تقديم
علي يوسف
مصطفى كامل
محمد فريد
مصطفى لطفي المنفلوطي
محمد المويلحي
وراء التراجم والسير
الدكتور يعقوب صروف
جميل صدقي الزهاوي
محمد فريد وجدي
الشيخ رشيد رضا
عبد العزيز جاويش
إبراهيم الهلباوي
جرجي زيدان
فرح أنطون
رجال حول «مي»
أحمد لطفي السيد
ميرزا محمد مهدي خان
فؤاد «الصاعقة»
تقديم
علي يوسف
مصطفى كامل
محمد فريد
مصطفى لطفي المنفلوطي
محمد المويلحي
وراء التراجم والسير
الدكتور يعقوب صروف
جميل صدقي الزهاوي
محمد فريد وجدي
الشيخ رشيد رضا
عبد العزيز جاويش
إبراهيم الهلباوي
جرجي زيدان
فرح أنطون
رجال حول «مي»
أحمد لطفي السيد
ميرزا محمد مهدي خان
فؤاد «الصاعقة»
رجال عرفتهم
رجال عرفتهم
تأليف
عباس محمود العقاد
تقديم
في الصفحات التالية تعليقات متفرقة على سير طائفة من الأعلام الذين كنا نسميهم بالشيوخ أو الأقطاب، حين بدأت حياتي الصحفية قبل الحرب العالمية الأولى بسنوات، ومنهم من لم يكن من الشيوخ والأقطاب في تلك الفترة، ولكنهم لحقوا بهم في الطريق وعرفناهم كما عرفنا الأولين، ووصفنا معرفتنا بهم كما وصفنا معرفتنا بأولئك الشيوخ والأقطاب، من زاوية خاصة تتيح لنا أن نقول عنهم ما ليس في التاريخ العام الذي يقال في كل تعليق أو تقدير.
وأكثر هؤلاء الأعلام من الصحفيين أو الذين كانت لهم مشاركة موجهة في الكتابة الصحفية، ونسمي كتابتنا عنهم بالتعليقات ولا نسميها بالسير أو التراجم أو التحليلات؛ لأننا لم نكتبها لنستقصي الحوادث أو نحلل «الشخصيات» من وجهتها العامة، ولكننا كتبناها لنبدي لهم رسوما قريبة من الزاوية التي اتفقت لنا معرفتهم فيها، وتوخينا في هذه الرسوم أن تكون كصور السياحة التي يلتقطها صاحب الصورة الشمسية لبعض المناظر أو بعض الشخوص حيثما مرت به في رحلاته، فليست هي أطلسا جغرافيا للمواقع والبلدان، وليست هي شرحا تاريخيا للشخوص والأعلام، ولكنها بمثابة المذكرات المدونة في الطريق لتسجيل المعالم الخاصة من زاويتها العارضة، وإن لم تخرج بهذا التخصيص عن مجال التعميم.
وقد اتفق التقاء هذه الزملة المختارة في مجموعة واحدة كما يتفق التقاء الصور المتفرقة في جعبة واحدة من هذه الرحلة أو تلك، بغير مفاضلة مقصودة بين الذين ذكرناهم والذين لم نذكرهم ممن نعرفهم كمعرفتنا بهؤلاء الأعلام والأقطاب، وربما جمعت المناسبة بين طائفة أخرى كهذه الطائفة في مكانتها وحق الكتابة عنها، فلا تحسبها مسألة تقديم وتأخير ولا مسألة موازنة وترجيح، وإنما رحلة أخرى من رحلات الحياة الصحفية أو الأدبية أو السياسية، ولا مفاضلة بين معالم الرحلات فيما يعرض لها من أسباب التقديم والتأخير.
وحسبنا عند أصدقائنا القراء أن تكون هذه المجموعة «حفلة استقبال» اجتماعية، نعرفهم فيها بأقطابها كما عرفناهم على سنة التحية في مجالس الأصدقاء، وذلك خير ما نبغيه.
عباس محمود العقاد
علي يوسف
1
تجري المقارنة أحيانا بين الكاتب الصحفي الذي كان يكتب في صحافتنا العربية قبل سبعين أو ثمانين سنة، وبين كاتبنا الصحفي الذي يكتب الآن في صحافتنا، بعد أن بلغت مع الصحافة العالمية آخر أطوارها من وسائل الطباعة والتحرير إلى وسائل الإدارة والتوزيع.
وقد نوجز هذه الفوارق التي يمكن أن تتعدد إلى غير نهاية فنقول: إن الفارق هنا هو الفارق بين «روبنسون كروزو» في جزيرته، وبين رحالة من سياح اليوم ترتسم له طريقه من رقم الكرسي في الطيارة إلى رقم الحجرة في الفندق، إلى أسماء الخطوط الجوية والبحرية في كل مدينة وكل فندق، وكل يوم من أيام الرحلة، منذ «قطع التذكرة» إلى تسليم البطاقة عند باب المطار الأخير، مع سلامة الإياب.
وفارق آخر ربما أوجز لنا تلك الفوارق على نحو آخر من المشابهة: وهو الفارق بين طبيب القرن التاسع عشر وطبيب القرن العشرين.
إن طبيب القرن العشرين يعرف عمله المطلوب من خلال عشرين كشفا وتحليلا وأداة طبية أو كيماوية بين يديه، ويستوحي وصفه للدواء من تحليل الدم وتحليل المواد الجسدية على اختلافها، ومن كشف الأشعة ورسامة القلب وشهادات للأحوال الخاصة والعامة يرجع إليها في سجلاتها إذا شاء.
ولم تكن لطبيب القرن التاسع عشر وسيلة من هذه الوسائل الميسورة اليوم في أكثر العيادات، فربما أعوزته السماعة فلم يعتمد في جس النبض على وسيلة غير الإصغاء بأذنيه، وهو بعد ذلك يعالج العلل جميعا فلا يتخصص لعلة واحدة يستعد منذ عهد المدرسة «لتشخيصها» وتدبير علاجها.
وكتابنا الصحفيون من أعلام القرن التاسع عشر كثيرون.
ولكننا إذا نادينا أسماءهم من الذاكرة، لم يكن منهم من هو أسرع تلبية للنداء العاجل من اسم «علي يوسف» صاحب «المؤيد» أخيرا، وصاحب «الآداب» قبل ذلك.
إن «علي يوسف» كان يصنع «صناعته» الصحفية ليتعلمها الناس منه، ولم يكن يتعلم تلك الصناعة على أساتذتها في الشرق والغرب، ولا على أدواتها التي تمليها عليه.
لم يكن يعرف لغة للصحافة غير العربية، ولم يكن يعرف من العربية غير ما اعتمد في معرفته على نفسه، بل غير ما اعتمد على نفسه قبل ذلك في اختيار أستاذه الذي يراجعها عليه.
وكان يسمع، ولا شك، بالصحافة الأوروبية ويعرف منها بالسماع أكبرها وأشهرها، ولكنه لم يعرف من صحافة الغرب صحيفة واحدة ينهج على منهجها، ولم يكن من غايته ولا طاقته أن يعرف «التيمس» أو «الطان» ليحكي هذه أو تلك في طبعها وتحريرها، ولكنه - هو وأقرانه من كتاب عصره - كانوا يبتدئون في الصحافة طريقا أخرى غير تلك الطريق التي تقدمتهم فيها الصحف الأوروبية: طريقا يستطيعونها وتستدعيهم إليها، وقد تكون الطريق لكل صحفي منهم غير الطرق الأخرى التي يستقيم عليها سائر زملائه.
كان «علي يوسف» يرتجل صناعته الصحفية في كل شيء: في التقاط الأخبار، وفي جمع الآراء، وفي تحرير المقالات، وفي سياسة الجمهور وسياسة ولاة الأمور.
وظهر من قضية «التلغرافات» التي سيق من أجلها إلى القضاء أنه كان يستطلع أخبار الحملة على السودان قبل وصولها إلى ديوان الوزارة؛ لأنه كان على صلة بموظف المكتب الذي يتلقاها، ولم يكن أحد يعرف «الواسطة» التي تحمل النبأ من مكتب البرق إلى مكتب التحرير.
وكانت تعبئة الآراء قبل هذا الجيل لازمة وعسيرة في وقت واحد، بل كانت إدارتها كلها مجهولة، يخترعها كل صاحب صحيفة على سنته في اختراع هذه الأدوات المرتجلة.
أما «علي يوسف» فقد كادت وسيلته لتعبئة الآراء أن تكون شخصية بينه وبين نفسه وصحبه، ومن يرجع إليهم في حياته الخاصة أو يرجعون إليه.
فلما اتهم اللورد كرومر هذه الأمة بالتعصب الديني وعداوة الجانب، جمع الشيخ «علي يوسف» نماذج الآراء التي تدفع هذه التهمة عن كل صاحب صفة ترشحه لإبداء الرأي فيها.
فقال الخواجة ميماراكي اليوناني: «أشهد أنني ما شعرت قط في معاملاتي مع المصريين بأنني أعامل أناسا يخالفونني في العقيدة.»
وقال الفرنسي وكيل مصرف الكريدي ليونيه الفرنسي: «إننا لا نشعر بهذا التعصب الذي اتهمت به الأمة المصرية، اللهم إلا إذا كان التعصب موجودا في غير الدائرة التي إليها معاملاتنا.»
وقال شكور باشا الإداري اللبناني: «إنني أفضل أن أمشي وحدي ليلا في جهات السيدة زينب والنحاسين، على أن أمشي وحدي ليلا في جهات مونمارتر بضواحي باريس.»
وقال إسكندر عمون المحامي: «إن المصري أكثر إكراما للغريب من سائر الشعوب.»
وقال باسيلي تادرس باشا: «لا صحة لما يقال من وجود التعصب الديني أو الجنسي في مصر.»
وحين سأل الشيخ كلا من السيد عمر مكرم والشيخ محمد بخيت من رجال الدين الإسلامي لم ينس أن يسأل رجلا ينكر الأديان جميعا، وهو الدكتور شبلي شميل الذي قال: «إن التعصب غير موجود في مصر على الإطلاق.»
أما المقالة فعي الصحفة المختارة على مائدة الشيخ علي يوسف بغير جدال.
وقد تكتب المقالة في موضوعها بأسلوب أجمل من أسلوبها، وعلى نمط من اللفظ والمعنى أبلغ من نمطها في لفظها ومعناها، ولكن مقالة «علي يوسف» هي مقالة علي يوسف التي لا يكتبها غيره، ولا يؤدي الغاية منها أحد كما يؤديها بقلمه ورأيه؛ فهي من الكلم المفصل على حسب قياسه جملة جملة وسطرا سطرا من فاتحتها إلى ختامها، وليست من الكلم «المجهز» على قياسه ولو على وجه التقريب الذي يحكمها إحكام التفصيل.
وإذا أردنا أن نجمع لهذه «الشخصية» النادرة مفتاحها في كلمة واحدة، فهي كلمة «العصامية»؛ حيث تصل العصامية أحيانا إلى حدود المغامرة.
لقد كان ل «علي يوسف ومصطفى كامل» طريقتان مختلفتان - بل مختلفتان جدا - في الكتابة الصحفية، وفي الخطة السياسية، وفي الدعوة الوطنية.
ولقد فرق النقاد بين الطريقتين، فكان الفرق بينهما عند أناس أن طريقة مصطفى كامل هي طريقة التطرف والحماسة، وأن طريقة علي يوسف هي طريقة المحافظة والاعتدال، وكان الفرق بينهما عند أناس آخرين هو الفرق بين التعليم الحديث والتعليم القديم، أو هو الفرق بين الشباب والكهولة، أو الفرق بين السياسة القومية وسياسة القصر والحاشية الخديوية، أو الفرق بين الخطيب المنطلق والكاتب الحصيف.
لكن الواقع أن الفرق الوحيد الذي يحتوي جميع هذه الفروق هو «شعور العصامية» في نفس الرجل الذي كان مثله الأعلى في الحياة أن يصل باجتهاده وحيلته إلى مكانة السيد الموقر، ليرعى له السادة الوارثون للسيادة كرامة الرأي وكرامة «الخاطر»، كما نقول في عرفنا المأثور.
وكان من حق العصامية الناجحة عند علي يوسف أن يتكلم مع ذوي «الاعتبار» كما يتكلم ذوو الاعتبار، ولا يخف به القلم خفة الحديث المتعجل أو الحديث المستثار.
وإذا قال، كما كان يقول كثيرا، إنه لا يرضى السياسة على مذهب الرعاع، فليست كلمة الرعاع هنا مقابلة عنده لكلمة النبلاء أو «الأرستقراطيين»، وليس إنكاره ل «مصطفى كامل» إنكارا لإنسان دونه في المقام والمكانة الاجتماعية؛ لأن «مصطفى كامل» كان له نصيبه من الألقاب التي خلعت على الشيخ علي يوسف، وإن لم تغلب عليه.
وإنما كانت المقابلة عنده مقابلة بين خفة النزق والعجلة ورصانة «العقلاء» من ذوي الرأي والحنكة في كل طبقة؛ ولهذا كان يكثر من تلقيب مصطفى كامل ب «الطائش»، ويكثر من وصف سياسته بالطيش، ويجذبه عرق الدراسة العتيقة فيقول معتذرا من تكرار كلمة الطائش إنها تطابق اسم مصطفى كامل في حساب التنجيم؛ لأن مجموع الحروف بحساب الجمل في كلمة طائش وكلمتي مصطفى كامل واحد وهو (319).
وهذه القيمة - قيمة العصامي الذي بلغ في المكانة الاجتماعية مبلغ ذوي الرأي - هي هي التي جعلت لكتابته السياسية صبغة كصبغة اللغة الدبلوماسية بين وزراء الخارجية والسفراء، وهي هي التي جعلته يعتزل الصحافة بعد أن أسندت إليه وظيفة «سيد السادات» أو شيخ الطريقة الصوفية.
وقد كان يكتب عن خصوم القصر الخديوي جميعا، فيبيح لقلمه من المغامز في الكتابة عنهم ما يرضي القصر ويستجيب لأمره وإيعازه، ولكنه كان يأبى كل الإباء أن يحمل على رجل ممن أحسنوا إليه في نشأته الأولى، كمحمد عبده، وحسن عاصم، وسعد زغلول؛ لأن هذه المحافظة على سمت الرجل الكريم تدفع عنه سبة النعمة المحدثة والمقام المدخول.
فإذا جاء بين تضاعيف الأخبار في صحيفة «المؤيد» شيء يمس هؤلاء مرضاة للحاشية الخديوية، فإنما كان يترك كتابته لغيره أو يفرغه في القالب الذي يوافق مظهر الكرامة وينفي عنه شبهات العتب والملام.
غير أن المحافظة على المظهر شيء، ومطاوعة الحيلة والدهاء من وراء الستار شيء آخر؛ ففي الوقت الذي كان فيه التشهير الصريح باسم محمد عبده محرما على أقلام المؤيد، كان وكيل المؤيد بالآستانة يتطوع لمصاحبة الشيخ المفتي الغريب عن المدينة، فيقحمه من مواطن الفرجة ما يتحاماه أمثاله، ويتواطأ بذلك مع رؤساء الشرطة ليفجئوا الشيخ والوكيل بين مواطن الريبة، ثم ينتهي الأمر إلى «وصمة» شائنة تصيب الشيخ في دار الخلافة الإسلامية، فلا يشق على الخديو بعد ذلك أن يعزله من مناصبه الدينية برخصة من مقام الخليفة الأعظم، ويتراجع أمامها مجلس الوزارة في مصر، فلا يعتبر عزل المفتي في هذه الحالة إخلالا بنظام العزل والتوظيف. •••
وقد عمت الصبغة الدبلوماسية كل منحى من مناحي تفكيره وعمله في السياسة، وفي علاقاته بالسياسيين الوطنيين وغير الوطنيين، وظهرت في كل تصرف من تصرفاته العامة حتى في صياغة المبادئ الوطنية التي قررها لحزبه أساسا للمطالبة بحقوق الأمة ونظام الحكومة، فقد أوشك أن يجعل هذه المبادئ توريطا دبلوماسيا من كلام المحتلين أنفسهم؛ ليسكتهم ولا يفتح لهم بابا للاحتجاج على ولي الأمر أو اتهامه بتحريض الصحف والأحزاب عليهم؛ إذ كان انتساب الشيخ علي يوسف إلى القصر الخديوي أمرا مفروغا منه، مفهوما بالتواتر بين دوائر السياسة الشعبية والرسمية في القاهرة وعواصم الدول ذات الامتيازات في هذه البلاد، وكان وكلاء «المؤيد» يزورون الدواوين - خارج القطر - كأنهم ملحقون بسفارات القصر، قبل أن توجد له سفارات.
فالمحتلون كانوا يسمون أنفسهم بالمصلحين، ويقولون إن إصلاح الأداة الحكومية غرض من أغراضهم الأولى التي ينجزونها قبل مغادرة البلاد.
والشيخ علي يوسف يسمي حزبه بحزب الإصلاح، فأي اعتراض للدولة البريطانية عليه أو على الخديو إذا أقام قواعد حزبه على المطالبة بالإصلاح؟!
والمحتلون كانوا يقولون إنهم يدربون المصريين على حكم أنفسهم ويحولون بين الأمير والاستئثار بالسلطة في مسائل الإدارة والمال على الخصوص.
والشيخ علي يوسف يقيد الإصلاح بأنه «إصلاح على المبادئ الدستورية»، ولا يذكر الدستور على إطلاقه لأنه قد يزعج الدولة العثمانية صاحبة السيادة التي لم تكن في بلادها حكومة نيابية، وقد يزعج الإنجليز أصحاب السلطان الفعلي كما يزعج الخديو صاحب السلطة الشرعية.
ولما ذكر «الاستقلال» ذكره مشروطا بالمعاهدات التي ارتبطت بها بريطانيا العظمى، وقال إن تحقيقه تنفيذ لوعود هذه الدولة بالجلاء، وقد زادت هذه الوعود على السبعين.
وكل مقالة من مقالات «المؤيد» في السياسة العامة فهي على هذا النمط، مذكرة رسمية لا يأبى السفير أن يوقعها باسمه واسم ولي أمره ورئيس حكومته، فإذا جاوزت هذا الحد إلى شيء من الشدة في التعبير، فغاية خطبها أن تكون بمثابة المقال «الموعز به» إلى لسان حال رسمي من ألسنة الحكومات التي تسمى أحيانا ب «الصحف الشبيهة بالرسمية».
وقد اشتد الشيخ علي يوسف غاية شدته في الحملة على لورد كرومر بعد اعتزاله، أو عزله من منصب المعتمد البريطاني في القاهرة، وكان الشيخ علي حريصا على ترويج الظن الذي شاع في البلد عن نجاح الخديو في مساعيه عند بلاط سان جيمس لعزل كرومر وتعيين رجل من أصدقائه في مكانه، ولكنه كان على حذر شديد من إعلان هذه الدعوى؛ مخافة أن يغضب الدولة البريطانية ويضطرها إلى الأخذ بناصر عميدها المخذول؛ صيانة له من مهانة الشماتة، وصيانة لها من الاعتراف أمام الناس بخذلانها لرجالها وخدام سياستها.
فإذا بالشيخ علي يوسف يخلص من هذا المأزق على أحسن حال من الكياسة والإنصاف، فيتهم كرومر نفسه بأنه فضح حقيقة الموقف بثورته المحنقة في خطاب الوداع، ويسأل: لماذا كل هذا الحنق والرجل لم يفارق قصر الدوبارة على الرغم منه كما يقال؟
وإذا بالشيخ يعترف للعميد المعزول بكل مأثرة من مآثره المدعاة، فلا ينكر عليه حسنة واحدة يعتبر إنكارها على دولته كلها من ورائه.
ثم يعمد الشيخ اللبق إلى الخطبة الكرومرية نفسها، فلا يضيف إليها حرفا من عنده، بل يأخذها بنصوصها للإيقاع بينه وبين المحتفلين بوداعه وبين المتشيعين لسياسته والمسخرين أو المتبرعين بالشهادة لحكمه وحكم أعوانه ومستشاريه.
كان الأمير حسين كامل على رأس المدعوين للاشتراك في حفلة التوديع، فلم يكن تعليق الشيخ علي يوسف نقدا للأمير - عم الخديو - بل كان إبرازا واضحا لإساءة كرومر إليه، مرة بالإنحاء على أبيه إسماعيل ومرة بالسكوت عن الإشارة إليه كأنه من سقط المتاع، وهو حاضر أمام عينيه: «هذا الأمير الجليل الذي والى جناب اللورد بالصداقة زمنا طويلا وخصه باحترامه دائما، وكان له في عهده أعظم أثر في خدمة البلاد معه خدمة حقيقية بأخذه الجمعية الزراعية الخديوية؛ لم ير اللورد أنه خليق بكلمة ثناء يوجهها إليه في جنب ما وجه من عبارات الثناء من الأحياء والأموات.»
ولم يتحدث الشيخ علي عن أحد من المحتفلين باللورد كأنه خصم يحاربه وكأنه صديق اللورد وموضع حظوته، بل كان حديثه عنهم جميعا كأنهم ضحاياه وضحايا سياسته وسوء خلقه في حاضره وماضيه.
قال كرومر عن رياض باشا إنه علق الجرس في عنق الهر، فكان ثناء علي يوسف على رياض باشا أكبر من ثناء اللورد عليه، ولكنه استدرك قائلا إن اللورد: «لم يقل إن رياض باشا لما أراد في زمنه هو أن يعلق الجرس في عنق الهر قطعت يده وحلف اللورد ألا يعود إلى خدمة الحكومة ما دام هو في البلاد، وزاده عقوبة فرفت ابنه من وكالة الداخلية في اليوم التالي من استقالة أبيه، فكان المستبد إسماعيل أخف وطأة على رياض باشا من المستبد كرومر.»
وأثنى كرومر على بطرس غالي باشا ومدحه بسعة الحيلة في حل المشكلات فقال الشيخ علي: «نعم، ولكنها المشكلات التي كان يخلقها اللورد بينه وبين الجناب العالي، وبينه وبين قناصل الدول من جهة أخرى.»
وتساءل الشيخ علي: «لماذا أعرض اللورد عن ذكر بقية الوزراء كأنهم ليسوا نظارا في الحكومة وليس لهم عمل مطلقا فيها؟»
وقد أشاد كرومر بالوفاق الإنجليزي الفرنسي الذي تم على يديه، فسرد له «الشيخ علي» سلسلة من الإساءات إلى الثقافة الفرنسية والخبراء الفرنسيين، وأنه يفعل ذلك «ليس حبا في مصلحة مصر، ولكن ليحل محل كل قدم فرنساوية قدما إنجليزية».
ولم يكن كرومر ليعدل عن هذه الخطة مرة إلا إذا جاءه الأمر من رؤسائه في العاصمة البريطانية.
والحق أن براعة علي يوسف في التعقيب على أقوال كرومر كانت هي البراعة «الموصوفة» للرد على كل كلمة فيها بما يناسبها ويقلبها على صاحبها عند أنصاره قبل خصومه والشامتين به وبعهده، وقد قلنا - فيما تقدم: إن مقالة علي يوسف هي مقالة علي يوسف التي لا يكتبها غيره، وإن كتب ما هو أجمل منها وما هو أبلغ منها وأوفى.
فهذه المقالات في توديع كرومر هي بعض الشواهد على هذه «الخصوصية اليوسفية»؛ إذ لم يكتب أحد من مودعي كرومر نظيرا لها بهذا الأسلوب «الدبلوماسي العصامي» الفريد، وإن كتبوا على أساليبهم ما هو جدير بالإعجاب من ناحيته في عبارته وفحواه.
ولم يستغرق هذا الأسلوب الدبلوماسي قلم الشيخ الألمعي في كل ما كتب من مقال أو خبر، فقد كان للكاتب «الإنسان» قلمه الذي يجري على هذه الطبقة من الفصاحة وحسن الأداء، ويجري كذلك مع العاطفة التي كان يأبى لها أن تقوده في مواقف السياسة والمطالب العامة، ولكنها العاطفة في نفس «العصامي» الذاكر لعصاميته، كيفما تقلبت به الحال بين الرضا والغضب، أو بين الفرح والأسى.
وله في رثاء ولده الوحيد عمر كلمات كتبها يوم نعيه ويوم تشييعه، لم يحتفل لها بعدة من عدد البلاغة غير الشجن والتجلد والتسليم للواقع الذي بطلت فيه حيلة الألسنة والأقلام كما بطلت فيه حيلة العقول والقلوب.
نعاه قلمه فقال:
فقد صاحب هذه الجريدة الساعة السادسة بعد ظهر أمس ولده الوحيد - عمر يوسف - في الحادية عشرة من عمره، بعد مرض قليل الأيام كثير الآلام. فإلى الله مآبك يا عمر، وإلى الله مآبك أيها الزهر الذي قطفه الموت في أزكى شذاه.
إلى الله مآبك أيها الكبد الذي يمشي على الأرض، ثم هوى إلى حفرة أبدية يسمونها القبر، ولو استطعنا لكان في القلب، بل هناك قلبان أولى بهما أن يكونا قبره: قلب والده الحزين وقلب أمه الثكلى.
وعاد من تشييع جنازته فكتب الخبر بقلمه وهو يمحو سطوره بدموعه، وقال بعد كلمات:
خرجنا به من الدار التي ولد فيها، فألفها منذ كان طفلا يحبو إلى أن صار فتى يمشي بها مشية الخيلاء؛ من الدار التي كان يضيق فناؤها - على سعته - به، فيذهب إلى الشارع وإلى المتنزهات تحيط به الخدم أو يصيبه أذى، إلى ذلك اللحد الضيق الذي لا يستطيع أن يعيش فيه إنسان ساعة من الزمان، ولكنه - مع ما به من وحشة ووحدة - أوسع المنازل بعد الموت وآنسها لمن يلقى الله طاهرا مثل عمر.
خرجنا به، لا كما يخرج في عربته إلى المدرسة يصحبه خادمه، بل محمولا على الأعناق مودعا بجماهير المشيعين، في سرير كما تزف العروس مغشى بالحرير الأبيض مجللا بالزهور، ولكنه كان زفافا محزنا يعلوه جلال الموت خطيبا يصيح: الصبر أجمل. والناس يصيحون، سار مشيعوه جميعا مطرقي الرءوس كأن عليها الطير وتخاف أن يطير؛ إلا رأسين كانا يتلفتان إلى النعش بنظرات الملهوف: رأس والده الحزين في مقدمة الجنازة، ورأس والدته الثكلى في مؤخرتها، فيهما أربع أعين هامية، ودونهما قلبان مستعران ومهجتان زافرتان.
ويشاء القدر لهذه العصامية التي لم تفارقه في تشييع فلذة كبده، وأعز أهله عليه، أن تلازمه إلى أخريات حياته، وأن تسلبه كثيرا كما وهبت له كثيرا، فقد صحبتها دفعة الثقة بالنفس في مغامراتها، فغامر في طلب الحب كما غامر في طلب الكسب، فلم تكتب له السعادة في هذا ولا ذاك؛ لأنه شقي بالحياة الزوجية التي حسبها غاية الأمل نعمة وشرفا.
وشقي بالمال الذي اقتناه فضاع كله بين عثرات الجد وعثرات الطموح والإقدام.
2
من المصادفات التي عرضت لي في حياتي الصحفية، أنني جلست على مكتب علي يوسف أياما في أثناء نيابتي عن الأستاذ أحمد حافظ عوض، الذي كان يتولى رئاسة «المؤيد» في تلك الأيام. وقد دعي الأستاذ أحمد حافظ عوض لمصاحبة الخديو في رحلته التي طاف فيها بأقاليم الوجه البحري على سبيل المظاهرة أمام الإنجليز؛ لأنه أحس أنهم يفكرون في خلعه وتعديل نظام الخديوية وولاية العهد في الأسرة العلوية، وقد كانت سفرته الأخيرة من مصر بعد الطواف بالأقاليم، وزيارة الوجهاء والنواب في مساكنهم، واستقبال الشعب في المنازل والطرقات، والتهويل على الدولة المحتلة بمظاهر الولاء التي أراد أن تحف به قبل رحيله من الديار، ولكنه خلع فعلا بعد سفره بثلاثة أشهر، واحتج الإنجليز لخلعه بانضمامه في العاصمة التركية إلى دول أوروبة الوسطى، متابعة للدولة العثمانية.
وقد عهد إلي الأستاذ أحمد حافظ عوض أن أتلقى رسائله ورسائل وكلاء الصحيفة أثناء تلك الرحلة، وأفهمني أنه يعد العدة لتأليف كتاب عنها يقدمه إلى الخديو بعد عودته إلى الديار.
وتقدرون فتضحك الأقدار!
فلا الخديو عاد إلى الديار، ولا عاد إليها كتشنر الذي رسم الخطة قبل سفره من مصر لتغيير نظام الحكم كله في هذه البلاد، ولا الكتاب «المنتظر» كتب فيه حرف واحد؛ لأنني رفضت العمل فيه، واستقلت من تحرير «المؤيد» أثناء اشتغال الأستاذ حافظ بجمع الصور والتواريخ لتأليفه وتنسيقه.
ومن المصادفات أن يتفق لي الجلوس على ذلك الكرسي، وأن أكتب على ذلك المكتب، الذي لم أكد أفرغ من حملاتي على صاحبه وعلى سياسته أثناء حياته وبعد مماته، ولا أذكر أنني لقيت فيه صاحبه غير مرة واحدة، كانت هي المرة الوحيدة التي حييته فيها لكلام كتبه في السياسة الوطنية.
وكان كثير من الشبان المصريين قد تفرقوا بين الأحزاب السياسية في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى، فمال معظمهم إلى جانب الحزب الوطني؛ لاقتراب السن والتعليم بين مصطفى كامل «الحقوقي» وطلاب مدرسة الحقوق، الذين كانوا أكثر الطلاب اشتغالا بالسياسة، ومالت طائفة منهم إلى حزب الأمة وهم في الغالب أبناء الأسر الذين تألف الحزب من آبائهم وذويهم، ولم يجنح أحد من الشبان إلى حزب الشيخ علي يوسف وهو حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية؛ لأن خطة الحزب كانت إلى «الدبلوماسية» أقرب منها إلى السياسة أو إلى الدعوة الوطنية، وكان «المؤيد» يتبع في كتابته أسلوب الصحيفة التي تعتبر لسانا شبيها بالرسمي للقصر والحاشية الخديوية، وليس هذا الأسلوب بالذي يروق الشاب أو يوافق حماسته الفتية، ولم يكن الإعراض عن «المؤيد» من جانب واحد؛ لأنه إعراض متبادل من الطرفين، وكان علي يوسف يأبى على الطلاب أن يشتغلوا بغير الدراسة في سنوات التعليم، وكان مذهبه أن ينتظر رجال الغد إلى أن يأتيهم غدهم الذي هم رجاله، أما قبل ذلك فكل ما كان يرتضيه الشيخ منهم أن يدينوا بشرعة الولاء لأمير البلاد.
