الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
صفحة غير معروفة
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
صفحة غير معروفة
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
صفحة غير معروفة
الرمال المغنية
الرمال المغنية
تأليف
جوزفين تاي
ترجمة
عبد الفتاح عبد الله
مراجعة
محمد حامد درويش
الفصل الأول
كانت الساعة السادسة من صباح أحد أيام شهر مارس، وكان الظلام لا يزال مخيما. أتى القطار الطويل يتهادى وسط أضواء الساحة المتناثرة، وينقر برفق فوق فواصل القضبان. وأخذ يمر عبر وهج كابينة الإشارات ويخرج منه مجددا. ثم يمر تحت اللون الأخضر الزمردي المنفرد بين الألوان الحمراء الياقوتية على جسر الإشارات. وأخذ يتقدم نحو الرصيف الرمادي المهجور الذي كان ينتظر وصوله تحت القباب المقوسة.
صفحة غير معروفة
كان قطار بريد لندن في نهاية رحلته.
وخلفه امتدت في الظلمة خمسمائة ميل من القضبان وصولا إلى محطة يوستن وليلة أمس. خمسمائة ميل من الحقول التي يضيئها القمر ومن القرى الناعسة؛ خمسمائة ميل من البلدات السوداء والأفران التي لا تكل؛ من المطر والضباب والصقيع، والثلوج الخفيفة والفيضانات، من الأنفاق والجسور. والآن، في ظلام الساعة السادسة من صباح أحد أيام شهر مارس كانت التلال قد انتصبت حول القطار، الذي كان قادما، في هدوء وسكينة، بعد رحلة طويلة متعجلة. وشخص واحد فقط في كل طوله المزدحم لم يتنهد بارتياح لإدراكه ذلك.
ومن بين أولئك الذين تنهدوا اثنان على الأقل تنهدا بسعادة كادت أن ترقى إلى الهيام. كان أحدهما راكبا، والآخر موظفا في هيئة السكك الحديدية. كان الراكب هو ألان جرانت، أما موظف هيئة السكك الحديدية فكان موردو جالاتشر.
كان موردو جالاتشر يعمل مضيفا في عربات النوم في القطار، كما كان أكثر مخلوق مكروه بين محطتي قطار بلدتي ثورسو وتوركاي. طيلة عشرين عاما ظل موردو يرهب عامة المسافرين ليرضخوا له ويبتزهم من أجل الحصول على شكر منهم. والمقصود هنا إكراميات مالية. كان شكرهم الشفهي اختياريا. وبين ركاب الدرجة الأولى كان موردو معروفا لدى القاصي والداني باسم يوجورت. («يا إلهي، إنه يوجورت العجوز!» كانوا يقولون ذلك حين يظهر وجهه العكر في عتمة يوستن الضبابية.) أما ركاب الدرجة الثالثة فكانوا يطلقون عليه أسماء متنوعة، وكانت كلها صادقة ووصفية. أما ما كان يطلقه عليه زملاؤه في العمل فليس من شأن أحد. ثلاثة أشخاص فقط هم الذين استطاعوا التغلب على موردو، وهم: راعي بقر من تكساس، وعريف بحري في فوج مشاة الجيش «كوينز أون كاميرون هايلاندرز»، وامرأة ضئيلة الجسم من سكان شرق لندن في الدرجة الثالثة، والتي هددته بأنها ستضربه على رأسه الأصلع بقنينة ليمون. ولم تكن الرتب ولا الإنجازات تثير إعجاب موردو؛ إذ كان يبغض الأولى ويستاء من الثانية، لكنه كان يخشى كثيرا الألم الجسدي.
طوال عشرين عاما كان موردو جالاتشر لا يبذل من الجهد إلا أقل القليل. كان قد سئم من وظيفته قبل أن يمر أسبوع من شغله لها، لكنه وجد فيها مصدرا خصبا لكسب الكثير من المال فبقي فيها لينقب عنه. إن حصلت على شاي الصباح من يد موردو، فسيكون الشاي خفيفا، وسيكون البسكويت هشا، وسيكون السكر قذرا، وستكون صينية الشاي زلقة، ولن تجد ملعقة، لكن حين يأتي موردو ليستعيد الصينية ستجد أن الاعتراضات التي كنت تتدرب على إلقائها عليه قد خمدت على شفتيك. وبين الحين والآخر كان أميرال أسطول في البحرية الملكية أو شيء من هذا القبيل يغامر بإبداء رأيه قائلا إن الشاي مريع للغاية، لكن كثيرين كانوا يبتسمون ويدفعون المال. طوال عشرين عاما كانوا يدفعون له؛ ضجرا ورهبة وخضوعا لابتزازه. وكان موردو يأخذ المال. كان الآن يمتلك منزلا ريفيا في بلدة دنون، وسلسلة متاجر أسماك مقلية في جلاسكو، ورصيدا جيدا جدا في البنك. كان بإمكانه أن يتقاعد منذ سنوات، لكنه لم يستطع أن يحتمل فكرة فقدانه لمعاشه بالكامل؛ لذا تحمل شعوره بالسأم لفترة أطول قليلا، وسوى أموره بألا يكلف نفسه عناء إحضار الشاي الصباحي إلا إذا طلبه الركاب بأنفسهم؛ وفي بعض الأحيان، إذا كان يشعر بالنعاس بشدة، كان ينسى طلباتهم. كانت أساريره تتهلل عند نهاية كل رحلة بالقطار بارتياح يشبه ارتياح رجل أمضى مدة عقوبته ولم يتبق له منها إلا وقت قليل.
أما ألان جرانت، الذي كان يراقب أضواء الساحة وهي تمر أمامه من خلف النافذة التي يغطيها بخار الماء، ويستمع إلى ذلك الصوت اللطيف لعجلات القطار وهي تنقر فوق الفواصل، فكان سعيدا لأن انتهاء الرحلة يعني انتهاء معاناة دامت طوال الليل. كان جرانت قد أمضى الليل بطوله في محاولة عدم فتح الباب الذي يفضي إلى الممر. اضطجع على سريره الفاخر وقد جافاه النوم وأخذ يتصبب عرقا لساعات. ولم يكن يتصبب عرقا لأن المقصورة كانت حارة للغاية - فقد كان المكيف يعمل بأفضل ما يمكن - لكن (يا للأسى! يا للعار! يا للإهانة!) لأن المقصورة كانت تمثل «مكانا ضيقا مقفلا». لأي شخص طبيعي كانت المقصورة ستبدو مجرد غرفة صغيرة أنيقة بها سرير للنوم، وحوض لغسل الوجه واليدين، ومرآة ورفوف أمتعة بأحجام متنوعة، ورفوف قابلة للطي بحسب الحاجة، ودرج صغير فاخر من أجل الاحتفاظ بأشياء المرء القيمة، وحامل للساعة التي يفترض أن صاحبها لا يرتديها. لكن هذا الخبير، الحزين والمعذب، كان يرى تلك المقصورة «مكانا ضيقا مقفلا».
كان الطبيب قد وصف حالته بأنها إرهاق ناتج عن الإفراط في العمل.
قال له الطبيب، الذي كانت عيادته في ويمبول ستريت: «استرخ واسترح قليلا»، واضعا إحدى ساقيه الرشيقتين على الأخرى معجبا بنفسه لنجاحه في ذلك.
لم يستطع جرانت أن يتخيل نفسه مستريحا، وكان يعتبر الاسترخاء كلمة بغيضة وفعلا تافها جديرا بالازدراء. الاسترخاء. إنه أمر يؤدي بالمرء إلى السمنة. إشباع أحمق لرغبات حيوانية. استرخ، حقا! كان وقع الكلمة على أذنيه بمثابة إهانة. كان يشبه صوت الشخير.
سأله الطبيب، ونظرة إعجابه بنفسه تستمر حتى حذائه: «ألديك أي هوايات؟»
صفحة غير معروفة
فقال جرانت باقتضاب: «لا.» «ماذا تفعل حين تذهب في إجازة؟» «أصطاد السمك.»
فقال الطبيب النفسي، بعدما جعله هذا الرد يتوقف عن نظرات الإعجاب بنفسه: «أنت تصطاد السمك؟» وأردف: «ألا تعد ذلك هواية؟» «نعم، بكل تأكيد.» «ماذا تسميه إذن؟» «شيء ما بين الرياضة والمعتقد.»
ابتسم طبيب ويمبول ستريت عند سماعه تلك الإجابة وبدا متفهما جدا؛ وطمأنه قائلا إن شفاءه مسألة وقت لا أكثر. وقت واسترخاء.
في الواقع، لقد تمكن على الأقل من ألا يفتح ذلك الباب ليلة أمس. لكن ثمن ذلك النصر كان غاليا. كان يشعر بالاستنزاف والخواء؛ فراغ متجسد في صورة إنسان. كان الطبيب قد قال له: «لا تقاوم الأمر.» وتابع: «إذا أردت أن تصبح في مكان مفتوح، فاذهب إلى مكان مفتوح.» لكن فتحه للباب ليلة أمس كان سيصبح بمثابة هزيمة نكراء لدرجة أنه شعر بأنه ما كان سيتعافى منها أبدا. كانت ستصبح استسلاما غير مشروط لقوى اللامعقول. لذا ظل راقدا يتصبب عرقا. وظل الباب مغلقا.
