل بسطة أو أدنى حظ من التمييز لم يتعرض بهذا الاعتراض الساقط الضعيف ، والآية المذكورة مكتفية بظاهرها عن تكلف تاويل ، مستغنية ببادي ألفاظها عن تطلب وجه لتأليفها ، ولكن جهله أعمى بصيرته وطمس إدراكه . وبيان ذلك أن الكفار يقولون : إن الحسنات الواصلة إليهم هي من عند الله عز وجل وان السيئات المصيبة لهم ( 3 ) في دنياهم هي من عند محمد صلى الله عليه وسلم ، فأكذبهم الله تعالى في ذلك ، وبين وجه ورود حسنات الدنيا وسيئاتها على كل من فيها بان الحسنات السارة هي من عند الله تعالى بفضله على الناس ، وان كل سيئة يصيب الله تعالى بها إنسانا في دنياه فمن [ 149 / أ ] قبل نفس المصاب بها بما يجني على نفسه من تقصيره فيما يلزمه من أداء حق الله تعالى الذي لا يقوم به أحد ، وكل ذلك من عند الله تعالى جملة ، فأحد
صفحة ٤٣
الوجهين ( 1 ) وهو : الحسنات فضل من الله تعالى مجرد لم يستحقه أحد على الله تعالى إلا حتى يفضل به عز وجل من احسن إليه من عباده ، والوجه الثاني وهو السيئات تأديب من الله تعالى أوجبه على المصاب بها تقصيره عما يلزمه من واجبات ربه تعالى .
5 - ولا يستوحشن ( 2 ) مستوحش فيقول : كيف يكون النبي صلى الله عليه وسلم المخاطب بهذا الخطاب مقصرا في أداء واجب ربه تعالى فليعلم أن التقصير ليس يكون معصية في كل وقت ، وإنما يكون النبي عليه السلام منزها عن تعمد المعصية صغيرها وكبيرها . وأما تأدية شكر الله تعالى وجميع حقوقه على عباده فهذا ما لا يستوفيه ملك ولا نبي فكيف من دونهما ، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' إن أحدكم لا يدخل الجنة بعمله ' فقيل له : ولا أنت يا رسول الله فقال : ' ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ' ( 3 ) ، أو كما قال عليه السلام .
6 - فإنما أنكر الله تعالى على الكفار في الآية المتلوة آنفا قولهم للنبي عليه السلام : عن ما أصابهم من سيئة فهي منك يا محمد ، وأخبر عز وجل أنها من عند أنفسهم ، وأن كل ذلك من عند الله تعالى ؛ فلم يفرق المجنون بين ما أوجبه الله تعالى من أن كل من أصابته سيئة فمن نفسه ، وبين ما ذكر الله تعالى من قول الكفار لمحمد صلى الله عليه وسلم : إن ما أصابهم من سيئة فمنك يا محمد . فأي ظلم يكون اعظم من ظلم من جهل أن يفرق بين معنيي هذين اللفظين
7 - وإنما كان الكفار يتطيرون بمحمد صلى الله عليه وسلم عندما يرد عليهم من نكبة تعرض لهم ( 4 ) بكفرهم وخلافهم له عليه [ 149 ب ] السلام ، كما تطير إخوانهم قبلهم بموسى صلى الله عليه وسلم إذ قال تعالى حاكيا عنهم قولهم : { فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله } ( الأعراف : 131 ) . وما أرى هذا الزنديق الأنوك إذ ( 5 ) اعترض بهذا الاعتراض كان إلا سكران الخمر ، وسكر عجب الصغير إذا كبر
صفحة ٤٤
، والخسيس إذا أشر ، والذليل الجائع إذا عز وشبع ، والسفلي إذا أمر وشط ، والكلب إذا دلل ونشط ، فإن لهذه المعاني مسالك خفية ( 1 ) في إفساد الأخلاق التي تقرب من الاعتدال . وكيف بخلق سوء متكرر في الخساسة والهجنة والرذالة والنذالة واللعنة والمهانة ولله در القائل ( 2 ) : [ إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ] . . . وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا ووضع الندى في موضع السيف بالعلا . . . مضر كوضع السيف في موضع الندى وهذا الذي قلنا هو المفهوم من نص الآية دون تزيد ولا انتقاص ولا تبديل لفظ ، والحمد لله رب العالمين كثيرا .
8 - ولكن لو تذكر هذا المائق الجاهل ما يقرأونه في كفرهم البدل وإفكهم المحرف بأخرق تحريف وأنتن معان - حاشا ما خذلهم الله تعالى في تركه على وجهه ليبدي فضائحهم ، فأبقوه تخبيثا من الله تعالى لهم ليكون حجة عليهم ، من ذكر عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم - في كتابهم الذي يسمونه : ' التوراة ' إذ يقولون فيه في السفر الرابع عن موسى صلى الله عليه وسلم انه قال مخاطبا لله عز وجل ( 3 ) : ' يا رب كما حلفت قائلا : الرب وديع ذو حن عظيم بعفو عن الذنب والسيئة وليس ينسى شيئا من المآثم ، الذي يعاقب بذنب الوالد الولد في الدرجة الثانية والرابعة ' . ويقرأون فيه أيضا في أول السفر الأول ( 4 ) : ' إن قاين ابن آدم عاقبه الله في السابع من ولده ' ثم يقرأون في الكتاب المذكور نفسه في السفر [ 150 و ] الخامس منه : ' إن الله تبارك وتعالى قال لموسى : لا تقتل الآباء لأجل الأبناء ، ولا الأبناء لأجل الآباء ، ألا كل واحد يقتل بذنبه ' - فلو تفكر هذا الجاهل المائق وعظيم التناقض لشغله عظيم مصابه عن أن يظن بقول الله تعالى الذي هو الحق الواضح الواحد غير المختلف : { قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا * ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } وهذا قد بيناه
صفحة ٤٥
كما مر آنفا انه لا مجاز للتناقض فيه أصلا ، وإنما التناقض المحض ما نسبوا إلى موسى عليه السلام من أنه قدر بربه أنه يغفر الذنب لفاعله ، ويعاقب بذلك الذنب من كان من ولد المذنب في الدرجة الرابعة ، ثم يقول في مكان آخر : أن لا تقتل الأبناء لأجل الآباء ولا الآباء لأجل الأبناء ، هذا مع إقرارهم بأنه ليس في التوراة ذكر عذاب ولا جزاء بعد الموت أصلا ، وإنما فيها الجزاء بالثواب والعقاب في الدنيا فقط ، فهذا هو التناقض المجرد الذي لا خفاء به ، وبالله تعالى التوفيق .
