وتبين له حدود كل صلة تربطه مع ذوي رحمه وقرباه ثم عشيرته ثم قبيلته ثم بني وطنه ثم بني جامعته ومن عداهم من أهل الكتاب والملل الأخرى، كل ذلك بتوضيح صحيح مقبول لدى العقل مؤيد بالتجارب مفيد بالعمل، وهي تفرض على المؤمن الطاعة لله وللرسول وأولي الأمر، والطاعة كما هو المعلوم أنه أساس الشرائع ودعامة العمران، ثم هي تحدد معنى الطاعة لصاحب الأمر (الإمام) بحيث لا تكون أمرا لما يؤدي إلى معصية الخالق تعالى فيما أمر به ونهى عنه، ولا تفريطا يختل به نظام الألفة العمومي ويتداعى ركن المجتمع الإسلامي، وتوضح كيفية ارتباط الأفراد بولي الأمر الإمام الحاكم ارتباطا دينيا وسياسيا وارتباطه بالشريعة في تحديد سلطة الهيئة الحاكمة على الهيئة المحكومة والتصرف بأمور الرعية بما لا يتعدى جانب الحكمة التي هي ضالة المؤمن، ولا يتجاوز حدود العدل والمساواة في إجراء الأحكام وتوزيع الضرائب وجباية الأموال، ثم هي تعين للإمام كيفية تصرفاته السياسية وكيف ينبغي أن يعامل الأقوام المحاربة والمسالمة، وكيف تراعي في ذلك النسب والعلائق الجوارية، إلى غير ذلك من أنواع المعاملات السياسية سواء كانت عمومية ذات علائق خارجية أو خصوصية ذات بواعث داخلية، مما يظهر منه مزيد ارتباط السياسة بالدين في الشريعة المحمدية على وجه كافل بإعزاز جانب الجماعة الإسلامية، وهذا المبدأ الأساسي في هذه الشريعة الغراء من أهم المبادئ التي قامت على دعامتها الممالك والدول الإسلامية، حتى إن كثيرا ما حاولت هدمه الدول الأوربية بمساعيها المعلومة في الشرق إدخالا للفساد على أساس الحكومات الإسلامية، وإضعافا لقوة أهل الإسلام الذين هم مع تفرق عناصرهم وانتشارهم في البسيطة مرتبطون بنقطة جامعة هي ذات الخلافة الإسلامية، ولكن أنى لتلكم الدول الوصول إلى تلك الغاية البعيدة المنال على توالي الأجيال.
هذا، وبالجملة فمزايا هذه الشريعة التي لا تدخل تحت الحصر لم توجد في شريعة من الشرائع السابقة، واختصاصها بتلك المزايا دون غيرها يؤيد أنها أرقى الشرائع، وبما أنها خاتمة الشرائع أيضا، اقتضت الحكمة الإلهية أن تكون كذلك وافية بالغرض من جميع الوجوه، فعلماء التشريع في هذا العصر الذي اتسعت فيه دائرة المعاملات المشتركة والسياسية اتساعا فاق حد الحصر مهما توسعوا في وضع القوانين العقلية بعد تطبيقها على التجارب النظرية في المعاملات المستحدثة تراها إن لم تكن استنباطا من الشريعة الإسلامية، فهي لا تخرج في مؤداها عن معاني الأصول في هذه الشريعة الغراء الموحاة منذ ثلاثة عشر جيلا مضت عليها من الزمان، وهي ما زالت ولا تزال كنزا ينضح التمدن من الأحكام كل جديد، تزان بدرره نحور العصور والحس شاهد عدل، والباحثون في أصول الشرائع من ذوي الإنصاف إذا راجعوا كتب الشريعة الإسلامية بكل تدقيق لا يخالفوننا في هذه الحقيقة حيث تتضح لهم بأجلى بيان.
الفصل الثالث
القوة في الشرائع
قد علمت من مجمل ما قدمناه أن الشرائع هي الكفيلة بحفظ نظام الإنسان، وترقي المدنية والعمران، لما أنها الحد الفاصل بين الأهواء المتغالبة الناشئة عن احتكاك المقاصد بين أصناف الإنسان الميال من طبعه إلى حب الأثرة، المفطور على الشر، فهو لو أطلق له العنان في ميدان المقاصد النفسية لبلغ منتهى البله، وأصبح فاقد النظام يأكل قويه الضعيف، بدليل ما يشاهد من حالة الأقوام غير المتمتعين بأنوار الشرائع الذين هم لهذا السبب أقرب إلى الحيوانية منهم إلى الإنسانية.
