28
فإذا فسر النص تفسيرا حرفيا وكان مناقضا للعقل وجب تفسير النص تفسيرا آخر مهما كان واضحا. وهذا ما يعبر عنه بوضوح تام في الفصل 25، الجزء الثاني من كتابه موريح نبوخيم بقوله:
اعلم أننا لا نرفض التسليم بقدم العالم بسبب النصوص التي نجدها في الكتاب عن خلق العالم؛ لأن النصوص التي تشير إلى خلق العالم ليست أكثر من تلك التي تشير إلى أن الله جسم. وليس هناك ما يمنعنا من تأويل النصوص التي تفيد الخلق، وما كنا نتورع عن تأويلها كما فعلنا من قبل مع بعض النصوص عندما رفضنا أن يكون لله جسم، بل ربما كان التفسير (في الحالة الأولى) أسهل وأقل عناء، وكان تسليمنا بقدم العالم أيسر من رفضنا جسمية الله الذي نعبده في شرحنا للكتاب، ومع ذلك لم أشأ أن أقوم بهذا التفسير ورفضت هذه العقيدة (قدم العالم) لسببين: (1)
يمكن البرهنة بوضوح على أن الله ليس جسما، وبالتالي يتحتم تفسير كل النصوص التي يناقض معناها الحرفي هذا البرهان؛ إذ يوجد حتما لمثل هذه الحالة تفسير آخر (غير التفسير الحرفي) وعلى العكس لا يوجد أي برهان على قدم العالم، وبالتالي لا يتحتم التعسف في تأويل الكتاب حتى يكون متفقا مع مجرد رأي ظاهري، أعني رأيا يكون لدينا من الأسباب ما يجعلنا على الأقل نفضل عليه رأيا مضادا. (2)
الاعتقاد بأن الله ليس جسما لا يعارض المعتقدات التي تقوم عليها الشريعة ... إلخ، في حين أن الاعتقاد بقدم العالم، كما هو الحال عند أرسطو، يقضي على أساس الشريعة.
تلك هي أقوال ابن ميمون التي يظهر فيها بوضوح ما قلناه؛ فلو قام لديه البرهان عقلا على قدم العالم لما تردد في تأويل الكتاب تعسفا وتفسيره بحيث تبدو هذه العقيدة وكأنها صادرة منه. إنه ليكون عندئذ على يقين قاطع من أن الكتاب أراد أن يبشر بقدم العالم، مهما عارض الكتاب في ذلك. وإذن فهو لا يمكن أن يستيقن من المعنى الحقيقي للكتاب، مهما كان واضحا، ما دام يشك في حقيقة ما يقوله الكتاب، وما دامت هذه الحقيقة لم تثبت في نظره بالبرهان. وطالما لم يقم البرهان على هذه الحقيقة، فلن نعلم إن كان الكتاب متفقا مع العقل أم مناقضا له، وبالتالي لن نعلم إن كان المعنى الحرفي صحيحا أم باطلا. فإذا كانت هذه الطريقة في التفسير صحيحة، فإني أسلم كلية بأننا في حاجة في تفسيرنا للكتاب إلى نور آخر غير النور الطبيعي، لأنه يستحيل استنباط كل ما يحتويه الكتاب تقريبا من مبادئ معروفة بالنور الفطري (كما بينا ذلك من قبل)، فالنور الطبيعي عاجز إذن عن البرهنة على أي شيء يتعلق بحقيقة الجزء الأكبر من هذا المحتوى، وبالتالي يعجز عن البرهنة على المعنى الصحيح للكتاب وعلى ما فيه من أفكار، وسنحتاج عندئذ في ذلك إلى نور آخر. وفضلا عن ذلك، فلو كانت طريقة ابن ميمون صحيحة، لكان على العامة، الذين هم في أغلب الأحيان جاهلون بالبراهين أو عاجزون عن الاضطلاع بها، ألا يسلموا بشيء يتعلق بالكتاب إلا معتمدين على سلطة المتفلسفين أو على شهادتهم، ولكن عليهم بالتالي أن يفترضوا أن الفلاسفة معصومون من الخطأ في تفسيرهم الكتاب، وهذا يعني افتراض وجود سلطة كنسية أخرى، كهنوت جديد، ونوع من البابوية، وهو أمر يثير سخرية العامة أكثر مما يبعث في نفوسهم الاحترام. صحيح أن منهجنا في التفسير يتطلب معرفة بالعبرية، التي لا تستطيع العامة أن تتعلمها، ولكن لا يحق توجيه هذا الاعتراض إلينا؛ لأن عامة اليهود وغير اليهود وهم الذين وجه إليهم الأنبياء