والثالثة :
هي إسقاط المادة التي عمل عليها سبينوزا، وإحلال مادة أخرى محلها، مع الإبقاء على المنهج نفسه؛ أعني إسقاط التراث اليهودي وإحلال تراث ديني آخر، وليكن التراث الإسلامي، حتى تتضح جدة سبينوزا وأصالته فيما يتعلق بتفسير الكتب المقدسة. وقد كان هذا المنهج متبعا عند الشراح المسلمين في شروحهم على أعمال أرسطو. فمثلا، يترك ابن رشد في شرحه للخطابة الأمثلة التي يوردها أرسطو من الخطباء والشعراء والتراجيديين اليونان، ويضع بدلها أمثلة من الخطابة والشعر والنثر العربي؛ حتى يعيد صياغة النظريات العلمية والأدبية ابتداء من مادة جديدة، وحتى يمكنه تأييد هذه النظريات وتطويرها، وإكمال ما نقص منها. وكان سبينوزا نفسه يود تعميم تحليلاته على الديانات الأخرى لولا إمكانياته اللغوية والثقافية باعتباره أحد فقهاء اللغة العبرية والتراث اليهودي القديم، بل ويعترف هو نفسه بأنه لم يستطع تحليل العهد الجديد تحليلا وافيا لنقص في معرفته باللغة اليونانية. ومع ذلك، فلقد عمم سبينوزا تحليلاته، على قدر ما استطاع، على التراث المسيحي واليوناني والروماني والإسلامي.
ومع أن صورة التراث الإسلامي عند سبينوزا مأخوذة من العصر التركي، حتى ليتحدث عن الأتراك ويقصد بهم المسلمين، وهي صورة الطغيان الفكري، والتعصب الجاهل، واضطهاد المؤمنين، وسيادة الأحكام السابقة، والوقوع في الخرافة. ومع أنه يعتبر القرآن أشعارا للقراء دون الاستفادة منها في الحياة العملية، فإن مواقف سبينوزا ومناهجه في التفسير ونظرياته عن ثنائية الحقيقة أو الحقيقة المزدوجة لها ما يشابهها في التراث الإسلامي عند الفلاسفة، خاصة عند ابن رشد. وقد كان سبينوزا على علم بها من خلال موسى بن ميمون. وليس الغرض من ذكر ذلك هو الوقوع في منهج الأثر والتأثر، وإرجاع فضل سبينوزا إلى التراث الإسلامي، أو إحياء التراث الإسلامي بآراء سبينوزا، بل القصد منه إثبات المشكلات المشتركة، والحلول المتشابهة التي قدمها سبينوزا والفلاسفة المسلمون. وهذا هو الغرض من الاستشهاد المستمر بالتراث الإسلامي، فقد تكون هناك مواقف فكرية واحدة للفكر الحر بالنسبة للدين، أو قد تكون هناك أبنية واحدة للنص الديني أيا كان، يستطيع كل مفسر أن يصل إليها.
لذلك تجنبنا الوقوع في العلمية التاريخية، وإثارة بعض المشكلات التي تدل على التعاليم أكثر مما تدل على العلم، مثل تاريخ كتابة الرسالة، وصلة فصولها بعضها بالبعض الآخر، وأيها متقدم وأيها متأخر، وتناطح الآراء حول هذه المسائل، فهي مشكلة خاصة تتعلق بتحقيق النص ونشره أكثر مما تتعلق بأفكار النص ونظرياته. وكذلك آثرنا التعامل مع الأفكار، مع إعطائها أكبر قدر من الصحة والعمومية. ولا يضير ذلك العلمية في شيء؛ إذ إن العلمية لا تعني التحقيق الميكروسكوبي، والالتصاق بالحروف، مع ذكر عشرات من المراجع، ما قرئ منها وما لم يقرأ، حتى يوحي الباحث بوفرة المعلومات، وبسعة الاطلاع، بل العلمية أن تبرز الفكرة، وأن توضع في مكانها الصحيح حتى يظهر أثرها وفعلها. ومع أن الرسالة نفسها قد كتبت بأساليب عدة، بأسلوب أدبي في بعض الفصول يبدو فيه سبينوزا أديبا ناقدا، وهي الفصول التي كتبت بدقة روحية واحدة، مثل الفصل السادس عن المعجزات، وبأسلوب علمي تحليلي محشو بالشواهد النقلية، وبالتحليلات اللغوية، يظهر فيها سبينوزا الشارح اللغوي، وهي الفصول التي كان قد جمعها من قبل ثم أدخلها في صلب الرسالة كدعامة علمية، وكأساس تاريخي لأفكاره. إلا أن الأسلوب الأدبي هو الغالب عليها، خاصة إذا قارناها بالأسلوب الفلسفي الجاف الذي كتب به سبينوزا سائر مؤلفاته. لقد كتب سبينوزا رسالته مرات عديدة، وعلى فترات متقطعة، يعبر عن حدسه أولا بأسلوب سهل يسير، وبأفكاره الشخصية ثم يدلل عليه بعد ذلك بالبرهان، وبالتحليلات التاريخية حتى يطور القديم، ويتأصل الجديد. ولكننا شئنا في هذه المقدمة اتباع الأسلوب السهل اليسير؛ فهي مكتوبة للجمهور العريض لا للصفوة المثقفة حتى يعم الانتفاع بها ما دامت مهمة المفكر الحالية هي إعطاء أكبر قدر ممكن من التنوير لأكبر عدد من الناس.
ثانيا: سبينوزا وديكارت
5
سبينوزا هو الديكارتي الوحيد الذي استطاع أن يطبق المنهج الديكارتي تطبيقا جذريا في المجالات التي استبعدها ديكارت من منهجه، خاصة في مجال الدين، وأعني الكتب المقدسة والكنيسة والعقائد والتاريخ المقدس ... إلخ؛ لذلك كانت هناك محاولات لاغتياله في حين أن ديكارت كان صديقا لرجال الدين الذين كانوا يجدون في منهجه، باعتراف ديكارت نفسه، دعامة للدين، ونصرة لعقائده. ويكفي لذلك الاطلاع على إهداء التأملات لعلماء أصول الدين، وكيف أن ديكارت كان متفقا معهم في الغاية وهي إثبات العقائد، وإن اختلف معهم في الوسيلة مؤقتا. فالغاية واحدة، وهي إثبات وجود الله، وخلق العالم، وخلود النفس، وهي القضايا الدينية الثلاث في كل فكر ديني تقليدي. يبدو ديكارت وكأنه فيلسوف العقل الذي لا يقبل شيئا على أنه حق ما لم يكن كذلك، ولكن في الحقيقة إن الوحي والعقائد يندان عن العقل ويقتصر العقل على التبرير؛ أي إن ديكارت لا يتعدى ما كان سائدا في العصر الوسيط المتقدم أومن كي أعقل.»
6
يريد ديكارت إثبات حقائق الدين ببراهين عقلية حتى يمكن إقناع الكافرين؛ أي إنه على هذا النحو لا يفترق عن بسكال في أن كليهما يقوم بالدفاع عن العقيدة المسيحية،
7
صفحة غير معروفة