وكنت من فريق الشبان القلائل الذين نفروا من الأحزاب منذ اللحظة الأولى، فلم يكن لي حزب أتعصب له وأنتمي إليه، ولم تكن لي صحيفة أتشيع لسياستها ومنهجها في كتابتها، ولكنني كنت أفضل «الجريدة» في جانب الثقافة، وأفضل «اللواء» في شدته على الاحتلال والوزارة، وأقرأ «المؤيد» لمقالاته الشرقية والإسلامية، وأعتقد أن الخطة المثلى هي خطة «مصر للمصريين» تمييزا لها من خطة المحافظة على السيادة العثمانية، وكان بعضهم يترخص في تسمية هذه الخطة وأصحابها باسم «حزب المفتي»؛ لأن الأستاذ الإمام محمد عبده - رحمه الله - كان أشهر المعروفين بذلك الرأي في تلك الفترة، ومعه في ذلك سعد زغلول وأحمد لطفي السيد.
على أنني - في المعارك القلمية - كنت أجد نفسي إلى جانب مصطفى كامل كلما نشبت الخصومة الحامية بينه وبين علي يوسف، وكنت أكتب إلى اللواء منتصرا له كلما دخلت المعركة في دور من أدوار المساجلة الأدبية، ومن ذاك أن الشيخ علي يوسف كان يكثر من تلقيب مصطفى كامل بالطائش، ويتخذ لهذا اللقب شفيعا من حساب الجمل بموافقة مجموع الحروف في كلمة طائش واسم مصطفى كامل بذلك الحساب! وكنت يومئذ أدرس حساب الحروف والطوالع فيما كنت أحاوله من فضول الاستطلاع، فلفقت لعلي يوسف لقبا مساويا لاسمه بذلك الحساب، وهو لقب «نوري» بفتح النون أو ضمها على السواء، ومعنى نوري بالفتح أنه من شذاذ الآفاق المعروفين باسم النور، وكان هو متهما بالانتساب إليهم، كما كان يقال عنه إنه من «المسلمانية» الدخلاء من ناحية جده الأول، وواجهه خصومه في قضية الزوجية بهذه الدعوى أمام القضاء الشرعي، ليثبتوا أنه غير كفء للزواج من بنت «السادات» ويؤيدوا بذلك طلب التفرقة بين الزوجين. •••
ثم حدثت المعركة القلمية التي جمعت الرأي العام كله - على تعدد ألوانه وأذواقه - في صف واحد مع الشيخ علي يوسف، والتي سمع فيها صاحب المؤيد هتافا بحياته بعد عشر سنوات مضت من أيام قضيته التي اشتهرت باسم قضية «التلغرافات» وظل فيها الشيخ علي «بطل الساعة» في حومة الصحافة بضعة شهور، وقد كان الهتاف بسقوط «المؤيد» وحياة «اللواء» يتكرر ويتواتر في المظاهرات الشعبية، حتى أصبح - على حد تعبير الظرفاء - من أولاد البلد كليشيهات مسموعة، وحتى اضطر الشيخ إلى التسليم بها، وعمد إلى الشعر لتعزية نفسه ومكايدة خصومه كلما واجهوه بمظاهرة من مظاهراتها، فنظم هذين البيتين:
يدعون للواء بالحياة
لأنه يعد في الأموات
ويهتفون: يسقط المؤيد
لأنه نحو السماء يصعد
أما المعركة القلمية التي أعادت الهتاف بالحياة والتحية إلى مسمع الشيخ، فهي معركة عنيفة دارت بين الصحف ورجال السياسة حول توديع اللورد كرومر بعد خطابه الذي ألقاه على ملأ من كبار الموظفين وأصحاب المقامات «الرسمية» من المصريين والأجانب والشرقيين، ولعل الشيخ علي يوسف قد «صعد إلى سمائه» في هذا الأفق؛ لأنه أفق الكتابة «الدبلوماسية»، ولأنه استطاع بالأسلوب «الدبلوماسي» أن يعزل اللورد كرومر وحده في ذلك الموقف بين مختلف التيارات السياسية، أو استطاع أن يكون دبلوماسيا وحماسيا إلى الغاية في دفاعه عن ولي نعمته «الخديو عباس الثاني» خصم كرومر اللدود.
كتب الشيخ علي مقاله في السابع من شهر مايو (1907) وهو اليوم التالي لإلقاء الخطاب، فاشترك في التهليل له والإعجاب به قراء الصحف من كل طائفة وطبقة ومن كل مشرب ونزعة، وأهدى إليه جوهري كبير محبرة من الفضة المذهبة، وازدحمت رحبة «المؤيد» بالمتظاهرين والهاتفين من الطلاب وجمهرة الشباب، ومنهم أزهريون، ودرعميون، وحقوقيون، وموظفون. وتلقى «المؤيد» رسائل التأييد ممن لم يكن يؤيده أو يطيف به من قريب أو بعيد، فأصبح «المؤيد» لفظا ومعنى، وكان «أولاد البلد» يأبون عليه أن يكون كذلك إلا بالقاف القاهرية؛ لأنه «يقيد» بقيود الأمير.
وفي هذه المعركة كتبت للمؤيد كلمة التأييد التي كنت في المعارك السابقة أكتبها عليه، وقلت عن تلك المقالة الطنانة إننا:
تلوناها كلمة كلمة وسطرا سطرا، فكنا كلما قرأنا كلمة أزالت تأثير لمحة من تلك الخطبة، وكلما تلونا سطرا انهزم سطر منها، حتى جئنا على آخرها، فكأنما حقل ثقل وارتفع، أو هام جهام وانقشع، ولا غرو أن كانت مسهبة طويلة، فإنها تذيب سبابا كالقار أسود لا يصهر إلا على أشد حرارة النار.
لقيت صاحب المؤيد في مكتبه للمرة الأولى والأخيرة لأسلمه تلك الكلمة، فاستقبلني مع رهط من الزوار والمحررين، ورأيته يكتب وهو يحمل الورقة في يده ويلتفت إلى محدثيه لحظة ثم يعود إلى ورقته يسطر فيها كأنه لم ينقطع عنها، ثم وضع الورقة على المكتب بعد الفراغ منها، وسألني: هل أنت طالب؟
ولم أكن يومئذ طالبا ولا موظفا، بل كنت بين طالب وموظف؛ لأنني كنت أستعد للعمل بمصلحة التلغراف وأتلقى دروسا في الكهرباء والكيمياء بمدرسة الصناعة، فقلت: بين طالب وموظف!
فابتسم واستفسرني، وأوجزت له تفسير هذا العمل الجامع بين طلب العلم والوظيفة، وقد نبهته ذكرى «التلغرافات» على ما يظهر، فأقبل على التحدث إلي وعاد يسألني: وما الذي أعجبك في المقال؟ فقلت: أعجبني المقال كله، وبخاصة موقع الاستشهاد فيه بهذين البيتين، وهما من شعر أبي العلاء:
ربما أخرج الحزين جوى الحز
ن إلى غير لائق بالسداد
مثلما فاتت الصلاة سليما
ن فأنحى على رقاب الجياد
فقال وهو يقطع الكلمات: إذن أنت طالب، وموظف، وأديب. ووعدني بنشر الكلمة فنشرها بهذا التقديم «من حضرة الفاضل صاحب الإمضاء».
وكان الإمضاء «ع. م. العقاد» على عادة التوقيع بأوائل الحروف في المجلات الأوروبية التي كنا نقرؤها.
وتشاء المعارك القلمية - والحرب سجال كما يقال - أن يقرأ الشيخ بعد ذلك هذا التوقيع تحت مقال عنه بعيد جدا من مقالات الثناء والتأييد؛ لأنني كنت أوقع به كتابتي في صحيفة «الدستور» لصاحبها الأستاذ محمد فريد وجدي، وفيها كتبت وصفا مجملا للمظاهرة «العدائية» التي لقيها الشيخ بدار الجريدة بعد سنة من تاريخ خطاب اللورد كرومر، ولها قصة نوجزها فيما يلي: «شرع المحتلون بعد عهد كرومر في تنفيذ سياستهم الجديدة التي سميت بسياسة الوفاق بينهم وبين الخديو عباس، فكف المؤيد عن انتقادهم ومحاسبتهم، وتجاوز المجاملة أحيانا إلى الرضا والتأييد، وسرت في الأمة يومئذ حركة قومية تطالب الأحزاب جميعا بتعيين موقفها من السياسة الجديدة، فأعلن الأستاذ الجليل - أحمد لطفي السيد - عن خطاب شامل يلقيه بدار «الجريدة» في شارع غيط العدة، بيانا لموقف حزب الأمة من السياسة المصرية على العموم (مايو سنة 1908)، واكتظت دار الجريدة بمئات من المستمعين بينهم كثير من الطلبة والشبان، ونجح الأستاذ الجليل في اجتذاب الأسماع إليه، ولكنني سمعت إلى جانبي همهمة متواصلة في أثناء إلقاء الخطاب، ورأيت خمسة أو ستة من الشبان يخرجون ويعودون ومعهم قراطيس ملأى بالطماطم والبيض، ومع اثنين منهم حمائم يخفيانها تحت سترتيهما، وهما متحفزان.» «وكان المقصود بهذه الحركة كلها إبراهيم الهلباوي بك، ولكنها تناولت الشيخ علي يوسف اتفاقا حين رآه الحاضرون في الاجتماع، ولم يكن منظورا أن يشهده؛ لما بين حزبه وحزب الأمة من الخلاف الشديد. فما هو إلا أن فرغ الأستاذ لطفي السيد من خطابه، حتى انطلقت في جو المكان تلك الحمائم، وانطلق معها هتاف كالرعد بسقوط جلاد دنشواي. ثم تلاه الهتاف بسقوط المؤيد وصاحبه أو سقوط سياسة النفاق، ونال الرجل من قذائف الحاضرين يومئذ أذى غير قليل. وقد وصفت الحفلة في صحيفة الدستور، فقلت إن مظاهرة غيط العدة نسخت مظاهرة قضية التلغرافات، وإن الشعب المصري إذا كان قد حيى صاحب المؤيد عند الحكم ببراءته في تلك القضية فقد سحب تحيته الأولى بهذه الثورة عليه». «ولقيت الشيخ علي يوسف مرة أخرى في تلك السنة بفندق شبرد على الأرجح، حيث أقيمت حفلة توديع لوفد من أعيان البلاد، اعتزموا السفر إلى لندن لإقناع وزارة الخارجية بتوسيع نصيب مصر من الحياة النيابية، وكان هذا الوفد مؤلفا من إسماعيل أباظة باشا ومحمد الشريعي باشا ومحمود سالم بك والسيد حسين القصبي وعبد اللطيف الصوفاني بك وناشد حنا بك والدكتور إبراهيم الشوربجي وبعض المترجمين والمحررين. وحضرت هذه الحفلة منتدبا من جريدة «الدستور»، ولم نكن راضين عن مخاطبة الإنجليز في مسألة الدستور. ولكن الصحيفة ندبتني لتسجيل ما أراه في تلك الحفلة أو الوليمة على الأصح؛ لأنها كانت مقصورة على من ذكرنا من الأعيان وبعض الصحفيين، ومنهم الشيخ علي يوسف عن المؤيد وفارس نمر باشا عن المقطم وآخرون.» «وفي تلك الوليمة بدا لي أن صاحب المؤيد لم ينس كلمتي عنه في التعليق على اجتماع دار الجريدة، فسألني: أنت ع. م. العقاد؟ قلت: نعم. قال: هل بينك وبين السيد حسن موسى العقاد قرابة؟ قلت: هي مشابهة أسماء. فضحك ضحكة غير خالصة وقال: بل لعلها مشابهة في غير الأسماء أيضا. وهو يعني - على ما اعتقدت - ثورة السيد حسن موسى وتمرده؛ لأنه كان في أكثر أحواله مغضوبا عليه من المؤيد وشيعته السياسية.»
ولا أذكر أنني قابلت الشيخ في مجلس من المجالس الخاصة غير هذه المقابلات أكثر من مرتين، يحضرني في إحداهما حديث عن الرتب والنياشين بمكتب أحمد زكي باشا السكرتير العام لمجلس النظار.
وكنا مع زملائنا الصحفيين في طوفتنا اليومية بين «نظارة» الداخلية ومجلس النظار؛ لتسلم نشرات الأخبار الرسمية التي تطبع في الدواوين وتوزع على مندوبي الصحف في مواعيدها اليومية، وقد نشر في ذلك اليوم خبر الإنعام على أحمد زكي باشا برتبة من رتب التشريف، أظنها الباشوية، فخطر لنا - نحن زمرة الصحفيين - أن نمر به مهنئين باعتباره زميلا كبيرا في صناعة القلم، فوجدنا عنده الشيخ علي يوسف يهنئه ويحدثه في مسألة من مسائل المجلس، وكان معنا الأستاذ جورج طنوس مندوب «الوطن» لصاحبه جندي إبراهيم، وكان جورج مشهورا بين زملائه وعارفيه باللجاجة وقلقلة الحديث، فتطوع للنيابة عنا وافتتح التهنئة مخاطبا السكرتير العام على النغمة التي كانت مألوفة في ذلك المقام، فجعل يقول له بصوته الجهوري كلاما في هذا المعنى: «إن الرتبة تزدان بك ولا تزينك، وإن الباشوية لقب يفخر به صاحب العزبة وصاحب الثروة من المال والعقار. وأما صاحب القلم فهو يذكر باسمه - أحمد زكي - وكفى، وبهذا نناديك أيها الكاتب الكبير ولا نزيد.»
وقاطعه الشيخ علي متململا، وتوقعنا أن يقول شيئا يرد به على تهنئة الزميل اللجوج لأكثر من سبب، فإن رجلا يعلم الناس أنه لسان حال القصر يأبى له «دوره» السياسي، إن لم نقل شعوره النفساني، أن يوصف أمامه إنعام الأمير بأنه تحصيل حاصل ونافلة من النوافل التي لا يحفل بها أصحاب الأقلام، وإذا سكت علي يوسف - لسان حال الأمير - عن هذا الاستخفاف بألقابه ونعمه فمن العسير أن يسكت عنه علي يوسف «موزع» الرتب والنياشين، إذ كان للرتب والنياشين موزعون معروفون يبيعونها بأسعارها من رتبة الميرمران الرفيعة بألف جنيه إلى رتبة البيكوية من الدرجة الثانية بثلاثمائة أو أربعمائة جنيه؛ لأن بخل عباس الثاني كان يأبى عليه أن يسخو بالإعانة من ماله على كبار الأعوان، أو يسخو بها على إدارة الصحف الكبرى كلما احتاجت إلى المال الكثير، وكانت لصغار الصحفيين إعاناتهم من «ميزانية المعية السنية» ومن هبات ديوان الأوقاف.
أما «المشروعات الصحفية الواسعة» فقد كان المعول في سداد نفقاتها على أثمان الرتب والنياشين، وكان لها موسمها في كل عام في مناسبات الأعياد والمهرجانات الخديوية، فكانت الحصة الأولى من هذا المحصول السنوي للشيخ علي يوسف وأعوانه في الإسكندرية وعواصم الأقاليم، وكان سكوت الشيخ عن تهوين شأن هذه «السلعة» على مسمع منه غير معقول ولا منتظر، ولعل صاحبنا جورج طنوس لم يقل كلمته تلك إلا وهو يتعمد إثارة الشيخ واستفزازه للرد عليه، ولم يمهله الشيخ - فعلا - أن يتم كلامه إلى نهاية ثرثراته التي لم تكن لها نهاية، فاستوقفه متبرما وقال وهو يخاطبه خطاب من يعرفه ولا يجهل عاداته بين زملائه: «مهلا مهلا يا معلم، إن الرتبة تقدير من ولي الأمر وتقرير لفضل صاحبها بين من يعرفونه ومن يجهلونه، وهل ترفضها يا معلم جورج؟»
ثم التفت إلى السكرتير العام فأعاد عليه التهنئة وهو يقول: «سيهنئك أصحابنا هؤلاء بمزيد من الرتب إلى أعلاها وأرفعها إن شاء الله!» •••
أما مقابلات الطريق فقد كانت مركبة الشيخ تصادفنا أحيانا في طريقنا مع أصحابنا من العباسية حيث أسكن إلى الحي الحسيني حيث نلتقي بأكثر إخواننا الأدباء، أو إلى مقهى عابدين إلى جوار مدرسة الحقوق القديمة حيث كنا نلتقي بطائفة من الطلاب الحقوقيين وغير الحقوقيين، وليست هذه المقابلات العرضية وسيلة من وسائل التعريف تفيدنا كثيرا في كلام نكتبه عن الشيخ كما عرفناه، ولكن إحدى هذه المقابلات ربما عرفتنا بالشيخ في خليقة من خلائقه التي أثرت عنه طوال حياته؛ وهي خليقة «المحافظة» على السمت القديم كما نشأ عليه، وربما عرفتنا مقابلة أخرى بهوى من أهواء نفسه أو أهواء قلبه التي كادت تشغله كما شغلته المحافظة على شارة السمت والوقار.
رأيناه مرة في طريقه إلى قصر عابدين في يوم من أيام التشريفات، فرأينا عجبا من أزياء الرتب المدنية؛ لأنه حافظ على العمامة مع كسوة التشريفة التي تؤهله لها رتبته الرفيعة، ولم يشأ أن يغير عمامته كما غيرها الكثيرون ممن يلبسون كسوة الباشوية، وكان يبدو وهو جالس كأنه يلبس العمامة على «بدلة الأفندية» من لابسي السترة والبنطلون؛ وهو زي كان يتزيا به في القاهرة أبناء طائفة واحدة هي طائفة عمال شركة النور الذين كانوا يخرجون إلى الشوارع في المساء بسترتهم الملونة وسراويلهم الأفرنجية لإشعال مصابيح النور. وقد سخر إخواننا الشبان بهذه المفارقة وتنادروا بها غير قليل، ولكنني في الواقع أعجبت بالرجل لهذه المحافظة وهو يتحدى العرف والسخرية، وأحسست فيها عصامية تأبى أن تفصل مظاهر الألقاب بينها وبين ماضيها.
ومرة أخرى رأيت الشيخ مع السيد توفيق البكري قادمين في مركبة واحدة من قصر السيد بالخرنفش إلى ناحية باب الحديد، فإذا هما في زي واحد من ملابس النزهة الفضفاضة على غاية من الأناقة التي يقصدها القاصد من لابسي هذا الزي التقليدي في القاهرة الفاطمية! وزاد المشابهة في لون الكساء وتفصيله وهندامه أن الشيخ والسيد كانا نمطا واحدا في البنية والقامة وصورة الوجه الدقيق والرأس الصغير، فكأنما كان الشيخان في تلك «الطلعة » الأنيقة فتيين من فتيان الحسينية الظرفاء، يتبادلان المجاملة بهذه المباراة «الودية» في معرض من معارض الصبوة، ولكنها صبوة في حدود «التقاليد» على سنة «المشيخة» من أئمة الطريق، وكلا الرجلين كان من أبناء «الطريق» في مقام الرئيس أو مقام المرشح للرئاسة!
ولا ننسى أن «قضية الزوجية» قد عملت عملها المنتظر في الاندفاع بالشيخ إلى هذه الطلعة العاطفية.
إن السيد البكري كان طراز القدوة المختارة بين أبناء طبقته وزيه في الوسامة والقسامة ووجاهة المركب والشارة، وقد طمح الشيخ إلى البناء بأكرم الكرائم من بيت السادة الوفائية، فهل تطيب نفسها أن تراه، وتراه أترابها معها، في طلعة دون طلعة الطراز المرموق من سلالة السادة البكرية؟!
على أنها فتنة «عاقلة» لم تجاوز حدودها التقليدية في نطاق المشيخة كما تقدم، ولم يسلم حافظ إبراهيم من غلو الشعر حين قال في وصف تلك الصبوة من الشيخ الكهل إنه:
أتاه الغرام بسن الشيو
خ فجن جنونا ببنت النبي
فإن الصبوة لم تخرج الرجل قط عن سمته الذي طبع عليه طبعا وتكلف ما لم يطبع عليه منه تكلفا طويلا، وما كان لمثل تلك الصبوة أن تنسي الرجل كل ما كان يشغله في بواكير شبابه إلى خاتمة حياته، وهو شاغل «المقام» الملحوظ بين ذوي الشرف الموروث من علية السادة وذوي القدر والمهابة، وربما كان تحفظه المتأصل فيه هو الذي ألزمه، على غير اختيار منه، ديدن المحافظة إلى حد الاحتجاز، أو الاحتجاز إلى حد الانزواء، أو الانزواء إلى حد الاستكانة التي لم تفارقه بعد ارتفاعه بالجد والجهد معا إلى حيث أراد من دنياه.
كتب الأمير شكيب أرسلان في عدد يناير من المقتطف (1927) في روايته لبعض ذكرياته عن صاحب المؤيد:
كنا نجتمع دائما في مجلس المرحوم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وأكثر ما نسمر عند صاحب الدولة سعد باشا زغلول، وهو يومئذ سعد أفندي زغلول المحامي الشهير بمصر، وكان ينتاب تلك الحلقة شيخ شخت الخلقة اسمه الشيخ علي يوسف، يأتي فيجلس في الآخر ويلبث أكثر المجلس ساكنا مستمعا، ونكاد نرثي له لضعفه ومسكنته.
ولا نستغرب أن يرى «علي يوسف الشاب» في إبان فقره وانقباضه وخفاء ذكره على سمة توصف بالمسكنة التي يرثي لها من يراه؛ لأن الناظر إلى صاحب المؤيد بعد ارتفاع الشأن وذيوع الصيت كان يستطيع أن يصفه باستكانة تشبه المسكنة إذا نظر إليه وهو صامت ساكن بين الجلساء والنظراء، لولا أن الاستكانة صفة لا يوصف بها المرء وهو يملأ الدنيا بما يقوله وما يقال فيه!
وإنما هو مزاج أصيل فطر عليه هذا العصامي الناجح وعرفه من ذات نفسه فعرف ما خلق له وما لم يخلق له من أول مسعاه، فلم يضيع جهده عبثا في غير ما يستطيع.
إنه خلق لكل ما يبلغ المرء بالذكاء والحيطة ولباقة القلم وحضور الخاطر وحسن التفاهم مع القلائل المعدودين من النافعين والمنتفعين، ولم يخلق للسيطرة الغالبة في جلبة الزحام ولا للعظمة المزهوة بالطنين والخيلاء، فانتهى إلى غايته وهو يبدو في زاويته كالقابع المستكين، لولا أنه يقدر على خطوب لا يقدر عليها القابع المستكين.
مصطفى كامل
ولد مصطفى كامل سنة 1874، وكان عمره ثماني سنوات عندما احتل الجيش الإنجليزي القلعة في الحي الذي نشأ فيه.
سنوات ثمان تسمى - بحق - سنوات الثورة، ولكنها أحق من ذلك أن تسمى سنوات الخطابة؛ لأن الثورة قد اشتعلت اشتعالها الأكبر قبل ختامها، أما الخطابة فقد كانت في أوجها عند مولد الزعيم، وبلغت قمة ذلك الأوج عند دخول جيش الاحتلال.
كان حي الصليبة، الذي ولد فيه الزعيم الخطيب، أحد الحيين الكبيرين اللذين تنافسا على الوطنية القاهرية عدة أجيال، وكان هذا الحي أحفل بمعالم الحركة الوطنية من الحي الآخر، الذي كان ينافسه «الفتوة» على عهد الحملة الفرنسية؛ لأنه حي القلعة التي كانت مسكن الوالي، ثم صارت معسكر الجيش المحتل، وبقيت إلى جوارها ساحة المحافل القومية: من ركب المحمل، إلى ركب الولاية بعد مبايعة الأمير، إلى ركب العروض العسكرية.
وكانت مساجد هذا الحي أعمر المساجد بالخطباء الثوريين، ولم يكن في القاهرة مسجد أعمر منها غير الجامع الأزهر في تلك الفترة، وهو في المكان الأوسط بين طرف الصليبة من ناحية، وطرف الحسينية من الناحية الأخرى.
وكان مصطفى كامل في الخامسة أو السادسة يوم كان «عبده الحامولي» يسأل: أين نسمعك هذه الليلة؟ فكان يجيب مازحا: أنا الليلة سهران مع عبد الله نديم في فرح آل فلان.
ولم يكن «عبد الله نديم» وحده خطيب هذه الحفلات، بل كان معه عشرات الخطباء المعممين والمطربشين يتداولون منابر المساجد والأعراس، ممن لم يشتهروا شهرة عبد الله نديم، وكان يصحب أستاذهم الأكبر تلميذه الناشئ «مصطفى ماهر» في سن تكبر سن مصطفى كامل ببضع سنوات؛ وهو التلميذ الذي قال عنه النديم مرة إنه أخطب من «غلادستون»؛ لأنه تكلم في أربعة موضوعات وغلادستون لا يحسن أن يتكلم في أكثر من موضوع!
وانقضت سنوات الصدمة الأولى بعد الاحتلال في ركود من حركة الخطابة، وفي ركود من كل حركة سياسية أو اجتماعية، ولكنها كانت بمثابة فترة الانتقال بين اختفاء الخطباء الأول وظهور الخطباء اللاحقين؛ لأن مهمة الخطيب في عالم السياسة لم تلبث أن تجددت على أشدها وأوسعها، بعد ذهاب الدهشة من قيام الجيش المحتل في عاصمة البلاد.
وجاء في هذه الفترة زمن كانت الخطابة فيه أهم من الكتابة، وكان الصحفي الذي يحسن أن يتكلم كما يحسن أن يكتب أقرب إلى الميدان من زميل يحسن عمل الصحافة ولا يحسن عمل المنبر، ولو كان زميله هذا أقدر على البيان وأوفر حظا من الفكر والدراية.
ويكفي أن نذكر أربعة من أصحاب الصحف اليومية، بعد انقضاء عشرين سنة على دخول المحتلين، كانوا من الخطباء الكتاب وهم: مصطفى كامل في «اللواء»، وفارس نمر في «المقطم»، وجندي إبراهيم في «الوطن»، ومحمد أبو شادي في «الظاهر». ولم يكن تادرس شنودة المنقبادي صاحب صحيفة «مصر» خطيبا في طبقة هؤلاء، ولكن رئيس تحريره توفيق عزوز كان أقدر المتكلمين على المنابر بين أبناء الطائفة القبطية، مع زميليه أخنوخ فانوس وجندي إبراهيم. وكان علي يوسف صاحب «المؤيد» لا يخطب مرتجلا، ولكن كتاب صحيفته الخطباء لم يكونوا قليلين، وفي مقدمتهم «إبراهيم الهلباوي» كاتب مقالات: «إلى أين نحن مسوقون؟» بل لا ننسى أن «أحمد لطفى السيد» رئيس تحرير «الجريدة» - وقد غلبت عليه شهرة الفلسفة والكتابة - كان من المحامين، وكان قبل ذلك من وكلاء النيابة المبينين.
وتتشابه الأسباب التي أبرزت مهمة الخطابة في البلاد الشرقية غير مقصورة على الديار المصرية، ولكننا نذكر الأسباب التي حفظت للخطابة مهمتها بعد الثورة العرابية في هذه الديار: وأولها قيام المحاكم العصرية، واشتداد الحاجة دفعة واحدة إلى المحامين ولو لم يدرسوا القانون بمدارس الحقوق، ومنها افتتاح الكنائس الإنجيلية، وانتداب الخطباء المفوهين من القسس للوعظ على منابرها. وقد عني المسيحيون القبط بمنافسة هؤلاء الخطباء كما عني المسلمون المعممون والمطربشون، وأذكر أنني حضرت أياما في «قنا» كان «الأنبا لوكاس» يعظ فيها على منبر الكنيسة القبطية، والقس إسحاق يعظ على منبر الكنيسة الإنجيلية، والشيوخ الأدباء يخطبون في المساجد ومعهم أشهر المحامين والقضاة الشرعيين، وأشهرهم محمد نور أستاذ مكرم عبيد في الخطابة.
ولد مصطفى كامل في هذا العصر؛ عصر الخطابة، وشهد خطباء حي الصليبة في الخامسة والسادسة، وهي سن التقليد والمحاكاة، واستفاد من حي «الصليبة» أول نفحة من نفحات «الوطنية المحلية»، التي كانت مدار التنافس على بطولة القاهرة بين «فتوة» الحسينية و«فتوة» الصليبة، وربما تعثر بين الحبو والعدو في إحدى تلك الوقعات، التي كانت تنتقل من ساحة الأزهر أحيانا إلى جوار شيخون أو جوار قيسون؛ لأنه لم ينس هذه الحمية «المحلية» بعد أن وصل في تعليمه إلى المدارس التوجيهية، وكانت دعوته الأولى أنه دعا إلى تأليف جمعية «الصليبة»، فانتظم فيها نحو سبعين من المواطنين المحليين، قبل أن يدعو إلى تأليف الحزب الوطني بعدة سنين. •••
رأيت مصطفى كامل لأول مرة وأنا في الخامسة عشرة؛ أي في مثل سنه يوم تصدى لقيادة «الوطنية المحلية» بحي الصليبة.
كنت ببلدتي أسوان أشتغل مع زملائي بإحدى الدعوات المحلية، وهي دعوة التطوع للتعليم بالمدارس الأهلية.
وقد تقدمنا في هذه الدعوة، زميل لنا في مدرسة أسوان الأميرية، تخرج قبلنا وانتظم في وظيفة عسكرية بمصلحة خفر السواحل؛ وهو اللواء محمد صالح حرب، رئيس جماعة الشبان المسلمين، وكان يساعد المدرسة الأهلية التي تبعناه في التعليم بها ويتبرع لها بالمال من مرتبه، بعد أن حيل بينه وبين التطوع للتدريس فيها.
وقدم مصطفى كامل إلى أسوان في موسم الشتاء، ومعه الأمير حيدر ومدام جولييت آدم وكاتبة إنجليزية من الأحرار تسمى مسز يونج - على ما أذكر - وهم جميعا في رحلة نيلية.