9 - الفصل الثاني :
وكان مما اعتراض به أيضا ان ذكر قول الله تعالى : { أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها دماءها ومرعاها والجبال أرساها } ، ( النازعات : 27 - 32 ) قال : فذكر في هذه الآية [ أن ] دحو الأرض وإخراج الماء والمرعى منها كان بعد رفع سمك السماء وبعد بنائها وتسويتها وإحكام ليلها ونهارها ، ثم قال في آية أخرى : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات ، وهو بكل شيء عظيم } ( البقرة : 29 ) قال : فذكر [ في ] هذه الآية ضد ما في الأولى ، وذلك أن هذه التسوية للسماء كانت بعد خلق ما في الأرض .
10 - قال أبو محمد : والقول في هذا كالقول [ 150 ب ] في التي قبلها ولا فرق وهو : ان بظاهر هاتين الآيتين يكتفى عن تطلب تأويل أو تكلف مخرج وهو : انه تعالى ذكر في الآية التي تلونا أولا أنه عز وجل بنى السماء ورفع سمكها وأحكم الدور الذي به يظهر الليل والنهار ، وأنه بعد ذلك أخرج ماء الأرض ومرعاها وأرسى الجبال فيها . وذكر تعالى في الآية الأخرى ان تسويته تعالى السموات سبعا وتفريقه بين تلك الطرائق ( 1 ) السبع التي هي مدار الكواكب المتحيرة والقمر والشمس كان بعد خلقه كل ما في الأرض . فلم يفرق هذا الجاهل المائق بين قوله تعالى : إنه سوى السماء ورفع سمكها وبين قوله تعالى : إنه سواهن سبع سموات . فهل بعد هذا العمى عمى ، وبعد هذا الجهل جهل
11 - وإنما أخبر تعالى ان تسوية السماء جملة واختراعها كان قبل دحو الأرض ، وأن دحوه الأرض كان قبل أن تقسم السماء على طرائق الكواكب السبع ، فلاح أن الآيتين متفقتان يصدق بعضهما بعضا . ولكن ليذكر هذا الجاهل على
صفحة ٤٦
ما يفتتحون به كذبهم المفترى وبهتانهم المختلق الذي يسمونه ' التوراة ' إذ يفترون ( 1 ) ان الله تعالى خلق إنسانا مثله ، ولم يكن انفرد عنه تعالى إلا بشيئين : علم الشر والخير ، ودوام الخلود والحياة ، وأن آدم صلوات الله وسلامه عليه أكل من الشجرة التي فيها علم الخير والشر ، فلما خالفه عظم ذلك عليه ؛ قال : هذا آدم أكل من الشجرة التي بها يكون علم الخير والشر فساوانا في ذلك ، فإن أكل من شجرة الحياة حصل على الخلد فكان مثلنا لا فضل لنا فيه ، فجعل يخرجه من الجنة وفي يده سيف يذود به شجرة الحياة ( 2 ) . حتى لقد انسخف ( 3 ) جماعة من نوكاهم إلى ان قالوا : إن لآدم كان إنسانا من نوع الإنس الذي نحن منه ، حصل على [ 151 / أ ] أكل شجرة الحياة فزاد ( 4 ) بهاؤه وحصل له الخلد . فلو أن ( 5 ) هذا الخسيس الجاهل تبرا إلى الله تعالى من المظاهرة لهذا الوضع وهذا الإعتقاد الساقط لكان أحظى ( 6 ) له . ولكن يأبى الله تعالى إلا أن يجعل له الخزي والمهانة ، ويؤجل له الخلود بين أطباق النيران المعدة له ولأمثاله ولأشباهه والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا .
12 - الفصل الثالث (7):
وكان مما اعترض به أيضا ان ذكر قوله عز وجل { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } إلى منتهى قوله في الآية نفسها { وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين } ( فصلت : 10 ) قال : فذكر في هذه الآية خلق الأرض في يومين وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام ، فهذه ستة أيام ، ثم ذكر قوله تعالى { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } ( فصلت : 11 ) إلى منتهى قوله تعالى { فقضاهن سبع سموات في يومين } ( فصلت : 12 ) . ثم ذكر قوله تعالى { ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام } ( ق : 38 ) .