لكن الآن، في الظلام الصباحي غير المرضي، في الظلمة المجهولة الكئيبة، كان يشعر بأنه فاقد للقوة وكأنه قد انهزم. بذلك التجرد الجوهري الذي كان طبيب ويمبول ستريت قد لاحظه وأقره، فكر في نفسه: «أظن أن هذا هو الشعور الذي تشعر به النساء بعد مخاض طويل.» وتابع: «لكنهن على الأقل يحظين بطفل مزعج نتيجة لذلك. فماذا لدي أنا؟»
رأى أن ما كان لديه هو فخره. الفخر بأنه لم يفتح بابا لم يكن يوجد سبب منطقي يدفعه لأن يفتحه. رباه!
فتح جرانت الباب الآن. بنفور، وتقدير لسخرية القدر التي ينطوي عليها ذلك النفور. اشمئزاز من مواجهة الصباح والحياة. كان يتمنى لو كان بوسعه أن يلقي بنفسه مرة أخرى على ذلك السرير المتغضن ويروح في نوم عميق.
حمل الحقيبتين اللتين لم يعرض يوجورت أن يفعل حيالهما أي شيء، ودس مجموعة المطبوعات الدورية غير المقروءة تحت ذراعه، وخرج إلى الممر. كان الدهليز الصغير الموجود في نهاية هذا الممر يكاد يكون مسدودا حتى السقف بأمتعة دافعي البقشيش الأكثر سخاء، بحيث كاد الباب أن يكون مستترا؛ فتابع جرانت سيره ودخل العربة الثانية من عربات الدرجة الأولى. كان الطرف الأمامي لتلك العربة أيضا مكدسا بعوائق مميزة يصل ارتفاعها إلى الخصر، فبدأ يسير في الممر نحو الباب الموجود في الطرف الخلفي للعربة. وبينما كان يفعل ذلك أتى يوجورت بنفسه من حجيرته في الطرف البعيد للعربة ليتأكد من أن راكب المقصورة «بي 7» عرف أنهم كادوا يصلون إلى المحطة النهائية. كان حقا معترفا به من حقوق راكب المقصورة «بي 7»، أو أي راكب أيا كان رقم مقصورته، أن يغادر القطار بتمهل بعد الوصول، لكن يوجورت بالطبع لم تكن لديه أي نية للانتظار طويلا حتى يستيقظ أحد الركاب من نومه. لذا فقد طرق باب المقصورة «بي 7» بقوة ودلف إليها.
عندما وصل جرانت إلى الباب كان يوجورت يهز راكب المقصورة «بي 7»، الذي كان راقدا بكامل ملابسه على السرير، من كمه ويقول في حنق وسخط مكتومين: «استيقظ يا سيدي، انهض! كدنا أن نصل.»
رفع ناظريه حين سقط ظل جرانت على فتحة الباب وقال في اشمئزاز: «إنه في حالة سكر شديدة!»
صفحة غير معروفة
لاحظ جرانت أن رائحة الويسكي الكريهة في المقصورة كانت قوية لدرجة أن المرء قد يصيبه الدوار ويحتاج للاتكاء على عصا وهو بداخلها. بتلقائية، أمسك جرانت بالصحيفة التي كانت قد سقطت على أرضية المقصورة نتيجة لهز يوجورت للراكب، وأصلح سترة الرجل.
وقال: «ألا يمكنك أن تتعرف على رجل ميت حين تراه؟» ووسط الضبابية الناتجة عن إرهاقه سمع جرانت نفسه يقول: ألا يمكنك أن تتعرف على رجل ميت حين تراه؟ كما لو كان أمرا تافها. ألا يمكنك أن تتعرف على زهرة من زهور الربيع حين تراها؟ ألا يمكنك أن تتعرف على أعمال روبنز حين ترى أحدها؟ ألا يمكنك أن تتعرف على نصب ألبرت التذكاري حين ...؟
فقال يوجورت بنبرة تكاد تشبه العواء: «ميت! لا يمكن! يجب أن أغادر.»
أدرك جرانت، مع شرود عقله، أن ذلك هو كل ما كان يهم السيد جالاتشر اللعين. لقد قضى أحدهم نحبه، وغادر هذه الحياة، خرج من الدفء والشعور والإدراك إلى العدم، وكل ما كان يهم جالاتشر اللعين أنه سيتأخر في الانصراف من عمله.
قال يوجورت: «ماذا سأفعل؟ كيف كنت سأعرف أن أحدا قد سكر حتى الموت في عربتي! ماذا سأفعل؟»
فقال جرانت: «أبلغ الشرطة، بالطبع»، وللمرة الأولى عاد إليه إدراكه بأن الحياة مكان قد يشعر فيه المرء بالمتعة. شعر جرانت بمتعة منحرفة رهيبة في أن يوجورت قد وجد أخيرا ندا له؛ الرجل الذي سيفلت من إعطائه بقشيشا؛ وأن ذلك الرجل هو من سيتسبب له في إزعاج أكثر مما نجح أي أحد من قبل في التسبب فيه طوال خدمته التي امتدت لعشرين عاما في السكك الحديدية.
نظر مرة أخرى إلى الوجه اليافع الذي يعلوه الشعر الأسود الأشعث، وابتعد ماضيا في الممر. لم يكن الموتى مسئوليته. لقد نال كفايته من الموتى في شبابه، ومع أنه لم يتوقف مطلقا عن الشعور بانقباض في قلبه من حقيقة أن الموت لا رجعة فيه، فإنه لم يعد يملك القدرة على أن يصدمه.
توقفت العجلات عن النقر، وحل محله الصوت الطويل الخفيض الأجوف الذي يصدره القطار حين يصل إلى محطة للسكك الحديدية. أنزل جرانت النافذة وراح ينظر إلى الشريط الرمادي للرصيف يمر سريعا من أمامه. ولطمه البرد لطمة مثل لكمة في الوجه فراح يرتجف لا إراديا.
ألقى بالحقيبتين على الرصيف ووقف مكانه (وهو يثرثر مثل قرد بغيض، كما كان يظن)، وتمنى لو كان من الممكن أن يموت مؤقتا. في تجويف أخير معتم في عقله كان يعرف أن الحقيقة الأساسية التي ستظل صحيحة مهما حدث هي أن الارتجاف من البرد وتوتر الأعصاب على رصيف محطة قطار في السادسة صباحا من يوم شتوي يمثل ميزة؛ فهو نتيجة منطقية وطبيعية لكون المرء على قيد الحياة، لكن كم سيكون رائعا أن يموت المرء مؤقتا ويعود إلى الحياة مرة أخرى في لحظة أسعد!
سأله الحمال: «إلى الفندق يا سيدي؟» وتابع: «أجل، سأتولى أمر متاعك حين أنتهي من أمر حمولة هذه العربة.»
صفحة غير معروفة
أخذ يتعثر في سيره وهو يصعد الدرج ويعبر الجسر. بدا صوت الخشب تحت أقدامه كصوت قرع الطبول ومجوفا، وراحت دفقات كبيرة من البخار تتصاعد حوله من أسفل، وأخذت أصوات الضوضاء تتردد وتتكرر آتية من القنطرة المظلمة المتاخمة له. فكر قائلا في نفسه إن الناس مخطئون بشأن الجحيم. ليس الجحيم مكانا لطيفا دافئا يشوى فيه المرء. الجحيم كهف بارد كبير يتردد فيه صدى الأصوات وليس فيه مستقبل ولا ماض؛ مكان منعزل مظلم تتردد فيه الأصداء. الجحيم خلاصة مركزة من صباح شتوي بعد ليلة مؤرقة من كره الذات.
خرج إلى الساحة الخالية من الناس، وسكن الهدوء المفاجئ من روعه. كانت الظلمة باردة لكنها صافية. وأنبأت مسحة رمادية في تلك الظلمة بقدوم الصبح، وباحت نسمة ثلجية في صفائها ب «القمم العالية». بعد برهة، حين يظهر ضوء النهار، سيأتي تومي إلى الفندق ويأخذه، وسيمضيان بالسيارة إلى ريف منطقة المرتفعات الاسكتلندية الصافي الرحيب، بعيدا في عالم المرتفعات الريفي الشاسع المستقر القنوع، حيث لا يموت الناس إلا في أسرتهم، ولا يكلف أحد نفسه عناء أن يغلق بابه لأن في ذلك مشقة كبيرة للغاية.
في غرفة الطعام في الفندق كانت المصابيح مضاءة في أحد طرفيها فقط، وفي ظلمة المساحات غير المضاءة كانت توجد صفوف من طاولات بلا مفارش يعلوها قماش جوخ. خطر على باله حينئذ أنه لم يسبق له من قبل أن رأى طاولات بلا مفارش. كانت حقا أشياء رثة متواضعة للغاية مجردة من دروعها البيضاء. مثل ندل من دون الجزء الأمامي من قمصانهم.
أطلت طفلة، ترتدي زي عمل عبارة عن فستان أسود ومعطفا صوفيا أخضر مطرزا بالورد، برأسها من خلف ستارة، وبدا أنها ذهلت حين رأته. سألها عن طعام الإفطار الذي يمكن تقديمه. فأخذت إبريقا زجاجيا من خزانة جانبية ووضعته على القماش أمامه بمظهر يوحي بأنها على وشك أن تبدأ عرضا مسرحيا.
قالت بلطف: «سأرسل ماري إليك»، واختفت خلف الستارة.