وخرج مصطفى كامل ذات صباح يتمشى على شاطئ النيل ومعه الكاتبتان الفرنسية والإنجليزية، فوقفوا عند باب المدرسة الأميرية وسألوا البواب عن «حضرة الناظر» فغاب هنيهة، وعاد يقول له: إنه غير موجود!
وذكر مصطفى كامل أن صاحب المدرسة الأهلية - وقد كان يراسل اللواء - قد دعاه إلى زيارتها، فقال لصحبه: مدرسة بمدرسة، فلنذهب إلى المدرسة التي «ناظرها موجود».
ودخل غرفة السنة الرابعة وفيها درس اللغة العربية، فجلس مكان التلميذ الذي كان يكتب على اللوحة، وأملى عليه هذا البيت لأبي العلاء ليعربه ويشرح معناه:
والمرء ما لم تفد نفعا إقامته
غيم حمى الشمس لم يمطر ولم يسر
وترجم مصطفى كامل هذا البيت إلى اللغة الفرنسية في طلاقة وثقة، وناقش التلميذ في شرح معناه، فتلعثم التلميذ ولم يجب بطائل، فأسعفته معتذرا له بأن الغيم الذي لا يمطر في أسوان ولا يسير نعمة محبوبة، وأن الغيم الممطر وغير الممطر عندنا قليل!
ولاح لي أن «الباشا» لم يسترح لهذا التعقيب، ولم يتقبل منه الإشارة إلى خطئه في اختياره، وإن لم يكن في الأمر غير فكاهة تتلاقى فيها التخطئة والتصويب.
صورة مصطفى كامل التي بقيت في خلدي مدى الحياة، هي الصورة التي انطبعت فيه من أثر هذه الرؤية الأولى.
حركاته كلها كانت تنم على إحساسه بدقة تكوينه، يبدو ذلك من شموخه وزهوه، كما يبدو من طول طربوشه وارتفاع كعبه، ومن سترة «البنجور» التي كانت لا تلائم سنه وهو دون الثلاثين.
وهذا البيت من قصيدة أبي العلاء، أليس فيه تعريض بالأجسام التي تسد عين الشمس فتحجب الضياء ولا تجود بقطرة من الماء؟
وربما شغلته دقة تكوينه بسمت الوقار، فلم تسمح لها بمجاراة روح الفكاهة، ولا سيما الفكاهة على حسابه، والفكاهة التي فيها تخطئة لاختياره.
وقد كان من شأن المواقف الأخرى التي اقتربت فيها من شخص مصطفى كامل، أن تؤكد هذه الصورة ولا تمحو عندي ظلا من ظلالها.
كنت أحرر صحيفة «الدستور» مع صاحبها الأستاذ محمد فريد وجدي، وكان الأستاذ وجدي أحد الأعضاء الذين دعوا إلى تأسيس الحزب الوطني قبل وفاة مصطفى كامل ببضعة أشهر، فلما انتهى رئيس الحزب من عرض برنامجه، اقترح إرسال تبليغ بالبرق إلى وزارة الخارجية البريطانية لإعلانها بتأليف الحزب الوطني ومطالبتها بالجلاء، فأقره الأعضاء جميعا على اقتراحه، ما عدا الأستاذ «وجدي» الذي كان من رأيه أن يعمم إرسال التبليغ إلى جميع الدول؛ دفعا لشبهة «المركز الخاص» الذي تدعيه بريطانيا العظمى باحتلالها هذه البلاد، فأبى مصطفى تعديل اقتراحه وأصر على طلب قبوله بصيغته التي عرضه بها على الأعضاء، وكاد أن يقاطع صاحب «الدستور» فلم يتبادلا الزيارة بعد ذلك، إلى أن توفي مصطفى فخرج صاحب «الدستور» من قطيعته ورثاه بمقال حزين جعل عنوانه: «مال أكبر رأس في مصر. إنا لله وإنا إليه راجعون». فلم تزل كلمة «أكبر رأس» تعلق بذاكرتي منذ ذلك اليوم إلى أن ذكرتها في كلمتي عن «الملك أحمد فؤاد» بمجلس النواب: أكبر رأس يحطم الدستور. •••
كنت أحرر صحيفة الدستور مع صاحبها كما تقدم، وكان صاحبها عضوا في الحزب الوطني، والصحيفة لسان من ألسنة هذا الحزب القليلة في ذلك الحين بين الصحف اليومية والأسبوعية. كانت «الدستور» لسان الحزب الثاني و«اللواء» لسانه الأول، ولكني لم أشترك في الحزب بعد إعلان تأليفه كما اشترك فيه زملاؤنا الصحفيون. ولا يخطر لي الآن، ولم يخطر لي قبل الآن، أن تلك الصورة التي ارتسمت في ذهني من لقاء مصطفى كامل للمرة الأولى هي التي أخرتني عن طلب الاشتراك في حزبه، فلم يزل مصطفى كامل أحب المجاهدين إلينا في حومة القضية الوطنية بين أصحاب الصحف وأعلام القضية المصرية يومذاك، وكنت أتشيع له إذا نشبت المعركة بينه وبين خصومه، كما تقدم في الكلام على الشيخ علي يوسف - صاحب «المؤيد » - وبعد أن عرفت من حقائق الدعوة الوطنية وحقيقة نفسي ما لم أكن أعرف. أستطيع أن أقول إن اختلاف الطبيعة البعيد قد رسم أمامي مثالا للإمامة المذهبية غير هذا المثال، فإن مصطفى كامل كان من أصحاب الطبيعة الخطابية الشعورية، وكانت الطبيعة الأدبية والفكرية أقرب إلي وأحرى بالاتباع، فضلا عن نفور أصيل عندي من التقيد بالحزبية في الرأي، أيا كان مقصدها في السياسة أو الأدب أو الثقافة على الإجمال.
واختلاف الطبيعة هو الذي جعل لي سبيلا في المسائل القومية غير السبيل التي كان يختارها مصطفى كامل في كثير من مواقفه العامة.
فلم يعجبني موقف المصري المتوسل أمام تمثال فرنسا يناجيها ويناديها:
يا فرنسا يا من رفعت البلايا
عن شعوب تهزها ذكراك
أنقذي مصر إن مصر بسوء
وارفعي النيل من مهاوي الهلاك
ولم يكن أدب فرنسا، ولا ما اطلعنا عليه من تاريخ ثورتها، داعيا عندنا للثقة بنجدتها واستعدادها لإنقاذ مصر أو سواها، ولم تكن طبيعتي التي تأبى طلب المعونة من القادرين عليها كما تأبى طلبها من العاجزين عنها مما يقنعني بإمكان التعويل في قضية الاستقلال على معونة دولة قط، من الدول الكبار أو الصغار.
ولهذا أيضا لم يعجبني تعليق الاستقلال المصري بالسيادة العثمانية؛ لأننا على عطفنا الدائم على الدولة العثمانية في مكافحتها للتعصب الأوروبي، لم نكن نفهم أن هذا العطف ينتهي بجهادنا إلى الرضا باستقلال تشرف عليه سيادة دولة أخرى، وقد كان مصطفى كامل يمزج كثيرا بين المصرية والعثمانية حتى في أحاديثه الخاصة، كما قال في جوابه لسؤال الجنرال «بارنج» شقيق لورد كرومر: هل أنت مصري أو عثماني؟ فكان جوابه: مصري عثماني. وعجب الجنرال بارنج فعاد يسأله: كيف تجتمع الجنسيتان؟
قال مصطفى: ليس في الأمر جنسيتان، بل في الحقيقة جنسية واحدة؛ لأن مصر بلد تابع للدولة العلية، والتابع لا يختلف عن المتبوع في شيء من أحكامه.
ولقد أوشكت ثورة مصطفى كامل أن تنحصر في الثورة على الاحتلال، ولا تنظر إلى تبديل شيء من النظم السياسية أو الاجتماعية، فلم يكن في نزعات نفسه ولو قبس ضعيف من الثورة على المساوئ الخديوية، ولم يختلف في كثير ولا قليل عن أبناء عصره في تعظيم الألقاب الرسمية واعتبارها «إنعامات» مشرفة لمن يتلقاها، بل كان على صلة بالقصر الخديوي في التوسط بين طلابها وبين الأمير لتوزيعها على من يتطلع إليها، ولا شك أنه كان أنظف الساسة الذين كانوا يومئذ يتوسطون مثل هذه الوساطة؛ لأنه كان ينفق منافعها على خدمة الدعوة الوطنية لحاجته إلى المال في هذه الدعوة، وبخل الخديو بالمال الكثير أو القليل بغير هذه الوسيلة، ولكن إيمان مصطفى كامل بشرف هذه الرتب والألقاب ربما كان أدعى إلى النقد من وساطته في توزيعها، فقد بلغ من إيمانه بها أنه لم يصدر «اللواء» يوم جاءه خبر الإنعام عليه بالباشوية من دار الخلافة إلا بعد تغيير «الكليشيه» الذي كان اسمه فيه متبوعا بلقب الباشوية.
جاء في الجزء الثالث من مذكرات أحمد شفيق باشا وهو أحد رؤساء الحاشية الخديوية:
إن الرتب أصبحت كالسلع السهلة، وكان لهذه التجارة وسطاء كثيرون، منهم: الشيخ علي يوسف، وحسين بك زكي، وأحمد بك العريس، وإبراهيم بك المويلحي، وهو مقيم بالآستانة، يأتي كل شتاء لأخذ بضاعته من مصر، وأحمد شوقي بك الشاعر، ومصطفى كامل، الذي كان ينفق ما يأخذه في الدعاية لقضية مصر.
ولا شك فيما قاله صاحب المذكرات من تخصيص مصطفى كامل بين سماسرة الرتب والنياشين بالإنفاق من منافعها على الدعاية الوطنية، ولا سيما الدعاية في العواصم الأوروبية، ولكن حرص الباشا على الوجاهة التي لا تقل عن وجاهة الأمراء ربما كلفته هناك أضعاف نفقة الدعاية.
ولم تخف دخائل هذه الأحوال على طائفة الصحفيين والمشتغلين بالسياسة الوطنية، ولكنها لم تغض من قدر الزعيم الشاب، ولم تشكك أحدا في إخلاصه لدعوته وغيرته على قضية بلاده، وبلوغه بالشعور الوطني مبلغ الهوى، الذي يملك على العاشق لبه ويجرد هواه للأوطان من تقدير الوطن، بحساب المبادئ والواجبات أو حساب المطالب والآمال، فقد كان مصطفى كامل من أكثر المجاهدين شفيعا إلى قلوب أنصاره وخصومه؛ لنزاهة أخطائه جميعا من شائبة الغرض الملتوي والنفاق الذميم.
إن الزعامة السياسية لا تخلو من أخطاء في الحياة العامة أو الحياة الخاصة، وربما كانت زعامة مصطفى كامل أقل الزعامات خطأ في أوائل دعوتها، ولست أذكر أنني تبينت هذه الأخطاء أو تبينت غيرها من الأخطاء السياسية بحثا وتفكيرا وإمعانا في تحقيق المطالب الوطنية وتحقيق أساليب العمل لها والوصول إليها؛ فإن هذا البحث جهد لا يطيقه عقل صبي في الخامسة عشرة أو شاب فيما دون العشرين؛ وهي سني يوم عملت في الصحافة اليومية، لا أذكر - إذن - أنني أحجمت عن الاشتراك في حزب مصطفى كامل بعد البحث المفصل والموازنة الواعية بين مقاصد الزعامات السياسية وطرائق الزعماء في ذلك الحين، ولكن الذي أذكره جيدا أنني كنت أقرأ مقالات مصطفى كامل وأسمع خطبه، فأحمد له غيرته وأعجب بصدقه في جهاده، ولكنني أراني أمام منهج من الكتابة والقول غير المنهج الذي أتلقى منه رسالة الفكر والعاطفة وتستجيب إليه بديهتي المتطلعة إلى الوعي والمعرفة، فإن ذلك الأسلوب «الخطابي الشعوري»، الذي كان له أبلع الأثر في جمهور مصطفى كامل، لم يكن هو ذلك الأسلوب المختار الذي عهدته فيما اطلعت إليه من كلام مقروء أو كلام مسموع.
ولعل أشهر الأمثلة للأسلوب «الخطابي الشعوري»، الذي كان ذريعة التأثير الكبرى في خطب مصطفى كامل؛ قوله في خطبة زيزينيا الكبرى، وهي أقوى خطبة وآخرها قبل وفاته، إذ يقول:
بلادي بلادي، لك حبي وفؤادي، لك حياتي ووجودي، لك دمي ونفسي، لك عقلي ولساني، لك لبي وجناني، فأنت أنت الحياة، ولا حياة إلا بك يا مصر.
فإن هذا الإطناب وما شابهه لا يعطيني ما أتطلبه من الإقناع ولا من العبارة الأدبية عن العواطف، وإنما هو أشبه بدقات النفير تتكرر على وتيرة واحدة لتحتفظ بأعصاب السامعين في طبقة مشدودة من الانفعال والتنبه، سواء كان هذا الانفعال للوطنية أو لغيرها من العقائد الشعورية.
وأحسب أن قدرة مصطفى كامل على هذا النوع من التأثير كانت تطغى على كل قدرة خطابية فيه، ومنها القدرة على الإقناع؛ فلم تبلغ قدرته على الإقناع في كلام قرأته له أو سمعته عنه مبلغا يسوقه إلى الإعراب عنه، أو إعطائه نصيبا من أسباب التأثير إلى جانب الحركة الخطابية الشعورية، وأسميها «الحركة»؛ لأنها في الواقع أقرب إلى بواعث الحركة «اللاإرادية» من مجامع الأعصاب.
ولا يظهر ذلك في الخطب كما يظهر في الأحاديث الخاصة والمساجلات الشفوية، فلم يكن مصطفى كامل المتحدث مقنعا للجنرال «بارنج» حين سأله هذا هل هو مصري أو عثماني، فقال له إنه مصري وعثماني معا؛ لأن التابع يشبه المتبوع في أحكامه، فماذا لو قال له الجنرال: ولكن التابع لا يحسن به أن يشتهي التبعية وأن «يتحمس» لها ويصر على البقاء، وقد يحمد من المتبوع أن يستبقي علاقته بتابعه، ولا يحمد من التابع أن يستبقي تلك العلاقة برضاه!
وإنه لمن ضعف الإقناع أن يفوت الزعيم الوطني المتحدث أن يجيب «بارنج» سائلا: هل أنت إنجليزي أو بريطاني؟ فكل جواب لهذا السؤال محرج للمجيب موافق للمصري والعثماني من وجهة نظره في مناقشات السياسة مع البريطانيين الإنجليز.
وخلاصة ما بقي في نفسي من أثر لهذا الزعيم المجاهد - كما عرفته - أنه كان نعم الزعيم على منهجه وسجيته، ولكن زعامته كانت تتسع في عصره - وبعد عصره - لزعماء آخرين على مناهجهم وسجاياهم؛ لأن الوطنية المصرية كانت تشمل مصطفى كامل بكل ما احتواه من غيرة وحماسة، ولكنه - رحمه الله - لم يكن يستغرق الوطنية المصرية بكل ما تحتويه أو ينبغي أن تحتويه.
محمد فريد
محمد فريد من أكبر أعلام الوطنية المصرية، بل من خيرة شهدائها الذين يستحقون التمجيد والتخليد في صفحاتها الباقية.
عرفته في أسوان قبل أن ألقاه في القاهرة بسنوات عديدة.
عرفته من قضية «المؤيد» التي اشتهرت بقضية التلغرافات.
وعرفته من مؤلفاته التاريخية؛ لأن كتابه في تاريخ الدولة العثمانية كان أول كتاب قرأته في تاريخ هذه الدولة.
وقد كان في هذا الكتاب مؤرخا واسع المصادر حريصا على التحقيق، مع عطف واضح على الدولة وكراهة لأعدائها.
وقد كان شأنه في ذلك شأن جميع الشرقيين أو جميع المسلمين خاصة؛ لأن الدولة العثمانية كانت إحدى الدول القلائل التي بقي لها استقلالها في الشرق، وكانت إلى جانب هذا دولة الخلافة الإسلامية، فكان لها نصيب كبير من عطف الشرقيين الطامحين إلى استقلالهم، ومن عطف المسلمين الذين بايعوا آل عثمان بالخلافة، بعد زوال الخلافة العباسية.
وهنا موضع إيضاح لا غنى عنه في سياق هذه الفصول؛ فقد تقدم غير مرة أننا كنا ننكر السيادة العثمانية، ونكره أن يكون الاعتراف بها مبدأ من مبادئ الوطنية المصرية، فمن الواجب أن نلفت الأنظار هنا إلى الفارق بين كراهة الدولة العثمانية وكراهة سيادتها، وإنما كان استقلال مصر مطلوبا عندنا كاستقلال الدولة العثمانية، بل كان استقلال مصر مقدما بالطلب على استقلال الدولة إذا وجبت المقارنة بين المطلبين.
وأذكر في هذا السياق أنني كنت أعتقد أن تشبث الدولة العثمانية بسيادتها على الأمم الأخرى يضيع عليه جهودها في غير طائل، ويعرضها للمتاعب على غير جدوى.
ومن المصادفات العجيبة أن الرأي الذي أخذ به «مصطفى كمال» زعيم الترك العظيم بعد الحرب العالمية الأولى في سنة 1920، كان هو الرأي الذي دعوت إليه قبل ذلك بثماني سنوات، وهو اعتماد الدولة على بلادها الآسيوية، وإعفاء نفسها من المشكلات والجهود التي يسوقها إليها الاحتفاظ بالسيادة على أمم البلقان، فكتبت في مجلة «البيان» - سنة 1912 - مقالا بعنوان «مستقبل الدولة العثمانية» قلت فيه: «كذلك زلزلت الصدمة قلوب العثمانيين فيئسوا من الدنيا، كأن أوروبا هي كل الدنيا، ولو كانت الدولة العثمانية شجرة لا تنبت إلا في أوروبا، لحق لهم ألا يرجوا منها بعد الآن ثمرا، ولكنها شرقية المنبت، وهذه أرومتها لا تزال في الشرق، وما هذه الولايات الأوروبية إلا فروع منها لا يميتها انفصالها منها. وقد كان يمكن أن يدور التاريخ دورة غير التي دارها، فلا تتحول أنظار محمد الفاتح البتة إلى القسطنطينية.»
وهذا رأينا القديم في مسألة السيادة العثمانية على الأمم الأجنبية، فأحرى به أن يكون هو رأينا الأقدم في مسألة السيادة على هذه البلاد.
لقد كنت أومن بهذه العقيدة وأنا أشد ما أكون غيرة على الدولة العثمانية واهتماما بماضيها وحاضرها ومستقبلها، ومن أجل ذلك شغلت نفسي بقراءة مئات الصفحات في ذلك التاريخ وأنا لا أعدو الرابعة عشرة، ومن أجله كتبت ما كتبت عن مستقبلها؛ لأنه - على ما اعتقدت - هو المستقبل الوطيد الذي تستقر فيه على أساس المنعة والتقدم والسلام.
وجئت إلى القاهرة وأنا أسمع اسم «محمد فريد» الوطني المخلص، ولا أنسى اسم «محمد فريد» العالم المؤرخ!
ولقيته مرات في المجتمعات الكبيرة والمجتمعات الصغيرة، ولكني لم أتحدث إليه في مجلس خاص غير مرة واحدة.
وكان ذلك في مكتب صحيفة «الدستور».
كان هذا المكتب في منزل بدرب الجماميز إلى جوار ديوان المعارف العمومية.
وكان الدور الأرضي منه مخصصا للمطبعة، والدور الثاني على قسمين: أحدهما مسكن الأستاذ الجليل محمد فريد وجدي بك صاحب الدستور، والآخر مكتب التحرير والإدارة.
وكان الأستاذ وجدي بك يؤثر الكتابة في مسكنه، وقلما يجلس في مكتبه إلا لاستقبال زائر أو مراجعة عمل من أعمال الصحيفة، وإذا ب «محمد فريد بك» يحضر إلى الدار ذات يوم على غير موعد، فجلست معه أتحدث إليه ريثما يرتدي الأستاذ وجدي بك ويحضر للقائه.
ولست أذكر تاريخ اليوم على التحقيق، ولكني أذكر أنه كان بعد أوائل شهر مايو سنة 1908؛ لأن حديثي مع «سعد» - رحمه الله - كان مدار الكلام في تلك الفترة، وقد جرى حديثي مع «سعد» حوالي ذلك التاريخ، وكان أول حديث لصحفي مصري مع أحد الوزراء المصريين.
قال «فريد بك» - رحمه الله - بعد أن عرفني: «إنك لتحفظ لجارك في درب الجماميز حق الجوار.»
ففهمت ما أراد، وقلت: «وهو حقيق بحفظ الجوار.»
ثم انتقل الكلام إلى تعليم اللغة العربية، فقلت: إن تحويل التعليم من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية في جميع مراحل التعليم لا يتأتى في شهر واحد ولا في سنة واحدة؛ لأنه خطوة لا بد أن تسبقها خطوة أخرى من تخريج المعلمين وتأليف الكتب أو ترجمتها.
ووافق ما قلت أن سعدا قد أمر في تلك السنة نفسها بتعيين المتخرجين من مدرسة المعلمين للتدريس في المدارس الثانوية، والابتداء بالتعليم باللغة العربية في السنة الأولى من تلك المدارس، ثم في السنة الثانية.
ولاح لي أن «فريد بك» لا يصر كثيرا على قوله في هذا الموضوع، ويحيل فيه إلى ما يذكره الشيخ عبد العزيز جاويش.
ثم حضر الأستاذ وجدي واستأذنت في الذهاب إلى مكتبي، وانصرف فريد بك بعد قليل.
تلاحقت الضربات على ذلك الزعيم الكريم وذهب الاضطهاد الظالم بثروته العريضة، وهي تقدر يومئذ بمئات الألوف.
وغادر الرجل القطر ليستطيع العمل في حرية وطلاقة، واستقر به المطاف في عاصمة الدولة العثمانية.
وهنا تتجلى بطولة «فريد».
لقد كان «فريد» يناصر الدولة العثمانية وهو في غنى عنها، ولعلها هي التي كانت في حاجة إلى مناصرته، وكان رأيه في علاقة مصر بالدولة العثمانية ذلك الرأي الذي أعلنه حزبه في تقريره عن حوادث سنة 1907، وهو أولا «استقلال مصر كما قررته معاهدة لوندرة في عام 1840 وضمنته الفرمانات السلطانية، ذلك الاستقلال الضامن عرش مصر لعائلة محمد علي، والضامن للاستقلال الداخلي للبلاد».
وهو أخيرا «بذل الجهد لتقوية علاقة المحبة والارتباط والتعلق التام بين مصر والدولة العلية».
ولقد غادر «فريد» وطنه، والعداء بينه وبين الخديو عباس على أشد ما يكون العداء. وقد علم وهو في الآستانة أن العسكريين من رجال الدولة يقصدون بالحملة على مصر، في أثناء الحرب العالمية الأولى، أن يغيروا نظام الحكم في البلاد المصرية، ويتعرضوا لحقوقها وحقوق عرشها. علم هذا وهو في قبضة أيديهم، ولعله في حاجة ماسة إلى كل معونة منهم، ولا ملاذ له من غضبهم في مصر؛ لأنها موصدة أمامه، ولا في أوروبا؛ لأنها تضطرب بأهوال الحرب في كل بقعة من بقاعها، فلم يحفل بشيء مما يصيبه من جراء غضبهم، وراح يعلنهم باستنكاره لخطتهم واحتجاجه عليهم، وعلق في عروة كسائه شعار «مصر للمصريين»، وقد كان أبغض شعار إلى القائمين بالأمر في الآستانة يومذاك!
حدثني صديقي الفاضل الدكتور حسين همت بك - وهو ممن شهد تلك الأيام في الآستانة - أن طلعت باشا - أخطر رجال الدولة التركية في عهده - كان يمتعض كلما لمح ذلك الشعار الذي يحمله فريد وصحبه، وكان يعجب لأنهم ينكرون على الترك حكم مصر، وإنهم ليتكلمون التركية خيرا مما يتكلمها أهل الآستانة!
ومع هذا ظل فريد وصحبه يحملون شعارهم، ويعلنون استنكارهم حتى تعذر عليه البقاء في العاصمة التركية، فهجرها إلى أوروبا لينتقل بين ربوعها على غير هدى، ويشقى بتلك المعيشة الضنك في ظلمات تلك الغاشية العالمية، بغير أمل وبغير عزاء.
نعم المثل للوطنية الصادقة ذلك الشهيد الكريم - رحمه الله وخلد ذكراه.
مصطفى لطفي المنفلوطي
في فترة من تاريخ ثقافتنا، وفي أيام لا تتجاوز أيام الحرب العالمية الأولى، كان السائل يسأل: من أكتب الكتاب في لغتنا العربية؟ فيسمع الجواب من الكثرة الغالبة بين قراء تلك الفترة: إنهما اثنان: الشيخ علي يوسف والشيخ مصطفى لطفي المنفلوطي!
وربما حرص المجيب على تقديم لقب الشيخ على الاسم، خلافا للعادة في تداول أسماء المشهورين.
وكانت عصبية لا شك فيها، قد نسميها بالعصبية الأخوية، أو العصبية المحلية، أو العصبية الفخرية، ولكنها - بأي الأوصاف وصفناها - وزنة لازمة لتصحيح التقدير في موازين الأدب والأدباء، فلا تصح هذه الموازين ولا تعرف الحقائق التي كمنت زمنا وراء أسباب الإقبال والإعراض على مدارس الكتابة عندنا بغير الوقوف على معنى تلك العصبية.
ونسأل: ما معناها؟
فلا نستطيع أن نقول إنها عصبية من المعممين والمطربشين؛ لأن السيد توفيق البكري والشيخ عبد العزيز جاويش والشيخ حفني ناصف قبل ذلك كانوا من المعممين، ولكنهم لم يحسبوا في عداد الزمرة التي تجنح إليها تلك العصبية وتخصها بالتنويه والتفضيل.
كذلك لا نستطيع أن نقول إنها عصبية السبق إلى موضوع الكتابة المختارة؛ فإن المويلحي الكبير والمويلحي الصغير قد سبقا معا إلى الكتابة في موضوع المقالة الإنشائية والمقامة الأدبية، وكتب كلاهما في الصحف السياسية كما كتب علي يوسف دائما وكما كتب المنفلوطي أحيانا، ولكنهما لم يحسبا في عداد تلك الزمرة، ولم يسمع لكتاب «عيسى بن هشام» ذكر بين نماذج الإنشاء التي اختارها للتلاميذ مدرسو اللغة العربية كما اختاروا مقالات «النظرات» و«العبرات» و«المختارات» و«مجدولين» و«في سبيل التاج»، وكل كتاب ألفه المنفلوطي أو ترجمه بمعونة غيره.
ولم تكن العصبية عصبية المعهد الذي انتمى إليه علي يوسف والمنفلوطي؛ لأنهما أزهريان لم يتما التعليم الأزهري، والمدرسون الذين يزكونهما في دروس الإنشاء أو يتشيعون لهما في «الحزبية الأدبية» أكثرهم من خريجي دار العلوم، وبينهم وبين إخوانهم الأزهريين منافسة لا تخفى.
إنما كانت تلك العصبية في حقيقتها عصبية المعرفة باللغة الأجنبية والجهل بها، فهي لا تشمل المطلع على لغة أجنبية ولو كان من أصلاء المعممين كالسيد توفيق البكري، وهي لا تستثني أحدا يجهلها ولو كان من غير المعهد الذي ينتمي إليه المعجبون، وقد لحق بالكاتبين المعممين كاتب مطربش كان له سهمه في هذه العصبية؛ لأنه لم يحصل من اللغات قسطا يعتمد عليه في المطالعة والكتابة، وهو مصطفى صادق الرافعي خريج المدرسة الابتدائية وربيب الأسرة «المشيخية».
وقد كانت «العصبية اللغوية» لا تخلو من ناحيتها الفكاهية كما هو الشأن في كل عصبية من قبيلها، ولكن أصحابها لم ينفردوا بهذه الناحية الفكاهية؛ لأنهم كانوا يقابلون من الطرف الآخر بناحية تضارعها أو تزيد عليها في نزعتها المضحكة؛ إذ كان «المتفرنجون» يومئذ يزهون برطانتهم المستعارة زهو الحديث النعمة، أو زهو الغني الذي نسميه «غني الحرب»، وإن كان غناه من غيرها، وقد كان بعض هؤلاء المتفرنجين ينسى لغته - اللغة الأم كما يقال - في عرض الخطاب فيلوي لسانه بالكلام الدارج في الإنجليزية أو الفرنسية، كأنه يجهل ما يقابله باللغة العربية الفصيحة أو العامية.
وكان المعنيون بالأدب منهم يبالغون في اشتراطهم تعلم اللغات لتكوين ملكة الكتابة، حتى خلطوا بين القدرة على الكتابة وبين القدرة على توسيع موضوعاتها وتصحيح معلوماتها واختيار مناسباتها العصرية بعد مناسباتها التقليدية، وما زالت العصبيتان على انفراج بعيد في الزاوية إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية بقليل، ثم أخذت هذه الفرجة شيئا فشيئا في الاقتراب حتى التقى الخطان أو كادا قبيل هذه الأيام؛ لأن دارسي العربية عرفوا اللغات الأجنبية وتعلموها واطلعوا على ثقافتها وعلى المترجم من روائعها، ودرس «المتفرنجون» آداب شعرائنا وكتابنا الذين سبقوا أيام الحضارة الفرنجية وتقدموها، فكفكفوا من غلوائهم الأولى وعلموا أن ملكة الكتابة قد توجد على أحسنها وأبلغها عند أديب لا يعرف كلمة من اللغات الأوروبية. •••
وذات يوم من أيام الحرب العالمية الأولى، والزاوية المنفرجة آخذة في التلاقي والاقتراب، شاءت أزمة الصحافة المعطلة أو المقيدة أن أشتغل بالتعليم، ناظرا لمدرسة المؤاساة الإسلامية ومدرسا للأدب والترجمة، ثم مدرسا بالمدرسة الإعدادية الثانوية، فمدرسة وادي النيل الثانوية.
وعلى صفحات كراسة الإنشاء التقيت بالأسلوب المنفلوطي لأول مرة، وعنيت بنقده لأول مرة في دروس التعليم، قبل عنايتي بنقده في مجال الثقافة الواسع ببضع سنوات. •••
كانت الوصية الأولى لطالب «الإنشاء» عند أساتذة اللغة العربية بإجماع الآراء: اقرأ كتب المنفلوطي واكتب على منواله.