13 - قال أبو محمد : والقول في هذه الآيات كالقول في التي مضى فيها الكلام ولا فرق ، وهي أنها تكتفي بظاهرها عن تكلف تأويل لها ، وأنه لا
صفحة ٤٧
يظن في شيء من هذا كله اختلافا ( 1 ) إلا عديم العقل سليب التمييز مطموس عين القلب ظليم الجهل ، لأنه تعالى إنما ذكر خلق الجميع من السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، فسر لنا تعالى تلك الأيام الستة ، فمنها يومان خلق فيهما ( 2 ) الأرض ومنها أربعة أيام قدر في الأرض أقواتها ، وأنه تعالى قضى السموات سبعا في يومين ، وقد صح بما تلونا قبل أن تسويته تعالى السموات سبعا كان بعد خلقه لما في الأرض جميعا ، فاليومان اللذان خلق [ الله ] تعالى فيهما السموات سبعا هما اليومان الآخران من الأربعة [ 151 ب ] الأيام التي قدر فيها أقوات الأرض لأن التقدير هو غير الخلق ، لان الخلق هو الاختراع والإبداع وإخراج الشيء من ليس إلى أيس بمعنى من لا شيء إلى ان يكون شيئا موجودا . وأما التقدير فهو الترتيب وإحكام الأشياء الموجودات بعد إيجادها ، وهذه معان لا يعلمها إلا من أعز الله تعالى نفسه من ذوي الهمم الرفيعة ، المترفعة عن مهانة الإساءة ودناءة المعايش ، القاصدة ( 3 ) إلى طلب المعاني الفاضلة ( 4 ) والحقائق المؤدية إلى معرفة الله تعالى ، ومعرفة رسوله صلى الله عليه وسلم ، والدخول في ظل الإسلام والملة الحنيفية المصحبة من الله تعالى السعد في الدنيا والنصرة والعزة ، المتكفل لها في الآخرة بالفوز بالجنة والقبول والرضوان والريحان ، والحمد لله رب العالمين الذي جعلنا من أهلها ، وإياه تعالى نسأل ان يميتنا عليها حتى نلقاه وهو راض عنا ، آمين . وأما من لم يقطع دهره إلا بالسرقة ولا أفنى عمره إلا بالخيانة والغش فبعيد عن إدراك هذه المعاني وفهمها .
14 - وليت شعري أين كان هذا الخسيس المائق إذ اعترض بهذا الاعتراض على هذه الأنوار الساطعة والحقائق الظاهرة عن التفكر فيما يقرأونه في هذيانهم المخترع وزورهم المفتعل الذي يسمونه ' التوراة ' إذ يقولون ( 5 ) : إن الله تعالى خلق الخلق في ستة أيام ، واستراح في اليوم السابع وهل تكون الراحة إلا لتعب ونصب قد خارت قواه وضعفت طبيعته فمثل هذا وشبههه من دينه الخسيس الذي يستسر ( 6 ) به لو تهمم بالفكرة فيه ثم بادر إلى التوبة منه والدخول في دين الله تعالى
صفحة ٤٨
الذي لا دين له سواه ، الذي به بدا الملك على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ، والحمد لله رب العالمين [ 152 و ] .
15 - الفصل الرابع :
ثم ذكر الخسيس الجاهل قول الله تعالى { هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون } ( المرسلات : 35 ) ثم قال في آية أخرى : { يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها } ( النحل : 111 ) قال : وهذا تناقض عظيم .
16 - قال أبو محمد : قد قال بعض العلماء المتقدمين : إن المنع من النطق المذكور في الآية إنما هو في بعض مواقف يوم القيامة ، وان الجدال المذكور في الآية الأخرى هو موقف آخر مما يتلو ذلك اليوم نفسه ، وهذا قول صحيح يبينه قول الله تعالى قبل الآية المذكورة ، إذ يقول عز وجل : { انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون * انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب * إنها ترمي بشرر كالقصر * كأنه جمالات ( 1 ) صفر * ويل يومئذ للمكذبين * هذا يوم لا ينطلقون * ولا يؤذن لهم فيعتذرون } ( المرسلات :
29 - 36 ) فيه بعذر . هكذا نص الآيات متتابعات ، لا فصل بينها ( 2 ) ، فصح أن اليوم الذي لا ينطقون فيه بعذر إنما هو يوم إدخالهم النار ، وهو أول اليوم التالي ليوم القيامة الذي هو يوم الحساب ، وهو أيضا ( 3 ) يوم جدال كل نفس عن نفسها ؛ وهذا بيان لا إشكال فيه أصلا .
17 - وها هنا وجه آخر وهو اتباع ظاهر الآيتين دون تكلف تأويل إلا أن يأتي بالتأويل نص آخر أو إجماع من جميع الأمة كلها ما بين الأشبونة والقندهار والشحر وأرمينية والمولتان ( 4 ) . فنقول وبالله نستعين : عن هاتين الآيتين بينتان لا اختلاف بينهما أصلا ، وإن النطق المنفي عنهم في الآية الأولى والمعذرة التي لم يؤذن لهم فيها إنما ذلك فيما عصوا فيه خالقهم تعالى ، كما ( 5 ) قال عز وجل في آية أخرى : { اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون } ( يس : 65 ) فلا عذر لكافر ولا لعاص أصلا ولا كلام لهم . وأما الجدال الذي ذكر الله تعالى حينئذ [ لكل نفس ] عن نفسها فإنما هو في طلب الناس مظالمهم [
صفحة ٤٩
125 ظ ] بعضهم من بعض ، فإن الله تعالى لا يضيع شيئا من ذلك ، على ما صح عن النبي صلى الله عليه [ وسلم ] من أن يوم القيامة يقص الشاة الجماء من الشاة القرناء ( 1 ) . وبيان هذا الذي قلنا ان المعذرة إنما هي إلى الله تعالى ، ولا عذر يوم القيامة لمن كفر بالله تعالى أو بنبي من أنبيائه ، وخالف الإسلام . وهذا هو الذي ( 2 ) يكون يوم القيامة ولا يعذر عليه أحد . وإنما هو مصدر جادل يجادل جدالا ، وجادل هو فعل من فاعلين لا ينكر أحد هذا من أهل اللغة ، فالله تعالى لا يجادل ، وإنما يجادل الناس بعضهم بعضا ، فكل أحد حينئذ يجادل من ظلمه ليقتص منه وهذا ما لا يعرى منه مؤمن ولا كافر ، فاستبان [ معنى ] الآيتين بظاهرهما دون تكلف تاويل ، وبطل ما ظنه هذا الجاهل ، والحمد لله رب العالمين .