قال جرانت في نفسه إن الخدمة قد فقدت رسمياتها ورونقها. لقد أصبحت ما تطلق عليه ربات البيوت خشنة جافة. لكن بين الحين والآخر كان الوعد بإرسال ماري يعوض عن القمصان المطرزة والمآخذ المماثلة .
كانت ماري مخلوقا سمينا هادئا، ولا شك في أنها كانت ستصبح مربية أطفال لو لم يكن أمر مربيات الأطفال صيحة عفى عليها الزمن، وأثناء خدمتها له شعر جرانت بنفسه يسترخي مثل طفل في حضور شخص خير. قال، محدثا نفسه بمرارة، إن وضعه قد صار مزريا عندما يكون في حاجة ماسة إلى الطمأنينة لدرجة أن نادلة فندق سمينة تستطيع أن تقدمها له.
لكنه تناول ما وضعته ماري أمامه من طعام وبدأ يشعر بالتحسن. وبعد قليل عادت النادلة، ورفعت من أمامه شرائح الخبز، ووضعت مكانها طبقا من خبز الصباح الملفوف.
وقالت: «إليك بالخبز الملفوف.» وتابعت: «لقد وصل لتوه. إنه هزيل هذه الأيام. فليس فيه أي حشو على الإطلاق. لكنه أفضل من ذلك الخبز.»
دفعت المربى لتقربها أكثر من يده، ونظرت لترى إن كان في حاجة للمزيد من الحليب، وغادرت مرة أخرى. أما جرانت، الذي لم يكن لديه نية لتناول المزيد من الطعام، فوضع الزبد على واحد من الخبز الملفوف ومد يده ليلتقط واحدة من الصحف غير المقروءة من الليلة الماضية. ما خرج في يده كان صحيفة مسائية لندنية، فراح ينظر إليها بعدم تمييز متسم بالحيرة. هل اشترى صحيفة مسائية؟ لقد قرأ الصحيفة المسائية بالطبع في الوقت المعتاد، وهو في الرابعة من بعد الظهر. فلماذا يشتري صحيفة أخرى في الساعة السابعة مساء؟ هل أصبح شراء الصحيفة المسائية فعلا لا إراديا؛ تلقائيا كتفريش المرء لأسنانه؟ كشك كتب مضاء؛ إذن تشتري الصحيفة المسائية. أكانت تلك هي الطريقة التي جرى بها الأمر؟
صفحة غير معروفة
كانت الصحيفة هي صحيفة «سيجنال»، وهي الإصدار المسائي لصحيفة «كلاريون» الصباحية. نظر جرانت مرة أخرى إلى عناوين الأخبار التي كان قد قرأها عصر يوم أمس، وراح يفكر في مدى ثبوتها من ناحية نوعيتها. كانت صحيفة يوم أمس، لكنها بالمثل قد تكون من العام المنصرم، أو الشهر التالي. إن العناوين دائما ما تكون هي العناوين نفسها التي كان يطالعها الآن: الخلاف الحاد في مجلس الوزراء، جثة الفتاة الشقراء في حي مايدا فيل، مقاضاة الجمارك، عملية السطو، وصول ممثل أمريكي، حادثة الشارع. دفع جرانت بالصحيفة بعيدا عنه، لكن بينما كان يمد يده ليلتقط الصحيفة التالية في المجموعة لاحظ أن المساحة الفارغة في قسم آخر الأخبار بها خربشات بقلم رصاص. فقلب الصحيفة حتى يتمكن من رؤية ما كان شخصا ما يحسبه. لكن بدا له أن الخربشة لم تكن في نهاية المطاف تقديرا متعجلا لاحتمالات الفوز في أحد الرهانات أجراه بائع للصحف. كانت محاولة من شخص ما لكتابة مقطع شعري. وبدا جليا أنه كان عملا مبتكرا وليس محاولة لتذكر أبيات معروفة بالفعل، وذلك من خلال الكتابة المتقطعة المفككة، ومن حقيقة أن الكاتب كان قد ملأ الشطرين الناقصين بوضع علامات عددها يساوي العدد المطلوب من الكلمات للوزن الشعري؛ وهي حيلة كان جرانت نفسه يستخدمها في الماضي حين كان أفضل كاتب سونيتات في العامين الأخيرين من مرحلة التعليم الثانوي.
لكن هذه المرة لم تكن القصيدة إحدى قصائده.
وفجأة أدرك من أين جاءت الصحيفة. لقد حصل عليها بتصرف أكثر تلقائية بكثير من شراء صحيفة مسائية. لقد وضعها تحت ذراعه مع الصحف الأخرى حين التقطها بعد أن سقطت على أرضية المقصورة «بي 7». كان عقله الواعي - أو ما تبقى واعيا منه بعد ليلة أمس - منشغلا بالفوضى التي كان يتسبب فيها يوجورت لرجل بائس. فكان الفعل الوحيد النابع من الإرادة الذي أتى عليه هو توبيخ يوجورت بإصلاحه لسترة الرجل، ومن أجل ذلك كان يلزم أن تكون يده فارغة؛ ومن ثم وضع الصحيفة تحت ذراعه مع بقية الصحف.
إذن فالشاب ذو الشعر الأسود الأشعث والحاجبين الجامحين كان شاعرا، أكان كذلك؟
راح جرانت ينظر باهتمام إلى الكلمات المكتوبة بالقلم الرصاص. لقد وضع الكاتب قالبا لكتابته في شكل ثمانية سطور، أو هكذا بدا، لكنه لم يكن قادرا على التفكير في السطرين الخامس والسادس. وهكذا كان نص الكلمات:
الوحوش المتكلمة،
والأنهار الراكدة،
والأحجار السائرة،
والرمال المغنية، ... ...
التي تحرس الطريق
صفحة غير معروفة
إلى الفردوس.
في الواقع، بأمانة شديدة، كان ذلك غريبا جدا. أهي بدايات هذيان ارتعاشي؟
من المفهوم أن صاحب ذلك الوجه المميز جدا لن يرى في أحلامه الناجمة عن السكر شيئا عاديا للغاية مثل الهلاوس. كانت الطبيعة نفسها ستنقلب رأسا على عقب في مخيلة الشاب ذي الحاجبين الجامحين. ماذا كان ذلك الفردوس الذي كانت تحرسه أشياء غريبة ومريعة لهذا الحد؟ أهو غياهب النسيان؟ لماذا كان الشاب في حاجة ماسة للنسيان حتى إنه كان يمثل له الفردوس؟ حتى إنه كان مستعدا لأن يتعرض للأشياء المرعبة المعروفة التي يواجهها عند الاقتراب منه؟
أكل جرانت الخبز الملفوف الطازج اللذيذ الذي كان «من غير حشو بداخله»، وراح يفكر مليا في الأمر. كان خط الكتابة غير منظم لكنه لم يكن مهتزا على الإطلاق؛ إذ بدا كخط شخص بالغ يكتب بيد غير ناضجة، وليس سبب ذلك أن توافقه كان سيئا، وإنما لأنه لم يكن قد تقدم كثيرا في العمر. لأنه في الأشياء الجوهرية كان لا يزال ذلك التلميذ الصغير الذي كان يكتب في الأساس بتلك الطريقة. تأكدت هذه النظرية لدى جرانت من خلال شكل الأحرف الكبيرة، والتي كانت مكتوبة على شكل حروف دفتر تعليم الكتابة بالضبط. من الغريب أن إنسانا مميزا لهذا الحد لم يكن لديه أي رغبة في نقل هويته في شكل حروفه التي يكتبها. فقلة قليلة من الناس فقط هم من لم يعدلوا شكل الحروف في دفتر تعليم الكتابة إلى ما يناسب مزاجهم، أو إلى ما يناسب حاجتهم اللاواعية.
أحد اهتمامات جرانت الأكثر اعتدالا لسنوات كانت مسألة خط اليد تلك، وقد وجد أن نتائج ملاحظاته الطويلة مفيدة كثيرا في عمله. بين الحين والآخر، بالطبع، كان رضا جرانت عن استدلالاته واستنتاجاته يتزعزع - فقد تبين أن أحد القتلة، الذي ارتكب عدة جرائم قتل وكان يذيب ضحاياه في الحمض، كان يتمتع بخط يد استثنائي فيما يتعلق فقط بمنطقه المتطرف؛ الأمر الذي ربما كان في نهاية المطاف ملائما جدا - لكن عموما، كان خط اليد يقدم مؤشرا ودليلا جيدا للغاية عن طبيعة المرء. وعموما، الرجل الذي يستمر في استخدام شكل حروف خطه وهو تلميذ في المدرسة كان يفعل ذلك لأحد سببين: إما أنه غبي، وإما أنه كان يكتب قليلا جدا بحيث لم تسنح الفرصة لأن تنعكس شخصيته على خطه.
بالأخذ في الاعتبار درجة ذكائه العالية التي صيغت في كلمات ذلك الخطر الكابوسي عند بوابات الفردوس، كان من الواضح أن بقاء خط يد الشاب في مرحلة المراهقة لم يكن سببه افتقاره إلى الشخصية. إذ تحولت شخصيته - بحيويتها واهتماماتها - إلى شيء آخر.
إلى ماذا؟ شيء حيوي، شيء منفتح. شيء تستخدم فيه الكتابة لتوصيل رسائل من قبيل: «قابلني عند حانة كمبرلاند في السادسة وخمس وأربعين دقيقة، يا توني»، أو من أجل ملء سجل ما.
