والفشل يلحق البعض بل الكثرة، متسللا من نفس الطريق إلى المجد، من نفس الدوافع التي حدت بالشاب المحروم أن يمتهن المصارعة ليصبح بطلا ويشبع بعض حرمانه. من نفس هذا الطريق يدب سوس الفشل، حين يسكر الميتادور بخمر البطولة وتصبح المصارعة عنده ليست غاية على استعداد من أجلها أن يصون نفسه وإرادته ليصبح أقوى وأكثر قدرة على التحكم في ذاته، ولكن تصبح المصارعة بعد الوصول إلى القمة مجرد وسيلة لا تخدم نفسه بعد حرمانها الطويل.
وإذا كان بعض النساء وبعض الخمر وبعض النقود تحفز همة نجم المصارعة إلى الصعود، فإن ما يهوي به هي جرعات أكبر من هذه العقاقير المحفزة نفسها، ولا بد أنه مثل صادق ذلك الذي يقول: ما كان قليله يحفز، فكثيره يضيع ويفقد.
الفصل الثاني عشر
كانت المعركة بين الثور وصاحبنا ومحاوراتهما قد أخذتهما بعيدا عن مقاعدنا إلى الناحية الأخرى. والقرب والبعد مسألة مهمة، لا لإمكان متابعة الصراع عن كثب وملاحظة كل تفاصيله، ولكن لأن وجودك بعيدا عن الصراع يقلل من انفعالك به دون أن تشعر، بحيث تراقبه وليس بينك وبينه مسافة مترية فقط، ولكن مسافة نفسية أيضا تجعل الصراع يصلك وكأنه أخبار تنتقل إليك. أما وجودك على مقربة من المعركة فهو يجعلك رغما عنك تشترك فيها وتحياها، تماما مثلك حين تمر بخناقة بعيدة مهما بلغت قوتها فلن يصل اهتمامك بها إلى حد التوقف أو التوجه إليها، وحين تمر بالخناقة على نفس رصيفك فإنك رغما عنك تتوقف وتصبح جزءا منها.
وهكذا تكفلت المحاورات المتصلة بنقل مركز الصراع بحيث أصبح في الجزء من محيط الدائرة الرملية الذي يلاصق مقاعدنا، أصبحت المعركة بالنسبة لجمهور مدرجاتنا كله أكثر جدية ورهبة ووحشية. كان الثور حين يقبل مهاجما نحس لقربنا الشديد أنه لا يصوب قرنيه إلى الميتادور وحده، ولكنه يصوبهما إلينا أيضا، وكأن الميتادور متفرج معنا متطرف المقعد أو الوقفة ليس إلا. وحين كانت المعركة بعيدة كنا نتفرج ونتحمس أو يهبط حماسنا تبعا لما نراه من حركات.
ولكننا هنا فقدنا القدرة على التفرج. شلت أكفنا وحناجرنا عن أن تصفق أو تهتف. أصبحنا كصاحبنا المصارع نتنهد فرحة كلما نجح في الإفلات من هجمة، وتدق قلوبنا برعب حقيقي حينما يضيق عليه الثور الخناق ويقبل، وكأنما للمرة الأخيرة التي جهز فيها نفسه على أن يضرب الضربة القاضية وقد أصبح وجهه قريبا باستطاعتنا رؤية تفاصيل ملامحه.
