وبمصرع الثور الثالث وبلا أحداث أخرى انتهت الفييستا، وبدأ الناس، أقلية قليلة تتسابق للخروج، والأغلبية تتلكأ وقد عاد الحديث عن الميتادور الصريع، وكله بالطبع أسف وحسرة وتذكر لمواقفه وشجاعاته.
وعند الباب العاشر، أقرب باب إلى حجرة المستشفى، تجمع جمهور حوالي الخمسمائة أو أكثر قليلا يهدفون أن يروا الميتادور حين تقبل عربة الموتى وتنقله؛ فإلى تلك اللحظة لم يكن الباب قد فتح ولا تسرب عنه خبر.
وأخيرا فيما يشبه الموجة انتشر بين الواقفين خبر؛ إذ كان الباب قد فتح وأطل منه رأس. الخبر كان أنه لا يزال حيا وإن كان يعاني من صدمة شديدة، وإن كان قد أصيب بسبعة جروح وكسر وتهتك. وما كاد الخبر ينتشر حتى كان قد انصرف لسماعه نصف الواقفين، وبدأ الازدحام يخف ولم يصبح ثمة واجب كثير أمام عساكر البوليس الإسباني الخيالة الذين كانوا يتولون المحافظة على النظام.
وما كادت ربع ساعة أخرى تنقضي حتى كان قد انصرف أغلب الواقفين، ولم يعد سوى بعض المتسكعين وبعض من لا عمل وراءهم أهم من مشاهدة خروجه.
وهنا وفي تلك اللحظة فقط لمحت الفتاة الكوبية واقفة بجوار أحد العمدان وبصرها مسدد إلى الباب، وهي دائبة النظر إلى ساعتها.
ودون أن أفكر كثيرا ذهبت إلى حيث تقف، وبلهفة قابلتني أنا الذي خفت أن تشيح بوجهها عني وسألتني وذكرت لها ما سمعت، ولم يزد ما ذكرته أو يقلل من لهفتها وتطلعها واضطرابها.
وفي الدقيقة التي مضت على وقوفي معها رأيتها تتطلع مرتين إلى الساعة.
وحتى قبل أن أسألها أجابتني أنها للحظ السيئ لا بد أن تسافر الليلة إلى لشبونة وأن طائرتها ستغادر المطار في الثامنة، وأنها لا بد أن تذهب قبل هذا لفندقها والساعة كانت السابعة إلا ربعا . كانت حالتها تدعو للرثاء حقا، تمد رأسها إلى آخر ما تستطيع ناحية الباب العاشر، ثم ترتد إلى باب المستشفى ومنه إلى الساعة، ثم إلى السيجارة تمتص دخانها بقوة وكمد وشراهة.
واندفعت مرة مسرعة إلى باب الخروج، ولكنها بعد بضع خطوات توقفت وعادت إلى حيث كانت واستجمعت يدها ودقت العمود بقبضتها دقة رن لها خاتمها رنينا مكتوما وسقط فصه. وبضيق أشد تناولته وقذفته بقوة داخل حقيبة يدها.
وتمنيت أن تبكي ولكنها لم تفعل، وحينئذ قلت لها لماذا لا تذهب وتلحق بطائرتها؟ وهنا وفي ضوء الشمس المتبقية من العصر لمحت عينيها تحمران - فقط كان احمرارا - واختنق صوتها وهي تقول: من تظنني؟
صفحة غير معروفة