لكنه كان منغلقا بما يكفي ليحلل بلاد القمر تلك ويصيغها في كلمات وهو في طريقه إلى فردوسه. كان منغلقا بما يكفي لأن ينأى بجانبه وينظر إليها، وأن يرغب في تسجيلها.
جلس جرانت في حالة استغراق دافئة ممتعة، وراح يمضغ الطعام ويفكر. لاحظ قمم حروف n وm الملاصقة بضعها لبعض في إحكام. هل كان الشاب كذابا؟ أم كان مجرد متحفظ كتوم؟ من الغريب أن تظهر هذه السمة المتحفظة في خط رجل له هذان الحاجبان. كان غريبا مدى اعتماد ما تعنيه ملامح المرء على حاجبيه. فتغيير واحد لدرجة الانحناء بهذه الطريقة أو تلك يؤدي إلى تأثير مغاير تماما. كان أقطاب صناعة الأفلام يأخذون الفتيات الصغيرات اللطيفات من بالهام وموسويل هيل ويزيلون حواجبهن ويرسمون لهن حواجب أخرى، فيصبحن على الفور مخلوقات غريبة من أومسك وتومسك. ذات مرة أخبره تراب، رسام الكاريكاتير، أن حاجبي إيرني برايس كانا السبب في ضياع فرصته في أن يصبح رئيس وزراء. إذ قال تراب، وهو يرمش بعينيه باستمرار كالبومة وهو ينظر إلى جعته: «لم يحبوا حاجبيه.» وأضاف: «لماذا؟ لا تسألني. أنا أرسم فقط. ربما لأنهما كانا يوحيان بأنه انفعالي وسريع الغضب. وهم لا يحبون الرجل الانفعالي السريع الغضب. لا يثقون به. لكن ذلك هو ما أضاع عليه فرصته، صدقني. إنهما حاجباه. لم يحبوا هذين الحاجبين.». ثمة حواجب تنم عن الانفعال، وحواجب تنم عن الغطرسة، وحواجب تنم عن الهدوء ، وحواجب تنم عن القلق، الحاجبان هما ما يضفي على الوجه طابعه الرئيسي. وكان انحراف حاجبي الرجل وميلهما هو ما أضفى على ذلك الوجه الأبيض النحيل على الوسادة صفة الإهمال حتى في موته.
كان الرجل واعيا حين كتب تلك الكلمات، على الأقل كان ذلك واضحا. ربما كانت غياهب النسيان التي غرق فيها ذلك السكير في المقصورة «بي 7» - الجو المكتوم، والأغطية غير المرتبة، والزجاجة الفارغة التي تتدحرج على أرضية المقصورة، والكوب المقلوب على الرف - هي الفردوس الذي سعى خلفه، لكنه كان واعيا حين كتب مخططا للطريق إليها.
صفحة غير معروفة
الرمال المغنية.
كان تعبيرا غريبا لكنه جذاب بطريقة ما.
الرمال المغنية. هل حقا توجد رمال تغني في مكان ما؟ إن وقع العبارة مألوف بطريقة مبهمة. الرمال المغنية. تصيح وتستغيث تحت قدميك وأنت تسير عليها. أو إن الرياح هي الفاعلة، أو شيء آخر. امتد أمامه ساعد رجل كمه مصنوع من قماش صوفي ذي مربعات، وأخذ خبزا ملفوفا من الطبق.
قال تومي، وهو يسحب كرسيا ويجلس: «يبدو أنك تعتني بنفسك جيدا جدا.» ثم شق الخبز الملفوف ووضع عليه الزبد. وتابع يقول: «لم يعد الخبز الملفوف يحتوي على حشو هذه الأيام. حين كنت صبيا كنت أغوص بأسناني فيه وأقضم قضمة كبيرة. كانت احتمالات أن تنفصل أسنانك أو قضمة الخبز الملفوف متساوية. لكن إن ربحت أسنانك فقد حصلت حقا على شيء يستحق. قضمة ملء فيك من الدقيق والخميرة تظل في فمك دقيقتين. لم يعد له طعم على الإطلاق هذه الأيام، ويمكنك أن تطويه على نفسه وتضعه في فمك دون أن تخشى أن تختنق به.»
نظر إليه جرانت في صمت وتأثر. كان يفكر أنه لا توجد علاقة حميمة أكثر من العلاقة التي تربطك برجل شاركته مهجع مدرسة ابتدائية. لقد تشاركا معا أيضا أيام مدرستهما الثانوية، لكن المدرسة الابتدائية كانت هي ما يتذكره في كل مرة يلتقي فيها مجددا بتومي. ربما لأن ذلك الوجه ذا اللون البني المائل للوردي، ذا العينين الزرقاوين البريئتين بكل عناصره الأساسية، كان نفس الوجه الذي كان يعلو تلك السترة الكستنائية المزررة بطريقة معوجة. كان تومي دائما يزرر سترته بلامبالاة طريفة.
وكان من شيم تومي ألا يضيع وقتا أو جهدا في الأسئلة المعهودة عن رحلته أو صحته. وكذلك كانت لورا بالطبع. كانا يتقبلانه كما هو، كما لو كان معهما منذ بعض الوقت. كما لو أنه لم يغب عنهما قط وكما لو كان لا يزال في زيارته السابقة. كانت العودة للانغماس في ذلك الجو مريحة للغاية. «كيف حال لورا؟» «بأفضل حال. زاد وزنها قليلا. أو ذلك ما تقوله هي على الأقل. أما أنا فلا أرى ذلك. لم أحب مطلقا النساء النحيفات.»
فيما مضى، حين كانا في العشرين من عمرهما، فكر جرانت في الزواج من قريبته لورا، وكانت هي الأخرى تفكر في الزواج منه، كان واثقا من ذلك. لكن وقبل أن تقال أي كلمة، تلاشى السحر بينهما وعادا إلى منزلة الصداقة القديمة الوطيدة. كان ذلك السحر جزءا من النشوة الطويلة في أحد فصول الصيف في منطقة المرتفعات الاسكتلندية. كان جزءا من أوقات الصباح على التلال التي تفوح برائحة أوراق الصنوبر، ومن أوقات الغسق المتواصلة المحلاة بشذى زهور النفل. كان جرانت يعتبر ابنة عمه لورا دوما جزءا من سعادة العطلات الصيفية؛ إذ تدرجا معا من التجديف السريع إلى الصيد بالصنارة لأول مرة، كما سارا معا للمرة الأولى على تل لاريج ووقفا معا للمرة الأولى أيضا على قمة جبل بريرياتش. لكن حتى ذلك الصيف الذي كان في نهاية مرحلة مراهقتهما لم تكن السعادة قد تجسدت بعد في لورا نفسها، وتركز الصيف كله في شخص لورا جرانت. كان لا يزال يشعر بانتشاء في قلبه حين يفكر في ذلك الصيف. كان يتسم بالمثالية الرقيقة، وبهجة ألوان قوس قزح، اللتين تتسم بهما فقاعة. ولأن كلمة واحدة لم تقل فإن تلك الفقاعة لم تنفجر قط. ظلت رقيقة ومثالية وقزحية الألوان وهادئة كما تركت. كان كل منهما قد تابع طريقه وانخرط في أشياء أخرى، ومع أشخاص آخرين. كانت لورا قد تنقلت من شخص إلى التالي بلامبالاة طفل مرح يلعب الحجلة. ثم اصطحبها إلى رقصة أولد بويز تلك. فالتقت بتومي رانكن. وكانت تلك هي النهاية.
سأله تومي قائلا: «ما سبب الجلبة عند المحطة؟» واستطرد: «سيارات إسعاف وما إلى ذلك.» «مات رجل على متن القطار. أظن أن الأمر كذلك.»
قال تومي، منحيا الموضوع جانبا: «أوه.» ثم أضاف بنبرة مهنئة: «ليست مشكلتك هذه المرة.» «لا. ليست مشكلتي، حمدا للرب.» «سيفتقدونك في إمبانكمنت.» «أشك في ذلك.»
قال تومي: «يا ماري، أريد براد شاي ثقيل.». ثم راح ينقر بإصبعه بازدراء على الصحن الذي يحتوي على الخبز الملفوف. وأضاف: «واثنين من تلك الأشياء البائسة.» والتفت نحو جرانت بنظرته الطفولية الجادة وقال: «لا بد أنهم سيفتقدونك. سينقصون واحدا، أليس كذلك؟»
صفحة غير معروفة
أطلق جرانت أنفاسه على نحو كان أقرب ما وصل إليه مما يمكن أن يوصف بضحكة منذ شهور. كان تومي يرثي لحال قيادة الشرطة، ليس لفقدها لعبقريته، وإنما لافتقارها إلى حضوره. لقد كان أسلوبه «الأسري» يكاد يصل حد التطابق مع ردة الفعل المهنية لرئيسه في العمل. إذ كان برايس قد قال، وعيناه الشبيهتان بعيني صغير الفيل تستعرضان جسد جرانت البادي الصحة وتعودان إلى وجهه باشمئزاز: «إجازة مرضية!» «حسنا، حسنا! إلى أين سيئول الحال بقوة الشرطة؟! في أيام شبابي كنا نظل نعمل حتى نسقط من شدة الإعياء. وكنا نستمر في تدوين الملاحظات حتى تأتي سيارة الإسعاف وتحملنا من على الأرض.» لم يكن من السهل أن يخبر برايس بما قاله الطبيب، ولم يجعل برايس الأمر أسهل. لم يكن برايس من النوع الذي تصاب أعصابه بالتوتر؛ إذ كان قوة بدنية محضة يحركها عقل ماكر وإن كان محدود الذكاء. لم يبد من جانبه أي تفهم أو تعاطف في تلقيه للأخبار التي كان يحملها جرانت. في الواقع، كان ثمة إشارة خفية، مجرد تلميح، إلى أن جرانت كان يتمارض. وأن ذلك الانهيار العصبي الغريب جدا الذي خرج منه متمتعا بجسد بادي العافية والصحة ظاهريا له علاقة ما بالجولة الربيعية في أنهار منطقة المرتفعات الاسكتلندية، وأنه قد جهز بالفعل طعوم فراشات الصيد الصناعية قبل أن يذهب إلى عيادة الطبيب في ويمبول ستريت.