وكان موضوعات الإنشاء كلها تنتهي بالبكاء على بطل من الأبطال المألوفين في النظرات والعبرات، وهم كلهم أناس يبكون ويبكى عليهم؛ لأنهم مخذولون منكسرون، أو مضيعون في ذمم اللئام وقرناء السوء، وقل منهم من هو مسئول عن خيبته أو قادر على إنصاف نفسه والاقتصاص لها ممن يجني عليه، وكان من ديدن التلاميذ إذا كان الموضوع في غير هذه الأغراض أن ينحرفوا به إلى عبارة محفوظة يستطردون بعدها إلى مناسبة للبكاء والشكوى، يسردونها أحيانا بكلماتها المسطورة في القصة أو المقال.
في ذلك العهد كنت أناهز الخامسة والعشرين، وكانت قراءاتي المفضلة في فلسفة الحياة موزعة بين فكرتين تجتمع حولهما جملة الأفكار عن المثل الأعلى للشباب الناظر إلى مكانه من الدنيا ومن الناس، وهما: فكرة «السوبرمان» للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه، وفكرة البطولة أو عبادة البطولة لتوماس كارليل فيلسوف البريطان الأيقوسيين، الذي كان بعض أبناء وطنه يلقبونه بالأيقوسي «المتجرمن»: لأن كتابته عن الأدب الألماني كانت أكثر وأقرب إلى الإعجاب من كتابته عن أدب بلاده.
وقد كتبت عن نيتشه مقالا في مجلة «البيان» قبل الحرب العالمية، لعله كان أحد المقالات الثلاث أو الأربع الأولى التي كتبت عنه باللغة العربية، وتحدثنا كثيرا مع الشيخ البرقوقي صاحب «البيان» عن كتاب «الأبطال»، فلم يهدأ حتى عهد إلى زميلنا الكبير «محمد السباعي» بترجمته والابتداء به قبل سائر الكتب المختارة للترجمة والتلخيص في برنامج المجلة.
ونشبت الحرب العالمية الأولى بعد قليل، فلم يكن لقراء الأدب الغربي يومئذ حديث في غير فلسفة «نيتشه»؛ داعية القوة والعظمة عند الألمان ومحرك القوم في رأي بعض النقاد إلى الحرب والمغامرة في سبيل السيادة على العالمين.
ولم أكن قط مؤمنا بفلسفة نيتشه، ولا معجبا بسوبرمانه على صفته المترددة بين أشتات أقواله ودعواته، فقد كان مثال القوة المحبوبة عندي ذلك البطل القوي الذي يعطي الضعفاء من قوته ولا يأخذ من ضعفهم لنفسه، مجتمعين كانوا أو متفرقين.
ولم يكن بطل كارليل كذلك مثلي الأعلى في تقدير العظماء، وإنما كان النفور من استكانة الضعف عندي أقوى من الأعجاب بسطوة البطولة، ما لم تكن بطولة فداء وزجر للطغاة من الأبطال، وقد حفزني التفكير اللاعج في هذه المسألة - أثناء السنة الأولى من سنوات الحرب - إلى تأليف رسالتي عن «مجمع الأحياء» للموازنة بين فلسفة القوة وفلسفة السوبرمان وفلسفة المثل الأخلاقية العليا، وجعلت ذلك على ألسنة الحيوان من الثعلب والقرد والحمامة والأسد وابن آدم وبنت حواء إلى ختام الرسالة بخطاب الطبيعة، وفي خطاب القرد أقول عن الخير أمام القوة:
وبحسب الخير أنه منذ اهتدى إليه الناس تراجعت القوة وتمردت النفوس على شريعتها، فأصبح أقوى الأقوياء لا يجرؤ على الاعتداء والجور باسم القوة العمياء، إلا أن يتمحل لها المعاذير ويتذرع لها بسبب من الحق والعدل، فبطل القول القديم: اعمل ما تستطيع. وخلفه القول الجديد: اعمل ما يحق لك عمله، وعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، ولست أعني أن القوة العمياء قد خضعت للحق كل الخضوع ودانت له في الصغائر والكبائر، فهذا ما لا يدعيه الحق، وما ينبغي للحق أن يدعي ما ليس له، ولكن عنيت أن الناس لا يسلمون اليوم بظلمها وإن اضطروا إلى الخضوع لها، ولا تقتنع ضمائرهم بشريعتها، وإن لم تكن لهم حيلة في تبديلها. ويا ضيعة العالم إن سلموا! ويا سوء المنقلب إن اقتنعوا! إذ ليس وراء ذلك إلا أن يسترخي الأقوياء فيفقدوا العزيمة والمضاء، وينزل الضعفاء عن الحياة بنزولهم عن الرجاء، فتنعدم القوة الحافزة المجددة بين هؤلاء وهؤلاء، وينهار سلم النشوء والارتقاء إلى حضيض الموت والفناء، فاذكروا يا قوم - أقوياءكم وضعفاءكم - أن التسليم للقوة الغاشمة يفسد القوي منكم والضعيف، وأنه لا شيء يشرف التسليم له الأقوياء، كما يشرف الضعفاء، غير الحق، فاتخذوه لكم قبلة وإماما، واجعلوه لكم صاحبا ولزاما، واذكروا أن العالم لم يسلك طريق هذه الآداب وله ندحة عن سلوكها، ولم يلجأ إليها وفي وسعه الاستغناء عنها؛ لأن الطبيعة لا تملك الخيار بين طريقين.
ولقد بلغ بي الاشمئزاز من الاستكانة للضعف مبلغ النفور الحسي مما لا يطاق النظر إليه بالأعين أو لا يطاق شمه بالأنوف، وبعض ذلك ظاهر من القصيدة التي نظمتها خلال الحرب العالمية، وقلت فيها أوجه الخطاب إلى الشباب الضعفاء:
نحوا وجوهكم عني فقد سئمت
نفسي المقابر في أسلاخ أحياء
في كل دار شباب ينهضون بها
إلى العلا بين جيران وأعداء
لا يحفلون أعاشوا وهي ناجية
أم أصبحوا طي أرماس وأحناء
يعلو بهم ذكر من بادوا ومن لحقوا
وأنتم عار آباء وأبناء
ويتصور القارئ «معلم إنشاء» يعالج في طويته كل هذا النفور الثائر على أعراض الاستكانة والخور، ثم يرى أمامه - عند جمعه لأول محصول من محاصيل الكراسات الإنشائية - تلا من تلك الكراسات لا تخلو إحداها من ميزاب دمع أو مأتم شجو وأنين!
لقد كانت «مظاهرة» ضعف لم أجد ما أقابلها به غير مظاهرة سخرية تصلح لها، أوحاها إلي منظر حجرة المطبخ التي تطل عليها الفرقة المدرسية، وفيها خزين اللوازم المدخرة لإعداد الطعام من البصل والثوم والأرز والدقيق وما إليها، وكانت المدرسة الإعدادية التي اشتغلت بالتعليم فيها مع صديقي المازني مدرسة «نصف داخلية»؛ أي إنها تقدم طعام الغداء للطلبة ولمن يشاء من المدرسين، مع خصم ثمن الوجبات آخر الشهر من المرتب وعليه الزيادة من حساب القهوة أو الشاي أو الأشربة الصيفية.
واستدعيت الطباخ إلى الغرفة، وسألته سؤال العارف كما يقال: أعندك بصل صعيدي حار؟
قال الرجل مستغربا: كل البصل الذي عندنا من الصعيد، ومن الصنف الجيد، والغالب عليه أنه حار شديد الحرارة!
قلت: حسن، هذا ما نريد، فإذا جاءك أحد من تلاميذ هذه الفرقة فأعطه ما يطلب من هذا الصنف، ولا تتركه يفارقك حتى تذيقه الكفاية منه لمسيل الدموع؛ مقدار منديل أو منديلين، وقدم الحساب - باسمي - إلى ضابط المدرسة السيد عبد الحميد.
وكان السيد عبد الحميد هذا من أظرف الضباط الذين عرفناهم في المدارس الثانوية، وهو الذي كنا نسأله عن الحضور صباحا: هل دق الجرس الثاني؟ فيجيب وهو جاد لا يبتسم: من زمان يا أستاذ، قبل الأول!
وانصرف الرجل وهو لا يصدق أذنيه، حتى واجهته بالضابط الظريف وأفهمت هذا سر «المظاهرة» فتممها من فنونه المعهودة: ومنها أن البصل لازم للعمل في حصة الإنشاء، ومنها أن المطبخ قد أصبح ملحقا بالمعمل في دروس هذا الأستاذ! إلى آخر ما اخترعته بديهته التي لم تكن تخذله في مثل هذا المقام.
والتفت إلى الطلبة قائلا: من كان منكم يخزن في عينيه فائضا من الدمع فالبصل أولى بمهمة تصريفه من كراسة الإنشاء! •••
ولا يحسبني القارئ العصري الحديث أنني بالغت في شعوري بإفراط المنفلوطي في البكاء أو بإفراط فئة من شباب تلك الآونة في النعومة والفتور، فإنني لم أقل عن دموع المنفلوطي بعض ما رثاه به شوقي وهو يقول من أبيات كثيرة:
من شوه الدنيا إليك فلم تجد
في الملك غير معذبين جياع؟
أبكل عين فيه أو وجه ترى
لمحات دمع أو رسوم دماع؟
أما الشباب الناعم فقد كان موضوعا مألوفا مطروقا بين موضوعات التمثيل الفكاهي والأحاديات المسرحية «المنولوجات». وكان أشهر الممثلين المغنين سلامة حجازي يخصهم بغير قليل من نغماته، وإحداها قصيدة الدكتور شدودي التي نظمها بعنوان: «فتى العصر» وقال في مطلعها:
بالله قل لي يا فتى العصر
ماذا تركت لربة الخدر؟
فلم تكن سورة «السوبرمانية» ولا البطولة المعبودة هي التي كانت تحضرني حين رأيت الكراسات أمامي تفيض بكلمات «النظرات» و«العبرات»، وبعضها منقول بحروفه من مقالات هذا الكتاب أو ذاك.
وقد عرفت أسلوب المنفلوطي في الصحف قبل التقائي بأسلوبه المنقول في كراسات الإنشاء، ولكنني كنت أتناوله من جانب المطالعة الأدبية العامة ولم أنظر إلى الجانب «التربوي»، ولا شعرت بالاتصال بينه وبين غاشية الضعف عند ناشئتنا قبل أن أشهد هذا الأثر في أكبر معاهد التعليم «الأهلي» في تلك الآونة. •••
وسرعان ما وصلت قصة الدموع والبصل إلى السيد المنفلوطي من طريق المطبخ أو طريق الفرقة أو طريق الضابط الظريف؛ فقد أشار إليها في أول لقاء بيننا بعد ذلك بالمكتبة التجارية، ولم أكن ألقاه كثيرا في المجالس الخاصة، ولا أذكر أنني لقيته في مجلس خاص غير مرة أو مرتين ببيت الأمة، ولكنني كنت أشتري أكثر كتبي العربية من المكتبة التجارية فألقاه هناك بين حين وآخر، ويجري بيننا الحديث كثيرا في المسائل العامة، وقليلا في المسائل الأدبية والثقافية. وفي هذه المرة لقيته يوقع على بعض الأوراق، فقال لي بلباقته «البلدية» التي اشتهرت عنه: بسم الله، أو «بسم اللا» باللهجة الدارجة، وهي كما يعلم القراء دعوة إلى الطعام.
فقلت له سائلا: «بسم اللا» في التوقيع فقط أو في قبض الفلوس؟!
فعاد يقول بتلك اللهجة البلدية أيضا: الحكاية لا تستحق «مش قد المقام»، إنها أرخص من «البصل»!
قلت مجاريا في سياقه: ولعله أحلى من العسل. على حد نداء الإخوان في منفلوط.
ولاح لي في المناقشة الوجيزة التي جرت بيني وبينه، على أثر ذلك، أنني لم أنفذ منه إلى موضع إقناع في كل ما ذكرته عن أدب الشكاية أو أدب البكاء، وأيقنت أنه غير قابل للتحول عن الشعور التقليدي بأن العاطفة هي الرقة وأن الرقة هي البكاء، وكل ما سمعته منه حول هذا المعنى يتلخص في أنه يسأل الله أن يلهمه إعطاء الرحمة حقها وإعطاء البأس حقه، ولعله عنى بذلك تصويره للعاشق المبارز في قصة «ماجدولين»، وتصويره للبطل المغامر في قصة «في سبيل التاج»، ووصاياه الحسنة فيما كتب عن القضية الوطنية، وهو غير قليل بتوقيع منه أحيانا أو بغير توقيع. •••
وكانت أيام الأعياد مجتمع الأدباء بمجلس الزعيم الكبير سعد زغلول، فلقيت المنفلوطي مرة من هذه المرات ومعنا جعفر ولي باشا - وزير الحربية يومئذ - وهو كثير الاطلاع على منظوم العرب ومنثورها، وأساتذة لا أعرفهم، فجرى الحديث عن أساليب بعض الكتاب، فقال سعد: إنني أتناول أسلوب هؤلاء الكتاب جملة جملة، فإذا هي جمل مفهومة لا بأس بها في الصياغة، ولكنني أتتبع هذه الجمل إلى نهايتها فلا أخرج منها على نتيجة، ولا أعرف مكان إحداها مما تقدمها أو لحق بها، فلعل هؤلاء الكتاب يبيعون بالمفرق «بالقطاعي» ولا يبيعون بالجملة!
قال الشيخ المنفلوطي: يغلب يا باشا أن يشيع هذا الأسلوب بين الصحفيين الذين يكلفون ملء فراغ، ولا تتيسر لهم المادة في كل موضوع.
فابتسم الباشا، وقال الشيخ: «إنك يا أستاذ تتكلم عن الصحفيين وهنا واحد منهم!» ثم التفت إلي وقال: «ما رأيك يا فلان؟»
قلت: «هو ما يقول الشيخ المنفلوطي مع استدراك طفيف.»
قال: «ما هو؟»
قلت: إن هذا الأسلوب هو أسلوب كل من تصدى لملء فراغ لا يستطيع ملأه سواء كتب في الصحافة أو في غير الصحافة.
وعاد الشيخ المنفلوطي، فقال: «إن العقاد لا يحسب من الصحفيين لأنه من الأدباء.»
قال الباشا: «أوكذلك؟»
ثم تفضل بوصف موجز لكاتب هذه السطور، ليس من حقنا أن نرويه.
ولسنا نريد أن نحصر الأدب المنفلوطي كله في هذه الزاوية التي تلاقينا لديها على كراسات الإنشاء، فهكذا عرفناه ويعرفه غيرنا إذا لقيه من هنا وعلى يمينه «سوبرمان» نيتشه و«بطل» كارليل، وعلى يساره قضية تربوية في إبان أزمتها.
ولكن المنفلوطي في غير هذه الزاوية، يعرف بمكانته الأدبية العامة، فلا يعرف له نظير بين أعلام الأدباء الناثرين من مطلع النهضة الكتابية قبل مولده إلى ما بعد وفاته، فليس بين أدبائنا الناثرين من استطاع أن يقرب بين أسلوب الإنشاء وأسلوب الكتابة كما استطاع صاحب «النظرات» و«العبرات»، فربما ذهب القصد في الكتابة بجمال الإنشاء في أساليب الناثرين المجيدين، ربما ذهب الأسلوب «الإنشائي» الجميل بالمعنى المقصود في كتابة أدباء الفكر والتعبير، ولكن المنفلوطي - قبل غيره - هو الذي قارب بين الجمال والصحة على نسقه الفصيح في سهولة لفظ ووضوح معنى وسلاسة نغم، وهو لا يبلغ مبلغ التبرج بالصقل والزينة، ولا يترك التبرج والزينة ترك المتقشف في مسوح النساك، وليس لدروس الإنشاء نموذج أصلح من هذا النموذج من وجهته الفنية، وعن أدبه هذا أقول في بعض فصول «المراجعات»: إنه أحد الذين أدخلوا المعنى والقصد في الإنشاء العربي، بعد أن ذهب منه كل معنى وضل به الكاتبون عن كل قصد، وكانت الكتابة قبل جيله قوالب محفوظة تنقل في كل رسالة، وكانت أغراض الكتابة كخطب المنابر تعاد سنة بعد سنة بنصها ولهجة إلقائها.
وقد اطلعت على مجموعة وافية مما كتب المنفلوطي للفن وما كتب بغير كلفة، فكان لكتابته على كلا النمطين المتباعدين طابع الرائد المجاهد في أمثال هذه الرسالة: رسالة التقريب بين حفاوة الإنشاء ورخصة الخطاب واطراح الكلفة.
ويتمثل طابع الرائد في تباعد الشقة بين موضع الحفاوة وموضع الرخصة مما يكتب للفن وما يكتب لخاصة أمره، فكان المنفلوطي «يدبج» مقالاته الفنية فلا يفوته موضع العناية بكل كلمة وكل فاصلة، وكان يكتب رسائله لصحبه - ومنهم المتعلمون بل المعلمون - فلا يبالي أن ترد فيها أمثال هذه التعبيرات الدارجة: «فيدوني تلغرافيا» أو «مرسول لحضرتكم» أو «تأملوا الأسطوانات حتى لا تكون مستعملة ثم أرسلوها في البوسطة» أو «فهموها أن ترسل شهادة المدرسة المتخرجة فيها» أو «أهديك سلامي» أو «تلامذتك بخير يسلمن عليك وأرجو تبليغ سلامي لحضرات الأفاضل إخوانك المعلمين».
وكلها من شواهد النظر إلى الكتابة الفنية، كأنما هي كتابة «الاستعداد والحفاوة»، وما عدا ذلك من كتابة الأغراض الخاصة فرخصة العرف فيها أولى من كلفة الاستعداد، أو كلفة «السمعة والحشمة!»
وتعيد إلينا قدرة المنفلوطي على تبسيط الأسلوب الجميل كلمة «أناتول فرانس» التي يقول فيها: «إن البساطة الجميلة هي القدرة على إخفاء الجهد والكلفة، وإن النور الأبيض بسيط في النظر، ولكنه أوفر الألوان تركيبا؛ لأنه توليفة من جميع الألوان.»
محمد المويلحي
كانت للحياة الأدبية في القرن الماضي مؤامراتها ودسائسها التي تشبه المؤامرات والدسائس في حياة القصور الملكية، والصواب أن مؤامرات الأدب ودسائسه كانت في باطن أمرها فرعا من فروع المؤامرات المعهودة في كل حاشية ملكية؛ لأن الأدباء كانوا على اتصال قريب أو بعيد بحاشية الأمير، وكان للقصر أشياع ودعاة بين أصحاب الأقلام كما كانت له خصوماته معهم على حسب الظروف والعلاقات التي تتغير بينهم جميعا من حين إلى حين، وربما كان حامل قلم عونا على حامل قلم آخر مرضاة للسياسة أو مرضاة للمنافسة المعهودة بين أبناء الصناعة.
وكان لمحمد المويلحي صاحب «عيسى بن هشام» نصيب واف من مؤامرات القصور، ولعله استحقها بقدم الصلة بين أسرته وبين الأسرة الخديوية من عهد مؤسسها محمد علي الكبير، وقد عاش أبوه إبراهيم في معمعان سياسة القصور بين عابدين بالقاهرة ويلدز بالآستانة، وكان صاحب القلم الوحيد الذي اصطحبه الخديو إسماعيل إلى منفاه، سفيرا له في علاقاته بعد المنفى بالسلطان عبد الحميد.
ولم يسلم المويلحيان معا من مؤامرات عابدين، ولم يسلم عابدين ويلدز معا من مؤامرات المويلحي الكبير على الخصوص، وكان حامل القلم الذي اختارته حاشية عابدين للنكاية بالمويلحيين صحفيا من أقرب الناس إليهما وأشدهم إعجابا بهما ومحاكاة لهما في أسلوبه، وهو صاحب «الصاعقة» أحمد فؤاد، وما كان يرجو لصاعقته حظا في ميدان الصحافة أعظم من مقارنة «مصباح الشرق» صحيفة المويلحيين في هذا الميدان.
وقد كانت وقيعة «أحمد فؤاد» بالمويلحي الكبير ألوانا لا تحصى من الشائعات والأراجيف و«القفشات» التي كان ينشرها على الأندية والقهوات، وكانت وقيعته الكبرى بالمويلحي الصغير أنه كان يجرده من ملكة الكتابة الأدبية، ويزعم أن «عيسى بن هشام» من قلم أبيه، وأنه كان يرى مسودات المقالات بخطه في مطبعة المصباح! وكانت وقيعته بأبيه أنه طامع في إمارة الشعر بقصر الأمير.
أما المويلحي إبراهيم، فكان أكثر من ند «لأحمد فؤاد» في ألوان الوقيعة؛ إذ كان يفل الحديد بالحديد، ويكيل لتلميذه المتمرد بالكيل الذي يكيل به ذلك التلميذ، ويزيد.
وقد سكت عنه حتى أوهمه الصلح والرضا، ثم أوفده برسالة إلى الآستانة من تلك الرسائل التي كانت تغدق الهيل والهيلمان على حامليها بين عابدين ويلدز وبين يلدز وعابدين، ثم بادر فأبلغ الخبر إلى مدير «الشحنة» بالآستانة، فتلقى هذا صاحبنا أحمد فؤاد على «أسكلة الميناء» وانتزع منه أوراقه انتزاعا، فإذا هي في سبيله إلى السجن بدلا من دار الضيافة!
وأما المويلحي محمد، فقد كان على مشابهته لأبيه في كثير من خصاله أقرب إلى عزلة التصوف وترفع الوجاهة والإمارة، فلم يكن يعنيه من أحاديث أحمد فؤاد وأمثاله إلا أن يعقب عليها بنكتة لاذعة أو سخرية واسعة، ونسميها بالسخرية الواسعة لأنها كانت تتسع حتى تشمل السخرية بالشهرة الأدبية نفسها، فماذا لو لم يكن المويلحي الصغير كاتب «عيسى بن هشام» أو كاتبا على الإطلاق؟ ذلك خطب هين كما كان المويلحي الصغير يقول، ولم يكن في الواقع يبالغ في تكلف السخرية بالشهرة الأدبية؛ لأنه كان يرتضي لنفسه منزلة أحب إليه وأرفع عنده من منزلة الأديب الصحفي المشهور، وهي منزلة الوجيه الحكيم العزوف عن الدنيا والناس.
ولقد شاعت وقيعة أحمد فؤاد في حينها، فلم نكد نسمع أحدا يتكلم عن «حديث عيسى» إلا وهو يتقبلها أو يتساءل متشككا: أحقا كتبه المويلحي الصغير ولم يكتبه له أبوه؟
وكنا نحن نعلم من أخبار «محمد المويلحي» أنه أوفر اطلاعا من أبيه، وندرك الفارق البعيد بين ملكته الأدبية وملكة أبيه المرتجلة، ونعرف خلال سطوره مدى اطلاعه على كتب اليونان وكتب الأوروبيين المتأخرين، مما توفر عليه ولم يتوفر عليه أبوه من قبله، ولا بعد اشتراكه معه في حياته الأدبية، فكنا نعجب لشيوع تلك الوقيعة ولا نستطيع أن نفسره بغير هوى النفوس لاستماع الوشايات والاغترار في تفرقتهم بين ملكة الأب وملكة الابن بالتفرقة بين اسم المويلحي الكبير، والمويلحي الصغير.
ولكننا لقينا صاحب «عيسى بن هشام» بعد العلم به من طريق المطالعة وطريق السماع، فعرفنا سببا أدعى من ذلك السبب لرواج الوقيعة التي أذاعها صاحب «الصاعقة»، فقد كان «محمد المويلحي» أصدق مثل رأيناه لقول القائل: «سماعك بالمعيدي خير من أن تراه»، حتى كنا نروي المثل بعد ذلك: «سماعك بالمويلحي خير من أن تراه»، وقد نزيد عليه: المويلحي الصغير توكيد للنسخة الجديدة من ذلك المثل القديم!
كان صديقنا المازني يقول عن مشهور من مشاهير الشرق الحديث بغير حق: «إنك لا تحتاج إلى أكثر من خمس دقائق في محادثته لتنزل به إلى مكانه من الاحتقار.»
والمويلحي الصغير تراه خمس دقائق، فلا تحتقره ولا تشعر من سمته ورصانته أنه قابل للاحتقار، ولكنك تقدر له ما شئت من الصناعات الموقرة غير صناعة القلم أو صناعة الكتابة الفنية، فإذا تكلم زادك إيمانا بأنه من أبعد خلق الله عن الكتابة، ولا سيما كتابة اللباقة الفكاهية؛ لأنه يتعثر في كلامه وتعترضه فأفأة قد تطول، حتى تضطره إلى اختتام الكلام والإشاحة بوجهه علامة الضجر من الحديث أو الرغبة في السكوت، وإنما هو استحياء من تلك العثرات التي تعترضه أحيانا خلال الحديث.
رأيت أول مرة - كما رأيته آخر مرة - بكساء «البونجور» الذي لا يغيره في الشتاء ولا في الصيف، وإن غيره من لون إلى لون ومن نسيج إلى نسيج.
ورأيته بعد المقابلة الأولى أسابيع متوالية لم أكن أسمع منه خلالها غير الكلمات التي يفوه بها رئيس العمل وهو يوقع الأوراق الرسمية أو يعيدها للمراجعة والاستيفاء، ولكنني كنت في كل مقابلة من تلك المقابلات القصار أخرج من مكتبه وقد ازددت علما بسرعة خاطره وسداد ملاحظته وقدرته على إيجاز القول والكتابة بما يفيد على البديهة، بغير كلفة ولا إطالة روية. •••
لقيت «محمد المويلحي» لأول مرة في ديوان الأوقاف وهو يومئذ مدير قسم الإدارة، ويتبعه تحرير مجلس الديوان الأعلى ومجلسه الآخر الذي كان يسمى بمجلس الإدارة أو المجلس الإداري، ومن أقلامه قلم «السكرتارية»، وهو يومئذ ندوة المنشئين والمترجمين والأدباء والمحررين، يعملون «رسميا» في إعداد المذكرات التي ترفع إلى المجلسين وتهذيب أسلوبها وتصحيح لغتها، ولا يفرغ منهم لهذا العمل في الواقع غير اثنين أو ثلاثة، مع الاستعانة - قليلا أو كثيرا - بمعارف الأدباء اللغوية، إذا التبس عليهم الأمر في صحة كلمة أو سلامة أسلوب، وقد كان في قلم السكرتارية من المنشئين والشعراء والمترجمين والمشتغلين بالأدب والتحرير رهط منظور إليه في الديوان كله من طراز عبد العزيز البشري، وعبد الحليم المصري، وأحمد الكاشف، وحسين الجمل، وحسن الدرس، وأمين الدولة، ومحمد فكري، وغيرهم فئة قليلة من الكتاب الديوانيين غير معروفين بين أكثر الموظفين، وغير هؤلاء رهط آخر في الديوان ولكن في غير قلم السكرتارية، نذكر منهم صديقينا الشاعرين المجيدين علي شوقي، ومحمود عماد.
وكانت كتابتي الأدبية - السياسية - طريقي إلى وظائف الديوان، والفضل في ذلك لخصلة من خصال الفضول المحمود عند صديقنا الأستاذ عبد الرحمن البرقوقي صاحب مجلة «البيان» طيب الله ثراه.
كان من دأبه أن يطمئن إلى تحرير مجلته بإهدائها إلى شيوخ الأدب والصحافة وسؤالهم عن موضوعاتها كلما زارهم أو زاروه في مكتب المجلة، وكان ممن يسألهم في ذلك حافظ عوض ومصطفى صادق الرافعي، ومحمد المويلحي، وهو قليل الزيارة، لا يزار في غير مكتبه بالديوان، فلاحظ حافظ عوض أن اسم الكتاب الذي أترجم بعض فصوله لا يطابق أصله باللغة الإنجليزية، وهو «الأكاذيب المتفق عليها، في مدنيتنا» والمجلة تذكره باسم «الأكاذيب المقررة في مدنيتنا الحاضرة».
فزاد انتقاده من ثقة الشيخ بكاتب هذه السطور؛ لأنني ترجمت العنوان كما ذكره الأستاذ حافظ، ولكنه هو اقترح تسجيع العنوان لأنه أجمل بعناوين الكتب، فلما جاءه النقد من بعيد - وهو على عادته سريع التصديق - قال لي إنه لن يرفض رأيا لي مطاوعة لرأي السجعة بعد الآن!
وكنت أسمع من البرقوقي غير مرة أنه يحفل برأي مصطفى صادق الرافعي في البلاغة العربية، ولكنه لا يحفل به، بل يرفضه، في أذواق الأدب الحديث ومباحثه الفكرية، وقد أنحى الرافعي على «ماكس نوردو» صاحب الكتاب وعلى كاتب هذه السطور مترجم فصوله، فكانت هذه الشهادة المعكوسة خيرا من الثناء في تقدير الشيخ.
ثم سأل المويلحي - وهو يعلم عنه كثرة الاطلاع على أمثال هذه المؤلفات الأوروبية - فعاد المويلحي يسأله: بماذا يشتغل هذا الشاب؟
قال الشيخ: بلا شيء!
قال: أتراه يعيش على شيء من ميراث جده العقاد؟
فأفهمه الشيخ أنني لا أنتمي إلى السيد حسن موسى العقاد المشهور، وأنني أعيش بالقليل مما يردني من أهلي وبالقليل من أجور المقالات أو فصول الكتب المترجمة، فقال المويلحي مبتسما: إنه أولى بالوظيفة من أكثر «التنابلة» عندنا، فشجعني ما سمعت على طلب الوظيفة في الديوان، فطلبتها فأجيب طلبي لساعته بغير امتحان، وبدأت العمل فيه مساعدا لكاتب المجلس الأعلى بقلم السكرتارية، وهي وظيفة من أخطر وظائف الديوان في تلك الفترة، قبيل تحويل الديوان إلى وزارة ذات «ميزانية» ملحقة بميزانية الدولة.
وتتابعت المناسبات التي كانت تدعوني إلى مراجعة «المدير» في بعض الأوراق، فلا أذكر أنني سمعت منه حديثا غير الذي يصدر من «مدير الإدارة» وهو يملي توقيعاته ويوجه مرءوسيه، إلا مرة واحدة كان الحديث فيها دائرا بينه وبين بعض زواره حول مسألة تتصل بالسياسة وطلب الدستور، فجرى ذكر الفيلسوف «هربرت سبنسر» وعلمت من إشارته الوجيرة إليه أنه كان على إلمام بكتابه عن «الإنسان والدولة».
