ولا يهم بعد ذلك أن يكون الله روحا، أو نارا، أو نورا، أو فكرا، كما لا شأن لنا بالعلم الإلهي الصادر عن ماهيته، أو بالقدرة الإلهية، أو بأثره على الحرية، والضرورة في طبيعته، وإلا لتعرض إيماننا للخطر. فليتصور كل إنسان هذه الأمور حسب عقليته الخاصة بشرط أن يكون إيمانه صادقا، فمقياس الإيمان هو صدقه لا حقيقته، ومن يعطي أفضل الحجج لا يكون بالضرورة أفضل المؤمنين، ولا يدرك أهمية ذلك إلا من يفكر في المصلحة العامة . لا يهمنا إذن أن يكون الصوت الذي سمعه موسى على جبل سينا حقيقيا أم زائفا، فليس لدينا يقين رياضي على ذلك، يكفي أن يثير هذا الصوت فينا إعجابا بالله إذ لم يقصد الله بهذا الصوت الكشف عن ماهيته وصفاته.
92
ثالث عشر: العقل واللاهوت
وقبل أن ينتقل سبينوزا إلى الجزء السياسي في الرسالة، يتناول آخر مشكلة في الجزء اللاهوتي، هو الصلة بين العقل واللاهوت، وهي المشكلة التقليدية في فلسفات الأديان والتفكير الديني بوجه عام، مشكلة الصلة بين الفلسفة والدين، أو بين العقل والإيمان، ولكن سبينوزا لا يتحدث عن الدين والإيمان، ما دامت مهمة الدين والإيمان هي الحث على الطاعة من أجل حب الجار، وممارسة العدل والإحسان.
يرى سبينوزا أنه لا توجد أي صلة بين العقل والإيمان، أو بين الفلسفة والدين، أو كما يقول هو، بين العقل والفلسفة من ناحية وبين الإيمان واللاهوت من ناحية أخرى؛ إذ يقوم كل علم، سواء الفلسفة أو اللاهوت، على مبادئ مختلفة اختلافا جذريا عن المبادئ التي يقوم عليها العلم الآخر، فغاية الفلسفة الحقيقة، وغاية الإيمان الطاعة. تقوم الفلسفة على مبادئ وأفكار صحيحة، وتستمد من الطبيعة وحدها، وتعرف بالنور الفطري، ويقوم الإيمان على التاريخ وفقه اللغة، ويستمد من الكتاب وحده، ويعرف بالوحي. أسلوب الفلسفة هو العقل الذي يدرك الأشياء على ما هي عليه، وأسلوب الإيمان هو التخيل الذي يبغي التأثير في النفوس؛ ولذلك يترك الإيمان لكل فرد الحرية في أن يتفلسف كما يشاء، حتى في موضوع العقائد، ولا يدين إلا من يحث الآخرين على العصيان والكراهية والجدل والغضب، ولا يثني إلا على من يحث على ممارسة العدل والإحسان على قدر عقولهم.
ولكن هناك مشكلة زائفة يعرض لها الباحثون لأنهم لا يفرقون بين الفلسفة واللاهوت، ويصوغونها على النحو الآتي: هل الكتاب تابع للعقل أم العقل تابع للكتاب؟ وبعبارة أخرى: هل يجب توفيق الكتاب طبقا للعقل أم توفيق العقل طبقا للكتاب؟
والذين ينكرون يقين العقل مثل الشكاك، يتبنون النظرية الثانية التي تجعل العقل تابعا للكتاب، أو التي توفق العقل طبقا للكتاب، والذين يؤمنون بيقين العقل ويتطرفون فيه مثل القطعيون ، يتبنون النظرية الأولى التي تجعل الكتاب تابعا للعقل، أو التي توفق الكتاب طبقا للعقل، ويرى سبينوزا أن كلتا النظريتين خاطئة، فكلتاهما تزيف العقل والكتاب، فالكتاب لا يعلم الأفكار والفلسفة، بل يدعو إلى الإيمان الصادق، وقد تكيف حسب العقلية الشعبية وأحكامها السابقة، فإذا جعلنا الفلسفة في خدمة اللاهوت، ووفقنا العقل مع الكتاب اضطررنا إلى قبول الأحكام السابقة للعصور الماضية على أنها حقائق إلهية، وإذا وفقنا الكتاب مع العقل نسبنا إلى الأنبياء عن غير حق أشياء لم يقصدوها ولم يحلموا بها، وفسرنا أقوالهم تفسيرا خاطئا، وكلتا النظريتين خاطئة، الأولى لإغفالها العقل، والثانية لاعتمادها على العقل.