سأله تومي: «ماذا سيفعلون لسد الفجوة؟» «سيرقون الرقيب ويليامز، على الأرجح. فترقيته تأخرت كثيرا على أي حال.»
لم يكن إخبار المرءوس المخلص ويليامز أمرا سهلا. فحين يبجلك مرءوسك صراحة، وكأنك بطل، لسنوات، ليس مما يبعث على السرور أن تظهر أمامه بمظهر كائن بائس مثقل بضغوط عصبية وواقع تحت رحمة شياطين لا وجود لها. ويليامز، هو الآخر، لم يكن من النوع الذي تصاب أعصابه بالتوتر. كان يتقبل كل شيء، بهدوء ودون تساؤل. لم يكن من السهل أن يخبر ويليامز ويرى الإعجاب يتحول إلى قلق. أو إلى ... شفقة؟
قال تومي: «ناولني المربى.»
الفصل الثاني
بينما كانا يستقلان السيارة عبر التلال، تغلغل لدى جرانت إحساس السلام الذي نجم عن تقبل تومي لوجوده باعتباره أمرا واقعا. لقد تقبله هذان الاثنان؛ إذ وقفا في محبة متجردة، يرقبانه وهو يأتي في هدوء معتاد. كان صباحا رماديا كئيبا وساكنا. وكانت الطبيعة أمامهما منسقة مفتوحة. أحاطت جدران رمادية منسقة بحقول مفتوحة، وامتدت أسوار مكشوفة بحذاء المصارف المنسقة. لم يكن أي شيء قد بدأ ينمو بعد في هذا الريف المترقب. لم تظهر الحياة والخضرة في تلك المناطق شبه العارية إلا في شجرة صفصاف هنا أو هناك بجانب قناة تصريف صغيرة.
ستصير الأمور على ما يرام. كان هذا هو ما أحتاج إليه؛ هذا الصمت الفسيح الممتد، وهذا الحيز، وهذه السكينة. كان قد نسي كم كان هذا المكان ودودا، وباعثا على الراحة. كانت التلال القريبة مستديرة وخضراء وودودة، وخلفها كانت توجد تلال أبعد، ملطخة بالزرقة من أثر المسافة. وخلف كل ذلك كان متراس خط المرتفعات الاسكتلندية منتصبا، أبيض اللون ونائيا في مواجهة السماء الساكنة.
قال جرانت، وهما ينزلان إلى وادي نهر تورلي: «منسوب النهر منخفض جدا، أليس كذلك؟» واجتاحه شعور بالذعر.
كانت تلك هي الطريقة التي يحدث بها الأمر دوما. في لحظة يكون إنسانا عاقلا حرا مالكا لزمام نفسه، وفي اللحظة التالية يصبح مخلوقا عاجزا في قبضة اللامنطق والجنون. ضغط يديه إحداهما بالأخرى ليمنع نفسه من فتح الباب على مصراعه للجنون، وحاول أن يستمع إلى ما كان تومي يقوله. لم يهطل المطر منذ أسابيع. لم يكونوا قد حظوا بالمطر منذ أسابيع. فليفكر في شح الأمطار. كان شح الأمطار أمرا مهما. فقد أفسد الصيد. كان قد أتى إلى بلدة كلون من أجل الصيد. وإن لم تكن السماء قد أمطرت فلن توجد أسراب أسماك. لن توجد مياه للأسماك. يا إلهي، ساعدني ألا أجعل تومي يتوقف عن الكلام! لا يوجد ماء. فكر بذكاء في الصيد. إن لم تكن السماء قد أمطرت منذ أسابيع، فلا بد أن المطر على وشك الهطول، أليس هذا ضروريا؟ لماذا يمكنك أن تطلب من صديقك أن يوقف السيارة ويدعك تتقيأ، ولكن لا تطلب منه أن يوقف السيارة حتى يتسنى لك الخروج من حيزها الضيق؟ انظر إلى النهر. «انظر» إليه. تذكر أشياء عنه. هناك اصطدت أفضل سمكة في العام الماضي. وهناك انزلق بات من على الصخرة التي كان جالسا عليها وظل معلقا من مؤخرة بنطاله.
كان تومي يقول: «تلك السمكة كانت أفضل سمكة رأيتها على الإطلاق.»
صفحة غير معروفة
كانت أشجار البندق بجوار النهر تشكل بقعة بنفسجية براقة في المستنقع ذي اللون الأخضر الرمادي. وبعد قليل، حين يحل الصيف، سيشكل الصخب البارد لأوراقها لحنا مصاحبا لأغنية النهر، لكنها الآن كانت تقف في حشد صامت مرتبك على امتداد ضفة النهر.
ناظرا إلى حالة الماء، لاحظ تومي أيضا أغصان البندق الجرداء، لكن لكونه والدا لم يدفعه ذلك إلى أن يفكر في أوقات العصر الصيفية. وقال: «لقد اكتشف بات أنه بصار.»
ذاك أفضل. فكر في بات. تحدث عن بات. «تتناثر في المنزل أغصان من كل الأشكال والأحجام.» «هل اكتشف أي شيء؟» إن استطاع أن يبقي ذهنه منشغلا ببات فقد تكون الأمور على ما يرام. «لقد اكتشف ذهبا تحت أرضية غرفة الجلوس، ومجموعة من المواد تحت ما يمكن أن تطلق عليه مرحاض الطابق السفلي، وبئرين.» «أين البئران؟» لا يمكن أن تكون المسافة المتبقية طويلة. بقيت خمسة أميال حتى مقدمة الوادي الصغير وبلدة كلون. «واحد تحت أرضية حجرة الطعام، والآخر تحت رواق المطبخ.» «أفهم من ذلك أنكم لم تحفروا في أرضية مدفأة غرفة الجلوس.» كانت النافذة مفتوحة عن آخرها. ما الذي يمكن أن يقلق بشأنه؟ لم تكن السيارة حيزا مغلقا حقا، لم تكن حيزا مغلقا إطلاقا. «لم نفعل. إنه منزعج من هذا كثيرا. وقال بأنني ولدت مرة واحدة.» «ولدت مرة واحدة؟» «أجل. هذه هي آخر كلماته. إنها تعني أنني أدنى بدرجة من شخص كريه، أو هكذا فهمت.» «من أين أتى بالكلمة؟» سينتظر حتى يصلا إلى أيكة شجر البتولا تلك عند الزاوية. حينها سيطلب من تومي أن يتوقف. «لا أعرف. من امرأة متصوفة كانت تتحدث إلى المنظمة الدولية لمقاومي الحرب، في الخريف الماضي، حسبما أظن.»
لماذا ينزعج من أن يعرف تومي؟ لم يكن يوجد شيء مخز في الأمر. لو أنه كان مصابا بالزهري والشلل لقبل مساعدة تومي وتعاطفه. ما الذي يجعله يرغب في أن يخفي عن تومي حقيقة أنه يتعرق رعبا بسبب شيء لا وجود له؟ ربما بإمكانه أن يخدعه؟ ربما يمكنه أن يطلب من تومي أن يتوقف قليلا حتى يبدي إعجابه بالمنظر؟
ها قد وصلا إلى أيكة شجر البتولا. لقد صمد هذه المسافة على الأقل.
سيصمد حتى ذلك الجزء من الطريق الذي يستوي فيه مع منحنى النهر. حينها سيختلق عذرا بدعوى إلقاء نظرة على الماء. هذا مقبول أكثر من النظر إلى المنظر الطبيعي. من شأن تومي أن ينظر بابتهاج إلى النهر، ولكنه سينظر باحتجاج صامت إلى المنظر الطبيعي.
خمسون ثانية أخرى تقريبا. واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة ...
الآن.
قال تومي، وهو يمر سريعا بمنحنى النهر: «لقد فقدنا زوجا من الغنم في تلك البركة هذا الشتاء.»
فات الأوان.
صفحة غير معروفة
ما الأعذار الأخرى التي يمكن أن يختلقها؟ لقد أصبح قريبا جدا من بلدة كلون الآن بحيث لا يمكنه أن يجد أعذارا بسهولة.
إنه حتى لا يمكنه أن يشعل سيجارة في حال ما كانت يداه ترتعشان كثيرا.
ربما لو فعل شيئا، مهما كانت تفاهته ...