على أن الأحاديث التي تتعاقب عن مسائل فنية تتعلق بتحرير المذكرات وإملاء التوقيعات لا تخلو بطبيعتها من دلالة على مبلغ اقتدار الرئيس الإداري في فن الكتابة الأدبية، وكل ما أستحضره اليوم من إشارات المدير المجملة، وتصحيحاته العاجلة، وتوقيعاته المبرمة، أنها من إيحاء «معلم» في صناعة القلم على هينة وفي غير كلفة ولا مشقة.
فكان على أناته في الحديث يملي التوقيع المصحح للعبارة الرسمية فلا يتوقف في الإملاء، ولا ينسى ضرورة التوفيق بين العرف الديواني وبين العبارة العربية الفصيحة، ولا يبدو عليه أنه ينتقل من الارتجال إلى الروية وهو يمضي في إملائه على من حوله، وقد يتعدد هذا الإملاء في وقت واحد.
ومما روجع فيه حكمه الفني - والديواني معا - كلمة طال عليها الخلاف بين أنصار العرف الديواني وأنصار الابتكار والتجديد في أساليب الموظفين؛ فقد كان المألوف بعد إقرار المذكرة أن تذيل بكلمات قليلة لا تتغير لتوقيع المدير عليها، وهي: «محول على مجلس الإدارة»، أو «محول على المجلس الأعلى».
وخطر لأديب من أدباء السكرتارية أن يخرج على هذه الوتيرة؛ حبا للتصرف الذي يليق بأمثاله، وأنفة من «التقليد» الذي يلتزمه الموظف العتيق، فذيل المذكرات المعروضة على الجلسة كلها بكلمة «محال على المجلس»، ولم يذكر صفته اكتفاء بعنوان الديباجة. واحتكم المختلفون إلى المدير، فكانت إحدى الفتاوى التي ظهر فيها صاحب «عيسى بن هشام» من وراء صاحب العزة البيك المدير.
قال المويلحي: الحق أنني لا أرى صيغة «التحويل» إلا ذكرت محطة باب الحديد، وذكرت «محولجي» الرصيف!
ولا بأس بصيغة «محال» بدلا من صيغة «التحويل» فهي صحيحة مليحة، ولكن يخشى إذا قيل «محال على المجلس» أن يفهم المجلس أنها مستحيلة عليه، وتبتعد هذه الشبهة إذا قيل «محال إليه».
ثم سأل: ولماذا لا يذكر اسم المجلس الذي تحال إليه؟
فقال صاحب التعديل: لأنه معروف من ديباجة العنوان.
فحكمت «النكتة» حكمها على صاحب «عيسى بن هشام» وقال للأديب المتحذلق: وهل تكتب على ظرف الجواب «ملحق بما تقدم» بدلا من العنوان السابق فيما تقدم من الجوابات؟ إن الوثائق الرسمية لا تعرف الملل من التكرار، فاكتبوا اسم المجلس كاملا في ذيل كل مذكرة ولا «تدوشونا» بمشكلة «محول ومحال» في جلسة أخرى، فلا حرج من تكرار صحيح في أمثال هذه الأوراق! •••
وربما لمحنا صاحب «عيسى بن هشام» قبل صاحب العزة المدير في هذه الملاحظة الديوانية، فمنها نلمح ذوقه في اجتناب ما يتحرى اجتنابه من الكلمات المطروقة، وتلك على الأكثر كلمات اللغة الفصحى التي تسري إلى اللهجة العامية فتجري على ألسنة الناس مجرى العبارات التي يختلط فيها الابتذال بالإفصاح، ثم تتلبس - مع تداعي الخواطر - بكلمات معلقة بأحاديث السوق أو أحاديث الصناعة اليومية، وأظهرها هنا مادة التحول الفصحى، التي «تحولت» مع الاستخدام الحديث إلى تحويلة الرصيف وإلى قافية «المحولجي» - على حد التعبير الدارج بين «شخصيات» عيسى بن هشام.
وإنك لترجع إلى كتابات محمد المويلحي، فلا تلبث أن تلاحظ إذا التفت إلى هذه العادة القلمية عنده، أنه أقل كتاب عصره إساغة للكلمات المطروقة من هذا القبيل، إلا على سبيل النكتة والدعابة، وقد كانت هذه الكلمات المطروقة تتخلل المقالات في عصره بالعشرات والمئات، ولكنك تحسبها في كتابات المويلحي فلا تراها تزيد على أصابع اليدين، وقد تعمدت أن أراجعها في كتابه «علاج النفس»، وهو في أكثر من مائتي صفحة، فوجدت منها قوله: «انصرافهم بكليتهم نحو المستقبل»، أو قوله: «فترى الواحد منا إذا اضطجع فوق فراشه»، أو قوله: «إن الفضل فيها بينهم ليس للشخص»، إلى عبارات كهذه لا يخطر للقارئ أنها من قبيل اللفظ الدارج المطروق، إلا إذا علم أنها قد سلكت سبيلها إلى الشارع والسوق.
وربما كان الابتذال أبغض شيء إلى الرجل في كل خصلة من خصاله، وفي كل شاغل من شواغل حياته، فمن مراقبتي لمسلكه المطبوع قرابة سنتين أستطيع أن أفهم أنه كان - كما تقدم - يرتضي لنفسه سمتا واحدا لا يعلوه عنده سمت يظهر به الإنسان بين الناس، وذلك هو سمت السري الحكيم العزوف عن مواطن الزحام، فهو عنده أعز وأكرم من سمت الرئيس الملقب والأديب المشهور، وهو في طبيعته وراثة، قد زادها تمكنا منه أنه لم يرث من أبيه طلاقة اللسان، التي كانت تحبب إليه غشيان المجلس أو مناوشة الجلساء بالكلام، كما كان يناوشهم بالقلم على صفحات الأوراق.
وروي عن أبيه أنه مر بدكان تاجر كبير - وهو راكب - فحياه، فلم ينهض لرد تحيته ودعوته إلى النزول لديه، فمضى قليلا، ثم عاد إلى التاجر يسأله عما عنده من فناجين القهوة، حتى عرض عليه التاجر فنجانا ثمنه عشرة مليمات، فألقاه من يده على الأرض فانكسر، وناول التاجر قرشا وهو يقول ويهم بالانصراف: إن من يقيمه ويقعده قرش لا يحق له أن يترفع عن رد التحية على كائن من كان.
وقد كان عزوف محمد أشد من عزوف أبيه، وكان يلزم داره شهورا لا يفارقها، إذا صفرت يده من المال الذي يجاري به أقرانه في مجال الإنفاق خارج الدار، واستقال من وظيفته بديوان الأوقاف بعد إعلان الحرب العالمية الأولى - وهو لا يستغني عن مرتب وظيفته - لأنه أحس أن أعوان السلطان الجديد يغضون من قدره ولا يعاملونه بما هو أهله، وعكف على داره بقية حياته لا يبرحها إلا لرياضة أو عمل يلجئه إلى الخروج.
وفي اعتقادنا أن هذه الأنفة إنما كانت وليدة اعتزازه بنسبه وعقله قبل اعتزازه بأدبه وعلمه، وأن مواجهة أقرانه بهذه الأنفة قد أصبحت عدته الكبرى لحفظ مكانته بالكرامة الملحوظة، بعد أن زالت ثروة البيت التي كانت تغنيه - لو بقيت - عن إحضار هذه المناظرة في ذهنه، بين أناس من ذوي البيوتات أقدر منه على مظهر البذخ والجاه.
وأشد ما تكون هذه المناظرة حين يتنافس أبناء «الذوات» من الطبقتين المتقاربتين في ذلك العهد: طبقة «الذوات» أبناء العرب، وطبقة الذوات «أبناء الترك» أو طبقة الوجاهة «البلدية» وطبقة الوجاهة «الأتركة».
فإنك لا تقلب صفحتين من حديث «عيسى بن هشام» إلا لمست فيها هواه من أبناء البلد وسخريته - بل استجهاله واستحماقه - لنفخة الذوات من الطبقة الأخرى، وهو لا يعفي أبناء البلد من دعابته وغمزه، ولكنه يداعبهم ويغمزهم كما يفعل أبناء الأسرة الواحدة في مناوشات الدار بغير زراية ولا نقمة، وعلى غير هذا النحو كان منحاه إذا كتب عن الآخرين.
بل نحسب أنه لم يكن يألف موضوعا للكتابة إلا ما يحسب من موضوعات الناقد المترفع أو المشرف المتبسط في ساعات فراغه، فكل ما كتبه في «حديث عيسى بن هشام» فهو نظرات إلى الدنيا والناس من هذه الشرفة المطلة عليها وعليهم، وكل ما اتخذه من أدوار هذا النقد الاجتماعي، فإنما هو دور «فرجة» لا دور صناعة قلمية، مهما يبلغ من شأنها، فما بلغ في عرف مناظريه من ذوات «الأتركة» أن تقارن منزلة الوجاهة والرئاسة.
وهذه العصبية بين «ذوات» البلد وذوات «الأتركة» هي التي ضمته مع أسرته جميعا إلى معسكر الثوار وأبعدته عن معسكر «الخديو» وأعوانه من الجراكسة وخدام الدولة، وقد كان بيت المويلحي أقرب إلى بيت محمد علي منذ قيامه في الحكم من أكثر البيوتات الوطنية.
ولما فرغ من نشر «عيسى بن هشام» لم يعمد إلى إتمامه و«تقفيله» كما يقال في اصطلاح التأليف، ولكنه عمد إلى موضوع آخر من موضوعات الحكمة والتهذيب تليق بتلك الشرفة التي يستوي عليها الناقد الاجتماعي، فألف كتابه «علاج النفس» الذي طبع بعد وفاته، وساقه مساق الواعظ الحكيم للمتأدب المستمع، وإن كان قد تلطف في تقديمه فقال إنه ليس «في منزلة أوامر الطبيب للمريض، بل في منزلة دواء مجرب من مريض إلى مريض، ومن عاجز مستزيد إلى طالب مستفيد».
ولا نرى أن الأمر في لياذه بتلك «الشرفة» كان أمر وجاهة وسمعة وكفى، فإنه كان في لبابه أقرب إلى قداسة الدين لما فيه من حفظ أمانة الانتساب إلى خاتم النبيين وسيد المرسلين؛ إذ كان بيت المويلحي ينتسب إلى الحسين - رضي الله عنه - وكانت له بهذا النسب سيادة مرعية في بلاد العرب، وولاية على محلة «المويلح» لا ينساها خلفاؤه الأدباء في عهد المناظرة والمنازعة بين سلالة العرب الأقدمين، وسلالة الترك المحدثين. •••
إن المويلحي الصغير قد أصبح أكبر المويلحيين في العصر الحاضر، وإنما يذكر ب «حديث عيسى»، وقلما يذكر بكتابه الآخر عن «علاج النفس»، وهو على هذا طبقة في بابه لا تقصر على طبقة عيسى بن هشام في بابه، ولكن مزية هذا أنه فاتحة منفردة في الأدب العربي الحديث، تذكر بها حقبة كاملة سجلها فأبدع في صدق تسجيله وحسن تمثيله، وكان فيها الكفاية لذكر كاتبها بين الرعيل الأول من رواد عصره وما بعد عصره من عصور الآداب العربية المقبلة، وسيظل هذا الكتاب نموذجا يقتدي به من يطلب التجديد، ويتعلم الابتداء به على نهجه القويم؛ فهو مثال من النقد الاجتماعي يضارع أبلغ المثل في الآداب الأوروبية المعاصرة، ولكن المؤلف لم يقطعه مبتورا من جذوره بموطنه ليغرسه غريبا بين مواطن الضاد على غير منبته، بل تناول جذور المقامة العربية فأقامه عليها وأحسن تناولها وإقامتها لفظا ومعنى، فهو مقامة يرتضيها «بديع الزمان» ومنهج من النقد العصري يرتضيه «سويفت» و«لي هنت» و«هايني» و«أناتول فرانس».
وراء التراجم والسير
1
في حديثنا عن محمد المويلحي صاحب عيسى بن هشام، أشرنا إلى دسائس الأدب، بل ودسائس القصر، في عصره، وقلنا: «إن مؤامرات الأدب ودسائسه كانت في باطن أمرها فرعا من فروع المؤامرات المعهودة في كل حاشية ملكية؛ لأن الأدباء كانوا على اتصال قريب أو بعيد بحاشية الأمير.»
واتفق أن نشرت إحدى المجلات الأدبية قبل كتابة الحديث - في باب «الفكر والأدب قبل ستين سنة» - نبذتين منقولتين عن صحيفة «مصباح الشرق» وصحيفة «الصاعقة» لهما اتصال وثيق بتلك المؤامرات، وفيهما دلالة على محور المؤامرات التي كانت تدبر في القصر وتتصل بالكتاب والأدباء ممن تحدثنا عنهم، وهم: علي يوسف، ومصطفى كامل، ومصطفى لطفي المنفلوطي، والبكري، ومحمد المويلحي، ولا يستطيع ناقد خالي الذهن مما وراء تراجمهم من خفايا القصور أن يفهم طبيعة الحملات الأدبية والمناوشات القلمية، فضلا عن حملات السياسة ومناوشاتها التي يشتركون فيها؛ ومن هنا وجب أن نكشف النقاب عما وراء تاريخ الأدب من تاريخ القصر في تلك الفترة.
جاء في النبذة التي نقلت عن «مصباح الشرق» بعنوان «حادثة دراكتوس»:
اشتغل صاحب المؤيد طول الأسبوع بالكتابة عن حادثة دراكتوس فكتب ما يلي: ساءنا أن أحد أبناء الذوات المشهورين بالذكاء والنباهة قد استعمل الشدة والقسوة مع محرر إحدى الجرائد الأسبوعية المشهورة بحسن الكتابة والتوقيع، والنابغ في الانتقادات الشخصية، فضربه على خده وصفعه على قفاه. ولا صحة لما قيل من أنه جره بيده من أذنه بلا جريرة ولا ذنب سوى أن المضروب رحب بالضارب عند دخوله حانة دراكتوس قائلا مازحا: أهلا بالفاتن أو الفتان.
ثم عقب محرر «المصباح» على ذلك قائلا:
ثم كتب - المؤيد - غير ذلك في عدد 5نوفمبر ما يضيق المقام عن نقله لطوله، وقد حدثت لنا حادثة كنا نظنها من الأمور الخاصة: أنا محمد المويلحي أقر وأعترف بأنني كنت في دكان دراكتوس عشية يوم السبت 25 من شهر أكتوبر مع جماعة من الأصحاب، وبينما أنا جالس إذ دخل محمد بك نشأت وقال لي: بونسوار مويلحي! فأجبته كعادتي معه مازحا: أهلا بالفتني! وهي تعريب الكلمة التي يطلقها عليه أصحابه بالفرنسية “Petit interegat” ، فما كان منه أن ضربني بكفه على وجهي فلم أتحرك من مكاني ولم تتغير جلستي، وقلت له: ما زدت أن فعلت ما يمكن لأي حمار في الطريق أن يفعله مع أكبر كبير ... إلخ إلخ.
فهذه القصة إحدى قصص ثلاث لها سلسلة من العناوين المتقاربة: عام الكف، وعام الكفء، وعام الكفر، محورها هم: محمد المويلحي، وعلي يوسف، ومصطفى كامل، وبواعثها من دسائس القصر رغبة الحاشية الاستيلاء على مناصب الرئاسات الدينية في البلاد، ولا سيما الرئاسات التي لها إشراف على الطرق الصوفية وأوقافها، وتقترن بها منافسة أصحاب الأقلام على مركز شاعر الأمير، وكاتب الصحيفة السيارة التي تعتبر لسان حال الأمير.
ولقد كان محمد المويلحي مرشحا للعمل الصحفي الذي يمثل سياسة الأمير، ويقوم مقام لسان الحال بالنسبة إليه، وكان يعين أباه على طموحه إلى مركز شاعر الأمير، فكان كلاهما منافسا خطيرا للشيخ علي يوسف في عالم الكتابة السياسية والمنادمة الشخصية للأمير في مجالسه الخاصة، وهما أكتب من الشيخ علي من الوجهة الأدبية وأوسع ثقافة في اللغة العربية واللغات الأجنبية، وأقدم عهدا بالاتصال الوثيق بالأسرة الخديوية التي صاحبتها أسرة المويلحي منذ عهد مؤسسها، ورفع شأنها عند هذه الأسرة انتساب المويلحيين لآل البيت النبوي، نسبة أثبت من تلك التي ادعاها صاحب المؤيد بعد ذلك، عندما أراد الخديو عباس ترشيحه لمشيخة السادات الوفائية، ومهدوا لذلك بمصاهرة الشيخ علي يوسف لهذا البيت على الرغم من عميده السيد عبد الخالق؛ مما انتهى به الأمر إلى قضية الزوجية المشهورة وعزل الخديو للشيخ أحمد أبي خطوة قاضي المحكمة الشرعية التي حكمت بإلغاء الزواج، وتعيين الشيخ الرافعي الذي كان يؤوي السيدة صفية في بيته بعد صدور القرار بالفصل بين الزوجين خلفا للأستاذ الإمام.
فما هو إلا أن سمع الشيخ علي يوسف بخبر اللطمة التي أصابت محمد المويلحي، حتى فتح لأخبارها وتفصيلاتها صدر صحيفته، وحرص على تسمية المكان الذي وقع فيه الحادث باسم «الحانة»، وتحريف الكلمة التي قالها المويلحي لتظهر للسامعين بها كأنها من لغة المغازلة، وفي كلا الأمرين ما يعطل المويلحي عن الترشيح لمقام لسان الحال ومقام المشيخة الصوفية، ولم يحفل المويلحي بالرد على «المؤيد» إلا ليقول إن الحادث وقع في «دكان» لا في حانة، وإن الكلمة التي فاه بها هي كلمة «الفتني» لا كلمة الفتان.
وسمى المؤيد العام كله باسم عام الكف، وألح على ذكر الحان في المنظومات الشعرية التي كانت تنشر تحت هذا العنوان، ومنها:
يا صريع الأكف صدغك أمسى
خلقا مثل طيلسان ابن حرب
أنت في الحان في أمان وسلم
وهو في معمعان حرب وضرب
ومنها :
لا تدخل الحان والصناع ثائرة
حتى تقام حواليك المتاريس
وألح الشيخ كذلك على ذكر شهر الصيام في إبان المعمعة، فكتب بعض شعراء هذه المقطوعات يقول:
إن شهر الصوم قد حل ففز
فيه بالأجر وشكر الشاكرين
وختم المقطوعات بأبيات تشير إلى شهر رمضان يقول ناظمها:
إن هذا الشهر شهر يجتني
فيه أمثالك صفع الصافعين
قد محونا آية الكف وها
نحن نتلو اليوم آي الراحمين
وكان المشاع يومئذ أن المقطوعات جمعيا من نظم الشاعر إسماعيل صبري؛ لأن المويلحي كان يلقبه في مجالسه باللقيط! ولكن المعلوم أن شعراء آخرين قد اشتركوا في نظمها، ما عدا حافظ إبراهيم صديق المويلحيين. •••
وجاء دور الشيخ علي يوسف في تشهيرات هذه العناوين المتسلسلة، فظهر عام الكفء بعد عام الكف! إذ كان السيد عبد الخالق قد طلب تطليق ابنته من صاحب المؤيد؛ لأنه غير كفء للزواج من الشريفات، وجده مشكوك في إسلامه، واستعان المويلحي باطلاعه الواسع على الأدب العربي القديم، فاستخرج من قصة الشاعر الأحوص مع مطر زوج أخت امرأته التي كان يهواها بيتين من أبيات الأحوص، كأنما نظما لهذه المناسبة، وأبيات الأحوص هي:
كأن المالكين نكاح سلمى
غداة نكاحها مطرا نيام
فلا غفر الإله لمنكحيها
ذنوبهم، وإن صلوا وصاموا
فلو لم ينكحوا إلا كفيئا
لكان كفيئها الملك الهمام
وإن يكن النكاح أحل شيئا
فإن نكاحها مطرا حرام
سلام الله يا مطر عليها
وليس عليك يا مطر السلام
فطلقها فلست لها بكفء
وإلا يعل مفرقك الحسام
وكأنما الإشارة هنا إلى أن الأمير نفسه هو الكفء لبنت السادات، وليس الشيخ علي الذي أذن له الأمير في زواجها.
ولم يكن مع المويلحي أحد من كبار الشعراء في عالم الكفء غير حافظ إبراهيم، وقد كان «يرد الجميل» في وقت واحد للشيخ علي يوسف بعد حملات المؤيد على المفتي، وللشاعر أحمد شوقي منافسة على الشهرة وعلى مطمع آخر ستأتي الإشارة إليه، فنظم حافظ لهذه المناسبة قصيدته البائية بعد طول صمته، وقال فيها:
حطمت اليراع فلا تعجبي
وعفت البيان فلا تعتبي
فلا تعذليني لهذا السكوت
فقد ضاق بي منك ما ضاق بي
إلى أن قال عن قضية الزوجية، ولم ينس الناحية الدينية فيها:
وقالوا «المؤيد» في غمرة
رماه بها الطمع الأشعبي
دعاه الغرام بسن الكهول
فجن جنونا ببنت النبي
فضج لها العرش والحاملوه
وضج لها القبر في يثرب
وقالوا لصيق ببيت الرسول
أغار على النسب الأنجب
والطمع الأشعبي في البيت يشير إلى ضياع ثروة الشيخ علي في مضاربات «البورصة»، وهي من المقامرة التي لا تحمد من أحد، فضلا عن شيخ الطريق.
ولقد كان لحافظ إبراهيم نصيبه المهم من هذه الدسائس التي كانت تحاك لترشيحه لوظيفة شاعر الخلافة في البلاد العربية الإسلامية، منافسة لشاعر الأمير أحمد شوقي، فما زال به الخبثاء حتى زينوا له نظم أبيات في الشاب «شكيب» معشوق أبي الهدى الصيادي صاحب النفوذ الأكبر في حاشية السلطان عبد الحميد، فقال على لسان الشيخ أبي الهدى:
أخرق الدف إن رأيت شكيبا
وأفض الأذكار حتى يغيبا
فاسألوا سبحتي فهل كان تسبي
حي فيها إلا شكيبا شكيبا
فذهبت مساعي من رشحوه ذلك اللقب الفخم بعد اقترابها من النجاح.
أما عام «الكفر» فلم يكن له شأن هذين العامين من أقلام الأدباء، ولم يهتم به صاحب «المؤيد» كثيرا؛ لأنه آثر أن ينتظر للخلاص من مزاحمة مصطفى كامل مناسبة أخرى، وتلك هي مناسبة إغلاق الصحف التي كان مصطفى كامل يصدرها باللغات الأجنبية، وهي التي كان علي يوسف يخشى أن تجعل مصطفى كامل لسان حال للأمير في الصحافة الأجنبية ولم يكن يخشى مزاحمته في الصحافة العربية؛ لأن مصطفى كامل نفسه كان ينوي أن يقطع صلته الصحفية بالقصر، حتى كتب خطابه الصريح إلى الخديو عباس يبلغه فيه أنه سيبتعد عن كل صلة بالحاشية الخديوية؛ صيانة لمقام الأمير من تهديد المحتلين إياه من جراء تلك الصلة، وهذه هي الفعلة التي استكثرها بعض المتملقين على صحفي يخاطب أميره، فحملوا عليها بعنوان «عام الكفر»، وأسكتها الناصحون بإيعاز من الأمير.
على أن صحيفة المويلحيين لم تصبح لسانا سياسيا للقصر، ولكنها أصبحت لسانا للحركة الأدبية مسموع القول في نقد الكتابة والشعر وفي الموازنة بين الكتاب والشعراء، وكان قولها في ذلك منتظرا مرموقا في أندية الأدب والثقافة، ومنها أندية القصر نفسه وأندية المعارضين لسياسته ومؤامراته. وكانت خطتها العامة - فيما عدا فترات القلق الزئبقي التي اشتهر بها المويلحي الكبير على الخصوص - أن ترجح كفة حافظ إبراهيم على منافسيه، فلم يكن من اليسير أن تساق إلى خطة الزراية به وتهوين شأنه ونكران فضله، ولكن «مصباح الشرق» كانت تنافسها، وتحاكيها «صحيفة» أخرى على أسلوبها، هي صحيفة «الصاعقة» الأسبوعية، وصاحبها أحمد فؤاد تلميذ المويلحي، يواليه يوما ويكيد له أياما، على حسب الطلب والجزاء. وفي الصاعقة كانت تنشر الحملات التي يأباها «مصباح الشرق» ويترفع عن قبولها أو مجاراة طلابها، ولا سيما الحملة على حافظ، ومحاولة الإيقاع بينه وبين نصيره الأكبر الأستاذ الإمام، وقد أملى على صاحبها أن ينكر على حافظ قدرته على الشعر والنثر معا ولو كان من النثر المترجم؛ فلا يصلح بطبيعة الحال لولاية الديوان العربي ومعه ديوان الترجمة، فجاء في مقال نشرته بعد صدور الجزء الأول من ترجمته ل «البؤساء»:
إنا لنبدأ بأولهم؛ ذلك المعجب بنفسه الذي عرضه الغرور للاستهزاء، وهو حافظ إبراهيم، ولما كان معدوما من مزية تمييز الصحيح من الفاسد والخطأ من الصواب والجيد من الرديء، وكان مجبولا على الإعجاب بنفسه؛ ظن فاسده صحيحا وخطأه صوابا ورديئه جيدا فيما جمعه في البؤساء من خليط كلام الغابرين.
إلى قول الكاتب:
ولقائل أن يقول: لو أن الكتاب كذلك، فلم قرظه المفتي؟ فنجيب المعترض بأن فضيلة المفتي من العلماء الأعلام، وعنده من الاشتغال بأمور الإسلام ما يشغله عن قراءة مثل هذه الترهات. ولكن جبرا لكسره، وتخلصا من إلحاح حافظ، وفرارا من تحمل غصص رؤيته والاجتماع به؛ قال ما قال، وعلم الله أن فضيلة الأستاذ تأذى كثيرا من تقريظ البؤساء.
ويقول المطلعون على أحوال القصر إن المويلحيين أوشكا في وقت من الأوقات أن يبلغا مطلبهما من الأمير، وهو مركز شاعر الأمير للمويلحي الكبير، ومهمة الدفاع عن سياسته للمويلحي الصغير.
وربما كان إبراهيم المويلحي أصلح أبناء عصره لوظيفة الشاعر في قصر الإمارة، كما كانت تفهم في تلك الحقبة؛ لأنها كانت وظيفة تجمع بين نظم الشعر لمناسباته ومواسمه، وبين منادمة الأمير في مجالسه وسهراته وساعات طربه وخلوته لسماع المغنين والمغنيات، ولم يكن إبراهيم المويلحي دون علي الليثي ومحمود أبي النصر في فن النظم ولا في المنادمة، بل كان أعرف منهما بأدب العرب والإفرنج، وأقدر منهما على الحديث في مختلف شجونه، وقدرته على نظم التواريخ بعدد الحروف المعروفة بتواريخ «الجمل» لم يكن يدانيها أحد من معاصريه، وقد كانت هوى الملوك والأمراء من شعر المديح لتسجيل أوقاته ومواعيده، فلم ينظم شاعر من هذا الفن قصيدة تضارع قصيدة المويلحي الكبير التي استقبل بها عباسا الثاني (سنة 1902)، وكل شطر منها تاريخ للسنة الهجرية (سنة 1220) يوافق معاني الكلمات في غير تكلف ظاهر يقتضيه التوفيق بين النظم ومجموع الأرقام، وهذه أبيات منها:
وافى الخديوي فحسب النيل أفراحا
واستبشر الناس لما نجمه لاحا
والمجد ينصره والقطر يشكره
والملك يذكره بالعدل إن ساحا
وقد كان الخديو عباس يأنس لإبراهيم المويلحي في مجالسه، ويعلم ولع جده إسماعيل بمسامرته ومنادمته، فضلا عن الاعتماد على لباقته للسفارة بينه وبين ولاة الأمر في الدولة العثمانية، ويعلم أن جده قد بلغ من ولعه به أنه اصطحبه دون غيره من أصحابه وندمائه عند مفارقة القطر إلى منفاه. ولعله كان موضع اختياره شاعرا له لولا اعتراض المحتلين على تقرير هذه الوظيفة في الميزانية؛ لأن النظام المالي في حكومات العصر الحديث لا يعرف عملا يسمى عمل الشاعر أو النديم الخاص بمجالس الملوك والأمراء، ومن أجل هذا سميت وظيفة «أحمد شوقي» باسم رئيس الديوان العربي، ولم تعرف «رسميا» باسم شاعر الأمير.
وربما كان طموح الوالد إلى هذه الوظيفة سببا من أسباب نقد ابنه لشعر شوقي وقوله - على الخصوص - إنه لم يكن يحسن الحديث عن الملوك والأمراء، ولولا ذلك لما تحدث عن إسماعيل، وهو يقول عنه إنه: «الخديو المشار إليه»، ولا تحدث عن توفيق فقال: «ثم مد إلي العزيز يده فقبلتها واجما .» ولا أذكر أنه كان يركب حمارا أبيض وهو يذهب للقاء الأمير، ولا أكثر من مقدمته من الزهو والسهو والحشو كما قال، ولا شبه العزيز بعمر بن الخطاب فقال وهو يصف حفلة الاستقبال:
فهو بينهم عمر
والوفود تنتدب
وإنما عمر بن أبي ربيعة هو الأجدر «بمجلس الطرب والعزف، والرقص والقصف، والقدود والخدود، والصدور والنهود، والنحور والعقود».
فقد كان هذا النقد - كما هو ظاهر - أقرب إلى نقد «لياقة النديم» منه إلى نقد بلاغة الشاعر، وعند لياقة النديم تنتهي منافسة المنافسين للأديب الظريف والسمير الممتع؛ أبيه إبراهيم!
