10
وإذن فلو قلنا إن كل شيء يحدث طبقا لقوانين الطبيعة أو ينتظم بحكم الله أو بأمره فإننا نقول الشيء نفسه. ثانيا، لما كانت قوة جميع الأشياء الطبيعية هي في ذاتها قدرة الله نفسها التي يحدث بها كل شيء ويتحدد، فيترتب على ذلك أن كل ما يستعين به الإنسان - وهو نفسه جزء من الطبيعة - في عمله للمحافظة على وجوده، وكل ما تقدمه الطبيعة له - دون أن تتطلب منه جهدا - قد قدمته له في الحقيقة القدرة الإلهية وحدها من حيث هي فاعلة من خلال طبيعة الإنسان نفسها، أو من خلال أشياء خارجة عن طبيعة الإنسان ذاتها.
11
وإذن يمكننا أن نسمي كل ما تستطيع الطبيعة الإنسانية أن تنتجه بقدرتها الخاصة للمحافظة على وجودها عون الله الداخلي،
12
ونسمي كل ما تنتجه قوة الأشياء الخارجية مما فيه منفعة هذه الطبيعة الإنسانية، بالعون الخارجي. ومن هذا يبدو لنا بوضوح ماذا نقصد باختيار الله. فلما كان من المحال ألا يسلك أحد سلوكا إلا طبقا لنظام الطبيعة المحدد من قبل، أي طبقا لحكم الله وأمره الأزلي، فإنه يترتب على ذلك أن أحدا لا يختار أسلوب حياته أو يفعل شيئا إلا برسالة خاصة من الله الذي اختار هذا الفرد وفضله على الآخرين ليقوم بهذا العمل أو ليحيا وفقا لهذا الأسلوب. وأخيرا، أقصد بالحظ حكم الله من حيث سيطرته على أمور البشر عن طريق العلل الخارجية التي لا يمكن توقعها. وبعد أن وضعت هذه التعريفات فلنعد إلى موضوعنا، ولنبحث في السبب الذي سميت من أجله الأمة العبرانية أمة مختارة ومفضلة على سائر الأمم. ولكي أبرهن على ذلك سأسير بالترتيب الآتي:
إن كل ما يمكن أن يكون موضوعا لرغبة صادقة منا يرتد إلى واحد من الموضوعات الرئيسة الثلاثة: معرفة الأشياء بعللها الأولى، والسيطرة على انفعالاتنا أي الحصول على الفضيلة، وأخيرا، العيش في سلام مع جسم سليم. وتوجد الوسائل التي تستخدم مباشرة في الحصول على الموضوعين الأولين - والتي يمكن اعتبارها عللا قريبة وفاعلة لهما - في الطبيعة الإنسانية نفسها؛ لذلك، كان علينا أن نسلم دون أدنى تحفظ بأن هاتين الهبتين لا تخصان أمة دون أمة، بل كانتا على الدوام شائعتين لدى الجنس البشري كله، ومن يرى خلاف ذلك يفترض أن الطبيعة قد خلقت سلفا أنواعا عديدة من الجنس البشري. أما الوسائل التي يتبعها الإنسان ليعيش في أمان وليحافظ على جسده، فإنها توجد أساسا في الأشياء الخارجية؛ لذلك نسميها هبات الحظ لأنها تعتمد إلى حد كبير على مسار العلل الخارجية، وهو المسار الذي لا نعلمه، بحيث يكون الأبله سعيدا أو شقيا في هذا الصدد كالحكيم. ومع ذلك، فلكي يعيش الإنسان في أمان، ولكي يتجنب هجمات البشر والوحوش على السواء، فإن حكم الحياة البشرية واليقظة يفيدانه فائدة جمة. وقد أثبت العقل والتجربة أن أيقن الوسائل لذلك هو تكوين مجتمع يقوم على القوانين السليمة، وشغل منطقة معينة من العالم، واتحاد قوى الجميع في الكيان الاجتماعي نفسه. على أنه لا بد، من أجل تكوين مجتمع والمحافظة عليه، من اكتساب تركيب خاص، ومن يقظة غير عادية. وعلى ذلك، فإن المجتمع الذي يرسي دعائمه ويحكمه أناس على قدر كبير من الدراية واليقظة يكون أكثر أمانا واستقرارا وأقل خضوعا للحظ، أما المجتمع الذي يتكون من أناس أجلاف فإنه يكون أكثر اعتمادا على الحظ وأقل استقرارا. فإذا كان قد بقي مدة طويلة مع وجود ما فيه، فإن هذا يرجع إلى حكم مجتمع آخر له، لا إلى حكمه الخاص. وإذا خرج سالما من المخاطر الكبيرة وازدهرت أحواله فإنه لا يستطيع إلا أن يقدر حكم الله وأن يعظمه (بقدر ما يفعل الله بوساطة علل خارجة مجهولة لا بوساطة الطبيعة والفكر البشريين) لأنه نال كل شيء على غير انتظار دون تدبير سابق، وهو ما يمكن اعتباره أمرا معجزا.
13
في هذا وحده إذن تتميز الأمم فيما بينها، أعني من حيث النظام الاجتماعي والقوانين التي تحكمها وتنظم حياتها. وقد اختار الله الأمة العبرية وفضلها على سائر الأمم، لا بالنسبة إلى حكمتها أو طمأنينة نفسها، بل بالنسبة إلى النظام الاجتماعي وإلى الحظ الذي جلب لها إمبراطورية (دولة) وحفظها لها سنين طويلة.
14
صفحة غير معروفة