أخذ حزمة الصحف من على الكرسي بجواره، وراح يعيد ترتيبها، منشغلا بخلطها بدون هدف. ولاحظ أن صحيفة «سيجنال» لم تكن بينها. لقد كان ينوي أن يأخذها معه بسبب تلك القصيدة التجريبية القصيرة الغريبة في قسم آخر الأخبار، لكن لا بد أنه تركها في غرفة الطعام في الفندق. أوه، حسنا. لم تكن مهمة. لقد أدت دورها بإضفاء الإثارة على إفطاره. ولا شك في أن مالكها لم يكن يريدها مرة أخرى. لقد وصل إلى فردوسه، إلى غياهب النسيان، إن كان هذا هو ما كان يريده. لم تكن تناسبه مزية اليدين المرتعشتين والبشرة المتعرقة. ولا مزية التصارع مع الشياطين. لم يكن يناسبه الصباح النقي، ولا الأرض الطيبة، ولا سحر خط أفق المرتفعات الاسكتلندية في مواجهة السماء.
وللمرة الأولى خطر له أن يتساءل عن السبب الذي كان قد جعل الشاب يأتي إلى الشمال.
من المحتمل أنه لم يسافر في مقصورة نوم من الدرجة الأولى لمجرد أن يعاقر الشراب حتى يغيب عن الوعي. لقد كان يقصد وجهة معينة. كان لديه مهمة وبغية. كان لديه غاية.
لماذا أتى إلى الشمال في هذا الموسم القاتم غير الجذاب؟ ليصطاد السمك؟ ليتسلق التلال؟ إن المقصورة كما يتذكرها كانت تخلف انطباعا بأنها خالية، ولكن ربما كانت أمتعته الثقيلة تحت السرير. أو ربما كانت في عربة الحقائب. بمعزل عن التنزه والرياضة، ماذا كان مقصده؟
أكان عملا رسميا؟
ليس بذلك الوجه، لا.
هل كان ممثلا؟ فنانا؟ ربما.
صفحة غير معروفة
هل كان بحارا في طريقه للحاق بسفينته؟ هل كان ذاهبا إلى قاعدة بحرية بعد إنفرنيس؟ كان ذلك محتملا. كان الوجه سيبدو ملائما تماما على برج قيادة سفينة. سفينة صغيرة، سريعة جدا، سفينة جهنمية في أي بحر من البحار.
ماذا كان شأنه أيضا؟ ما الذي من شأنه أن يأتي بشاب داكن البشرة نحيف الجسد ذي حاجبين جامحين وشهية كبيرة لاحتساء الكحوليات إلى منطقة المرتفعات الاسكتلندية في بداية شهر مارس؟ إلا إن كان قد فكر في أن يبدأ معمل تقطير غير قانوني في مثل هذه الأيام التي يشح فيها الويسكي؟
كانت فكرة باعثة على السرور. كم سيكون ذلك سهلا! ليس بسهولته في أيرلندا؛ لأن الرغبة في الخروج على القانون كانت مفقودة، لكن بمجرد أن تحققها فإن الويسكي سيكون أفضل بكثير. كاد يتمنى لو أنه استطاع أن يعرض الفكرة على الشاب. ربما كان سيجالسه على العشاء ليلة أمس، ويراقب الوميض وهو يظهر في عينيه بفعل فكرة ذلك الخرق الممتع للقانون. تمنى لو أنه تمكن من الحديث معه بأي حال، وتبادل معه الأفكار، واكتشف أمره. لو أن أحدا كان قد تحدث معه ليلة أمس لربما كان الآن جزءا من هذا الصباح المفعم بالحياة، من هذا العالم السخي الرائع بما يحمله من هدايا ووعود، بدلا من أن ...
قال تومي، مختتما قصة: «ثم نكزه بقضيب فأسقطه في البركة تحت الجسر.»
نظر جرانت إلى يديه، فوجد أنهما كانتا ساكنتين.
لقد أنقذه الشاب الميت الذي لم يستطع أن ينقذ نفسه.
رفع ناظريه فرأى أمامه منزل بلدة كلون الأبيض. كان رابضا في أعلى التلة الخضراء، وحيدا باستثناء غابة التنوب الكثيفة المصاحبة له وتظلله، والملتصقة به وكأنها غزل بلون أخضر قاتم من الصوف على هذا المنظر الطبيعي الأجرد. ومن المدخنة تصاعد عمود دخان أزرق متموج في الجو الساكن. كان هذا المشهد بمثابة الجوهر البديع للسلام والسكينة.
وبينما كانا يصعدان بالسيارة الدرب الرملي المتفرع من الطريق، رأى لورا تخرج من الباب وتقف في انتظارهما. لوحت لهما، وبينما كانت تنزل ذراعها التي كانت تلوح بها أعادت بيدها خصلة الشعر التي سقطت على جبهتها. هذه الحركة المألوفة جعلت الدفء يسري في كيانه مبددا فتوره. فهكذا بالضبط اعتادت أن تنتظره على رصيف بادنوخ الصغير في انتظاره حين كانت طفلة؛ بنفس التلويح ونفس حركة إزاحة خصلة الشعر. خصلة الشعر نفسها.
قال تومي: «تبا، لقد نسيت أن أرسل خطاباتها بالبريد. لا تذكر الأمر أمامها إلا إذا سألت عنه.»
قبلته لورا على خديه، ونظرت إليه نظرة سريعة، ثم قالت: «لدي طائر جميل مطهي من أجل غدائك، ولكنك تبدو وكأن قسطا طويلا من النوم الهانئ سيكون أجدى لك. فلتصعد مباشرة إذن إلى الطابق العلوي، ونم وانس أمر الطعام حتى تستيقظ. أمامنا أسابيع طويلة لنتبادل فيها الأحاديث؛ لذا لا يتعين علينا أن نبدأ الآن فورا.»
صفحة غير معروفة
فكر جرانت أن لورا هي وحدها التي تستطيع أن تضطلع بدور المضيف الذي يهتم باحتياجات ضيفه ببساطة وعناية. فلا تفاخر خفيا من جانبها بالغداء الذي أحسنت إعداده؛ ولا ابتزازا مستترا. إنها حتى لم تصر على أن تقدم لضيفها أكواب الشاي غير المرغوب فيها، ولم توص بوضوح باستخدامه لمياه الاستحمام الدافئة التي لديها. إنها حتى لم تطلب إجراء محادثة الوصول الصغيرة، ولا الجلوس لبرهة في كياسة وتهذيب. لقد أمدت ضيفها من دون استجواب أو تردد بما كان في حاجة إليه. أمدته بسرير لينام فيه.
تساءل هل بدا محطما أم إن الأمر كان ببساطة أن لورا كانت تعرفه جيدا. وخطر له أنه لا يمانع أن تعرف لورا بشأن نوبات الذعر لديه. كان غريبا أنه أحجم عن إظهار ضعفه أمام تومي بينما لم يعبأ بأن تعرف لورا بأمره. كان ينبغي أن يكون الأمر عكس ذلك.
قالت وهي تسبقه على الدرج نحو الطابق العلوي: «لقد خصصت لك الغرفة الأخرى هذه المرة؛ لأن الغرفة الغربية أعدت وما زالت رائحتها كريهة بعض الشيء.»
لاحظ أن وزنها حقا زاد قليلا، لكن كاحليها كانا جميلين كعادتهما دائما. وبهذه الموضوعية الفطرية التي لم يتخل عنها يوما، أدرك أن افتقاره إلى أي رغبة في إخفاء نوبات الذعر الطفولية عن لورا كان دليلا على أنه لم يعد يوجد ولو جزءا صغيرا في أعماقه لا يزال مغرما بها. إن حاجة الذكر لأن يبدو بمظهر حسن في عيني محبوبته لم تكن موجودة في علاقته بلورا.
قالت وهي تقف في منتصف غرفة النوم الشرقية، وتنظر إليها وكأنها لم ترها من قبل: «يقول الناس دائما عن غرف النوم الشرقية إنها تتمتع بشمس الصباح.» وتابعت: «كما لو كانت توصية ما. إنني نفسي أظن أنه ألطف بكثير أن يكون بوسع المرء أن يطل على منظر طبيعي مشمس. وهذا ما لا تستطيع فعله والشمس في عينيك.» ثم دست إبهاميها في حزام خصرها وحررته قليلا إذ كان يزداد ضيقا. أضافت: «لكن الغرفة الغربية ستكون صالحة للسكنى في غضون يوم أو يومين؛ لذا يمكنك عندئذ أن تنتقل إليها إذا ما رغبت في ذلك. كيف حال عزيزي الرقيب ويليامز؟» «في أحسن حال.»
على الفور خطر على ذهنه مشهد ويليامز وهو يجلس جامدا وخجلا إلى طاولة الشاي في ردهة استراحة ويستمرلاند. كان في طريقه للخارج بعد جلسة مع المدير، وصادف لورا وجرانت وهما يتناولان الشاي، فأقنعاه بأن ينضم إليهما. كان قد ترك انطباعا جيدا لدى لورا. «تعرف، كلما تمر هذه البلاد بإحدى فترات الفوضى المتكررة التي تمر بها، أفكر في الرقيب ويليامز وأغدو واثقة تماما من أن كل شيء سيكون على ما يرام.»
قال جرانت، وهو منشغل بفك أحزمة أمتعته: «أظن «أنني» لا أبعث في نفسك أي قدر من الطمأنينة.» «ليس بقدر ملحوظ. ليس بتلك الطريقة على أي حال. ستكون مبعث اطمئنان إن «لم يكن» كل شيء يسير على ما يرام.» وبهذه العبارة المبهمة تركته. واختتمت قائلة: «لا تنزل إلا حين تريد ذلك. لا تنزل على الإطلاق، إذا اقتضى الأمر. فقط رن الجرس حين تستيقظ.»