18 - قال أبو محمد : ليس في حماقاتهم المبدلة التي يسمونها ' التوراة ' ذكر اجر ولا ثواب لمحسن بعد الموت ولا عقاب لمسيء في الدنيا أصلا ولا في الكتب التي ينسبونها إلى أنبيائهم من هذا قليل ولا كثير . فلو نظر هذا المجنون فيما ينسبونه إلى سليمان عليه السلام في تصويبه دعاء امرأة دعت له فقالت : ولا زالت أرواح أعدائك يدور بها الفلك ؛ وهذا إبطال الثواب والعقاب إلا على معنى التناسخ ومضا [ د ] لما ذكروه عن غيره من الأنبياء إن هنالك نارا ونعيما ؛ ومثل ما ينسبونه إليه أيضا عليه السلام من أنه قال مرة : ' عن العالم لا أول له ' وأنه قال مرة أخرى : ' أنا كنت مع الله تعالى حين خلق الأرض والسماء ' . فلو أن هذا الجاهل الشقي اشتغل بمثل هذا وشبهه من كذبهم وافترائهم لكان أولى به من تكلف ما لا يحسن ولا يدري ، مما قد فضحه ( 3 ) الله فيه عاجلا ، ويخزيه [ 153 / أ ] آجلا ، والحمد لله رب العالمين .
19 - الفصل الخامس :
ثم ذكر هذا الزنديق الجاهل قول الله تعالى { فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان } ( الرحمن : 39 ) قال : ثم قال في آية أخرى { فلنسألن الذي أرسل إليهم ولنسألن المرسلين } ( الأعراف : 6 ) قال : وهذا تناقض .
20 - قال أبو محمد : لو فهم هذا المائق الجاهل أدنى فهم لم يجعل هذا تعارضا ، أما قوله تعالى : { فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان } فإن [ ما ] بعد هذه الآية متصلا بها قوله تعالى : { فبأي آلاء ربكما تكذبان * يعرف
صفحة ٥٠
المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام * فبأي آلاء ربكما تكذبان * هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون * يطوفون بينها وبين حميم آن * فبأي آلاء ربكما تكذبان } ( الرحمن :
40 - 45 ) فصح بهذا النص ان هذا إنما هو في حين إيرادهم جهنم التي هي إن شاء الله دار هذا الخسيس ذي الظهارة اليهودية والبطانة الدهرية ولا [ ريب ] في أنه إذا أخذ بناصيته وقدميه ليهودي بها في النار ، نار جهنم ، فإنه لا يسال عن ذنبه ( 1 ) يومئذ . وأما قوله تعالى : { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين } ، فإنما ذلك في أول وقوفهم يوم البعث وحين المسألة والحساب . فارتفع التناقض الذي لا مدخل له في شيء من القرآن ولا في كلام النبي صلى الله عليه وسلم .
21 - ولكن هذا الوقاح المجنون لو تدبر ما في كذبهم المفترى الذي يسمونه ' التوراة ' في السفر الثاني منه ان الله تعالى قال لموسى بن عمران : إني أرى هذه الأمة قاسية الرقاب دعني لأعقب غضبي عليهم لأهلكهم وأقدمك على أمة عظيمة . ثم ذكروا أن موسى عليه السلام دعا ربه تعالى وقال في دعائه ( 2 ) : تذكر إبراهيم وإسماعيل وإسحق عبيدك الذين حلفت لهم بذلك وقلت لهم سأكثر ذريتكم حتى تكونوا كنجوم السماء وأورثهم جميع الأرض التي وعدتهم بها ويملكونها أبدا ، فحن [ 153 ظ ] السيد ولم يتم ما أراد إنزاله بأمته من المكروه .
22 - قال أبو محمد : هذا نص هذا الفصل عندهم . وهذه صفة لا يوصف بها إلا إنسان ضعيف النفس ، وفيه البداء ، وأنه تعالى لم يتم ما أراد ان يفعل ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .
