1
وضعت بحيث تلائم الأحكام المسبقة لكي نبي،
2
كما بينا في الفصل الخامس أن الكتاب لم يقدم إلا تعاليم يسهل إدراكها لأي فرد؛ لذلك لم يستعمل المنهج الاستنباطي الذي يبدأ من بديهيات وتعريفات تتسلسل منها القضايا، ولكنه اقتصر على إعطاء حقائق يقصد منها أن يؤمن بها الناس، ثم أيدها بالتجربة وحدها، أي بالمعجزات
3
وبالروايات التاريخية، واستعمل في هذه الروايات أكثر الأساليب والتعبيرات قدرة على التأثير في العامة. ويمكن الرجوع في هذا الصدد إلى ما برهنا عليه من قبل في النقطة الثالثة من الفصل السادس.
4
وأخيرا، بينا في الفصل السابع أن الصعوبة كلها في فهم دروس الكتاب ترجع إلى اللغة وحدها، لا إلى عمق الموضوع، لا سيما أن الأنبياء لم يبشروا لاهوتيين متعمقين، بل بشروا كل اليهود على الإطلاق، كما اعتاد الحواريون عرض عقيدة الإنجيل في الكنائس، حيث يجتمع عامة المؤمنين. هذه الظروف المختلفة أسهمت في جعل الكتاب مجموعة من الحقائق اليسيرة للغاية تدركها أكثر الأذهان خمولا، لا مجموعة من التأملات الخالصة والنظريات الفلسفية؛ لذلك أجد نفسي عاجزا عن التعبير عن دهشتي من التكوين الذهني لأولئك الذين تحدثت عنهم من قبل، والذين يرون في الكتاب أسرارا بلغت من العمق حدا لا يمكن شرحها بأية لغة، والذين أقحموا في الدين من التأملات الفلسفية ما جعل الكنيسة تتحول إلى أكاديمية، والدين يصبح علما، بل جدلا. لا عجب إذن ألا يعترف أناس يتفاخرون بأن لديهم نورا أعلى من النور الفطري، بأنهم أقل علما من الفلاسفة الذين لم يتعدوا حدود النور الفطري. ومن المؤكد أنني سأتعجب كثيرا لو وجدت لدى هؤلاء الناس شيئا جديدا في ميدان التأمل الخالص، أعني شيئا لا يكون مألوفا، بل تافها بالنسبة إلى فلسفة غير اليهود (الذين يتهمهم هؤلاء مع ذلك، بأن بصيرتهم كانت عمياء!) فإذا نظرنا إلى هذه الأسرار التي يخبئها الكتاب، والتي يدعون أنهم وحدهم القادرون على الكشف عنها، فلن نجد فيها إلا بعضا مما ابتدعه أرسطو وأفلاطون أو من يشابههما، يستطيع أي شخص من سذج العقول أن يؤلفها في حلمه بعناء أقل مما يبذله أعظم العلماء عندما يستخلصها من الكتاب. وليس معنى هذا أننا نرفض على الإطلاق التسليم بوجود بعض الحقائق النظرية الخالصة في الكتاب، لأننا ذكرنا بعض هذه الحقائق في الفصل السابق، وأعلنا أنها أساسية في الكتاب ولكن أقول: إن هناك قدرا ضئيلا من هذا النوع، وإن هذا القدر الضئيل يسير للغاية. وسأحاول الآن أن أبين ما هي هذه الحقائق، والمنهج الذي يمكن به تحديدها، وسوف يسهل علينا ذلك لو عرفنا أن هدف الكتاب لم يكن تلقيننا العلوم؛ إذ إننا حينئذ نستطيع أن نستنتج من هذا أنه يطلب من الناس الطاعة وحدها، ويدين العصيان لا الجهل، ولكننا نعلم أن طاعة الله تنحصر كلها في حب الجار (إذ يؤكد بولس في الرسالة إلى أهل رومية (13: 8)
5
أن من يحب جاره، أعني من يحبه طاعة لله، تتحقق لديه الشريعة)، وبالتالي لا يوصي الكتاب بأية معرفة إلا المعرفة اللازمة لجميع الناس حتى يطيعوا الله وفقا لوصيته، وهي المعرفة التي يصبحون بدونها عاصين أو على الأقل يفتقرون إلى كل قاعدة للطاعة. أما التأملات النظرية التي لا ترمي مباشرة إلى تحقيق هذا الغرض - سواء أكانت متعلقة بمعرفة الله أم بمعرفة الأشياء الطبيعية - فإنها لا تنتمي إلى صميم الكتاب، ويجب فصلها عن الدين الموحى به.
صفحة غير معروفة