إلا أن المويلحيين كانا - ولا ريب - وفاق الشروط جميعا، بمقياس الأمير قبل كل شيء، لوظيفة شاعر القصر ولسان حاله، لولا قصورهما عن شرط واحد، كان عند الأمير أهم وألزم من جميع هذه الشروط، وهو شرط الاستقرار والكتمان الذي لا بد منه لكل من يعمل في حواشي الأمراء، فقد كان كلاهما - ولا سيما الأب - من أصحاب المزاج الزئبقي الذي لا يطول قراره، ولم تكن لهما حالة في السياسة ولا في العلاقات الحميمة يطول الاطمئنان إليها، فلم يفلحا حيث أفلح شوقي الصامت الحصيف، وعلي يوسف الناطق الأمين بلسان الحال. •••
وفي «الصاعقة» التي كانت تخدم الحاشية الخديوية كما تقدم، نشرت أعنف قصيدة من قصائد الهجاء للخديو عباس ولجميع الأمراء في أسرة محمد علي من قبله ومن بعده، وتلك هي قصيدة الاستقبال التي اتهم البكري والمنفلوطي بنظمها، وهي فيما نرجحه من نظم البكري كلها، ما عدا بيتا أو بيتين اشترك فيهما المنفلوطي أو أضافهما إليها بموافقة السيد توفيق.
وقد كان موقف العميد «الصوفي» الكبير من بيت محمد علي كموقف المويلحيين بين الإقبال والأعراض، وبين المودة والجفوة، وبين المعونة والمكيدة، ولكن عميد السادة البكريين كان له موقفه الخاص بين رواد القصر، وهو موقف بيت بكري من بيت الأسرة العلوية، فكان على حذر دائم من الخديو عباس؛ لأنه - في ذكائه واطلاعه على ما وراء الستار، ومصاحبته لعباس منذ أيام الدراسة - لا يجهل سياسة البيت العلوي من جميع البيوتات التي اشتركت قديما وحديثا في خلع الولاة وتنصيبهم بمراجعة الباب العالي في الآستانة، وأولها: بيت البكري العريق، وسياسة عباس لم يكن بها خفاء نحو جميع البيوتات ذوات الرئاسة الدينية، فإنه كان يحاول جهده أن يحل فيها أشياعه ومريديه وينحي عنها الأقوياء من أبنائها ذوي «الشخصيات» الملحوظة في الدوائر العليا، وأحذر ما كان يحذره أولئك الذين تتصل العلاقة بينهم وبين كبار الأجانب من السفراء ووكلاء الدول، ولم يكونوا أقرب إلى هذه الأوساط من السيد توفيق البكري؛ لمعرفته باللغات الأجنبية ونشوئه نشأة الأمراء في المعاهد الأوروبية. ومن يدري؟ إن أعيان القاهرة وقناصلها كان لهم الشأن الأول في تنصيب الولاة حتى بعد قيام الأسرة العلوية إلى أيام إسماعيل، فإذا حدثت بين زعازع السياسة التركية والأوروبية حادثة تدعو إلى تغيير الأسرة الحاكمة، فهل من البعيد أن يرشح للحكم الجديد سليل بيت عريق في البلاد، له من سمته وتربيته وعلاقته بالآستانة ووكالات الدول ما يلفت الأنظار إليه عند البحث عن الخلف المطلوب؟
والذي لا نشك فيه أن القصيدة كانت من نظم البكري مع مشاركة قليلة للمنفلوطي في بعض أبياتها؛ لأن المناظرة بالآباء والأجداد والمقابلة بين الدخيل «القولي» والأصيل «البكري» تخطر لسليل بيت الصديق ولا تخطر للمنفلوطي، على انتمائه لآل البيت النبوي بغير تلك الوجاهة الملحوظة في تاريخ الولاية، ولقد كانت آخر كلمة وجهها السيد توفيق إلى الخديو عباس حين وبخه هذا، وقال له على مسمع من الملأ في حفلة المحمل: أنت قليل الأدب: «كلا، لست أنا قليل الأدب، أنا وزير مثلك، وآبائي وأجدادي لهم الفضل على آبائك وأجدادك.»
لا جرم يكون قائل هذه الكلمة هو ناظم تلك الأبيات التي يقول فيها:
يذكرنا مرآك أيام أنزلت
علينا خطوب من جدودك سود
رمتنا بكم «مقدونيا» فأصابنا
سهام بلاء وقعهن شديد
فلما توليتم طغيتم وهكذا
إذا أصبح «القولي» وهو عميد
أعباس ترجو أن تكون خليفة
كما ود آباء ورام جدود!
فيا ليت دنيانا تزول وليتنا
نكون ببطن الأرض حين تسود
ونحن ننقل الأبيات هنا كما سمعناها بالرواية مخالفة للقصيدة المنشورة في «الصاعقة » بعض المخالفة، وكل ما فيه من ذكر القصور والنعمة المحدثة والأسرة الطارئة كلام من له نشأة راسخة في القصور والنعمة التالدة والحسب العريق.
ولم يكن عباس - وهو الذي سماه كرومر أستاذا في فن الدسائس - قاصرا على «رد الجميل» من نوعه في هذه الحملة، فإنه أراد أن يستخرج من مادة الشعر وثيقة على البكري بخط يده تسقطه في بيئة الدوائر الأجنبية العليا، وأهمها عنده دوائر الوكالة البريطانية، فأوعز إلى ولي من أولياء القصر بين رجال الأدب أن يستدرج السيد إلى كتابة قصيدة ينظمها في موضوع من موضوعات الغزل المحظور، وكان حفني ناصف أقرب هؤلاء الأدباء صلة بالسيد البكري ينشده ويستمع إليه، فلما ذهب يزور السيد، وأقبل هذا ينشده من جديد نظمه، تعمد حفني أن يستثيره وقال له: أيها السيد! إنك ممن لا ينبغي لهم الشعر، فدعه لنا وحسبك فخار الشرف والجاه! وحمي غضب السيد فتحداه أن يجاريه في نظمه إن استطاع، وقبل حفني التحدي على شريطة أن يكون موضوع القصيدة شخصيا لا يستعار من ناظم آخر في باب من الغزل المحظور، فكتب البكري أبياتا في المعنى المقترح بخطه، وكتب حفني أبياتا في معناها، ثم أخذ أبيات البكري فأظهر الاعتراف برجحانه عليه في فن الشعر فوق رجحانه عليه في الحسب والنسب! وذهب إلى النافذة يوهم السيد أنه يمزق الورقتين ويلقيهما حيث تلقى المهملات، ولكنه مزق ورقته وأبقى الورقة الأخرى في جيبه، ثم أسرع بها إلى القصر ليسلمها إلى الخديو، فأسلمها الخديو إلى لورد كرومر في أول لقاء بينهما، وقيل إنها كانت آخر العهد بدعوة السيد إلى حفلات الوكالة البريطانية، وآخر العهد بزيارة العلية من رجال الدول لقصر الخرنفش؛ حيث كانت لهم زيارات متكررة في المواسم والأعياد. •••
نقرأ ل «حفني ناصف» - رحمه الله - رسالة من أبلغ رسائل العتاب على الأسلوب السلفي، كتبها إلى توفيق البكري يقول فيها، وكان قد زاره فتخطاه السيد إلى جاره ولم يقرئه السلام:
وجاء السيد في موكبه، وجلالة محتده ومنصبه، فقمنا لاستقباله وهينمنا بكماله، فمر يتعرف وجوه القوم حتى حاذاني، وكبر على عينيه أن ترياني.
إلى أن يقول:
فإن حسن عند السيد أن يغضي عن بعض الأجناس، فلا يحسن أن يغضي عن جميع الناس، وإلا فلماذا يطوف على بعض الضيوف، ويحييهم بصنوف من المعروف، ويتخطى الرقاب إلى صروف، ويخترق لأجله الصفوف؟ فإن زعم السيد أنه أعلم بتصريف الأقلام، فليس بأقدم هجرة في الإسلام، وإن رأى أنه أقدر مني على إطرائه، فليس بالممكن أن يتخذه من أوليائه.
والمقصود بصروف، كما هو معلوم، صاحب «المقتطف» الدكتور يعقوب صروف، ولم يؤثره السيد لأنه أقدر على إطرائه، فإن الدكتور يعقوب لم يكن من أصحاب أقلام الإطراء، ولكنه آثره لأنه ربما كان أقدر في الدوائر العليا على محو المسبة التي جاءته من ناحية الحاشية الخديوية. •••
ونحن لا نتجاوز في مقالنا هذا بعض الأمثلة على مؤامرة الأدب التي لا تفهم دون العلم بما وراءها من مناورات القصور، ولم نزد فيها هنا على ما يحيط منها بالأعلام الذين كتبنا عنهم في هذا الكتاب.
2
في مقالاتنا بعنوان «حياة قلم» عرضت مناسبة لعلاقة «إبراهيم المويلحي» بمؤامرات القصور في القاهرة والآستانة، ذكرنا فيها بعض حوادثها ملخصة في القصة التالية:
حدث أن حركة في القاهرة زلزلت عرش عبد الحميد بالآستانة - وهي حركة تركيا الفتاة - وأن رجلا، شهرته دعوة القلم واللسان، ذهب إلى إيران لإتمام هذه الدعوة، فطرده الشاه، وأهانه اثنان من وزرائه، فقتل الثلاثة جميعا، وقال قاتلوهم إنهم قضوا عليهم بالحق انتقاما لذلك الداعية الطريد: جمال الدين!
وكانت هذه الحقيقة من وقائع الحال الغنية عن المقال، ومن طرائفها المروية أن السلطان عبد الحميد كان ينام في يلدز وعيناه على شارع محمد علي بالقاهرة، واتفق يوما أن المويلحي الكبير - صاحب مصباح الشرق - دخل مكتب «المؤيد» ووجد فيه نخبة من كتاب عصره وفضلائه، فتوقف عند الباب، وقال وهو يرفع يديه إلى سقف الحجرة: قادر أنت يا رب أن تسقط هذا السقف على من تحته، فيستريح عبد الحميد! قال محمد عبده - وكان من زوار الحجرة - نعم، لو تقدمت أنت خطوتين!
ذكرنا طرفا من أخبار المؤامرات وقصرنا الكلام فيها على أعلام الأدب الذين تقدمت الكتابة عنهم، وهم: علي يوسف، ومصطفى كامل، والمنفلوطي، والمويلحي صاحب عيسى بن هشام، ولكنهم طائفة معدودة من الذين اتصلوا بالقصور واجتذبتهم حبائلها أو اشتملت عليهم شباكها، وغيرهم كثيرون من أبناء عصرهم وأبناء العصر الذي يليه، تعرضوا لمثل ما تعرض له زملاؤهم من قبل، وامتزجت حياتهم العامة والخاصة كما امتزجت حركاتهم الأدبية والفكرية بأسرار تلك المؤامرات، فلا سبيل إلى تقديرهم وتقدير بواعث أعمالهم بغير الاطلاع على تلك الأسرار.
ومن أشهر الأخبار عن العلاقات المتصلة بين القصور ودوائر الأدب، ذلك الخبر الذي لم يكتب في حينه، ولكنه ورد في مذكرات أحمد شفيق باشا التي نشرها بعد خلع السلطان عبد الحميد والخديو عباس الثاني، وذلك هو خبر الأستاذ الإمام محمد عبده مع شبكة الجاسوسية الصحفية في القاهرة والآستانة، وكان الخديو عباس شديد النقمة على الأستاذ لمعارضته إياه في سياسة الأزهر وديوان الأوقاف، ولكنه لم يكن يستطيع عزله لغير سبب يمكن تقريره والاستناد إليه، ولم يكن نظام مجلس الوزراء يسمح له بالتصرف في المناصب الكبرى بوحي من أهوائه الشخصية، فأراد أن يتمسح بحقوق الخليفة الأكبر - عبد الحميد - في المسائل الدينية، وانتهز فرصة السياحة الصيفية وسفر الأستاذ إلى الآستانة لتوريطه في موقف مريب يؤدي بالاتفاق مع جواسيس «المابين» إلى اعتقاه «متلبسا» بحالة من الحالات الشائنة التي لا تجمل بمفتي الديار، فلا يصعب على الخديو بعد ذلك أن يأمر بإخراجه من المناصب الدينية ومن وظيفة التعليم بالجامع الأزهر، ولا يستطيع المستشارون الذين يشهدون مجلس الوزراء أن يعارضوه باسم القانون المالي ونظام تأديب الموظفين.
وقد تولى هذه المهمة مكاتب «المؤيد» بالآستانة، فقدم نفسه إلى الأستاذ، وعرض عليه خدمته لتمكينه من الفرجة على مناظر البلد التي يجهلها السائح الغريب ولا يهتدي إليها بغير دليل، ولولا يقظة الشيخ محمد عبده وانتباه بعض المصريين في الآستانة إلى خبيئة هذه الدسيسة، لاعتقل الشيخ في جهة من جهات اللهو المنكر يراقبها الشرطة، ويستطيعون على الأقل أن يخرجوا من البلد من يصطدم فيها بالمشاغبين الغرباء، فيحق القول على الإمام «المتهتك»، وتكون هي القاضية على سمعته وعلى جهوده ومشروعاته في سبيل الإصلاح.
وأمثال هذه «المؤامرات» بين سماسرة القصور وحملة الأقلام أكثر من أن تحصى، كنا نسمع ببعضها في حينه، ولكنها لا تنشر في الصحف السيارة إلا بأسلوب التورية والتلميح، أو تنشر عنها الكتب التي تصاغ بأسلوب «القصة الخيالية» وأبطالها جميعا معروفون.
ولم تنقطع هذه المؤامرات كل الانقطاع إلى زمن فاروق، ولكنها ذهبت شيئا فشيئا على مراحل متعاقبة، ترتبط كل الارتباط بتواريخ القصور «ذات الشأن»، كما يقال في التعبيرات الحديثة، وهي مراحل العلاقة بين قصر يلدز وقصر عابدين، ثم مراحل العلاقة بين قصر عابدين وقصر الدوبارة، وهو عنوان دار الوكالة البريطانية المشهور.
ولهذا كانت الناحية الدينية غالبة على هذه المؤامرات في مرحلتها الأولى، وكان محورها الأكبر مسألة الخلافة ومسألة السمعة الدينية أو الدعاية التي لها علاقة بالدين وبالأخلاق.
كان السلطان العثماني يتهم الخديويين بالسعي إلى تحويل الخلافة من الترك إلى البلاد العربية، وكان الخديويون يحذرون من سلطان الخليفة لأنه السلطان الذي كان من حقوقه أن يخلع أمير مصر أو يبدل نظام الوراثة أو يساوم الدول الأوروبية على حساب الخديوية المصرية، كلما كانت له في ذلك مصلحة من مصالح السياسة الدولية.
ومن هنا جاءت تلك القضايا التي ترتبط بمناصب الإفتاء ومشيخة الطرق الصوفية ومنازعات الزوجية والكفاءة لها من وجهة النسب والوجاهة الاجتماعية، كما جاءت تلك الأقاويل التي تدور على اتهام كبار الرجال العاملين في نهضة هذه الأمة، لأنهم ينازعون الخليفة أو الأمير، ولا يسهل التغلب عليهم بغير التشهير وتدبير المواقف التي تنفر الناس منهم باسم النخوة الدينية على الخصوص.
وقد ذهب عهد عبد الحميد، وبقيت لمسألة الخلافة ذيولها التي شهد المعاصرون آثارها في حياتنا الفكرية، فإن الثورة الفكرية التي اشتبكت فيها أقلام العلماء والأدباء شهورا في هذا البلد بعد ظهور كتاب «الإسلام وأصول الحكم»؛ لم تكن لتشتعل هذا الاشتعال لولا طموح أحمد فؤاد إلى الخلافة، واعتقاده أنها توطد مكانه عند الدولة البريطانية لتستعين به على حكم الإمبراطورية الهندية، ولو بلغ من شأنه أن يستفحل حتى يؤدي إلى سقوط الوزارة وإثارة المشكلة الدستورية على وضع جديد.
وللناقد الأدبي - إذن - أن يجعل شعاره «فتش عن القصر» أو «فتش عن قضية الخلافة»؛ ليفهم حقيقة لا غنى عنها في تقدير مدارسنا الأدبية في الجيل الماضي، وتقدير أسباب التجمع والتفرق بين حملة الأقلام في كل مدرسة منها، وبغير هذا «الشعار» يتعذر عليه كل التعذر أن يدرك الأسباب الكامنة وراء تكوين تلك المدارس من مجرد العلم بآثارها المكتوبة وتراجمها المعروفة.
ولنضرب لذلك - مثلا - قصيدة الاستقبال التي قيل في مطلعها:
قدوم ولكن لا أقول سعيد
وملك وإن طال المدى سيبيد
وقيل في ختامها:
أعباس ترجو أن تكون خليفة
كما ود آباء ورام جدود
فيا ليت دنيانا تزول وليتنا
نكون ببطن الأرض حين تسود
فدسيسة القصيدة - على حد قولنا دسيسة الرواية - هي قضية الخلافة واتهام الخديو عباس الثاني بالطموح إليها.
والأطراف المعنيون في القصيدة - كما ظهروا للناس - هم: السيد توفيق البكري، والسيد مصطفى المنفلوطي، والشيخ حمزة فتح الله، وأحمد فؤاد صاحب «الصاعقة»، ومن وراء الستار السيد إبراهيم المويلحي والسيد محمد المويلحي، والسيد علي يوسف، وأدباء الحاشية الخديوية.
فالسيد توفيق البكري شيخ الطرق الصوفية والسادة البكرية ركن مهم من أركان قضية الخلافة، بما كان له من المكانة الدينية، وما كان له في الآستانة من «الصفة الرسمية»، التي خولته منزلة من الرئاسة تقارب منزلة الخديويين، وهذه هي الصفة التي عناها حين أهانه الخديو عباس، فقال في جوابه: أنا وزير مثلك، وآبائي وأجدادي لهم الفضل على آبائك وأجدادك.
والسيد مصطفى لطفي المنفلوطي كان في تلك الآونة طالبا فقيرا من طلاب الجامعة الأزهرية، ولكن انتسابه إلى الشرف النبوي هو الذي قربه من شيخ الطرق الصوفية، وزج به في منازعات الخلافة ومناوراتها.
والشيخ حمزة فتح الله هو أحد علماء اللغة من المغاربة الذين كان القصر الخديوي معنيا بضيافتهم مع أمثالهم من علماء البلاد العربية، لاكتساب الصفة الإسلامية، ودوره في قضية القصيدة أنه شطرها ليرده هجاءها إلى ناظمها، ويعنيه عناية خاصة من ناحية النسب وعراقة البيت، وفي هذا التشطير يقول:
قدوم ولكن لا أقول سعيد
على فاجر هجو الملوك يريد
لئام لهم «بيت» من اللؤم عامر
وملك وإن طال المدى سيبيد
وأحمد فؤاد هو صاحب صحيفة «الصاعقة»، التي أنشئت لتكون صحيفة «الهجاء الاجتماعي» الأخرى أمام السيدين المنتسبين إلى الإمام الحسين، وقد كان يومئذ إلى جانب الآستانة، في تردده الطويل بين القصرين: قصر يلدز وقصر عابدين.
والمويلحيان وعلي يوسف كلهم ينتسب إلى الشرف، وكلهم يخوض معركة الكفاية الزوجية باسم الانتماء إلى السادات، ومنظومات عام الكف وعام الكفء بعض ثمرات هذه المناوشات.
ومن وراء ذلك حاشية الأدباء في قصر عابدين، ودورهم في القضية مستور، ولكنهم يقومون به من وراء الحملات التي تشن على أدباء القضية من وراء ستار. •••
وفي المرحلة الثانية من مراحل المؤامرات بين القصور وحملة الأقلام، تأتي مؤامرات النزاع بين قصر عابدين وقصر الدوبارة؛ مقر العميد البريطاني الذي كان يلقب بقيصر قصر الدوبارة، وإليه يوجه حافظ إبراهيم قصيدته حين يقول:
قصر الدوبارة هل أتاك حديثنا
فالشرق ريع له وضج المغرب
وعنه يتحدث حين قال:
وما دام في قصر الدوبارة ربه
فسعد ودنلوب لعمرك واحد
وعلاقته البعيدة بمدارس الشعر تظهر في منظومات أناس، بلغ من قحة أحدهم أن يسمي قصائده بالكرومريات معارضا بها «الشوقيات». •••
ولولا أن عاملا جديدا ظهر في الوسط - وهو عامل الحركة الوطنية - لكان مجال المؤامرات القلمية بين قصر عابدين وقصر الدوبارة أوسع من كل مجال آخر، بلا استثناء لمجاله الأكبر بين يلدز وعابدين، ولكن ظهور هذه الحركة تحول بأصحاب الأقلام إلى معركتها الصريحة في الصحف وعلى منابر الخطابة، ولم يترك للشئون الديوانية من الجانبين غير «إجراء إداري» في يد الإنجليز لصرف الأقلام عن الكتابة السياسية، وإجراء إداري آخر في يد الخديو لصرفها عن الصحافة «المشاغبة» عموما إلى ديوان الأوقاف، فكان نفوذ المستشارين وراء تشجيع المجلات العلمية والأدبية، باشتراك الوزارات في مئات النسخ من أعدادها الشهرية أو نصف الشهرية، وكان نفوذ الخديو وراء تعيينات الأدباء الكبار والناشئين بديوان الأوقاف ، ومنهم محمد المويلحي كاتب «مصباح الشرق» و«عيسى بن هشام»، وأحمد الأزهري صاحب مجلة «الأزهر»، وعبد العزيز البشري ابن شيخ الإسلام، ومعهم أدباء آخرون لم يكن للخديو يد مباشرة في تعيينهم بالديوان، ولكن تعيينهم هناك شغلهم بالشعر عن الكتابة الصحفية، وجعل من بعضهم شعراء يتسابقون إلى نظم المدائح الخديوية في مناسبات المواسم والأعياد. •••
وانتهت بانتهاء العلاقة بين مصر والدولة العثمانية مدرسة الكتاب والأدباء، الذين كانوا يضعون قدما في هذا البلاط أو ذاك وقدما أخرى في بلاط صاحبة الجلالة، ونشأ الجيل الجديد من الكتاب والشعراء في الهواء الطلق، أو في جو الحركة الوطنية بما اشتمل عليه من نواح وأطراف، تارة إلى القصور وتارة عليها في صف المعسكر الجديد، وهو معسكر الأمة بنواحيه وأطرافه التي أشرنا إليها.
انتهت تلك المدرسة من أصحاب الأقلام، ولم تنته مؤامرات القصر «القلمية» من طرف واحد أو من كلا الطرفين، وقد كانت المصروفات السرية بعض وسائل القصر الخديوي لاصطناع الأنصار ومحاربة الخصوم، ولم تكن كلها تصرف في خدمة السياسة الخديوية أو مطامع الخديو الشخصية، ولكنها كانت كلها تصرف فيما يرضي الموكلين بتوزيعها على محرري الصحف والمشتغلين بالأدب المنظوم والمنثور، وبعضهم كان من كبار موظفي القصر، وغيرهم كانوا من سماسرة الرتب والنياشين غير الموظفين، وربما استعين بأموال الخاصة لهذا الغرض إذا خيف انكشاف الأمر لديوان الرقابة على الميزانية.
وإلى عهد غير بعيد كان لأموال الخاصة - مع المصروفات السرية - عمله في اصطناع المحررين والمؤلفين لتعبئة المعسكر «القلمي» حول دعوة الخلافة تارة، وحول الخصومات الأدبية التي تعني القصر تارة أخرى.
فكانت الخاصة في عهد أحمد فؤاد تتولى الإنفاق على أبناء بعض الكتاب في المدارس المصرية والأجنبية.
وكانت هذه الخاصة - مع مكتب المصروفات السرية - تنفق على إنشاء المطابع والمجلات؛ لمحاربة الأدباء المخالفين لسياسة القصر والمناصرين لدعوة غير دعوته الخفية أو العلنية.
في هذه الفترة نشأت المدرسة الأدبية التي ينتمي إليها كاتب هذه السطور، وفي هذه الفترة تعرضت هذه المدرسة للتشهير والتنديد في الصحف الأسبوعية التي تخصصت للهجاء الاجتماعي والمناورات الأدبية والسياسية ، وكلها صحف يعرف من عرفوها أنها تقصد بحملاتها من يبذلون المال في سبيل اتقائها، ولا يعنيها أمر أمثالنا من الناشئين الفقراء، إلا أن يكون مصدر الحملة من ورائها، لا من بين يديها!
وتقدير الحملات الأدبية، والمدارس الفكرية أيضا، في هذه الفترة المتأخرة يعود بالناقد المحقق - لا محالة - إلى ما وراءها في سراديب القصر وحواشيه، فلا حيلة له في اجتناب هذه الناحية الخفية لتصحيح الحكم على طبيعة كل حملة أدبية ولباب كل خصومة عامة أو خاصة بين القائمين بها، وإن لم يكن كله لازما في أمر المدارس المتأخرة لزومه في أمر المدارس على عهد الأدباء الأسبقين.
ونظرة واحدة إلى ما وراء الستار قد تغني عن بحوث مستفيضة يجتهد لها الباحثون لوزن الدعوة أو وزن الحملة بميزانها الصحيح، فلن يدرك الباحث حق الأسلوب من الرفق أو الشدة، ومن الاعتدال أو الاندفاع، إذا كان نظره قاصرا عما يستدعيه ويدفع بصاحب القلم إليه، فإن الأسلوب الذي يستدعيه نقد فكرة غير الأسلوب الذي يستدعيه إحباط مكيدة من وراء الستار، يمالئها سلاح السلطان كما يمالئها سلاح الدرهم والدينار.
الدكتور يعقوب صروف
كنت في زيارة للقاهرة حين لقيت الدكتور يعقوب صروف صاحب «المقتطف» حوالي سنة 1905.
وكانت زيارات القاهرة فرصة للبحث عن الكتب الخاصة التي لا تصل إلى الأقاليم مع الباعة المتجولين، وقد يتطلب البحث عنها زيارة حي «الكتبية» إلى جوار الأزهر، أو زيارة حي الفجالة حيث تباع المطبوعات العصرية؛ لأن قوائم المكتبات لم تكن يومئذ شيئا معروفا في بيئات النشر والمطالعة، وكان المعروف المتداول منها لا يغني عن البحث في المطبعة التي طبعت الكتاب والمكتبة التي تبيعه، وقلما يباع في سواها.
أما الكتاب الذي قصدت إلى دار المقتطف في مدخل شارع عبد العزيز للبحث عنه، فهو كتاب «الكائنات» للشاعر الباحث العراقي جميل صدقي الزهاوي، وكانت مجلة المقتطف هي التي تولت طبعه في القاهرة؛ لأنه يبحث في موضوع من موضوعات «فلسفة ما وراء الطبيعة»، وهي تلك الموضوعات التي كانت تثير الريبة في الأقطار الشرقية إلى ما بعد أوائل القرن العشرين.
ولقد كان لقاء الدكتور يعقوب صروف - فيلسوف العصر عند المحدثين - هو الغرض الأول من زيارة الدار؛ إذ كان في وسعي أن أسأل عن الكتاب بمخزن المطبوعات هناك، وكان في وسع عامل المخزن أن يتولى إخراج الإذن ببيعه من رئيسه في إدارة المقطم أو إدارة المقتطف، ولكنني قدمت إلى القاهرة من مدينة «قنا»، حيث كنت أعمل تلميذا بالقسم المالي في انتظار التثبيت، وأنا خارج من إحدى «المعامع» الأدبية أو الفكرية، التي كان «يعقوب صروف» محورا من أهم محاورها الكثيرة طوال أيام الحرب الروسية اليابانية.
ولا بد من ذكر الحرب الروسية اليابانية في هذا المقام؛ لأنها كانت في الواقع محور المحاور في ميادين العصبيات السياسية والوطنية، والصحفية والأدبية يومذاك، بل كانت محور المحاور في كل عصبية يثور لها الشباب الذي يعنى بشأن غير شئون الخاصة كيفما كان.
وكان النزاع حول الطرفين - روسيا واليابان - يشمل ضروبا من النزاع حول كل موضوع عام يشغل أذهان الناشئة على الخصوص.
فكان النزاع الوطني يميل بالأكثرين من الشبان المصريين إلى جانب الدولة الشرقية الناهضة، أو دولة «الشمس المشرقة» التي ألف فيها مصطفى كامل كتابه بهذا الاسم، كأنها المثال الأول للأمم الشرقية المجاهدة في قضايا الحرية والنهضة والاستقلال، وفيها يقول حافظ إبراهيم:
هكذا الميكاد قد علمنا
أن نرى الأوطان أما وأبا
وكان التنافس بين خريجي المدارس الإنجيلية والمدارس المحلية الأرثوذكسية على أشده وأوسعه في عواصم الصعيد، ولا سيما في أسيوط؛ فكانت روسيا رمزا لعصبية المدارس الأرثوذكسية، وكانت اليابان رمزا للعصبية الأخرى؛ لأنها صديقة الدول الإنجيلية التي تعادي روسيا في قضايا السياسة العالمية، وفي مقدمتها إنجلترا والولايات المتحدة.
وكانت العداوة بين دولة القياصرة ودولة الخلافة الإسلامية سببا لعصبية أخرى، جمعت أنصار دولة الخلافة إلى صف واحد يناصر اليابان، في سبيل الوطنية وفي سبيل الدين.
وكان أصحاب المقطم والمقتطف للمرة الأولى في صف واحد مع أنصار الوطنية وأنصار الدولة العثمانية، مع ما هو معروف من موقفهم حيال تركيا وحيال بريطانيا.
أما عصبية الثقافة، فقد أبرزت أمام الخريجين من المدارس الإنجيلية اسمي: «يعقوب صروف» و«فارس نمر» صاحبي المقتطف والمقطم؛ لأنهما كانا في عالم الكتابة أنبغ من اشتهر من كتاب العلم والسياسة في عالم الصحافة الشرقية. وكانت هذه العصبية تبلغ الهزل على ألسنة المتشيعين لهذين الكاتبين، حين يجعلونهما موضوعا من موضوعات النظم شعرا وزجلا، وهم لا يحسنون هذا ولا ذاك باللغة الفصحى ولا باللغة العامية، ومما يحضرني من أبيات «الزجل» في الثناء على «فارس نمر» قول أحدهم:
فارس نمر تعلملي وتهذبلي
وفي فنون العصر نابغلي
نابغلي في علوم العصري
وكان ساكنلي في بلاد الشاملي
واسمع له في الخطابة وتعال قل لي
واقرأ في المقطم والمقتطف يا خلي
وإذا بلغ بالحماسة «الأدبية» أن تنطق من لا ينطق بهذا «النشيد» فقد يتصور القارئ العصري كيف كانت حماسة المتشيعين لكاتب المقتطف وكاتب المقطم عن فهم وإدراك صحيح؟
أما نحن - من غير ناشئة المدارس الإنجيلية - فقد كان تشيعنا لليابانيين لا يبلغ عندنا أن يشفع ل «فارس نمر» أو يقربه إلينا، كاتبا أو سياسيا، أو عالما كما اشتهر في أوائل عهده بالصحافة، ولكننا كنا نمحض يعقوب صروف من إعجابنا الأدبي كل ما كنا نأباه على زميله، وكان اعتزال صروف للدعاية السياسية يخرجه من ميدان الخصومة ويكسبه من كرامة العلم ولاء مشتركا نتفق عليه مع زملائنا الخريجين من المدارس الإنجيلية.
