لحظة رهبة حقيقية، لا بطولة فيها ولا يتحمس فيها الجمهور لطرف أو لعمل؛ إذ هو لحظتها يكون مشغولا بما هو أهم وأشمل وأخطر، بغريمه اللدود وبغريم كل كائن حي، بالموت الذي يتاح له أن يراه وأن يعرف أنه سيقع حالا، وأن هذا الكائن الحي المنتصب أمامه سيرقد بعد ثوان ميتا.
يشغل الجمهور بالموت، بل تتعدى مشغوليته الكبرى إلى ما هو أخطر من الموت، معرفة الموت قبل وقوعه، والوقت الذي سيحدث فيه والكائن الذي سيموت. إنها تجربة لا يحياها أي من الآلاف الثلاثين كل يوم. تجربة تمسه شخصيا هذه المرة وتستدعي إلى واعيته ألوانا وآلافا من الخواطر.
وذلك هو الصمت الذي كان مستتبا وشاملا، كان صمتا من الخارج.
فهو من الداخل آلاف وملايين من الخواطر والهواتف والهواجس تتشابك وتتلوى وتصرخ كملايين الحيات الزاحفة ذات الأجراس داخل آلاف الجماجم والرءوس.
وتحدث الحركة بأسرع مما يبرق البرق أو يلمع النصل ويغيب.
إذ هكذا ما كدنا نلمح المصارع وقد انتهى من تدبر موقفه وحركته القادمة واتجاهه، حتى رأيناه كإشارة ملوحة يندفع والثور يتحرك في نفس الوقت ولا يرى للتماس أو الاحتكاك أثر، وفقط حين ابتعد المصارع واندفع الثور يستدير لمحنا السيف وكأنما غرسته يد أخف من يد حاو، ولكن الطعنة لم تكن قد وصلت بالسيف إلا لمنتصفه.
وليس هذا هو المهم؛ فممكن أن تكون هناك طعنة ثانية وثالثة.
المهم أن الثور ما كاد يتلقى الطعنة ويحس بالنصل المعدني البارد قد اخترق صدره واقترب من صميم الحياة فيه، حتى حدث ما لم يكن في حسبان أحد، كأنما ضغط السيف بطرفه على زر التفجير، كأنما الطعنة فتحت أبواب مخازن طاقة كامنة هائلة لا تفتح إلا على كلمة السر تلك، كأنما الغدر الذي تمت به استدعى للوجود وحشية الوحش وأجداده وسلالاته أجمعين، كأنما حدث بهذه الحركة التي بالكاد لحظها أحد شيء طاغ عات؛ إذ جاء رد الفعل طاغيا عاتيا وحشيا أثار القشعريرة في البدن؛ فهذا الثور الذي كان الإعياء قد شله وأتى على كل قواه، انتفض منه كائن آخر كأنما لا يمت إليه بصلة، كائن قل فيه ما شئت من صفات، مجنون غاضب سفاح مجرم! قل كل ما شئت فلن تستطيع وصفه أبدا ولن أستطيع؛ إذ المفاجأة التي تم بها التغيير، والسرعة التي تعاقبت بعدها الأحداث لم تدع لأحد وقتا يتأمله ويدقق في صفاته، ومن يدقق في صفات البحر حين تندلع العاصفة؟ ومن يتأمل النار ساعة شبوب الحريق؟
انطلق الثور في غضب أعمى يهاجم المصارع في قسوة وبهدف واضح صريح كأنما كتب على جبينه أن يقتله.
وكان رد الفعل أن بدأ المصارع يجمع في ثانية شتات قواه التي بعثرها صراع عنيد طويل، ودفعته الرغبة في الحياة وصرخة الدفاع عن النفس التي انطلقت على نية الثور الواضحة وكأنها نية كائن بشري تظهر ملامحه ما ينتويه، ومضى يدافع عن نفسه دفاعا كان في الحقيقة مرحلة أكثر يأسا من الدفاع عن النفس؛ كان فقط تأجيلا للحظة الموت.
صفحة غير معروفة