لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ، وقوله تعالى خطابا للمؤمنين:
يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ، وقوله تعالى في بيان معنى ما اشتملت عليه رسالة النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى كافة:
إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا .
فلا ريب أن هذه الآيات الكريمة وأمثالها الكثيرة تدل الدلالة الصريحة على أن الجهاد في الشريعة الإسلامية هو غير الدعوة إلى الدين، وقاعدة الجهاد على صورتها المذكورة ليست إلا للتخفيف في أمر الحرب، ووجه التخفيف فيها هو وجود الخيار بين «الإسلام أو الجزية» قبل السيف
5
الذي أتى شرطه مؤخرا في أمل عدم الوصول إليه، إلا بعد اليأس من خضوع العدو لسلطان المسلمين بوجه تحقن فيه الدماء، وتصان الأنفس والأموال، ولا يخدش وجه المدنية ويتداعى ركن الاجتماع، وهذا من جملة محاسن ما انطوت عليه الشريعة الإسلامية من الأحكام البارة بالعمران الحريصة على حياة الإنسان، لا سيما في تلك العصور التي كانت الحروب فيها على أشد ما يكون من القسوة وعدم الرفق، سواء عند العرب أو غيرهم من الأمم الأخرى، وعلى ذلك فقاعدة الجهاد هذه وإن كانت في الشريعة الإسلامية حكما مستمرا إلى يوم القيامة إلا أنه ليس فيها أدنى دليل يؤيد قولهم بأن الجهاد هو الدعوة إلى الدين، وإلا للزم الإكراه على قبول الإسلام، وهذا ممتنع في أصل الشريعة ولم يحصل في عهد الفتح الإسلامي الذي اعتبره المناظر فتحا دينيا اعتمادا على هذه القاعدة، والحال أنه فتح سياسي لا علاقة بينه وبين الدعوة إلى الدين.
ومع أن التفرقة بين هذين الأمرين، أي الفتح الإسلامي والدعوة إلى الدين لا تحتاج إلى كثير تأمل عند ذوي الاطلاع على أصول الدين الإسلامي، وإن غم على كثير من الناس حتى مزجوا بين الأمرين مزجا أداهم إلى الظن بقيام الإسلام بالسيف، وهو ظن فاسد ليس أبعد ممن تمسك به عن الصواب وأقرب منه إلى الخطأ المعاب، فإن الشريعة الإسلامية جمعت بين السياسة والدين؛ إذ لم تقتصر في قسمها الدنيوي على المعاملات الشخصية فقط، بل شملت الحقوق المشتركة العمومية الداخلة تحت الأحكام السياسية فهي - أي الشريعة الإسلامية - تنقسم باعتبار الأصل إلى قسمين: قسم ديني وقسم دنيوي، فالقسم الديني ينطوي تحته قسمان: قسم العبادات، وقسم الترغيب والترهيب، والقسم الدنيوي كذلك ينقسم إلى قسمين: قسم المعاملات وفيه الحقوق المدنية والعقوبة والقصاص، وقسم السياسة وهو الذي يعين تصرف الإمام بكيفية جلب المصلحة العمومية للجمعية الإسلامية على حدود وأحكام مقررة مرجعها الكتاب والسنة، وبهذا القسم قام الفتح الإسلامي كما قام الإسلام بالقسم الديني، لا بحرب ولا إكراه، وقد تقدم معنا في الفصل الثاني بيان العلاقة التي تربط السياسة بالدين بالإضافة إلى تصرف الإمام بأمور الأمة، والإشارة فيه تغني عن التطويل؛ إذ المقام مقام إجمال لا مقام تفصيل، وهذا الإيضاح يكفي لرد زعم الزاعمين بأن الفتح الإسلامي هو الدعوة إلى الدين وأن الإسلام قام معه بالسيف؛ إذ الإسلام قام بالدعوة وليس للسيف أو الإكراه في امتداد الإسلام وقيامه أدنى علاقة مادية يقوم معها البرهان على خلاف ما قررناه، وإليك بيان كيفية قيام الإسلام وانتشاره في الأرض.
مطلب كيفية قيام الإسلام وانتشاره في الأرض
صفحة غير معروفة