23 - وفي السفر المذكور إثر هذا ان الله تعالى قال لموسى عليه السلام : ' من أذنب عندي سأمحوه من مصحفي ، فاذهب أنت وهذه الأمة التي عهدت إليك فيها ، وسيتقدمك ملك ' . ثم بعد شيء يسير ذكر ان الله تعالى قال لموسى : ' اذهب واصعد من هذا الموضع أنت وأمتك التي خرجت من أرض مصر إلى الأرض التي وعدت بها مقسما لإبراهيم وإسحق ويعقوب لأورثها
صفحة ٥١
نسلهم وأبعث بين يديك ملكا لإخراج الكنعانيين والأموريين والبرزيين والحيثيين واليبوسيين ( 1 ) ، وتدخل في أرض تفيض ( 2 ) لبنا وعسلا ، لست أنزل معكم لأنكم أمة قاسية الرقاب لئلا تهلك بالطريق . فلما سمع العامة هذا الوعيد الشديد عجت تبكي ( 3 ) ولم تأخذ زينتها . فقال لموسى بن عمران ( 4 ) : قل بني إسرائيل أنتم قد قست ( 5 ) رقابكم ، سأنزل عليكم مرة أهلككم فضعوا زينتكم لأعلم ما أفعله بكم . ثم ذكروا جواب موسى عليه السلام لله تعالى على هذا الكلام فقال : وكان يكلم السيد موسى عليه السلام فما لفم ، كما ( 6 ) يكلم المرء صديقه ، فقال موسى بن عمران السيد : أتأمرني ان أقود هذه الأمة ولا تأمرني ما أنت باعثه معي . فقال له السيد : سيقدمك وجهي وأروح عندك . فقال موسى عليه السلام : إن لم تتقدمنا أنت فلا ترحلنا ( 7 ) من هذا الموضع ، وكيف اعرف أنا وهذه الأمة أنك عنا راض إذا لم تنطلق معنا ونتشرف بذلك على جميع من سكن الأرض من الأجناس فقال له : سأفعل ما قلت لأني عنك راض . 24 - قال أبو محمد : ففي هذا الفصل من السخف [ 154 / أ ] غير قليل ، وبيان لا يحتمل تأويلا ( 8 ) ، لان فيه البداء ، وأنه تعالى عما يقولون علوا كبيرا ، قال إنه لا يمضي معهم لكن يبعث معهم ملكا يبصرهم بأمر الله
صفحة ٥٢
تعالى ، فلم يزل به موسى حتى رجع عن قال عز وجل وقال : سأمضي معكم ، ولم يقنع موسى بمسير الملك معهم إلا بمسير الباري عز وجل معهم . وفي هذا تحقيق النقلة على الباري في الأماكن ، وليست هذه صفة الله تعالى وغنما هي من صفات المخلوقين ؛ وفيه التكليم فما لفم وتحقيق التجسيم والتناقض على الباري تعالى في كلامه وفعله ، دون تأويل . ولا مخرج لهم من هذا .
25 - فلو فكر هذا الوقاح الزنديق في مثل هذا وشبهه لزجره ( 1 ) عن التعرض لما لا سبيل له إليه وحسبنا الله تعالى ونعم الوكيل . ولو ان هذا الزنديق المائق كان له أقل تحصيل ، لما أقدم على المظاهرة ( 2 ) بهذا الدين الخسيس طرفة عين ، ولكنه لم يقره الشيطان من كل ما استبان له من هذا البهتان إلا انسلاخه من جميع الأديان ، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان .
26 - الفصل السادس :
ثم ذكر هذا الزنديق الجاهل قول الله تعالى مخاطبا لنبيه عليه السلام : { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك الكتاب فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك } ( 3 ) ، ( يونس : 94 ) قال هذا المجنون : فهذا محمد كان في شك مما ادعاه .
27 - قال أبو محمد : كان يلزم هذا الخسيس ( 4 ) أن لا يتكلم في لغة لا يحسنها ، ولكن أبى الله تعالى إلا أن يكشف سوءته ويبدي عورته . وليعلم ان [ إن ] في هذه الآية ليست التي بمعنى الشرط ، لان من المحال العظيم الذي لا يتمثل في فهم من له مسكة أن يكون إنسان يدعو إلى دين يقاتل عليه وينازع فيه ( 5 ) أهل الأرض ويدين به أهل البلاد العظيمة ثم يقول لهم : إني في شك مما أقاتلكم عليه أيها المخالفون [ 154 ب ] ولست على يقين مما أدعوكم إليه وأحققه لكم أيها التابعون ، إلى مثل هذا السخف الذي لا يتصور إلا في مثل دماغ هذا المجنون الجاهل . وإنما معنى ' إن ' ها هنا الجحد فهي هنا بمعنى ' ما ' وهذا المعنى هو أحد
صفحة ٥٣
موضوعاتها في اللغة العربية ، كما قال تعالى آمرا ( 1 ) نبيه صلى الله عليه وسلم ان يقول : { إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون } ( الأعراف : 188 ) بمعنى : ما ( 2 ) أنا ندير وبشير لقوم يؤمنون ، كما ذكر الله عز وجل عن الأنبياء انهم قالوا : { إن نحن إلا بشر مثلكم } ( إبراهيم : 11 ) وكما قال تعالى مخبرا عن النسوة إذ رأين يوسف عليه السلام فقلن : { إن هذا إلا ملك كريم } ( يوسف : 31 ) بمعنى : ما هذا إلا ملك كريم ، وكما قال تعالى : { لو أردنا ان نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين } ( الأنبياء : 17 ) أي ما كنا فاعلين . فعلى هذا المعنى خاطب نبيه عليه السلام : فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك ، ثم قال تعالى فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك ، لقد جاءك الحق من ربك بمعنى ولا أعداؤك الذين يقاتلونك من الذين أوتوا الكتاب من قبلك ما هم أيضا في شك مما أنزلنا إليك بل هم موقنون بصحة قولك وانك نبي حق ، رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا شك عندهم في ان الذي جاءك الحق . ومثل هذا أيضا قوله تعالى : { وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال } ( إبراهيم : 46 ) تهوينا ( 3 ) له : وكذلك قوله تعالى : { قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ) ، ( الزخرف : 81 ) بمعنى ما كان للرحمن ولد فأنا أول الجاهدين لا يكون له ولد . فوضح جهل هذا المعترض وضعف تمييزه ، والحمد لله رب العالمين .
