10
لأن الأشياء غير المنظورة التي هي موضوعات للفكر وحده، لا يمكن إدراكها إلا بالبرهان. وإذن فمن بلا برهان لديه، لا يستطيع أن يدركها على الإطلاق، ويصبح كل ما يقوله مما عرفه سماعا عن مثل هذه الأشياء، غير مرتبط بفكره أو معبرا عنه، شأنه في ذلك شأن أصوات ببغاء أو جهاز آلي لا يدل على أي معنى أو أي فكر. على أنني أرى من واجبي، قبل أن أستمر في ملاحظاتي، أن أبين السبب الذي من أجله يصرح سفر التكوين في كثير من الأحيان بأن البطارقة بشروا باسم يهوه، وهو ما يبدو مناقضا تماما لما ذكرناه من قبل، على أننا لو عدنا بأذهاننا إلى النتائج التي توصلنا إليها في الفصل الثامن، لاتضح لنا بسهولة أن هذا التناقض ظاهري محض، فقد رأينا أن مؤلف الأسفار الخمسة لا يشير إلى الحوادث والأماكن بالأسماء المتداولة في العصر الذي حدثت فيه القصة، بل بالأسماء التي كانت شائعة في العصر الذي عاش هو نفسه فيه. وإذن فإله البطارقة قد سمي في سفر التكوين باسم يهوه، لا لأن الأجداد أطلقوا عليه هذا الاسم، بل لأن هذا الاسم أصبح فيما بعد يبعث على الاحترام الشديد عند اليهود، وهذا التفسير الذي أقدمه هو التفسير الوحيد المقبول لأن نص «الخروج» يصرح بأن البطارقة لم يعرفوا الله باسم يهوه، وكذلك نجد في الخروج (3: 13)
11
أن موسى أراد أن يعرف اسم الله، فلو كان اسم يهوه معروفا من قبل لما جهله موسى على الأقل، وإذن فيجب التسليم بما أردنا إثباته من أن البطارقة المؤمنين لم يعرفوا اسم الله هذا، وأن معرفة الله هبة من الله، لا أمر منه.
وسنحاول الآن البرهنة على النقطة الثانية، وهي أن الله لم يطلب على لسان الأنبياء أن يعرف الناس عنه إلا عدله وإحسانه، أي الصفات التي تعطي الناس قاعدة عملية للحياة؛ فهذا ما يدعو إليه إرميا بأصرح العبارات. فلننظر مثلا إلى ما يقوله عن الملك يوشيا (22: 15-16): «أما أكل أبوك وشرب وأجرى الحق والعدل، وحينئذ كان له خير. لقد أجرى الحكم للبائس والمسكين وحينئذ كان خيرا. أليست هذه هي معرفته (لاحظ ذلك جيدا) يقول الرب.» وهناك نص آخر لا يقل عن ذلك وضوحا (9: 24): «فليفتخر المفتخر بأنه يفهم ويعرفني أنا الرب المجري الرحمة والحكمة والعدل في الأرض لأني بهذه ارتضيت.» ونجد الدعوة نفسها في الإصحاح 34 من الخروج (الآيات 6، 7)،
12
حيث لا يكشف الله عن صفاته لموسى، الذي يود معرفته ورؤيته، إلا ما يظهر فيها عدله وإحسانه. وكذلك يجب أن نذكر، قبل أي نص آخر، نصا ليوحنا سنعود إلى الحديث عنه بعد قليل؛ إذ لا يذكر يوحنا عن الله إلا إحسانه لأن الله لا تدركه أبصار الخلق جميعا. وينتهي يوحنا من ذلك إلى أن من يعمل الإحسان هو وحده الذي يدرك الله حقيقة، وهو الذي يعرفه. وهكذا يرى إرميا وموسى ويوحنا أن معرفة الله التي يلتزم بها كل فرد تنحصر في عدد قليل جدا من الصفات،
13
هي، كما عرضنا، أن الله عادل عدلا مطلقا ورحيم رحمة مطلقة، أي أنه النموذج الفريد للحياة الحقة. هذا فضلا عن أن الكتاب لا يعطي أي تعريف صحيح لله، ولا يطلب من المؤمنين أن يدركوا من صفات الله إلا ما ذكرناه الآن، ولا يوحي صراحة بأية صفات أخرى. وننتهي من ذلك كله إلى أن المعرفة العقلية لله، التي تصل إلى الطبيعة الإلهية في ذاتها، وهي الطبيعة التي لا يعرف الناس كيف يتخذونها قاعدة عملية في الحياة اليومية، أو يجعلونها أنموذجا تستمد منه قاعدة صحيحة للحياة؛ أقول: إن هذه المعرفة العقلية لا تنتمي في شيء إلى الإيمان وإلى الدين الموحى به، وبالتالي يستطيع الناس أن يخطئوا فيها كما يشاءون دون أن يرتكبوا جرما. وإذن فليس هناك ما يدعو للدهشة إذا كان الله قد تلاءم مع خيال الأنبياء وتصوراتهم المسبقة أو إذا تصور المؤمنون الله تصورات مختلفة كل الاختلاف، كما بينا بأمثلة كثيرة في الفصل الثاني، وليس هناك أيضا ما يدعو للدهشة إذا وجدنا الكتب المقدسة تتحدث عن الله بألفاظ لا تليق به، فتنسب إليه يدين وقدمين وعينين وأذنين، كما تنسب إليه حركات في المكان
14
صفحة غير معروفة