وقد أذكر إلى اليوم كيف لقيني رهط منهم بعد عودتي إلى قنا ومعي نسخة من كتاب «الكائنات» عليها كلمة بخط العالم الكبير.
ولقد كانوا يستمعون لي كأنهم يستمعون إلى حديث رؤيا غير قابلة للتصديق، وكانوا يسألون: كيف حييته؟ وكيف رد عليك التحية؟ وماذا قال لك حين أسلمك الكتاب؟ وهل فاتحك في بحث من بحوثه؟ وماذا قلت له عن المؤلف وعن موضوع التأليف؟ وقد كانت دهشتهم الكبرى أنني لم أجد في الرجل ما يثير الدهشة إن كانت الدهشة بمعنى الرهبة، بل كان الرجل في الحق مثلا للطيبة الأبوية والوداعة الحكيمة، فلم يختلف شعوري بلقائه الأول بعد أن لقيته مرات في مكتبه وفي داره وفي بعض المجالس الأدبية، ولم أره بعد ذلك على غير تلك الصورة التي شهدتها منه أول مرة! بساطة لا تخلو من تحفظ السمت والوقار، وعاطفة أبوية يشمل بها كل من عرفوه من ناشئة الكتاب والدارسين.
عتب علي أول الأمر أنني فاجأته بالدخول إلى مكتبه بغير استئذان، ولكنه عاد يستسمحني حين أكدت له أنني طرقت الباب طرقا خفيفا لعله لم يسمعه وهو مستغرق في القراءة، فقال مبتسما: «بل هو ثقل في السمع يعتريني من حين إلى حين، فلا تؤاخذني إذا عتبت عليك!»
ولكن الحدة التي فاتتني من صاحب الدار لم تفتني من عامل المخزن، حين خرجت بالكتاب لتسليمه ورقة الإذن ببيعه - وأظنه كان متمصرا طال مقامه بالقاهرة - لأنه نظر في عنوان «الكائنات» وقال مازحا: «جاك كائنة!» وهي دعوة لا يعرفها غير المصريين أو المتمصرين، وإنما قالها ليقول إنني أفلحت في تهدئة غضب الدكتور وأعفيته من الجزاء الذي كان مستحقا له لو لم أقنع الدكتور ببراءة موظفيه من التقصير؛ لأنني قصدت أن ألقاه ابتداء، ولم يكن دخولي إلى مكتبه لخطأ من أولئك الموظفين. •••
ولا يحضرني تفصيل الحديث الموجز الذي سمعته من الدكتور صروف في تلك المقابلة الأولى، ولكنه دار على الإجمال حول فلسفة «ما وراء الطبيعة»، وعلقت بذهني كلمة منه لغرابتها أو لغرابة صدورها من «الفيلسوف يعقوب صروف»، وتلك هي قوله إنه لا يتقبل تلك الفلسفة، أو لا يهضم تلك الفلسفة، أو عبارة دارجة بمعنى هاتين العبارتين، على حد القائلين في التعبيرات الأوروبية الشائعة: «إنني لا أبتلع هذه الفلسفة».
وفوجئت - ولا غرابة - بذلك التصريح من رجل لم يشتهر في عالم الثقافة العربية يومئذ بما هو أشهر من صفة الفيلسوف، ولم نعلم أن أحدا غيره وغير زميله «فارس نمر» حصل على لقب «الدكتور في الفلسفة» من جامعة غربية، وإنما كنت أفهم في بداءة عهدي بالاطلاع على فلسفة «ما وراء الطبيعة» أنها هي الفلسفة كلها، أو هي الفلسفة في أهم مسائلها وقضاياها، فإن لم تكن هذه كذلك، فهي - على الأقل - شيء لا يصعب هضمه على «الفيلسوف » - بألف التعريف!
إلا أن الدكتور عرفني بتلك الكلمة العابرة بحقيقة رسالته في نهضة الثقافة العربية بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فكان من الخطأ أن نفهم من تلقيبه بالدكتور في الفلسفة أنه فيلسوف كفلاسفة البحوث المنطقية النظرية، في قضايا الغيب المجهول ومشكلات «ماهية الوجود» على منهج أرسطو وابن سينا وابن رشد والغزالي ومحيي الدين، وإنما هو فيلسوف في نطاق العلوم التجريبية التي يقوم برهانها على الوقائع والمشاهدات، وإن تناولت مباحث التاريخ والأخلاق، ولا تقيم براهينها على الفروض والأقيسة من قبيل براهين الكائنات لإثبات الفضاء المحدود وغير المحدود.
وبعد أكثر من عشر سنوات، سمعت منه مثل هذا الرأي في فلسفة «ما وراء الطبيعة»، خلال حديث أذكر مناسبته ولا أذكر زمنه على التحديد، وقد كانت هذه المناسبة تعقيبا على مقال للآنسة «مي زيادة» حول فلسفة «برجسون» لم أقرها على كثير مما فيه، وكان الدكتور صروف يقرأ تعقيبي وهو يبتسم، ويقول بين آونة وأخرى: «يا رجل! أتتمرجل على بنت؟» فاستعدت منه المقال، وعلمت بعد ذلك أنه أطلع الآنسة على ملخص ذلك التعقيب!
وفي خلال المناقشة حول كلام الآنسة وتعقيبي عليه، علمت منه مرة أخرى أنه ينظر إلى الفلسفات التي على غرار فلسفة برجسون من ناحيتها العلمية التي تنطبق على قضايا الحياة الإنسانية، ولا تخوض وراء ذلك في أحاديث «الغيبيات» وفروض ما وراء الطبيعة، وأن فكرة التطور في كتابة برجسون تعنيه لأنها على اتصال بمذهب داروين، ولا أذكر أنني سمعت منه - يومئذ - كلاما يدل على التوسع في الاطلاع على مذهب الفيلسوف الفرنسي، ولا على مذاهب زملائه الأوروبيين في تلك الفترة.
وبعد سنوات أخرى قرأت خلاصة المناقشة التي دارت بين الدكتور صروف وبين الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في مجلس علي مبارك باشا، فأكدت لي أصالة هذه النظرة إلى الفلسفة في رأي الدكتور صروف منذ زمن بعيد، وخلاصة هذه المناقشة أنهم تحدثوا في المجلس عن كاتب وصفته الصحف بالفيلسوف، فقال الدكتور: «إن الناس قد ابتذلوا هذه الكلمة حتى صاروا يطلقونها على غير أهلها .» ثم تساءل الحاضرون: «من يكون الفيلسوف إذن على المعنى الصحيح؟» قال الدكتور في رواية السيد رشيد رضا: «هو الذي يتقن جميع العلوم.» فقال الشيخ محمد عبده: «إذن لا يوجد على الأرض فيلسوف.» فعاد الدكتور يقول ما معناه: «إنه لا بد أن يتقن علما من العلوم ويلم بسائرها.» فقال الشيخ محمد عبده: «إن الذين يتعلمون على الطريقة الحديثة يخرجون من المدارس العالية وقبلها الثانوية، على إلمام بالعلوم ويتقنون بعضها، فما أكثر الفلاسفة بين الأطباء والمهندسين وسائر الطلاب بهذا المعنى!» ولما سئل الشيخ محمد عبده: «من يكون الفيلسوف إذن؟» قال: «إن الفيلسوف - كما يفهمه - هو الذي له رأي في العقليات والاجتماعيات يمكنه الاستدلال عليه والمدافعة عنه.»
ولم أزل ألقى الدكتور صروف بين آونة وأخرى إلى ما قبل وفاته بقليل، فأعرف منه في كل مقابلة صورة واحدة لم تتغير منذ رأيته للمرة الأولى: صورة فيلسوف له عقل عالم مشغول بالواقع من الخبرة العملية، وله مع هذا العقل العلمي قلب إنسان ودود يحب الخير للناس ويغتبط بتوفيقهم للنجاح.
وأذكر اغتباطه بتوفيق الناشئين إلى النجاح؛ لأن كتابه المترجم عن صمويل سمايلز باسم «سر النجاح» كان أول كتاب قرأته له، وأخبرته بإعجابي به حين سألني عن مؤلفاته، ولم أزل كلما زرته أسمع منه سؤالا واحدا قبل كل سؤال: «ماذا صنعت لنفسك ولمستقبلك؟» فوقر في نفسي أن كتاب «سر النجاح» لم يكن مجرد كتاب ترجمه وأضاف إليه ودل به على طريقته العلمية في تحقيق السير والأخلاق، ولكنه كان قبل ذلك ترجمانا لسجية الخير والمودة فيه، وعنوانا لرغبته في الحياة الناجحة ورغبته في تعليم الناشئين جميعا كيف ينجحون ويسعدون بالحياة.
كان يقول لي مازحا: «إياك أن تكون من شعراء شكوى الزمان ومعاتبة الإخوان، وحذار أن تحسب البؤس زينة للأديب وقسمة مقدورة للأذكياء!»
وسألني مرة: «ألا تصدق قول القائل: إن الناس في طلب الدين حتى يصلوا إلى العلم، وفي طلب العلم حتى يصلوا إلى المال؟»
وقبل أن أجيب سؤاله، ولعله سأله وهو لا ينتظر جوابي عليه، قال: «إنك إن صدقته أو لم تصدقه تستطيع أن تكون على يقين من حقيقة حسابية لا خلاف عليها وهي: اجمع الدراهم والدنانير تجمع نفسها!» «ولا أعرف أحدا من كبار الأدباء الذين عرفتهم في أيام نشأتي قد عناه أمر عملي الذي أعول عليه في معيشتي غير اثنين: أحدهما الدكتور صروف، والآخر محمد المويلحي الذي رشحني للعمل بديوان الأوقاف.»
فلما علم الدكتور صروف أنني استقلت من العمل بالمدرسة الإعدادية، فكر مليا ثم قال: «إنني أعلم أن القيادة العسكرية تبحث عن مندوبين صحفيين وتفضل أن يكونوا من المسلمين؛ لأنها تنوي أن تندبهم من حين إلى حين للسفر إلى خطوط القتال وراء القناة وفي حدود سيناء، ولا تريد أن يكونوا متهمين في رواياتهم عن مناعة تلك الخطوط، إن كانوا على غير دين الترك المغيرين على البلاد.»
فلما تبين مني النفور من القيام بهذه المهمة الصحفية مع وفرة العائد منها، قال: «أرى أن شعورك غير مستريح إليها.» وقالها بالإنجليزية.
فأجبته: «نعم؛ فإن المسألة إن كانت من إحدى جهتيها غارة تركية على حدود مصر، فهي من الجهة الأخرى حرب بين الجيش التركي وجيش الاحتلال!»
قال: «فليكن لك رأيك وشعورك.» ثم سألني أن أعود إليه بعد يوم لأمر لا علاقة له بهذه البعثة، فإذا به قد اتصل بمدير مدرسة وادي النيل ليبلغه أنه يرشح لمدرسته معلمين يعرف كفايتهما الأدبية وصلاحهما للتدريس، ويسأله أن يزوره غدا ليلقاهما عنده إذا شاء.
أما اختياره لهذه المدرسة بذاتها، فقد كان سببه - كما علمنا بعد ذلك - أن له «أطيانا» بإقليم الفيوم، وأنه عرف عبد الله وهبي باشا لهذا السبب معرفة وثيقة يوم كان عبد الله باشا كبيرا للمهندسين المشرفين على الري في ذلك الإقليم، وقد ذكر لنا أن الباشا كان حسن العناية بأطيانه، ولم يذكر لنا أنه هو - أي الدكتور صروف - كانت له في تزكية الباشا عند كبار الرؤساء الإنجليز، ودفع الوشاية التي عرضته للمحاكمة، وانتهت باستقالته دون تقديمه إلى مجلس التأديب.
وقد كان من جراء ذلك أن عبد الله وهبي باشا لم يأمل خيرا في وظائف الحكومة لأبنائه، فأنشأ المدرسة الثانوية باسم «وادي النيل» لابنه الأكبر، واتجه أبناؤه الآخرون إسماعيل ويوسف وعباس للعمل «المستقل» في المحاماة وفن التمثيل وشركات الهندسة والمعمار.
وإنني لأذكر كلمة «الأطيان» هنا كما كان يرددها الدكتور في طيبة وديعة لا ننساها؛ لأننا كنا نحس منه ارتياحا لتكرارها وهو يقول: «ذهبت إلى أطياني»، و«شكرت لعبد الله باشا عنايته بأطياني»، و«فكرت في قضاء الصيف بأطياني»، وكنا نحس مع هذا التكرار بغبطة بريئة كغبطة الطفل بكسوته الجديدة في غير عتو ولا خيلاء، ونحس مرة أخرى أننا مع الفيلسوف العليم بحكمة الحياة وحب النجاح.
وتعددت الزيارات لدار المقتطف بعد اشتغالي بمدرسة وادي النيل؛ لأن الدارين كانتا متقاربتين يومئذ بحي باب اللوق، وكانت مكتبتي الخاصة لا تكفي للمراجعة في مباحث التاريخ والأدب التي كنت أتطلب مراجعتها بدار الكتب وفي غيرها، وقد رخص لي الدكتور في الانتفاع بمكتبة المقتطف ومجلداته القديمة كلما وجدت فيها منتفعا لبحوثي، التي كان يسميها بالبحوث «السبنسرية»؛ نسبة إلى هربرت سبنسر إمام مذهب الفلسفة والتقدم في الفلسفة الإنجليزية، إذ كان يقول كلما ناقشته في رأي مخالف لرأيه: «إنها حجة سبنسرية:
Spincerian argument
وإن طريقتي في الاستدلال تشبه طريقة سبنسر في تحقيقاته.» وما كنت لأعيد هذا «التقريظ الشفوي» اليوم في كتابتي عنه، لولا أنه سجله في المقتطف حين قرظ ديوان صديقنا المازني، فقال عن مقدمتي له: إنها اشتملت على تحقيقات تشبه طريقة سبنسر في الاستدلال. •••
وعلى تعدد الزيارات لم يكن ينسى كلما زرته أن يسألني عما أصنعه لنفسي ولمستقبلي، وعما أجده في المدرسة وفي شواغلي الأدبية، وكان يحثني كل مرة على إتمام دراستي لأبي العلاء المعري، التي نشرت منها مقالين في المقتطف، ثم اقتضبتها للعودة إليها مع زيادة الشرح والتحليل، فإذا انتقل الحديث إلى موضوعات المقتطف أو موضوعات الدكتور التي يفكر فيها، فقلما كان الحديث يستطرد بنا إلى غير اللغة ومسائل الاجتماع مما له علاقة بالدين والأخلاق، وقلما عرض للسياسة إلا أن تتفق الزيارة على أثر حادث من الحوادث البارزة التي لا يتخطاها المتحدثون في إبانها، وكذلك رأيته يوما وعلى وجهه مسحة الامتعاض الظاهر بعد أن تعاقب إلقاء القذائف على طائفة من الوزراء ورؤساء الدولة، فقال بشيء من المرارة: «إننا تقدمنا جدا وأفرطنا غاية الإفراط في التقدم، ولم لا؟ هذه مبادئ التطرف في الوطنية تنتهي إلى الطرف الأقصى من مبادئ الفوضويين!»
وزرته يوما وهو يقرأ كلاما في الصحف عن نهضة الإسلام وعودة السلطان إلى الأمم الإسلامية يستشهد فيه الكاتب بالآية القرآنية من سورة القصص:
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين .
فسألني بلهجته اللبنانية متبسطا: «وليش ما عمل؟»
قلت: «إن الخالق يريد، وعلى الخلق أن يعملوا بما أراد.»
فعاد يقول في جد ووقار: «نعم يعود الإسلام إذا عاد أهله إلى صدق العقيدة.» ثم يستطرد فيقول: «إن الأعرابي والمعزة لا يبقيان على شيء أخضر حيث ذهبا. ولكن غيرة الإسلام هي التي ابتعثت من الأعرابي صانعا للدول والسلطنات.» وأحسبه قال: «إن عالم الإسلام - محمد عبده - قد عرف طريق العودة ودل المسلمين عليه، وما من طريق لتلك العودة غير العلم والأخلاق.»
وربما جشمه البحث عن تحقيق كلمة لغوية أن يصعد السلم ليلتقط هذا الكتاب من هنا وذاك الكتاب من هناك، فلا يستريح أو يحقق الصواب في الكلمة قبل استعمالها فيما يكتب أو يترجم.
رأيته يوما على السلم يبحث عن كلمة «الشهية» هل وردت في الكلام الفصيح بمعنى القدرة على اشتهاء الطعام؟ وهل من الجائز أن يقال على بعض التوابل والأباريز إنها تفتح «الشهية»؟ فانتهى على أن كلمة المشهيات أصح ما يقال في هذا المعنى، وأن القابلية خير من «الشهية» للدلالة على المقصود من تهيئة الجسم لطلب الطعام.
ووجدته يوما يردد كلمات «نفق ونبق ونبك» بتفخيم الباء والكاف؛ لأنه كان يشك في أصل كلمة «النفاق» ويحسب أن اجتماع الفاء والقاف في هذا الوزن قليل في اللغة العربية، مطروق في اللغات السامية والتركية.
قلت له: «لقد اجتمعتا في كلمتي الفقر والفراق، وهما عربيتان بلا خلاف.» قال ضاحكا: «يا سوء ما اجتمعتا: فقر وفراق !»
وتطرقت الأحاديث كثيرا إلى مسائل الدين، ولم يكن يكتم رأيه أن الخلاف قائم بين بعض العقائد وبعض المشاهدات العلمية، ولكنني لم أسمعه قط يتكلم عن الدين في إجماله بغير الاحترام، ولم يكن له موقف من الديانات ورجالها غير موقف «سيد المجتمع» من العلمية المسئولة، وهو كما رأيت منه في شتى المناسبات شبيه بموقف الرجل المهذب أمام الشيخ المطاع، بما له من حق السن والخبرة في كل ما خالفته فيه.
وكذلك كان الفيلسوف الوديع في عادات تفكيره وسلوكه: إنسانا اجتماعيا يعطي العلم والعمل حقهما، ولا ينسى حقا من حقوق العرف والتقاليد.
جميل صدقي الزهاوي
1
من اللمحة الأولى تمثل لي كل ما في طوية هذه «الشخصية» القلقة من نقائض التفكير: حماسة تختلج لها كل أعصاب جسده ويتهدج معها صوته وتتلاحق فيها كلماته ونبراته، وفيم هذه الحماسة؟
في النداء بالعقل وحده، دون أن تخامره سورة من حماسة العاطفة والخيال.
ذلك هو الزهاوي في حديثه، وذلك هو «الزهاوي» في صفحات كتبه ودواوينه.
دعوة إلى برهان الواقع والمنطق، وصرخة من صرخات الشعور، كأنها فقدت كل برهان وكل وسيلة من وسائل الإقناع.
وكان لقائي الأول له في مجلس الآنسة «مي» بمسكنها الأول عند ضريح الشيخ «المغربي»، وهو من مزارات القاهرة في حي من أحيائها التي تسمى بالأفرنجية.
وقد ساقنا الحديث عن الضريح المعترض في غير مكانه إلى الحديث عن الخرافات التي تروى عن كرامات الأولياء، واستطرد به هذا الحديث إلى ذكرياته عن مجلس الأعيان بالعاصمة التركية يوم كان عضوا من أعضائه العرب في عهد السلطان «عبد الحميد».
قال: «إن قطعة من قطع الأسطول العثماني احترقت، فقام أحد زملائه في المجلس يقترح على الوزارة أن تشتري من كتاب البخاري نسخا بعدد قطع الأسطول، تودعها فيها، أمانا من الحريق وضمانا للسلامة.»
فوثب «الزهاوي» ليرد على الزميل، وليقول له: «إن السفن الحربية لا تسير في هذا الزمن بالبخاري، وإنما تسير بالبخار!»
وقد وثب «الزهاوي» وهو يعيد هذه القصة ما استطاع الوثوب.
وداعبته قائلا: «وهل سلمت من عاقبة هذا التجديف ؟»
قال في غير تمهل: «إن لم أسلم فإنني لم أندم!»
وأعجبت الآنسة «مي» بحديثه، فأولعت به تستثيره لمناقشتي في مسألتين لم يكن بيننا قط وفاق على واحدة منهما: مسألة الألم، ومسألة المرأة.
فقد كانت تدين بأن الألم طبيعة الحياة، وكنت أعود بقضية الألم إلى قضية المرأة كلما سمعتها تردد هذه العقيدة، فما هي إلا طبيعة الشكوى التي تحلو لبنات حواء، وطبيعة الحنان الذي يسرها أن تعطيه كما يسرها أن تتلقاه.
أما الخلاف على قضية المرأة، فقد كنت فيها مع السيدة والدة الآنسة طرفا واحدا تنفرد أمامه الآنسة وحدها كلما اختلفنا على كفاية المرأة للنيابة وللانتخاب، في إبان معركة الدستور.
وأذكر أنني استحلفتها يوما إذا تنافس أمامها مرشح يمشي على قدميه إلى صندوق الانتخاب ومرشح آخر يصل إليه في سيارته «الرولز رويس»، فمن منهما يظفر بصوتها؟
فأسرعت والدتها تجيب عنها: «أنا أقول لك ولا حاجة بك إلى كلامها: صاحب السيارة ولا خلاف!»
فلما حمل الراية في هذا الخلاف رجل «من جنسي» كانت شماتتها أكبر من شماتة الغلبة في الرأي، وطفقت تستعيده إلى قضية المرأة تارة وإلى قضية الألم تارة أخرى كلما أوشكنا أن نفرغ منهما، فلما أردت أن أحسم هذا «النزاع» المدبر أخيرا وقلت للأستاذ: «إنني قد أرى معك أن الآلام أكثر من الأفراح في الحياة.» صفقت بيديها، وضحك «الزهاوي»، ولم أمهله حتى حسبت عليه هذا الضحك حجة تفند دعواه، فسألته: «ألعلك لا تنتصر كثيرا مثل هذا الانتصار؟»
ولسنا بصدد الإفاضة في هذه المسألة لبيان ما أعتقد في نصيب الحياة من اللذة والألم، ولكنني أوجز ما عنيت بكثرة الألم مع إنكار طبيعة الألم في الحياة؛ عنيت أن الحوائل دون الفرح قد تتكاثر وتتكرر، ولكنها لا تمنع أن طبيعة الحياة بغير حائل هي الفرح والرجاء. •••
ورأيت بقية النقائض في هذه «الشخصية» - التي لا تعرف التوافق بينها وبين نفسها - يوم زرته بمسكنه في حجرته المفروشة إلى جوار صحيفة الأهرام، فقد كان نصير السفور الأكبر يخاطب زوجته من وراء ستار كثيف يحجبها عن النظر ، ويكاد يحجب صوتها الخفيض لو لم نجتهد في الإصغاء إليه!
ولم أكد أفرغ من التحدث إليه في جملة عقائده حتى تحققت أنها وثبات كوثبات اللاعب الرياضي في ساعة واحدة: صعود وهبوط ثم هبوط وصعود، ثم عود إلى الصعود وعود إلى الهبوط، كأنما كان كل وقت من أوقاته نموذجا مختصرا لأدوار التطور في العمر كله، لولا أنها أدوار لا تتسلسل على اطراد.
وعلمت بسفره في اللحظة الأخيرة، فأسرعت إلى محطة العاصمة أودعه، وتمنيت أن أراه مرة أخرى في القاهرة فقال: «ذلك ما أرجوه، وأحب إلي أن أراك في بغداد.»
ثم تمت النقائض جميعا بعد سفره ببضعة أشهر، إذ سألني أحد قرائه في «تونس» عن رأيي في أدبه، فأبديت ذلك الرأي كما اعتقدته، وقلت إنه في بحوثه الفكرية أرجح منه في معانيه الشعرية.
وكان من الحق أن يغتبط نصير العقل على العاطفة بهذا الثناء الذي لا غنى فيه، من وجهة نظره، لو استقام على السواء في إيمانه بالعقل دون الشعور والخيال، ولكنه غضب مما كان خليقا أن يرضيه، وجاءني البريد من بغداد بخطاب عليه توقيع مستعار، يقول كاتبه: إن مجلة «لغة العرب» للأب «الكرملي» تنوي أن تتناول ديوانك بالنقد اللاذع في لفظه ومعناه، وإن «الزهاوي» صديق للكرملي في وسعه أن يثنيه عما ينتويه!
إن في هذه المناورة «البريئة» دلالة على طيبة في غضب الرجل أظرف وأطرف من طيبته في رضاه، وإنها - ولا ريب - لن تصدر من قلب يضمر الكيد، أو يكون له من الكيد حظ أوفر من حظ الطفل البريء!
2
اطلعت في مجلة المكتبة البغدادية على مقال للسيد «أكرم زعيتر» عن ذكرياته لشاعر العراق الزهاوي، قال فيه من حديث جرى بينه وبين الشاعر في آخر لقاء له قبل سفره من «بغداد»: قال - أي الزهاوي: «هل اطلعت على «الأوشال»؟ قد كنت أظن، وقد رق عظمي، أن زمني لن يمتد بي كثيرا، فسميت مجموعة قصائدي الأخيرة «الأوشال»، ثم نظمت بعد ذلك قصائد أخرى، أعتقد أنها آخر ما أنظم في حياتي التي أراني مغادرها قريبا ، وقد جمعتها في ديوان سميته الثمالة ليكون آخر ما يطبع لي.»
قلت: «وهل للأستاذ شعر لم يطبع غير الثمالة؟» قال: «أجل، إنه ديوان لا ينشر في القرن العشرين.»
وكنت قد علمت من «الزهاوي» نفسه أن له شعرا كثيرا لا ينشره، وأنه سيوصي بنشره بعد وفاته، وفارق «القاهرة» وهو يكرر لي حديثه عن الشعر المطوي الذي يعتقد أنه إذا نشر في يوم من الأيام فلن يتسع لنشره بلد غير القاهرة بين البلدان الشرقية.
وقد سمعت أخيرا أن كتابا ظهر في القاهرة باسم «الزهاوي وديوانه المفقود» فاعتقدت لأول وهلة أنه هو مجموعة الشعر الذي تحدث عنها «الزهاوي» إلى الأستاذ «أكرم زعيتر» ببغداد وأومأ بنبئها إلي في «القاهرة»، واطلعت على الكتاب لمؤلفه الأديب «هلال ناجي» فصدق ظني في موضوعه، وإن كان المؤلف الأديب قد توسع في أبوابه فتناول فيه مباحث شتى عن «الزهاوي» وما كتبه وما كتب عنه، غير ديوان «النزغات» وهو اسم الديوان المفقود.
وحرص المؤلف على تحقيق نسبة «النزغات» إلى «الزهاوي»، فاستقصى الشواهد والقرائن التي تدل على صحة هذه النسبة، وكلها مقنعة، بل قاطعة في إثبات نظم الشاعر لجملة القصائد والمقطوعات التي احتواها ديوان «النزغات»، كما تركه «الزهاوي» عند تسليمه إلى الأستاذ «سلامة موسى»، وعند انتقاله منه إلى الدكتور «زكي أبو شادي» بغير زيادة فيه، وهو مرقوم على الآلة الكاتبة غير مصحوب بالأصل المخطوط.
على أننا نستطيع أن نصحح نسبة النظم في هذا الديوان إلى «الزهاوي» من الدليل «الداخلي» في أسلوب الشاعر «النظمي» كما يقول النقاد، وأظهر ما في هذا الدليل «الداخلي» أن أبيات القصائد والمقطوعات تشتمل على كثير من ذلك الشد والفتل، الذي يطوع به الشاعر كلماته لأوزان العروض.
فالشاعر الذي يقول:
عاش في الغاب القرد دهرا طويلا
قبل أن يلقى للرقي سبيلا
هو الشاعر الذي يقول في ديوان النزغات:
هذه الدنيا دار كل جزاء
وهو الذي يقول فيه:
عسى الذي عاف أرضه أن
يضمه عالم جديد
وغير ذلك كثير من «الأسلوب النظمي» في سائر منظومات الديوان.
أما الأسلوب «الفكري » فهو كذلك مطابق لأسلوب الزهاوي في كل ما نظم من الشعر منذ عالج نظمه في أوائل حياته، ومما لا شك فيه أن أفكار الديوان المفقود ليست غورا جديدا في تكوين آراء الشاعر مع الزمن، كما قد يتوهم القارئ من قول الزهاوي إنه آخر ما نظم، وأنه يحتوي أفكارا لم ينشرها قبل ذلك في حياته؛ إذ المحقق من معارضة دلائل الشك والتردد ودلائل الإيمان واليقين، أن هذه الدلائل جميعا قد وجدت في مؤلفاته الباكرة، كما وجدت في مؤلفاته الأخيرة، على درجة واحدة من القوة والوضوح.
وأغلب الظن أن العالم الديني المفكر «محمد فريد وجدي» قد أصاب الحقيقة حين قال في مجلة الأزهر مما نقله الأديب «هلال ناجي» في الصفحة ال «300» من كتابه، فإنه لاحظ أن «الزهاوي»: «يكتب الشيء ثم ينقضه بقول آخر كما فعل في كتابه الكائنات؛ فقد جرى فيه على أسلوب الماديين، ثم ختمه بكلمة تحت عنوان «ابتهال» حقر فيها كل الآراء التي قررها في الكتاب، وذكر أنه إنما جرى فيها على أسلوب الماديين لبيان مذهبهم، أما هو فيبرأ إلى الله منهم ومن آرائهم، ويرجو من يقرأ الكتاب ألا يعتد بما قرره فيه.»
ثم عقب الأستاذ وجدي على هذا الأسلوب قائلا: «إنه أسلوب في الكتابة، كل ما يمكن أن يعتذر عنه أنه يلجأ إليه هربا مما قرره.»