28 - ولو ان هذا الجاهل الأنوك تدبر ما في باطلهم المبتدع وهجرهم الموضوع الذي يسمونه ' توراة ' إذ يقول : عن موسى عليه السلام راجع ربه إذ أراد إرساله وقال ( 4 ) : من أنا [ 155 و ] حتى أمضي ( 5 ) إلى فرعون ، أرسل من تريد ترسل . وأغضب ربع تعالى بذلك ، وان يعقوب عليه السلام صارع ربه ( 6 ) ليلة بتمامها وهو لا يعرف من هو ، فما انسلخ الصباح عرف انه الله - تعالى الله عن هذا الحمق من الكفر علوا كبرا - قالوا : فلما عرفه امسكه فقال له ربه : أطلقني ، فقال له يعقوب : لا أطلقك حتى تبارك علي ، فقال له ربه : كيف لا أبارك عليك وأنت كنت قويا على الله فكيف
صفحة ٥٤
على الناس ! ثم مس مأبضه ( 1 ) ، فعرج يعقوب من وقته فكذلك لا يأكل بنو إسرائيل من عروق الفخذ لان الله تعالى مسه . ولا يجرؤ ( 2 ) منهم أحد فيقول : إن المصارع ليعقوب كان ملكا ، فإن لفظ اسم المصارع له في توراتهم ' إلوهيم ' وهذا هو اسم الله تعالى وحده بالعبرية - فلو ان هذا الجاهل تفكر في مثل هذا وشبهه لعلم ان الحق بأيدي غيرهم وأنهم في باطل وغرور ، وعلى ( 3 ) ضلال وزور ، والحمد لله رب العالمين وحسبنا الله تعالى .
29 - الفصل السابع :
ثم ذكر هذا المائق الجاهل قوله تعالى في وصف العسل : إن فيه شفاء للناس ، فقال : وكيف هذا وهو يؤذي المحمومين وأصحاب الصفراء المحترقة
30 - قال أبو محمد : لو كان مع هذا الجاهل الأنوك أقل معرفة بطبائع الإنسان أو فهم مخارج اللغة العربية لم يأت بهذا البرسام . أما اللغة فإن الله تعالى لم يقل : العسل شفاء لكل علة ، وإنما قال تعالى : فيه شفاء للناس ؛ وهذا لا ينكره إلا رقيع سليب العقل والحياء أو موسوس ، لان منافع العسل وشفاءه في إسخان المبرودين وتقطيع البلغم وتقوية الأعضاء حتى صار لا يطبخ اكثر الأشربة إلا به ولا يعجن جميع اللعوقات إلا به ، وما وصف جالينوس وبقراط ، وهما عميدا أهل الطب ، طبخ شيء من الأشربة إلا به جملة ، وما ذكرا ( 4 ) قط أن [ 155 ب ] يطبخ شراب بسكر .
31 - وكيف ينكر هذا الأنوك ان يكون العسل شفاء محضا ، وهي أغلب أموره ، فكيف أن يكون به شفاء ، وهم يصفون عن نبي من أنبيائهم انه شفى أكلة في عضو إنسان بتين مدقوق وجعله عليه فإذا كان في التين شفاء من بعض الملل فكيف ينكر هذا الخسيس ان يكون في العسل أشفية كثيرة وقد وجدنا ( 5 ) في اختلاطهم الذي يسمونه ' توراة ' عن الله تعالى في عدة مواضع انه إذا بلغ الغاية في مدح ارض القدس التي وعدهم بها قال : إلا أنها أرض تنبع عسلا ولبنا ، ووعدهم فيها بأكل عسل الصخور . أفترى إذ ليس في العسل
صفحة ٥٥
شفاء أصلا ، إنما وعدهم تعالى بما فيه الداء والبلاء لا بما فيه الشفاء ، هذا مع إنكار العيان ، وجحد الضرورات في منافع العسل .
32 - الفصل الثامن :
ثم ذكر هذا الزنديق الجاهل قول الله تعالى : { ونزلنا من السماء ماء مباركا ) ( ق : 9 ) وقال : كيف يكون مباركا وهو يهدم البناء ، ويهلك كثيرا من الحيوان
33 - قال أبو محمد : من لم يكن مقدار فهمه وعقله إلا هذا المقدار ، لقد عجل الله له العقوبة في الدنيا والحمد لله رب العالمين . وليت شعري أما درى هذا الجاهل انه لولا شرب الماء لم يكن في الأرض حيوان أصلا لا إنسان ولا ما سواه ، وأن عناصر جميع المياه الظاهرة على وجه الأرض والمختزنة في أعماقها إنما هي من مواد القطر النازل من السماء أما راى هذا الأنوك ان الأمطار إذا كثرت غزرت العيون وفهقت الأنهار وطفحت البرك وامتلأت الآبار وسالت السيول وتفجرت في الأرض ينابيع حتى إذا قلت الأمطار وضعفت العيون ونقصت الأنهار وجفت ( 1 ) البرك والآبار وانقطعت السيول وغارت الينابيع ، خشنت الصدور وفسد الهواء أما رأى [ 156 / أ ] أنه لا نماء لشيء من النبات كله ، منزرعه ( 2 ) وصحراويه ، وجميع الشجر بساتينها وشعرائها إلا بالماء النازل من السماء أما قرأ في هذيانهم الذي يسمونه ' توراة ' امتنان الله تعالى في صفة الأرض المقدسة بأنها لا تسقى من النيل ، كما تسقى أرض مصر لكن من ماء السماء أتراه إنما من عليهم بضد البركة لا بالبركة إن هذا لعجب . أما علم أن الأمطار ترطب الأجسام وتذهب بقحلها ( 3 ) وأن بالماء الذي عنصره ماء السماء تزال الخسيس وجهله وهو عميد اليهود وعالمهم وكبيرهم ، وهذا مبلغه من الجهل والسخف ، ونستعيذ بالله من الجهل والضلالة ، والحمد لله رب العالمين .