أخذ وقع قدميها يبتعد في الممر، واجتاح الصمت المكان في إثرها.
خلع جرانت ملابسه وألقى بنفسه على السرير من دون أن يكلف نفسه عناء إسدال الستائر ليحجب الضوء. وبعد قليل فكر في نفسه: من الأفضل أن أسدل تلك الستائر، وإلا فقد يوقظني الضوء مبكرا قبل الأوان. فتح عينيه على مضض ليقيس مقدار الضوء، فوجد أن الضوء لم يعد يأتي من النافذة على الإطلاق. لكنه كان بالخارج. فرفع رأسه من على الوسادة ليفكر في هذا الأمر الغريب، وأدرك أنه حينئذ كان في ساعة متأخرة من بعد الظهيرة.
استدار على ظهره في استرخاء واستمتاع ورقد يستمع إلى السكون. ذلك السكون الموغل في القدم. استمتع به في ترف وعلى مهل. لم يكن يوجد حيز مغلق بين هذا المكان ومضيق بينتلاند. بين هذا المكان والقطب الشمالي، إذا وصل الأمر إلى هذا الحد. ومن خلال النافذة المفتوحة على مصراعيها كان بوسعه أن يرى سماء المساء، التي كانت لا تزال رمادية لكنها كانت مضاءة بإضاءة باهتة، وبها خط من سحب مستقيمة. لم تكن تلك السماء تحمل أمطارا، لم تكن تحمل إلا صدى للسلام الذي لف العالم في هذا السكون القرير. أوه، حسنا، إن لم يكن بوسعه صيد السمك فبوسعه السير والتنزه. وفي أسوأ الأحوال يمكنه أن يصطاد الأرانب.
صفحة غير معروفة
راح يرقب السحب المستقيمة وهي تزداد قتامة في مواجهة خلفيتها، وتساءل في نفسه عمن ستقترح عليه لورا أن يتزوجها هذه المرة. كان مذهلا أن كل النساء المتزوجات اتحدن معا لمواجهة حالة العزوبية لدى الرجال. إن كانت النساء سعيدات في زيجاتهن مثل لورا، فإنهن كن ينظرن للزواج على أنه الحالة المقبولة الوحيدة لشخص بالغ لا يعاني من أي عجز ملحوظ أو عائق ذي صلة. وإن كن مستعبدات وغير سعيدات في زيجاتهن، فإنهن عندئذ كن مفعمات بمشاعر الاستياء من أي شخص تمكن من الهروب من مثل هذا العقاب. في كل مرة كان جرانت يأتي فيها إلى بلدة كلون، كان من عادة لورا أن تقدم له أنثى فحصت بدقة من أجل أن يأخذ الزواج منها بعين الاعتبار. لم يكن يقال أي شيء عن صفاتهن الجذابة، بالطبع؛ بل كن يسرن أمامه جيئة وذهابا حتى يتسنى له رؤية مشيتهن. ولم يكن كذلك ثمة أي إحساس بالندم في الأجواء حين لم يكن يظهر أي اهتمام بأي مرشحة منهن، لم يكن ثمة أي إشارة إلى إلقاء اللوم عليه أو استنكار فعله. كل ما كان يحدث هو أنه في المرة التالية كانت لورا تأتي بفكرة جديدة.
ومن بعيد، كان صوت يأتي إما قرقرة كسولة لدجاجة أو قعقعة أكواب شاي تجمع معا. راح يتسمع لبرهة قصيرة، آملا أن يكون صوت دجاجة، لكنه توصل في أسف إلى أنه كان صوت تحضير الشاي. كان لا بد أن ينهض. سيعود بات من المدرسة، وستستيقظ بريدجيت من قيلولتها. كان من شيم لورا المعهودة أنها لم تطلب منه أن يبدي إعجابا بابنتها، لم يطلب منه أن يبدي إعجابه بمدى نموها وذكائها وجمالها في العام الماضي. لم تذكر بريدجيت على الإطلاق. كانت مجرد مخلوقة صغيرة في مكان ما بعيدا عن الأنظار، مثل بقية حيوانات المزرعة.
نهض جرانت وذهب ليستحم. وبعد عشرين دقيقة كان ينزل الدرج وهو يعي أنه جائع للمرة الأولى منذ شهور.
فكر في نفسه أن الصورة العائلية التي فتح عليها باب غرفة الجلوس كانت تضاهي بالضبط إحدى لوحات زوفاني. كانت غرفة الجلوس في منزل بلدة كلون تشغل تقريبا كامل مساحة ما كان بالأساس بيتا ريفيا وصار الآن جناحا صغيرا في المبنى الرئيسي. ولأنها كانت فيما مضى مقسمة إلى عدة غرف وليست غرفة واحدة، كان بها نوافذ أكثر مما هو معتاد في مثيلاتها من الغرف، ولأن جدرانها كانت سميكة كانت دافئة وباعثة على الشعور بالأمان، ولأنها كانت ذات طابع جنوبي غربي، كانت أبهى إضاءة من معظم الغرف الأخرى. لذا كانت تحركات المنزل كله منصبة فيها، كما في القاعة الأساسية في إحدى ضيعات القرون الوسطى. لم تكن الأسرة تستخدم أي غرفة أخرى إلا وقت الغداء أو العشاء. كفلت مائدة مستديرة كبيرة بجوار المدفأة وسائل الراحة المتاحة في وجبات «غرفة الطعام» وقت الشاي والإفطار، وكان ما تبقى من الغرفة يمثل خليطا أنيقا ورائعا من مكتب، وغرفة صالون، وغرفة موسيقى، وغرفة دراسة، ومشتل زجاجي. خطر لجرانت أن يوهان زوفاني ما كان بحاجة إلى تغيير تفصيلة واحدة بها. كان كل شيء موجودا بالفعل، حتى كلب الصيد الصغير الذي يستجدي الطعام بجوار المائدة وبريدجيت الواقفة بساقيها منفرجتين على سجادة المدفأة.
كانت بريدجيت طفلة شقراء صامتة، في الثالثة من عمرها، كانت تمضي أيامها وهي تعيد بلا توقف ترتيب الأغراض القليلة نفسها في أنماط جديدة. قالت لورا: «لا يمكنني أن أقرر ما إن كانت تعاني من قصور عقلي أو عبقرية.» لكن جرانت رأى أن النظرة التي استمرت ثانيتين فقط، التي حبته بها بريدجيت عند تقديمه ، بررت تماما الفرح في نبرة صوت لورا؛ إذ لم يكن ثمة خطب في ذكاء «الطفلة»، كما كان باتريك يدعوها. ولم تكن تلك الكنية التي كان بات يستخدمها تحمل أي معنى من معاني الازدراء، ولا حتى أي تعال ملحوظ؛ كانت تؤكد فحسب على تضمينه في المجموعة البالغة، الذي خوله إياه كبره عنها بست سنوات حسب تقديره.
كان بات ذا شعر أحمر وعينين رماديتين كئيبتين متوعدتين. وكان يرتدي إزارا اسكتلنديا من الصوف الأخضر المقلم، وجوربا بلون أزرق باهت، وقميصا صوفيا بلون رمادي باهت أكثر. كانت تحيته لجرانت عفوية، لكنها كانت فظة على نحو مطمئن. كان بات يتحدث بلكنة «بيرثشاير معقدة» كما وصفتها أمه؛ لأن صديقه الحميم في مدرسة القرية هو ابن الراعي، الذي كان ينحدر من كيلين. كان باستطاعته، بالطبع، أن يتحدث الإنجليزية بطلاقة حين يريد ذلك، لكن هذه كانت دائما علامة سيئة. فحين كان بات «يخاصمك»، كان دائما يخاصمك بإنجليزية سليمة للغاية.
أثناء تناول الشاي، سأله جرانت إن كان قد حسم قراره بشأن ما يريد أن يصبح حين يكبر، وكانت إجابة بات الثابتة على السؤال منذ كان في عمر الرابعة هي «إنني أتمهل في قراري». وهي عبارة استعارها من والده قاضي الصلح.
قال بات وهو يبسط المربى بيد سخية: «أجل.» وأضاف: «لقد اتخذت قراري.» «حقا؟ جيد. وماذا ستصبح حين تكبر؟» «ثوريا.» «آمل ألا أضطر يوما لإلقاء القبض عليك.»
قال بات ببساطة: «لن تستطيع.» «ولم؟»
قال بات وهو يغمس الملعقة مرة أخرى في المربى: «سأكون صالحا، يا رجل.»
صفحة غير معروفة
قالت لورا وهي تأخذ المربى من ابنها: «أنا واثقة أن هذا هو المعنى الذي قصدته الملكة فيكتوريا عندما استخدمت تلك الكلمة.»
لقد كان يحبها من أجل ذلك. ذلك التجرد الغريب المتألق الذي أصاب قوام أمومتها في مقتل.
قال بات وهو يكشط المربى إلى أحد جوانب شريحة الخبز، بحيث تصل إلى العمق المطلوب في نصف مساحة سطح الشريحة على الأقل: «عندي لك سمكة». (ما قاله بالفعل كان: «إندي لك ثمكة»، لكن الصوتيات عند بات لم تكن أكثر استساغة على العين مما هي على الأذن، ويمكن أن نتركها لمخيلة القارئ.) وتابع: «تحت الحافة في بركة كادي. يمكنك أن تستعير طعمي، إن شئت.»
