حتى الجمهور في نظري تغير، لم يعد في رأيي خارج ساحة الصراع، أصبح داخلها وجزءا لا ينفصل عنها، ودوره فيها ليس دور متفرجين آدميين. أصبح وكأنه جماعة شياطين، آلاف الشياطين! دورها في الصراع هو نفس دور إبليس والشيطان! عملها أن تزيد النار اشتعالا فتظل تحتج على طعن الثور وإضعافه حتى تبقي له كل قوته وضراوته، وتظل تموء وتهتف وتهيب بالمصارع وتوسوس له وتحرضه حتى يضع نفسه في أشد المواقف خطورة، محاصرا من كل اتجاه بمأزق الموت والحياة، مأزق الموت الأكيد والحياة شبه المستحيلة، فإذا حدث هذا تركته حينئذ يواجه مصيره وحده؛ فدورها - دور الأبالسة والشياطين - يكون قد أدى مهمته وانتهى؛ ليبدأ دورها كجماهير متفرجة همها الأوحد أن تنهل كل ذرة متعة وكل بادرة نشوة من الموقف الذي خلقته شياطينها وحرضت عليه.
تغيرت نظرتي تماما، وعرفت لماذا اجتاحت «الأرينا» موجة الحماس للمصارعة، وللمصارع الثالث الذي لم يدفعه إلى هذا الموقف الذي واجه فيه الموت مرتين إلا السلبية المطلقة التي استقبله الجمهور بها والتي ظلت هي المسيطرة طول الوقت. سلبية ليست في الواقع إلا تحريضا صامتا يضع شرطا للإيجابية والتشجيع والمشاركة أن يريهم المصارع بسالته، ويقف ولو مرة واحدة يواجه الموت، وجعلته حصاة صغيرة يفعل هذا، والحماس الذي تدفق جعل اقترابه الشديد من الثور يعرضه لموت ثان نجا منه أيضا ونال المكافأة. تلك الأوليهات التي ظلت تجتاح «الأرينا» في نوبات متعاقبة. لكم هي تافهة تلك المكافأة! وكم هو غريب ذلك التكوين الذي ينشأ عليه الميتادور والذي يستعد معه عن طيب خاطر أن يعرض نفسه للموت الأكيد من أجل «أوليهة» إعجاب قد تكون آخر ما يسمعه، بل قد ينتهي قبل سماعها.
ولكنه الإحساس بالأهمية ذلك الذي يدفع الإنسان ليقدم على أكبر حماقة في العالم كي يظفر به. إنها ليست رغبة في البطولة للبطولة ذاتها أو للشخص ذاته، ولكن لإظهارها للآخرين وأمام الآخرين. إنها كالتمثيل وفيها منه الشيء الكثير! الفرق أن الممثل هناك «يمثل» الدور وبمقدار إتقانه ل «التمثيل» وتقمصه لشخصية البطل ينال إعجاب الناس، وهنا الممثل «يقوم» بالدور فعلا، ويقوم به في مسرحية لا يتخيلها أحد، إنما في واقع كأنه مسرح، في حقيقة كأنها خيال، وبمقدار إتقانه للقيام بالدور وجعله الحقيقة تقترب من الخيال يحظى بالإعجاب. أجل! الفرق بين المسرح وحلبة الصراع أنهم في المسرح يحاولون أن يحيلوا الخيال إلى حقيقة يصدقها العقل، بينما في الحلبة يحاولون أن يحيلوا الحقيقة والواقع إلى أعمال خيالية لا يكاد يصدقها العقل! في المسرح يخلقون من الخيال حياة بطلة تدفع إلى كره الحياة الواقعة وتغييرها، وفي الحلبة يخلقون من الحياة العادية الخاملة نفسها حياة بطولة حقيقية تدفع إلى نفس الغرض، ولكنها تدفع إليه بقوة أعظم ومفعول أشد. إن الإنسان في بحثه الدائب عن بطولة الحياة وحياة الأبطال مستعد أن يستخدم أية وسيلة، حتى تلك الملوثة بالدماء المقطرة بالجريمة. إنه بحث أيضا ولكنه يتم بطريقة نيتشوية عارمة القسوة لا يغفر لها إلا أنها عارمة المفعول في نفس الوقت.
ولو أن هذا الميتادور الثالث نفسه حين جاءت ساعة القتل لم يتمكن من صرع الثور بالطعنة الأولى، ولا حتى الثانية، إلا أنه كان قد قدم دليل البطولة وقربانها واضحا لا شك فيه، وكان الجمهور رغم نهمه إلى كل ما يثيره، وضيقه بكل ما لا يؤدي إلى غرضه ويصيب، على استعداد لأن يصفح عنه من أجل هذا الفشل ويغتفره، ولا يموء والمصارع يستخرج السيف أكثر من مرة ليعود يطعن به، ويظل يفعل هذا إلى أن يخر الثور صريعا لا من الإصابات المباشرة، ولكن بحكم النزيف الذي لا بد حدث داخله.