34 - قال أبو محمد : ها هنا انتهى كل ما ظن المائق أنه اعترض به ، قد بان فيه كله زوره وجهله واغتراره ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . ثم نحن عن شاء الله تعالى ذاكرون بحول الله تعالى وقوته قليلا من كثير من قبائحهم يديرونها وينسبونها إلى الباري تعالى في كتبهم التي طالعناها ووقفنا عليها ، وتضاعف بذلك شكرنا لله
صفحة ٥٦
تعالى على عظيم ما منحنا من نعمة الإسلام والملة التي ابتعت بها محمدا صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا وعلى آله الطيبين والحمد لله على ما أولانا من فضل الإسلام وشرف الإيمان .
35 - اعلموا أيها الناس ، علمنا الله وإياكم ما يقربنا منه ويزلف حظوتنا ( 1 ) لديه أن اليهود أبهت الأمم وأشدهم استسهالا للكذب ، فما لقيت منهم أحدا قط مجانبا للكذب القبيح على كثرة من لقينا منهم ، إلا رجلا ( 2 ) واحدا في طول أعمارنا ، فطال تعجبي من ذلك إلى ( 3 ) أن ظفرت بسرهم من ذلك في هذا الباب ، وهو انهم يعتقدون بسخفهم وضعف [ 156 ب ] عقولهم أن الملائكة الذين يحصون أعمال العباد لا يفقهون العربية ولا يحسنون من اللغات شيئا إلا العبرانية ، فلا يكتب عليهم كل ما كذبوا فيه بغير العبرانية ، فحسبكم بهذا المقدار من الجهل العظيم والحمق التام !
36 - فمن طوامهم أن علماءهم يقولون : إن الله عز وجل إنما ستر عن يعقوب أمر يوسف وكونه في مصر ثلاثة عشر عاما كاملا ، لأن أولاد يعقوب لعنوا كل من ينقل إلى أبيهم ان يوسف حي . قالوا : فدخل الله تحت هذه اللعنة إذا أطلع يعقوب على حياة يوسف ، تعالى الله عن إفك هؤلاء المجانين وكفرهم . واغوثاه من عظيم هذا الحمق ! أفيكون في البقر والحمير أو الكلاب أضل من قوم هذا مقدار عقولهم ، ان يجيزوا أن تكون لعنة مخلوق تلحق الخالق اللهم فإنا نحمدك على توفيقك إيانا للإسلام وهدايتك إليه ، ونسألك الثبات عليه إلى ان نلقاك مسلمين ، برحمتك آمين . ثم العجب انهم قالوا في إخوة يوسف إنهم كانوا المخبرين ليعقوب بحياة يوسف ، فهكذا في نص الكتاب المسمى عندهم ' التوراة ' ، فما نرى اللعنة إلا قد لحقتهم .
37 - ثم نجدهم لا يستحيون من أن ينسبوا إلى الأنبياء عليهم السلام انهم زنوا ، وانهم من نسل الزنا ، فإن السفر الأول من كتابهم ذلك المسمى ' توراة ' : أن يهوذا زنى بامرأة ولده ورشاها على ذلك جديا من الغنم ، ورهنها بالوفاء بذلك عصاه وزناره وخاتمه . وقد وقفت بعضهم على هذا فقال لي : كان ذلك مباحا عندهم ، فقلت له : إنك تقول الباطل ، إذ ( 4 ) ان في توراتهم أن يهوذا ( 5 ) الذي جامعها أمر بها أن تحرق إذ ظهر حملها . فإن كان ذلك ، فلم أمر بحرقها ثم لا
صفحة ٥٧
يستحيون ان يقولوا : إن من ذلك الزنا حملت بفارص ( 1 ) ابن يهوذا الذي من نسله كان داوود وسليمان عليهما السلام ، وكثير من الأنبياء كعاموص وشعيا وغيرهم .
38 - ومن عجائبهم [ 157 / أ ] انهم يقولون : عن كل نكاح كان على غير حكم التوراة فهو زنا والمتولد منه ولد زنا ، حتى إنهم يبيحون لمن تهود من سائر الأديان ان يتزوج أخته [ من ] أبيه . ثم لا يستحيون ان يقولوا إن موسى وهرون أخاه تولدا من نكاح عمران بن قاهث بن لاوي عمته أخت أبيه يوخابد ( 2 ) بنت لاوي . وأن سارة أم إسحق كانت أخت إبراهيم ابنة والده تارح ، وأن سليمان بن داود كان ابن امرأة زنى بها داود ، وولدت منه ابنا من الزنا وتزوجها أو زنى المحمى حتى لم يطلقها ( 3 ) ويقولون : إن الجمع بيت الأختين زنا ، وان وطء الإماء بملك اليمين زنا ، والمتولد من هذه النكاحات زنا ، وهم يقرون أن جميع ولد يعقوب عليه السلام كانوا من أختين نكحهما معا ، وهما ليا وراحيل ابنتا لابان ، فولدت له ليا ستة ذكور ، وولدت له راحيل يوسف وبنيامين ( 4 ) ، وأن الأربعة الباقين من ولد يعقوب ولدوا له من زلفاء وبلها ، أمتي ( 5 ) راحيل وليا ، وطئهما بملك اليمين لا بزواج أصلا ، لأن في توراتهم ان لابان أخذ عليه العهد عند كوم ( 6 ) الشهادة أن لا يتزوج على ابنته ، فكلهم من أبناء هذه الولادات . وهاتان مقدمتان تنتج ان جميع بني إسرائيل وجميع اليهود أولاد زنا . فغن قالوا : كان ذلك حلالا قبل أن يحرم ، أقروا بالنسخ ، وإن قالوا : إن ذلك خاص لبني إسرائيل مذ أنزلت التوراة ، لزمهم ترك قولهم : إن كل مولود في الأمم بخلاف حكم التوراة فهو ولد زنا ، وعلى كل حال يلزمهم أن أولاد سليمان عليه السلام كانوا أولاد زنا بحت ، لأنهم مقرون انهم كانوا من أبناء العمونيات والموآبيات وسائر الأجناس ، ورؤوس الجواليت إلى اليوم من أبناء من ذكرنا ، تعالى الله تعالى وتنزه أنبياؤه عليهم السلام عن هذه المخازي ؛ وإسحق أبوهم ، وهرون وموسى وداود وسليمان ويوسف على قول [ 157 ب ] هؤلاء الكفرة ، لعنهم الله ،
صفحة ٥٨
ولدوا ( 1 ) لغير رشدة ، لعن الله قائل هذا معتقدا له ومصدقا له .