والحواريون مواعظهم وكتبوا لهم كانوا يفهمون لغة الأنبياء والحواريين، وكانوا يدركون بها فكر الأنبياء، على حين أنهم كانوا يجهلون البراهين على حقيقة التعاليم التي دعوا إليها، وهي البراهين التي يرى ابن ميمون أنه كان عليهم معرفتها حتى يفهموا فكر الأنبياء. وإذن فمنهجنا لا يشترط أن يعتمد العامة ضرورة على شهادة المفسرين، لأنني أتحدث عن عامة كانوا يعرفون لغة الأنبياء والحواريين، على حين أن ابن ميمون لا يعترف بوجود أي عامي يعرف علل الأشياء ويستطيع أن يدرك بها فكر الأنبياء. أما فيما يتعلق بالعامة في عصرنا هذا فقد بينا من قبل أنه يمكنهم بسهولة إدراك جميع الحقائق الضرورية للخلاص بأية لغة، وإن كانوا يجهلون البراهين التي تقوم عليها، ما دامت هذه الحقائق شائعة يسهل التعبير عنها باللغة المتداولة، وعلى هذا الإدراك،
29
لا على شهادة المفسرين، يعتمد العامة. أما فيما سوى ذلك، فإن حظ العامة لا يختلف عن حظ العلماء في شيء. وعلى أية حال، فلنرجع إلى وجهة نظر ابن ميمون ولنتمعن في فحصها. إنه يفترض أولا أن الأنبياء متفقون فيما بينهم على جميع الموضوعات، وأنهم كانوا جميعا فلاسفة كبارا ولاهوتيين عظاما، ويعطيهم قدرة الاستنتاج لأنهم عرفوا الحقيقة. وقد بينا خطأ ذلك في الفصل الثاني، ويفترض ابن ميمون ثانيا أنه لا يمكن البرهنة على معنى الكتاب بالكتاب نفسه، لأن حقيقة الأشياء التي يدعو إليها لا يمكن البرهنة عليها بالكتاب ذاته (لأن الكتاب لا يبرهن على شيء ولا يعرفنا بالموضوعات التي يتحدث عنها عن طريق الحدود والعلل الأولى) وإذن ففي رأي ابن ميمون أن المعنى الحقيقي للكتاب هو بدوره شيء لا يمكن البرهنة عليه أو استخلاصه منه. ويتضح خطأ هذا الاستنتاج من هذا الفصل؛ لأننا بينا بالاستدلال وبالأمثلة أنه لا يمكن التحقق من معنى الكتاب إلا بالكتاب وحده، ولا يمكن استخلاصه إلا منه وحده، حتى ولو تحدث الكتاب عن أشياء معروفة بالنور الطبيعي. وأخيرا، يفترض ابن ميمون أنه يحق لنا تفسير الكتاب وتأويله بطريقة متعسفة طبقا لآرائنا المسبقة، ورفض المعنى الحرفي عمدا واستبدال معاني أخرى به، حتى ولو كان هذا المعنى الحرفي هو أوضح المعاني أو أقربها إلى الذهن. ومثل هذه الرخصة تبدو أمام الجميع متطرفة متهورة فضلا عن معارضتها التامة لما برهنا عليه في هذا الفصل وفي الفصول السابقة. ولكن لنسلم له بهذه الحرية العظمى، فماذا هو فاعل بها؟ إنه لن يفعل شيئا. فنحن لا نستطيع أن نعرف بالعقل ما لا يمكن البرهنة عليه، وهو النور الأعظم من الكتاب، كما لا نستطيع شرحه وتفسيره طبقا لقاعدة ابن ميمون. وعلى العكس من ذلك، نستطيع في معظم الأحيان شرحه بمنهجنا وتوضيحه ونحن مطمئنون، كما بينا بالاستدلال وبالمثل. أما فيما يتعلق بما يمكن إدراكه بطبيعته دون عناء، فإن من اليسير الوصول إلى معناه بالاستعانة بالسياق وحده، كما بينا من قبل. فمنهج ابن ميمون إذن لا فائدة منه على الإطلاق، فضلا عن أنه يقضي تماما على الثقة في فهم المعنى الحقيقي للكتاب، وهو ما يستطيع العامة الوصول إليه بمنهج آخر في التفسير، فنحن إذن نرفض طريقة ابن ميمون بوصفها طريقة فاسدة ممتنعة لا فائدة فيها.
والآن فيما يتعلق بالسنن المتداولة بين الفريسيين، فقد ذكرنا من قبل أنها غير متفقة مع نفسها. أما سلطة حبر الرومان فتحتاج إلى شهادة أكثر قوة، ولهذا السبب وحده أرفضها.
30
صفحة غير معروفة