- 3 - رسالة في ألم الموت وإبطاله

فصل هل للموت ألم أم لا

قال أبو محمد رحمه الله :

اختلف المتقدمون من أصحاب الطبائع في الموت : هل له ألم أم لا ألم له ، فقالت طائفة إنه لا ألم له أصلا وبهذا نقول ، لبرهانين : أحدهما حسي والآخر ضروري عقلي راجع إلى الحس أيضا . فأما الأول فهو أنه كل من رأينا يموت ، وهو في عقله ، إذا سئل عما يجد فإنه يقول : لا شيء إلا الانحلال فقط ، وأن كل من يحس عند ذلك ألما فإنه ألم المرض الذي كان فيه ، كالوجع المختص بمكان واحد ، وما أشبه ذلك ، حتى إنه لابد من شيء يسميه الناس راحة الموت ، ثم لا يكون بين حكايتهم وبين زهوق أنفسهم إلا لمحة يسيرة جدا.

وأما البرهان الضروري فإنه لا يكون ألم للشيء المألوم البتة في حين وقوعه ولا يكون إلا في ثاني وقوعه ، وليس للنفس بعد الموت بقاء بحيث يصل إليها الألم الجسدي أصلا ، لأنها قد فارقت الجسد ، وأكثر ما يكون القلق الشديد ، والشوق المرعب ، لمن فارق عقله . وقد يعرض مثل ذلك القلق لمن يبرأ من مرضه ، فإذا برئوا وسئلوا ( 1 ) عن ذلك أخبروا أنهم لم يكونوا يجدون شيئا.

وقد نجد من تخرج النفس من بعض أعضائه فيموت ذلك العضو خاصة من المفلوجين ، ومن عفن بعض أعضائه لبعض القروح والعلل ، لا بالموت ، لخروج النفس عن ذلك الموضع ، حين خروجها ، لا ( 2 ) بعده . وإنما الألم ما دامت النفس

صفحة ٣٥٩

في ذلك الموضع قوية التشبث .

وأما الطائفة التي قالت إن للموت ألما ، فلم تأت ببرهان يصحح قولها ، وقد يمكن أن تشغب من شدائد المرض ( 1 ) ومقدمات الموت التي عنها يكون ، ومن الشريعة بقول النبي صلى الله عليه وسلم ( 2 ) ' إن للموت لسكرات ' وهذا لا حجة فيه لقولهم ، لأن هذه الآلام التي تظهر من المريض إنما هي ما دامت النفس متشبثة بالجسد مقترنة به ، لا بعد الموت . إنما هو حال الفراق ، وحال الفراق [ أليم ] . وقوله إن للموت سكرات حق وصدق لا شك فيه ، لأنه قد يمكن أنه عليه السلام يصف ما يكون سببا للموت ، من فساد الجسم واضطراب حاله الموجب للألم للموت ، فهي من سكراته ؛ وقد يكون ذلك لعناء في ( 3 ) النوم ، فلم يعن عليه السلام قط إلا من له سكرات متقدمة ، وقد يكون عليه السلام [ يصف ] حاله ، وما كان مثلها ، أو يكون عنى ما كان ما يتخوف بعده ، وما يفكر العاقل حينئذ فيما يقدم ( 4 ) عليه ، فتكون سكرات معلقة بنفسه ولا سبيل إلا ما يكون إلا ما في قلبه أو فيما بعده حين لقائه لها ، ولم ينص عليه السلام على أن حال الموت ذات ألم فيكون معارضا للمذكور ، وحاشا له عليه السلام أن يأتي بخلاف ما تقتضيه العقول وتدركه المشاهدات ، إنما يصفه بهذا من يريد إطفاء نوره ، وإبطال كلمته ، وتوهين أمره ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ، وبالله تعالى التوفيق .

تمت الرسالة في ألم الموت وإبطاله والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد

صفحة ٣٦٠