وهكذا انتهى الشوط الأول من المصارعة وبقي جزؤها الثاني الذي كان على المصارعين الثلاثة أنفسهم، وبنفس الترتيب، أن يصرعوا فيه ثلاثة ثيران أخرى.
وفي أثناء الاستراحة التي سويت فيها أرض الساحة ودخلت عربة رش سريعة خاصة انتهت من بخ الأرض بذرات الماء لكي تبلل فقط رمالها التي جفت، في تلك الأثناء وخلال عشرات ومئات وآلاف المناقشات السريعة التي دارت بين جيران وأصدقاء وأناس لا يعرفون بعضهم بعضا، أجمعت التعليقات على أن الثيران ليست بالقوة المفروضة، وكأن هناك مؤامرة من وراء الستار لاختيارهم صغارا ضعافا هكذا ليكونوا للمصارعين غنيمة سهلة.
وأجمعت التعليقات أيضا أنه باستثناء المصارع الأول، صديقي الذي سرني سرورا خفيا هذا الإجماع على استثنائه وتفضيله؛ فالجميع دون المستوى المفروض. وبدأت حناجر إسبانية عجوز معروقة تترحم على كبار المصارعين في الزمن الغابر، وتذكر بالخير بعض الشبان المعاصرين أمثال باكوكا مينو ودييجو بورتا وجواكين برنادو وجيم أوستوس وغيرهم، ولكن الأمر لم يعدم أصواتا أكثر تفاؤلا بدأت ترتفع وتدافع عن المصارعين اللذين كان أحدهما برتغاليا من لشبونة، وكان الآخر من إسبانيا الشمال من برشلونة، وتقول إن ما حدث سببه الوحيد رهبة المواجهة الأولى، رهبة لا بد أنها زالت الآن تماما، وأنهم لا بد بسبيلهم إلى مشاهدة عرض رائع في الجزء الثاني. وما لبثت آراء بقية المعلقين أن انساقت وراء هذه التفسيرات المتفائلة مستسلمة للرأي أو مفضلة في الحقيقة أن تتفاءل وتستسلم، على أن تظل على عنادها متشائمة.
وكان مكان جارتي الفتاة خاويا، وقبل أن تذهب بي الظنون إلى أبعد من الساحة وجدتها قد عادت متأبطة باقة أزهار لا أعرف كيف وجدتها وبمثل تلك السرعة، ولكنها كانت تلهث وفي عينيها ذلك البريق الذي يفضح تصميمها على أمر ما، وكانت منفعلة تبدو كمن فقدت لتوها، وربما لأول مرة في حياتها السيطرة على نفسها، حتى إنها فعلت ما لم أكن أتصور مطلقا أن تفعله، بدأتني بالكلام لا أذكر كيف ولا في أي موضوع، ولكنا في دقائق قليلة قلنا أشياء كثيرة يأخذ الناس في العادة ساعات طويلة ليتمكنوا من قولها، وأغرب شيء أننا تحاشينا تماما ذكر الحادثة التي سببت كل هذا وحيرتني؛ فقد كان شكلها إسبانيا ولكنها كانت تتكلم الإنجليزية بطلاقة وكأنها لغتها الأولى، وتتكلمها بخناقة أمريكية واضحة.
وخمنت أنها ليست أمريكية ولكنها تحيا في أمريكا؛ فغير الأمريكان يبدون أكثر تمسكا ونطقا باللهجة الأمريكية من الأمريكان أنفسهم. والمفاجأة كانت حين أخبرتني أنها من كوبا، ولكيلا تترك ظلا من الشك أردفت أنها ضد كاسترو وأنها لا تتمنى شيئا في الدنيا قدر أن تراه مهزوما، كذلك المصارع الثاني مدحورا.
ورغم أني أحسست أن حاجزا سميكا قد سقط بيننا فجأة، إلا أن الحديث لم ينقطع، وعرفت أنها ابنة أحد كبار مزارعي الدخان الذين طردهم كاسترو، ورغم هذا فهي لم تكن تحيا في كوبا؛ كانت تعيش وتتعلم منذ طفولتها في ميامي حيث كان لأبيها فيلا يأتي إليها مع العائلة بطائرته الخاصة من عاصمة كوبا «هافانا؛ ليقضي معها هو والعائلة نهاية الأسبوع. وقد جاء الأب ليحيا معها بعد أن «ذهب كل شيء»، أما لماذا هي في إسبانيا فالسبب قصة طويلة حول ميراث وقضية وأب أصابته الصدمة بانهيار، وأصبح العبء كله على عاتقها، وليست هذه أول مرة تأتي فيها لمدريد، ولا المرة الأولى التي تشاهد فيها المصارعة، ولم تكن أبدا في حياتها تتوقع أن يحدث لها شيء مثلما حدث.
صفحة غير معروفة