يا لبشاعتها حين يقبل متخذا بها سحنة الضربة القاضية! لقد اكتشفت وأنا أتأمل ملامحه وأفعل هذا ربما للمرة الأولى في حياتي، ونادرا ما يحدث لنا أن نعيد تأمل ملامح أي كائن من الكائنات التي تعودنا رؤيتها، نادرا جدا ما نلقي نظرة فاحصة واعية نراجع بها شكل القطة في نظرنا مثلا. هذا الثور، لقد آمنت أنه أبشع المخلوقات شكلا، وكل ما في ملامحه كتل كروية بشعة اللون والتكوين، كرتان بارزتان من جانبي جبهته ثعبانيتا اللون على هيئة عيون، وكرة ذات فتحتين موضوعة على بعد كبير من الكرتين لتكون الأنف، أي أنف. وفم ليس سوى شق واسع قبيح يشطر ذلك الشيء المستطيل بلا معنى، المثلث بلا هدف، إلى شطرين وكأنما هي كتلة خشب لا تصلح من بشاعتها لشيء، قام نجار غبي بشقها بلا هدف أيضا، ووسع الشق بإسفين، هو ذلك اللسان الممدود، ناهيك حين تنقلب هذه الملامح البشعة تحت تأثير الهياج والرغبة البدائية الوحشية في التحطيم والقتل والتخريب، حين تتفتح على آخرها ثقوب الأنف وتنقلب حوافها إلى أعلى وترتعش منقبضة منبسطة. وحين تحمر كرتا العينين وينقلب الثعباني الأصفر إلى لون الدم، ويصبح الوجه المستطيل الغبي أكثر استطالة وغباء وحمقا، وشق الفم أكثر اتساعا وإسفينه اللساني قد تدلى وارما متضخما يسيل منه اللعاب. لعاب كثير يسيل من اللسان ومن الفم والأنف وحتى من العينين، وتتساقط السوائل كغضب سائل كنقمة ذلك الوحش الكاسر تلفظها عيناه، وتتفصد من كل عظمة وعضلة وظلف فيه.
كان المنظر يرعب حقا ويدفع الفتاة الكوبية للتشبث بحديد السور وكأنما تستغيث مروعة استغاثات مكتومة، لا تحاول هي وحدها بل يحاول الجميع كتمانها كل على طريقته.
وكان الثور يلهث، وهو طوال الوقت يلهث، ولهثه كان أبشع من أي شيء سمعته أو تسمعه أذناك. لا، ليس خوارا ولا شخيرا، وإنما شيء كالشهقات المتقطعة المخنوقة التي تنبعث ليس من التنفس وإنما من معاناة الألم العظيم. صوت خشن منخفض مكتوم متوال على هيئة لهث منتظم متزايد السرعة تقشعر له الأذن نفسها حتى قبل أن تنقله إلى مراكز الإحساس العليا ليبعث القشعريرة في الجسد كله. صوت لا بد يذكرك لا بشيء سمعته في حياتك أو حياة آبائك وأجدادك، ولكن بأصوات المخاطر البدائية الأولى حين كنت إنسان الغابة وحيث لا تزال بقايا عقلك البدائي تحتفظ بأمثال هذه الأنات وبأصدائها، وترتعش رعبا إذا استعادتها رغم ملايين السنين من التطور والتغير والتاريخ.
وكانت قد مضت عشرون دقيقة على بداية «الميوليتا» اعتبرها الإسبان المتناثرون حولنا في لحظات الراحة التي كانت تتم رغما عنا، وبسبب فشل أجهزتنا وقوانا في القدرة على استمرار المتابعة وتركيز الانتباه مع الانفعالات الهائلة المروعة التي تصاحبه، لحظات راحة تتبدى على هيئة تعليق طال كبته، أو آهة مسموعة تنطلق بلا أوان، أو كلمة لا معنى لها تصدر عن صاحبها بلا وعي أو هدف. اعتبرها هواة اللعبة الإسبان رقما يحطم غيره من الأرقام من ناحية الزمن، ومن ناحية القدرة اعتبروها معجزة؛ فلم يحدث في تاريخ اللعبة - أو على الأقل تاريخهم في اللعبة - أن رأوا ثورا يستمر هذه المدة كلها يهاجم بلا توقف وبلا إجهاد يجبره على الاستسلام. وكذلك لم يحدث أن بقي مصارع وقتا طويلا كهذا حافظا لقوته وخفته وتوازنه.
صفحة غير معروفة