فالشرائع في الحقيقة هي قوام الحياة الاجتماعية وعلى وجودها تتوقف سعادة النفس البشرية، لما أنها الوازع الذي يأخذ على النفوس سبل الاندفاع وراء الأهواء، والرادع الذي يكبح جماح العواطف قسرا عن قصد كل طريق عوجاء؛ إذ لما كان الإنسان ميالا إلى الإطلاق عند قيد الحجر القانوني رغابا باهتضام حقوق أخيه، وكانت الشرائع بالإضافة إلى مقصدها المعنوي بمثابة القوة التي تقف بكل فرد منه عند حد الواجب، وتعرفه من الحقوق ما كان له أو عليه كان القسر فيها من لوازم التشريع المعنوية التي تأخذ بعنان إرادة البشر عما لا ينبغي لها أن ترسل فيه، وإلا فلو عرف الإنسان طريق الواجب بالطبع فلم يتعدها، وأذعن للحق سواء كان له أو عليه لانتفت الحاجة إلى الشرائع، وانجلت روابط الاجتماع القومية، حيث تستحيل بين أصناف الإنسان إلى الرابطة النوعية فتقوم المساواة الإخائية والزواجر النفسية مقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهيهات هيهات، فإنه فضلا عن استحالة وصول الإنسان إلى هذا المقام، فهو مع علمه بضرورة الشرائع وتمتعه براحة الإيواء إلى ظلها الظليل ميال للشذوذ عنها وإن انقاد لها مع التمادي والإرشاد من حيث الوجهة الدينية فلا ينقاد لها من حيث الوجهة الدنيوية إلا على رغم الأميال النزاعة إلى الشر، وإلا لما احتيج في إقامة أحكام الشرائع إلى الوازع الذي يأخذ بالقوة على أيدي ذوي العبث بالحقوق، بل لكان الرجوع بالنفس إلى مجرد أمر الشارع عند كل خلاف يقع بين متخاصمين هو الحكم الفصل المغني عن القوة الحاكمة والقوة الإجرائية (التنفيذية) المنوط بهما حفظ نظام العباد وصيانة حقوق الأفراد.
الفصل الرابع
مشروعية الجهاد في الشرائع الإلهية
من البديهي أن الإنسان المتخلق بخلق ثابت، الناشئ على عادة مستمرة واعتقاد خالص يتناوله الأبناء عن الآباء، يصعب عليه تحوله عن ذلك كله على حين اقتناع منه ورسوخ في عقله بحسن ما هو عليه، وإن كان الأمر بخلاف ذلك، لا سيما إذا كان من قوم تمكنت من نفوسهم العوائد والتقاليد تمكنا عسر الزوال، ولا نخال من ينكر هذه الحقيقة تلقاء ما هو شاهد ومعلوم في حالة الأفراد من حيث الأخلاق الشخصية التي لا تنجع فيمن شب على الرذيل منها وسائط التربية والتهذيب إلا بعد العناء الكثير وحالة الجماعات من حيث العوائد السافلة القومية التي لا يتأتى لقوم التحول عنها لما هو أشرف وأرقى منها إلا باستعمال الوسائل التدريجية، فما بالك بالشرائع الإلهية التي يراها القوم لأول وهلة داعية لترك كثير مما ألفوه من العوائد والتقاليد وانطبعوا عليه من أخلاق ذميمة ونبذ ما رسخ في أذهانهم أجيالا عديدة من الاعتقاد، فضلا عما يرونه في الشرائع من الروابط والأحكام التي تحجر مطلق التصرف وتحدد الأعمال.
وهذا بالطبع مما يخالف أميال الخاصة حيث تغل به أيديهم العاتية ولا يدرك العامة ما فيه من المزايا العظيمة العائدة على المجتمع الإنساني بالخير المحض إلا بعد الاختبار والتعليم، فيأخذ منهم العتو على الأنبياء أولي الشرائع كل مأخذ فيسفهون أقوالهم تارة ويتعمدون أذاهم أخرى، لا لأن ما يأتون به من الشرائع يكلفهم ما لا يستطاع إذ - لا يكلف الله نفسا إلا وسعها - ولا لأنها تخالف ما يقتضيه العقل والعدل - حاشا لله - بل لجهل فريق منهم بمزايا الشريعة ولأخذها على أيدي الفريق الآخر كما تقدم. ومن المقرر أن النبي مكلف بتبليغ رسالته ونشر دعوته، ولو تحمل بسبب ذلك غاية الإهانة ونهاية العناء، وفي هذه الحال لا بد من أن تؤثر دعوته على أفكار العقلاء من قومه الذين يبدأهم بإظهار سره بغية الاستعانة بهم على أمره، لا سيما إذا تحداهم بالمعجزات وبرهن على صدق نبوته بالآيات البينات، فيصغون له ويطمئنون إليه، فيجتهد بأن يستحدث منهم صاحبا أو صاحبين، ليستحدث بالاثنين اثنين آخرين، وبالأربعة أربعة آخرين، وهكذا بالتدريج حتى تكثر جماعته ويتعدد أنصاره، فيكون منهم في منعة فيجهر بأمره ويعلن دعوته، فيتنبه له المخالفون من قومه الذين كانوا آمنين جانبه لضعفه ووحدته، وكلما زاد حزبه ازداد قومه والمخالفون له رهبة منه وبغضا فيه ومعاداة له، وربما تعمدوا قتله وقتل من تبعه من الناس، الذين يصبحون محفوفين بالخطر بين جماهير الأعداء محتاجين لبسط السلطة والاعتصام بالقوة حفظا لناموس الشريعة وقياما بنصرة الحق، وتثبيتا لدعوة نبيهم التي يتوقف على انتشارها خير أولئك الجماهير، الذين لم يدعهم لردها سوى الجهل والعناء، ولا يتيسر لهم ذلك إلا إذا أذن لهم الشارع باستعمال القوة، فيشرع لهم الجهاد وقتال المعارضين بحكم الضرورة، حتى يكون جانب جماعة المؤمنين محفوظا من كيد الكائدين وإيذاء المخالفين، وإلا لو استسلموا للضعف من ابتداء أمرهم لذهبوا ضحية جهل المعارضين، ولم تقم لهم قائمة في بث منافع الدين.
صفحة غير معروفة