39 - ومن عجائبهم أنهم يقرون في كتابهم المسمى بالتوراة ان السحرة فعلوا بالرقي المصري مثلما فعل موسى بن عمران صلى الله عليه وسلم من قلب العصا حية ، ومن قلب ماء النيل ، ومن استجلاب ( 2 ) الضفادع ، حاشا البعوض فلم يقدروا عليه ( 3 ) .
40 - قال أبو محمد : لو صح هذا ، وأعوذ بالله ، وأعوذ بالله ، لما كان بين موسى عليه السلام والسحرة فرق إلا قوة العلم والتمهر في الصناعة فقط ، ونحن نبرأ إلى الله تعالى من أن يكون آدمي يقدر بصناعته على خرق عادة ، أو قلب عين ، وننكر ان الله تعالى يولي ذلك أحدا غير الأنبياء صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا ، الذين جعل الله تعالى ظهور المعجزات عليهم شاهدا لصدقهم .
41 - ومن عجائبهم قولهم في نقل أحبارهم الذي هو عندهم بمنزلة ما قال الأنبياء : إن فرعون كان بنى في المفاز صنما يقال له باعل صفون ( 4 ) ، وجعله طلسما باستجلاب بعض قوى الأجرام العلوية ، ليحير ( 5 ) به كل هارب من أرض مصر ، وان ذلك الطلسم حير موسى وهارون وجميع بني إسرائيل حتى تاهوا أربعين سنة في فحص التيه إلى أن ماتوا ( 6 ) ملوكهم في المفاز ، أولهم عن آخرهم ، حاشا يوشع بن نون الافراهيمي ، وكالب بن يوفنا اليهوذاني ( 7 ) . فتبا وسحقا لكل عقل يزعم صاحبه ان صناعة آدمية وحيلة سحرية غلبت قوة الله تعالى ، وأعجزت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات تائها في المفاز حائرا في القفار .
42 - ومن تكاذيبهم قولهم في الكتاب الذي يسمونه ' التوراة ' : ان الله تعالى قال لهم : سترثون الأرض المقدسة وتسكونها في الأبد . ونحن نقول : معاذ الله أن يقول الله تعالى الكذب ، وقد
صفحة ٥٩
ظهر هذا الوعد ، فما سكنوه في [ 158 / أ ] الأبد وما عمروه إلا مدة يسيرة من آباد الأبد ، ثم أخلوه وأخرجوا عنه وورثه الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
43 - ومن عجائبهم قولهم فيه : إن الله عز وجل قال لموسى : إذا أراد بنو إسرائيل الخروج عن مصر أن يأخذ أهل كل بيت من بني إسرائيل خروفا أو جديا ( 1 ) ويذبحونها مع الليل ويأخذون من دمائها ويمسون بها أبوابهم وعتب بيوتهم ، ثم قال : قلت سأمسح بأرض مصر هذه الليلة ، وأهلك كل بكر ولد بأرض مصر من أبكار الآدميين وبكور ( 2 ) نتاج المواشي ، واحكم في مصر أنا السيد وعند ذلك يكون الدماء . الدم لكم في البيوت التي تكونون فيها ، فإذا نظرت إلى ذلك تجاوزكم ولا يصل إليكم ضر . ثم قال بعد أسطار حاكيا عن موسى انه قال لبني إسرائيل ( 3 ) : اذهبوا وليذبح أهل كل بيت منكم الضأن ، وعيدوا واصبغوا في دمائها رانا ( 4 ) ، ورشوا به أبوابكم وأعتابكم ولا يخرج أحد عن باب بيته إلى الصبح ، فإن السيد سيمسخ ويهلك المصريين ، فإذا نظر إلى الدم على العتب وفي الأبواب لم يجاوز الباب ، ولا يأذن للقاتل ( 5 ) بالدخول إلى بيوتكم وقتلكم .
44 - قال أبو محمد : فيكون أسخف من عقول [ من ] ينسبون إلى الله تعالى مثل هذا الكلام الفاسد أو ترى الله عز وجل لا يعرف أبوابهم حتى يجعل عليها علامات ! إن هذا لعجب . لو عقل هذا المجنون لشغله هذا السخام الذي في دينه الذي يباهي به ، عن التعرض للحقائق يروم إبطالها ، فكان كما قال الله عز وجل : { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون } ( الصف : 8 ) .
45 - ومن عجائبهم أنهم يلتزمون
صفحة ٦٠