ويمثل يهوذا البكار الاتجاه الذي يريد أن يجعل العقل خادما للكتاب، وخاضعا له كلية، وقد أراد البكار تجنب خطأ الاتجاه المضاد الذي يجعل الكتاب خادما للعقل، وخاضعا له، هذا الاتجاه الذي يمثله موسى بن ميمون، ولكنه وقع في الخطأ المضاد. يرى البكار أنه لا ينبغي تأويل أي نص من الكتاب تفسيرا مجازيا، بحجة أن المعنى الحرفي يعارض العقل، في حين أنه يجوز التأويل إذا ما عارض النص الكتاب نفسه أي إذا ما عارض العقائد التي يدعو إليها الكتاب. ويضع البكار القاعدة التالية: يجب قبول كل ما يدعو إليه الكتاب من عقائد وتؤكده النصوص الصريحة على أنه حق، بناء على سلطة الكتاب وحده. ومن حيث المبدأ، لا يوجد في الكتاب تعارض بين العقائد، بل قد يوجد في نتائجها فحسب؛ وذلك لأن تعبيرات الكتاب تتضمن في بعض الأحيان عكس ما توحي به عادة. هذا النوع من النصوص فقط يمكن تفسيره تفسيرا مجازيا، ابتداء من النصوص الأخرى، مثلا تشير بعض نصوص الكتاب إلى تعدد الآلهة، في حين أن الكتاب كله يشير إلى وحدانية الله؛ لذلك يمكن تفسير النصوص الأولى تفسيرا مجازيا، كما تعزو بعض نصوص الكتاب الحسية إلى الله، في حين أن الكتاب كله ينفيها، ومن ثم يمكن تفسير النصوص تفسيرا مجازيا. فمنهج البكار له الفضل في تفسير الكتاب بالكتاب ، ولكنه يخطئ عندما يتحول إلى هدم للعقل. صحيح أنه يجب تفسير الكتاب بالكتاب عندما نريد فهم معنى النص، ولكننا إذا فهمنا معناه يمكننا بعد ذلك إصدار حكم العقل على هذا المعنى، حتى يتسنى لنا قبوله أو رفضه. نتساءل إذن: هل يجب خضوع العقل كلية إلى الكتاب إذا ما عارض العقل الكتاب؟ هل يكون هذا الخضوع خضوعا عاقلا أم أعمى؟ إذا كان الخضوع خضوعا أعمى، كما هو الحال عند البكار، نكون حمقى لأننا لا نعتمد على حكم العقل، أما إذا كان خضوعا عاقلا فإننا في هذه الحال نعتمد على العقل في فهمنا للكتاب، وهو ما يبغيه البكار.
93
ولكن كيف يخضع العقل، هذه الهبة الرائعة، وهذا النور الإلهي، إلى حرف مائت خاضع للزيف الإنساني؟ هل يقتضي الدفاع عن الإيمان بالضرورة إلغاء العقل؟ إن نهج البكار يجعلنا نخاف من الكتاب، لا أن نثق فيه؛ لأنه يدعونا إلى ترك العقل، وأن نقبل على أنه حق ما يثبته الكتاب، وأن نرفض على أنه باطل ما ينفيه الكتاب، والكتاب نفسه لا يثبت أو ينفي إلا ما تثبته أو تنفيه النصوص، ولكن الكتاب أسفار عديدة، كتبت في مناسبات مختلفة، وفي عصور متعاقبة، لجماهير مختلفة ولغايات متباينة؛ لذلك يجب إثبات أن النصوص قد وصلت إلينا حرفيا دون تبديل أو تحريف، كما يجب أن نبحث عن قرينة تثبت صدق التفسير المجازي، في حالة تعارض النصوص، وهناك كثير من نصوص الكتاب تعارض العقل معارضة صريحة، فكيف يكون الله غيورا؟ وكيف يكون جسما في مكان وزمان؟ إن العقل وحده هو الذي يمكنه إثبات صحة هذه الآيات أو كذبها، والتعارض في النصوص تعارض حقيقي لا تعارض ظاهري كما يقول البكار، فالله نار تعارض الله لا يشابه الأشياء الحسية، كلاهما قضيتان كليتان متناقضتان، تثبت الأولى ما تنفيه الثانية.
صفحة غير معروفة