وحيث إن بات كان يمتلك علبة صفيح كبيرة مليئة باختراعات متنوعة للقتل، فإن «طعمي» في صيغة المفرد لا يمكن إلا أن يعني «الطعم الاصطناعي الذي اخترعته».
فسأل حين كان بات قد غادر: «كيف هو طعم بات؟»
فقالت أمه: «يتعين أن أقول إنه فعال.» وأضافت: «إنه شيء مخيف.» «هل يصطاد به أي شيء؟»
قال تومي: «أجل، مع غرابة هذا.» وتابع: «أظن أنه يوجد حمقى في عالم الأسماك أيضا مثلما في أي عالم آخر.»
قالت لورا: «تفغر المخلوقات البائسة أفواهها ذهولا لما تراه، وقبل أن يتسنى لها الوقت لتغلق أفواهها يكون التيار قد سحبه إلى داخلها. يوم غد هو السبت؛ لذا يمكنك أن تراه وهو يعمل. لكنني لا أظن أن أي شيء، ولا حتى اختراع بات الشرير، سيستدرج تلك السمكة الكبيرة، التي تزن ستة أرطال والموجودة في بركة كادي، للصعود إلى السطح إن ظل الماء في البركة على ما هو عليه الآن.»
وكانت لورا محقة بالطبع. إذ كان صباح يوم السبت مشرقا وغير ممطر، وكانت السمكة الكبيرة التي تزن ستة أرطال فزعة كثيرا في بركة كادي جراء سجنها فيها، ومهووسة كثيرا برغبتها في المضي في عكس مجرى النهر، فلم تكن تبدي اهتماما بمصادر التشتيت على السطح. لذا اقترح أن يصطاد جرانت سمك السلمون المرقط في البحيرة، وأن يكون بات مرافقا له. كانت البحيرة على بعد ميلين في التلال، وكانت عبارة عن مسطح مائي منبسط على رقعة أرض سبخة جرداء. حين يكون الجو عاصفا في بحيرة لوخان دهو، كانت الريح تخرج خيط صنارتك من الماء بزوايا قائمة وتبقيه مشدودا كأنه سلك هاتف. وحين يكون الجو هادئا وخاليا من الرياح يجعل البعوض منك وليمة بينما تصعد أسماك السلمون المرقط إلى السطح وتضحك ملء فيها. لكن إن لم يكن صيد السلمون المرقط فكرة جرانت عن الانهماك المثالي، فقد كان من الواضح أن مرافقة بات لجرانت كانت فكرة الأول عن الفردوس. لم يكن يوجد شيء ليس بمقدور بات فعله، من امتطاء الثور الأسود في دالمور إلى طلب حلويات بقيمة ثلاثة بنسات من السيدة مير في مكتب البريد بالاستعانة بنصف بنس والكثير من التهديد والوعيد. لكن متعة العبث في الأرجاء في قارب كانت لا تزال شيئا لا يستطيع أن يتيحه لنفسه. إذ كان القارب عند البحيرة مقفلا بقفل.
لذا انطلق جرانت على الدرب الرملي عبر نباتات الخلنج الجافة، وبات بجواره ومتأخر عنه بخطوة واحدة وكأنه كلب صيد يتصرف على أفضل نحو. وأثناء مسيره كان جرانت واعيا بممانعته هو نفسه، وأخذ يتساءل بشأنها.
صفحة غير معروفة
ما السبب الذي يمكن أن يستدعي وجود أي قيد أو شرط في سروره هذا الصباح، في فرحه بالذهاب لصيد السمك؟ ربما لا تمثل أسماك السلمون البنية المرقطة فكرته عن المنافسة الرياضية، لكنه كان مسرورا جدا بأنه سيمضي يومه ممسكا بصنارة في يده حتى ولو لم يتمكن من اصطياد أي شيء. كان مسرورا كثيرا لوجوده في العراء، مفعما بالحياة وخالي البال، والحيوية المألوفة للتربة الخثية تحت قدميه، والتلال أمامه. لماذا يوجد في خبايا عقله هذا القدر اليسير من النفور؟ لماذا أراد أن يتسكع حول المزرعة، بدلا من أن يأخذ قاربا ويخرج به في بحيرة لوخان دهو طوال اليوم؟
كانا قد سارا مسافة ميل قبل أن يخرج السبب من غلاف عقله الباطن. لقد كان يرغب في البقاء في منزل بلدة كلون اليوم ليتمكن من الاطلاع على الصحيفة اليومية حين تصل.
كان يرغب في أن يحصل على معلومات عن راكب المقصورة «بي 7».
كان عقله الواعي قد أسقط راكب المقصورة «بي 7» من ذاكرته، مع معاناته في الرحلة وذكرى إذلاله. لم يتذكره على نحو واع منذ اللحظة التي ارتمى فيها على السرير عند وصوله حتى الآن؛ أي بعد ما يقرب من أربع وعشرين ساعة. لكن راكب المقصورة «بي 7» كان لا يزال مصاحبا له، على ما يبدو.
سأل بات، الذي كان لا يزال صامتا ويتصرف على أفضل نحو لديه ومتأخرا عنه بخطوة واحدة: «متى تصل الصحيفة اليومية إلى كلون في هذه الأيام؟»
فرد بات: «إن كان جوني هو من يحضرها فتصل في الساعة الثانية عشرة، لكن إن كان كيني فغالبا ما تصل قرب الواحدة.» ثم أضاف بات وكأنه مسرور لإدراج الحديث في نمط تلك الرحلة: «يتوقف كيني ليتناول كأسا من الشراب في دالمور، شرقي الطريق. إنه يذهب إلى حانة ماكفادينز كريستي.»
قال جرانت لنفسه إن العالم الذي تنتظر فيه أخبار أحداث الأمة كيني حتى يتناول كأسا من الشراب في حانة ماكفادينز كريستي هو عالم بهيج جدا. لا بد أن هذا العالم كاد أن يضاهي الفردوس فيما قبل ظهور الراديو. «التي تحرس الطريق إلى الفردوس.»
الرمال المغنية.
الوحوش المتكلمة،
والأنهار الراكدة،
صفحة غير معروفة
والأحجار السائرة،
والرمال المغنية ...
ما الذي كانت تعنيه هذه الكلمات؟ أكانت مجرد بلدة من المخيلة؟
هنا في العراء، في هذه الأرض البدائية، كان لهذا الكلام ملاءمة تقلل بطريقة ما من غرابته. كان من الممكن أن يصدق هذا الصباح أنه توجد أماكن على الأرض يمكن للأحجار فيها أن تسير. ألا توجد أماكن؛ أماكن معروفة، حتى في منطقة المرتفعات الاسكتلندية يمكن لرجل وحيد وسط ضوء الشمس الساطع أن يستولي عليه الشعور بإدراك وجود مراقبين له غير مرئيين، فيملؤه خوف شديد ويهرع هاربا من المكان وقد اعتراه الذعر؟ أجل، ومن دون أي مقابلات سابقة بأطباء نفسيين في ويمبول ستريت، أيضا. في الأماكن «العتيقة» كان كل شيء ممكنا. حتى الوحوش المتكلمة.
من أين تحصل راكب المقصورة «بي 7» على فكرته عن الغرابة؟
أطلقا القارب الخفيف من مدرجه الخشبي، وجدف جرانت نحو البحيرة، وقصد الطرف الذي تهب منه الريح. كان الجو مشمسا للغاية، لكن كان ثمة نفحة هواء تكاد ترقى إلى نسيم قوي بما يكفي لأن يصنع تموجا على صفحة الماء. راقب بات وهو يجمع صنارته ويربط طعما في الخيط، وقال في نفسه إنه إن لم يتمكن من أن ينال سعادة أن يكون له ابن من صلبه فابن قريبته الصغير أحمر الشعر كان بديلا جيدا جدا.
سأله بات وهو منشغل بالطعم: «هل سبق أن قدمت باقة أزهار هدية، يا ألان؟» نطق كلمة باقة «باكة».
أجاب جرانت بحذر: «لا أتذكر أنني فعلت.» وسأل: «لماذا؟» «يريدون مني أن أقدم واحدة إلى فيكونتيسة ستأتي لافتتاح قاعة دالمور.» «قاعة؟»
قال بات بمرارة: «تلك السقيفة عند مفترق الطرق.» ثم صمت للحظة، كان من الواضح أنه يفكر أثناءها في الأمر. وأضاف: «إن تقديم باقة من الأزهار لهو فعل متخنث فظيع.»
راح جرانت، ملزما بواجبه نحو لورا الغائبة، يفكر ويفتش في عقله. ثم قال: «إنه شرف عظيم.» «إذن فليجعلوا «الطفلة» تحظى بهذا الشرف.» «إنها لا تزال صغيرة على مثل هذه المسئولية.» «حسنا، إن كانت لا تزال صغيرة جدا على هذه المسئولية فأنا أكبر بكثير من مثل تلك الأفعال الصبيانية. لذا سيتعين عليهم أن يجدوا عائلة أخرى لتفعل ذلك. هذا كله أمر لا طائل من ورائه على أي حال. فالقاعة مفتوحة منذ أشهر.»
صفحة غير معروفة