وكل ما نزيده على تعقيب الأستاذ «وجدي» أن «الزهاوي» قد يبادر في مفتتح كتابه إلى تحقير آراء المتهجمين على الحقائق الكبرى، كحقائق عالم الغيب وما يسميه الباحثون بحقائق ما وراء المادة، فإنه افتتح كتابه «الكائنات» الذي ألفه في مقتبل صباه بهذين البيتين:
وما الأرض بين الكائنات التي ترى
بعينيك إلا ذرة صغرت حجما
وأنت على الأرض الحقيرة ذرة
تحاول جهلا أن تحيط بها علما
وهذا غاية ما يقوله المفكر المتواضع أمام عظمة الكون؛ لكبح الغلاة من الباحثين في حقائقه عن الشطط الأهوج والغرور الكاذب، بقدرة العقل البشري على إدراك هذه الأسرار المطبقة حول حقائق الوجود.
والذي نلاحظه في مواقف «الزهاوي» العقلية بين الشك واليقين سهولة شكوكه وسهولة ردوده عليها في وقت واحد.
فكل شكوك «الزهاوي» بلا استثناء مما يقبل الرد والاستخفاف من النظرة الأولى؛ لأنها مبنية على تصور العامة الجهلاء للخرافات والأساطير التي يلصقونها بالدين وهو بريء منها بعيد عنها، وليس من هذه الشكوك شك واحد يقوم على فهم الدين كما ينبغي أن يفهمه المؤمنون به على صحته، وقد كان خطأ «الزهاوي» الأكبر أنه يتلقى حجة العقائد من الأوهام الشائعة بين المقلدين دون الثقات المجتهدين، وإنما تقوم قضية الدين على الضمير الإنساني الذي يناط به التمييز بين كل دعوة تشيع في العالم، ولم تقم حجة الدين قط على ما يفهمه المقلدون أو يفهمه المغرورون من الأدعياء، وإنما تقوم حجته على البصيرة الصادقة والوحي الأمين.
لا جرم كان تقريره لقواعد الإيمان بعد ذلك سهلا غنيا عن جهد التردد والبحث في أمثال تلك الشكوك، ومن حق من يبتلى بأمثال تلك الشكوك أن يثوب يقينه إلى يقين «الزهاوي» الذي عبر عنه بهذه الأبيات في موقف الحساب:
قال ما دينك الذي كنت في الدن
يا عليه وأنت شيخ كبير؟
قلت كان الإسلام ديني فيها
وهو دين بالاحترام جدير
قال من ذا الذي عبدت فقلت
الله ربي وهو السميع البصير
وقبل ذلك يقول في كلمة منثورة: «لم آت في حياتي أمرا إدا ولا ارتكبت منكرا، أنظم الشعر وأودعه عصارة شعوري وتفكيري، وأجعله منبرا أدافع منه عما يتراءى لي أنه الحق، غير حاسب لمخالفة الناس إياي حسابا، وهذا ما كان يثيرهم علي ويجعلهم يعملون على معاكستي، حتى هموا مرة أن يقتلوني، مع أني معتقد بالوحي مؤمن بالأنبياء وبالمرسلين وملائكة الله وكتبه، وقمت بشعائر الدين كلها؛ فصمت وصليت وزكيت وجاهدت وحججت إلى بيت الله وزرت قبر رسوله الكريم
صلى الله عليه وسلم .»
وهو الذي ردد هذه الشهادة في مواطن كثيرة من شعره، كما قال في هذا المعنى غير مرة:
أنا ما كفرت بكل عم
ري بالكتاب المنزل
أنا لم أزل أشدو بنع
ت للنبي المرسل
وإنه بمثل هذا اليقين لخليق أن يكذب كل هاتيك الشكوك التي تثيرها أوهام الجهلاء وخرافات أصحاب الخرافات من المقلدين.
وجملة القول في الديوان المفقود وفي الدواوين المنشورة أنها طور واحد من الفكر لم يتغير في مدى خمسين سنة، ويوشك أن ينقل كل بيت في ديوان من هذه الدواوين المتتابعة إلى ديوان آخر صدر قبله أو بعده، بغير اختلاف في المعنى أو في النسق أو في الأسلوب، إلا ما تقتضيه المرانة الطويلة من تيسير النظم في نهاية الشوط بعد تعسر فيه عند الابتداء.
والسرعة في التفكير، مع السرعة إلى العدول عن الفكرة في وقت واحد، هما آفة العجلة في مواجهة «الزهاوي» لمسائل العلم والأدب أو مسائل الاجتماع والأخلاق، فليس أسرع منه إلى اختطاف الرأي الشائع أو اختطاف الرد عليه، ونحسب أن بنية الرجل «مسئولة» كما يقولون عن هذا الولع بالسرعة والقلق من الاستقرار؛ فإن مصابه بالداء الذي أقعده عن الحركة قد بدأ معه اضطرابا مقلقا، قبل أن يثقل على أعصابه ويثقله عن حركته، وما أكثر ما نظم في «الصراط» وصعوبة العبور عليه من شعره الأول ومن شعره الأخير.
ولا ريب عندنا، ولا عند قراء «الزهاوي» شعرا ونثرا، في قدرته الفكرية ولا في ملكته الرياضية، ولكنك تراجعه من بواكيره إلى خواتيمه، فيبدو عليه أنه يثب إلى الآراء وثبة بعد وثبة، ولا يتطور معها على أمد مديد يتصل فيه الانتقال من مكان إلى مكان، فهو في وثباته المتلاحقة على مكان واحد يصعد منه وينزل إليه، ويثبت عليه صاعدا ونازلا ومترددا ومستقرا، وهكذا كان في آخر ديوان كما كان في أول ديوان، وللقارئ بعده أن يبقيه حيث شاء، بما هو أهل للبقاء.
3
جاءني الخطاب الآتي من أحد القراء ب «تونس»، قال كاتبه الأديب بعد ديباجة التعارف:
أما الآن فبقيامكم ضد الثرثارين، وتقويضكم لبناء ما كانوا يحسبونه آثارا أدبية، وإماطتكم عن كل من كنا نعدهم من الشعراء الفحول والكتاب المبرزين، قد أسفرت النتيجة عن تجدد حقيقي في اللغة والأدب؛ إذ أدركوا ما ترمون إليه في انتقاداتكم، فهبوا يتبارون فيه جاهدين قرائحهم وصارفين مهجهم نحو «الحياة»، نحو «الجمال»، نحو «المثل العليا»؛ تلكم الكلمات الحية التي ما وجهت طرفي نحو أي سطر من فصولكم ومطالعاتكم ومراجعاتكم، ونحو أية صفحة مما تكتبون؛ إلا عثرت عليها، ولصرف مهجتكم إلى هذه المطالب ونقدكم الصحيح الخالص من الأغراض، وسعيكم وراء الحقيقة - رضي القوم أم غضبوا - أتيت أعرض عليكم كلمة في رفيق صباي ومربي روحي، راجيا منكم التفضل بإبداء رأيكم فيه، ولكم الشكر الجزيل سلفا؛ لأن كل هاتيكم الخلال جعلتني كما جعلت غيري يعتبرون قولكم الفصل فيمن تكتبون له أو عليه.
ذلكم الرفيق يا سيدي هو فخر العراق، كما تقولون، جميل صدقي الزهاوي، فقد عرفته منذ دخلت المدرسة وولعت بديوانه، حتى إنني كدت أن أحفظه نثرا ونظما، فمن نزعته في الشعر إلى قوله في القبر:
ولست بمسئول إذا ما سكنته
أكنت عبدت الله قبلا أم اللاتا
إلى قوله في مهاجميه:
يا قوم مهلا مسلم أنا مثلكم
الله ثم الله في تكفيري
وعندما أسأم استمرار قراءاتي فيه، أعمد بعد تحضير واجباتي المدرسية إلى مطالعة أحد الدواوين، فأرى نفسي كأنني انتقلت من روضة حافلة بأزهار من كل صنف، زاهية بالماء الزلال الجاري، والهزار على أشجارها يشدو بنغماته العذبة الشجية إلى أرض قاحلة، لا ماء فيها ولا شجر ولا هزار، فلا ألبث أن أعود إلى ديواني الأول، وشغفي به يزداد كلما رأيته سابقا وغيره لاحقا، وهكذا.
وما أقوله لكم في ديوانه، أقوله لكم في مباحثه التي تنشر في الهلال، حتى إنني إذا لم أجد فيه فصلا من فصول الزهاوي انقبضت نفسي لذلكم كثيرا، وإذا رأيت فيه مبحثا له قدمته على سائر الموضوعات، فقرأته وأعدته المرار العديدة حتى تعلق بذهني جمل منه، ومن الجمل أفكار، ومن الأفكار مناقشة، تنتهي بي إلى قضاء جزء كبير من أوقاتي معه. وحمادى القول أن السيد «جميل» لهو أحق بالنقد من سواه، وبمن يظهر آثاره الأدبية والفلسفية. وهذا لا يتصدى للبحث فيه إلا أمثالكم الذين يقدرون الأدب حق قدره؛ إذ من العار أن نبقى كما قال فيلسوف العراق لا نعرف قيمة للأديب في قطرنا إلا بعد مماته:
من بعد ما في قبره
أوصاله تتبعثر
ماذا من التكريم ير
جو ميت لا يشعر؟
هذا وإنني أعتذر إلى سيدي الأستاذ من تجرئي على مكاتبته؛ إذ لست ممن يراسلون أمثاله، ولولا إعجابي بجميل صدقي الزهاوي وحبي لناقد خبير ينشر للقراء آراءه، ويبين لهم فجها من ناضجها، ما تسرعت في المراسلة أترجى ما يقال في فخر العراق وعنه.
جاءني هذا الخطاب من شهر مضى، وفيه غير ما نشرت هنا كلام مسهب في مثل هذا المعنى ولواحقه، فتوسمت من لهجته وخلوص إعجابه أدبا جما ونفسا مستشرفة إلى الحقيقة، وهممت أن أجيبه إلى رغبته، ولكنني ترددت لأنني أعلم أنني أستطيع أن أتبسط في شرح كل رأي أراه في الأدب والشعر، دون أن أعرض للأستاذ «الزهاوي» نقدا أو تحبيذا أو خلافا أو وفاقا، ولأنني أوقر هذا الباحث الفاضل وأعرف استقلال فكره واستقامة منطقه وجرأته في جهاده وغبنه بين قومه، فلا أحب أن أقول فيه - لغير ضرورة من ضرورات البحث - مقالا لا يوائم ذلك التوقير ولا يناسب ما له عندي من القدر والرعاية. ثم عن لي أن في الكلام عليه مجالا لكلمة أخرى تقال عن التفريق بين الملكة العلمية والملكة الشعرية، وبين بديهة الفيلسوف وبديهة العالم، لا ضير منها على أحد عامة، ولا على الأستاذ «الزهاوي» ومن يعجبون به خاصة؛ إذ هو ممن يقال فيهم قول حق لا يغضب الطبيعة القوية والنفس المروضة والضمير الواثق من قصده وعمله، فكتبت هذا الفصل الموجز آملا أن أجيء فيه بحقيقة تسوغ المساس برجل لا أحب أن أمسه بغير ما يرضيه.
أول كتاب قرأت لل «زهاوي» كان كتاب «الكائنات» أو «رسالة الكائنات»؛ لأنه عجالة مختصره من القطع الصغير، وكان ذلك قبل عدة سنوات، وأنا يومئذ كثير الاشتغال بما وراء الطبيعة وحقائق الموت والحياة ومباحث الدين والفلسفة، فراقني من الرسالة سداد النظر وقرب المأخذ ووضوح التفكير والجرأة على العقائد الموروثة، مع ما في ختام الرسالة من اعتذار لا يخفى ما وراءه، ولا يغير رأي القارئ فيما تقدمه، وكنت كلما عاودتها تبينت فيها منطقا صحيحا يذكر القارئ بإشارات «ابن سينا» ونجاته، ويزيد عليهما بالجلاء والترتيب، ثم قرأت لل «زهاوي» شعرا ونثرا وآراء في العلم والاجتماع تدل على اطلاع واستقلال ونزعة إلى الثقة والابتكار، وكان آخر ما قرأت له رسالة «المجمل مما أرى»، ثم شعر ينشره في الصحف المصرية من حين إلى حين.
هل «الزهاوي» شاعر، أو عالم، أو فيلسوف؟ إن آثاره في الشعر والنثر تدعوك إلى هذا السؤال، فمباحثه مما يتناوله الفيلسوف والعالم، ونظمه يسلكه بين طلاب المقاصد الشعرية، وقد يختلف جواب الناس على السؤال الذي سألناه، فيعده بعضهم من الفلاسفة وبعضهم من الشعراء، ويميل به بعضهم إلى فريق العلماء، أما أنا فرأيي فيه أنه صاحب ملكة علمية تطرق الفلسفة، وتنظم الشعر بأداة العلم ووسائل العلماء.
الشاعر صاحب خيال وعاطفة، والفيلسوف صاحب بديهة وبصيرة وحساب مع المجهول، والعالم صاحب منطق وتحليل وحساب مع هذه الأشياء التي يحسبها ويدركها، أو يمكن أن تحس وتدرك بالعيان وما يشبه العيان، فإذا قرأت مباحث «الزهاوي» برزت لك ملكته المنطقية لا حجاب عليها، ولمست في آرائه مواطن التحليل والتعليل، ولكنك تضل فيها الخيال كثيرا والعاطفة أحيانا، وتلتفت إلى البديهة فإذا هي محدودة في أعماقها وأعاليها بسدود من الحس والمنطق لا تخلى لها مطالع الأفق ولا مسارب الأغوار، فهو يريد أن يعيش أبدا في دنيا تضيئها الشمس وتغشيها سحب النهار، ولا تنطبق فيها الأجفان ولا تتناجى فيها الأحلام، وليست دنيا الحقيقة كلها نهارا أو شمسا، ولكنها كذلك ليل وغياهب لا تجدي فيها الكهرباء! وقد خلق الخيال والبداهة للإنسان قبل أن يخلق العقل، ثم جاء العقل ليتممهما ويأخذ منهما لا ليلغيهما ويصم دونهما أذنيه. فأما «الزهاوي» فهو يحاول أن يلغي الخيال والبداهة، ويظن أن الإنسان لا يتصل بالكون إلا بعقله، ولا يهتدي إلى الطريق المفطور إلا بعقله، وليس هذا بصحيح في حكم العقل نفسه، إذا أنصف العقل ووفى لمنشئه الأول وقصارى مطمحه الأخير.
إن كل منطق لا يكون صحيحا إلا إذا دخل في حسابه أمران محيطان بنا متغلغلان فينا لا مهرب منهما ولا روغان؛ نعني بهذين الأمرين «المجهول» أولا و«العاطفة» ثانيا، فهما راصدان لكل قضية منطقية يهدمانها هدما، ما لم يكن لهما في زواياها مكان مقدور، فالعالم لا شأن له بالمجهول، وليس له شأن كبير بالعاطفة كما يحسها الشعراء، وهو، إذا أراد، حصر نفسه في معمله وخرج منه بنتيجة عملية لا غبار عليها من ناحية النقد والاستقراء. ولكن الفيلسوف إذا خرج إلى دنيا لا مجهول فيها ولا عاطفة توحي إليها، إنما يخرج إلى دنيا غير دنيانا هذه، وإنما يأتي لنا بفلسفة خليقة بعالم آخر غير عالمنا الذي يحيط به مجهوله وتعمل فيه عواطفه، وقد يصيب بمنطقه هذا في حقائق الأرقام والإحصاءات، ولكنه لا يصيب به في معاني الشعور وأسرار الحياة؛ إذ كيف يحسب حسابا لهذه المعاني والأسرار وهو لا يحسها ولا ينقاد لدوافعها؟ وكيف يصيب في المباحث النفسية وهو لا يحسب حسابا لتلك المعاني والأسرار؟
من منا يكون محبا معقولا مطابقا للمنطق إذا هو نظر إلى حبيبه بالعين التي يراه بها جميع الناس؟ إن نظرك إليه قد يكون معقولا مطابقا للمنطق إذا نظرت إليه بتلك العين التي يراه بها من لا يحبونه ولا يؤثرونه على سواه، ولكنك أنت نفسك - أنت الناظر - لا تكون «محبا منطقيا» موافقا للمعقول والمعلوم من شئون المحبين حين تتساوى أنت وسائر الناس في الإعجاب بحبيبتك؛ لأن المحب المعقول هو الذي يرى حبيبته بعين لا يراها بها الآخرون، وكذلك الحياة قد تكون أنت منطقيا إذا عرفتها بالعقل وحده كما يعرفها غير الأحياء لو كان غير الأحياء يعرفون الحياة، ولكنك لا تكون «حيا منطقيا» إذا أنت لم تعرفها كما يعرفها كل حي مخدوع بها غارق في غمرة عواطفها وأشجانها، فكن لنا «حيا منطقيا» أو أنت إذن إنسان لا يعنينا رأيه في الحياة؛ لأنه ليس منها بمكان قريب أو على اتصال وثيق.
و«الزهاوي» تخونه الحقيقة حيث يسعى إليها على جناح من العقل، لا يعضده جناح من الشعور، فلم أغتبط بتعرض الشعور لتفكيره مثلما اغتبطت به وهو يحاول - بالمنطق - أن يثبت الرجعة إلى هذه الأرض بعد الممات، أو إلى عالم آخر ينتقل إليه الإنسان، فهو يقول في «المجمل مما أرى» إن «مظاهر الحياة من مظاهر المادة التي ليست في أصلها إلا قوة. وإن هذا الفضاء الذي صرحت بأنه لا يتناهى، يحتوي على عدد غير متناه من العوامل النجمية، وإن في كثير من هذه العوالم نظاما مثل نظامنا الشمسي، وإن في ذلك النظام أرضا مثل أرضنا، وفي بعضها أرض تشبه أرضنا إلى زمن محدود ثم تختلف عنها، وإن في كل أرض مشابهة لأرضنا إنسانا مثلي وآخر مثلك وآخرين مثل غيرنا من الناس، قد ولدوا من آبائهم كما في أرضنا، وقد جرى لآبائهم فيها ما جرى لهم في هذه تماما». «وبعض هذه الأرضين اليوم مثل أرضنا في حالتها الحاضرة، وبعضها أخذت تهدم، وبعضها من بداءة تألفها، فإذا مات الإنسان في أرضنا، فهو يولد في غيرها من نفس آبائه الذين ولد في أرضه هذه منهم، وإذ إن هذين الأرضين لا تتناهى فكل فرد من الناس غير متناهي العدد، غير أنه في كل أرض واحد يجهل أن له أمثالا في هذا الكون اللامتناهي، وإن الذي يشقى في هذه قد يسعد في التي تشبهها إلى زمن محدود ثم نخالفها، فإن عدد هذه المخالفات أيضا غير متناه، والذي يسعد في هذه قد يشقى في تلك، فالطبيعة عادلة قد قسمت السعادة والشقاء على السواء، فإن زيدا إذا كان هنا شقيا فهو في أخرى سعيد، وإذا كان سعيدا فهو في تلك شقي، وأرضنا هذه بعد أن تصير إلى الأثير تتولد ثانية بعد ربوات الملايين من السنين، فيجري عليها تطوراتها طبق ما جرت في دورها هذا، ويتولد آباؤنا كما تولدوا، ونتولد منهم كما تولدنا، ونموت كما في هذه المرة وقد تكررنا من الأزل وسوف نتكرر إلى الأبد.» «ورب قائل: ما الفائدة من هذا التكرار وهو لا يتذكر ما مر به في أدواره الأولى؟ فأجيب : إن فائدة التذكر هي العلم، فإذا حصل إلينا العلم بطريقة أخرى فهو مثل العلم بالذكر، وكفى به نفعا أنه يطامن الإنسان أن موته مؤقت ليس أبديا. وهذه النظرية مبنية على أسس ثلاثة: الأول أن العالم بما فيه من الأجرام غير متناه. والثاني أن لا شيء يذهب إلى العدم، بل ينحل تركيبه وينحل إلى الأثير بعد تطورات متعددة، وهذا الأثير يتركب من جديد فيكون مادة بعد تطورات متعددة، ثم ينحل ثم يتركب إلى ما لا يتناهى. والثالث أن جواهر كل جرم من الأجرام متناهية العدد مهما كثر هذا العدد، وأقدارها كذلك متناهية، ولا يمكن أن يوجد جرم واحد غير متناهي السعة. والأرض هذه تتألف في أزمنة غير متناهية على أشكال لأن جواهرها متناهية، وشكلها الحاضر أحد تلك الأشكال غير المتناهية التي تتألف عليها وتدور من أحدها إلى الآخر، فهو كغيره من الأشكال يتكرر إلى ما لا نهاية له والإنسان جزء متمم لشكلها الحاضر، فهو أيضا يعود بشكله وعقله وإلا لم يكن الدور تاما، والعالم أجمع تابع لهذا الناموس الدوري الأعظم.»
هذه هي نظرية الدور كما أجملها الأستاذ «الزهاوي» في رسالته «المجمل مما أرى»، فالمنطق هنا يتكلم، ولكن حب الحياة هو الذي يحركه إلى الكلام! على أنه بعد منطق لم يمتزج بالحياة في الصميم؛ لأنه يتعزى بالعلم، والحياة لا يعزيها أن تعلم بأنها خالدة، وإنما يعزيها أن تشعر بالخلود، وهو بعد هذا وذاك منطق خاطئ؛ لأنه يستلزم الدور، ولا شيء يدعو إلى استلزامه، فما دامت الجواهر لا تتناهى، والحركات لا تتناهى، والفضاء لا يتناهى، فالنتيجة أن تكوين الأجرام بأشكالها لا يتناهى، ولا حاجة إلى تكرارها وعودتها هي بعينها مرة بعد مرة إلى غير نهاية، ويجب الآن أن نضرب صفحا عن لانهاية الزمان التي تخدعنا باحتمال هذا التكرار، فيما يلي أو فيما سبق قبل الآن. يجب أن نضرب صفحا عن لانهاية الزمان؛ لأن لانهاية الفضاء موجودة في هذه اللحظة، فأي شيء فيها يستلزم أن الأرض مكررة في مكان غير مكانها الذي هي فيه ؟ لا شيء! وإذا لم يكن إنسان مكررا على هذه الأرض بعينها، فلماذا نفرض أن كل إنسان مكرر في أرض تشبهها تمام الشبه في هذا الفضاء السحيق؟ •••
ثم إلى أين ننتهي من كل ذاك؟ ننتهي إلى أن الأستاذ «الزهاوي» صاحب ملكة علمية رياضية من طراز رفيع، وأنه يصيب في تفكيره ما طرق من المسائل التي يجتزأ فيها بالاستقراء والتحليل، ولا تفتقر إلى البديهة والشعور، فمن ينشده فلينشد عالما ينظم أو يجنح إلى الفلسفة، فهو قمين بإصغاء إليه وإقبال عليه في هذا المجال، وإن خير مكان له هو بين رجال العلوم ورادة القضايا المنطقية، فهو لا يبلغ بين الفلاسفة والشعراء مثل ذلك المكان.
4
قرأت في زميلتنا «السياسة الأسبوعية» ردا للأستاذ «الزهاوي» على مقال كتبته عنه مجيبا به الأديب التونسي الذي سألني إبداء رأيي فيه، وكان فحوى ذلك المقال أن نصيب الأستاذ «الزهاوي» من الملكة العلمية أكبر وأصلح من نصيبه من الملكة الفلسفية والملكة الشعرية، ولم يرض الأستاذ عن هذا الرأي فكتب رده في السياسة الأسبوعية يناقشه ويناقض الأسباب التي بنيته عليها، فهو يحب أن يقول إنه فيلسوف وإنه شاعر لا يقل حظه من الفلسفة ومن الشعر عن حظه من الملكة العلمية. وليس يضيرني أنا أن يزيد عدد الفلاسفة والشعراء في الأرض واحدا أو أكثر؛ فإنني لم أتكفل بهم ولا تحسب علي أخطاؤهم أو يختلس مني صوابهم. ولست ممن يحبون الجدل في غير حقيقة تجلى أو رأي يستوضح؛ فإن الجدل الذي يطول فيه الأخذ والرد لغير شيء من هذا هو لغو كلام وفضول بطالة، فإذا رجعت اليوم إلى الموضوع، فليست رجعتي إليه لحرص على تقليل حظ «الزهاوي» من الفلسفة والشعر، ولا المطاولة في الجدل، وإنما هي لاستخراج الحقيقة التي أردتها من رد الأستاذ نفسه، وبيان المعنى الذي ذهبت إليه من طريقة الأستاذ في ملاحظة الأشياء وفهم أعمال الناس.
ليس للمجهول ولا للعاطفة حساب كبير في إدراك الأستاذ «الزهاوي» لأعمال الإنسان؛ ولهذا فإنه يخطئ في تصورها والحكم عليها ومتابعتها إلى أسبابها وغاياتها، وفي رده أدلة كثيرة على حاجة الفيلسوف - فضلا عن الشاعر - إلى حسبان ذلك الحساب، وفهم الإنسان ومكانه في هذا الكون كما هو إنسان في حقيقته، لا كما يتصوره الذين يستهدون بالعقل وحده غير معتمدين على البديهة وعلى الشعور. وإليك بعض هذه الأدلة مأخوذة من ذلك المقال: (1)
يقول الأستاذ «الزهاوي»: «من طار بجناح العقل أخيرا لندبرغ، وصل إلى باريس من نيويورك في 34 ساعة، فليخبرني الأستاذ إلى أين وصل الذين طاروا بجناح العاطفة؟»
وأنا مخبره إلى أين وصل الذين طاروا بجناح العاطفة: أخبره أنهم وصلوا من نيويورك إلى باريس في 34 ساعة، ولعلهم يصلون غدا في أقل من هذه الساعات؛ لأن لندبرغ لم يطر على المحيط الشاسع المخيف بجناح العقل، بل بجناح العاطفة وحدها طار، وعلى جناح العاطفة وحدها تلقته الجماهير التي هتفت له هتاف الحمد والإعجاب.
ولم يسبق لندبرغ طائر في الفضاء، ولن يلحق به طائر مثله، إلا كانت العاطفة هي محركه، وهي جناحه وهي جزاؤه إذا نجح، وعزاؤه إذا خاب، وليس الطيران كله إلا حلما من أحلام العواطف أجج الرغبة وألهب الخيال، فجاء العقل كالخادم الأجير يحقق ما تعلقت به الأخيلة واتجهت إليه الرغبات.
وأي عقل يزين للندبرغ أن يخاطر بحياته بعد كارثة المفقودين في هذا المضمار القاتل؟ وأي عقل يزين له أن يرفض المال الذي انثال عليه من شركات الصور وطلاب المحاضرات والمساجلات؟ ليس العقل هو الذي أعطانا الطيارين وآلات الطيران، وإنما هي دوافع الإحساس وبواعث الخيال، وهي «العواطف» التي تحمل الإنسان على كل جناح إذا قعد به التفكير وحده في قرارة العجز والجمود.
ونتجاوز نحن هذا الحد إلى ما بعده، فنقول إن الغربيين في هذا الزمان يسبقوننا في ميدان الكشف والاختراع؛ لأنهم يطلبون من الحياة فوق ما نطلب، لا لأنهم يحسنون ما لا نحسنه من الفهم والتفكير؛ فكل مصنوع يصنعه الغربيون نستطيع - نحن الشرقيين - أن نفهمه ونصنع على مثاله، ولكننا لا نستطيع البداية؛ لأنها وليدة البواعث، وهي قاعدة عندنا ناهضة عندهم، فالتفاوت بيننا وبينهم تفاوت في البواعث، أي في الخلق والإحساس وليس تفاوتا في العقل والتفكير، وطريقتنا نحن في الإحساس بالأمور هي التي ينبغي أن يتناولها الإصلاح وليست طريقتنا في فهم ما يحتاج إلى الفهم والتحصيل. (2)
ويقول الأستاذ «الزهاوي»: «أنا مادي لا أرى لغير الحواس أبوابا للمعرفة مستثنيا من ذلك معرفة ذاتي، ولا آذن للخيال أو العاطفة أن يلجأ باب الشعر إلا إذا اطمأننت إلى أنهما لا يفسدان وجه الحقيقة التي ما زلت أتغنى بها في شعري.»
أما الذي أقوله أنا فهو أن الحياة هي التي خلقت الحواس، وهي صقلتها وهذبتها وألهمتها أن تعي ما يتصل بها، وأن الحياة لم تعلن إفلاسها بعد خلق الحواس ولا قبله، فهي شيء أكبر من الحواس، وهي على اتصال وثيق لا انفصام له بهذا الوجود قبل أن تفتح بينها وبينه نوافذ الآناف والأذواق والأسماع والأبصار، وإن الحواس تتفاضل بقدر ما فيها من الشعور والاستمداد من باطن النفس لا من ظواهر الأشياء، فالدنيا لا تتغير. ولكن نظر الشاب إليها غير نظر الشيخ، وإحساسه بها على الجملة غير إحساسه، لماذا؟ لأن الحواس تستمد شعورها من القوة الحية التي خلقتها ونوعتها، وهي قادرة على تغيير الحلق والتنويع. وليس بالمنطق الصحيح ذلك المنطق الذي يجهل أن الوظيفة تسبق العضو، وأن القوة الحية تنشئ الحاسة وتزيدها وتهذبها، فهذه القوة الحية تدرك ما هي فيه وإن اختلف أسلوب إدراكها عن أسلوب الحواس في الإدراك، بل لولا هذه القوة الحية الخالقة لما عملت حاسة في الجسم شيئا، فلتكن للحواس إذن معرفتها المحدودة التي نعهدها في العلوم والصناعات، ولكن لا يعزب عنا أبدا أن وراء هذه الحواس ينبوعا لا ينفد من وسائل الإدراك، وإن كان إدراكا لا حد له من الصيغ والتعريفات. (3)
ويقول الأستاذ «الزهاوي»: «لو جعلنا الخيال والبداهة في المنزلة التي يضعها فيها الأستاذ الفيلسوف، لوجب أن يكون الإنسان الابتدائي، بل الحيوان، أكبر فلاسفة الأرض، لولا ما ينقصهما من البصيرة والحساب. أما الذي أعرفه أنا في الفيلسوف، فهو تحريه للحقائق المستورة عن الأكثرين بنظره النافذ ليكشف أسرار الطبيعة ويستفيد من نواميسها ويفيد غيره ، وما الفيلسوف ذاك الذي يرضي عواطفه، وإلا كانت الحيوانات كلها فلاسفة كما سبق. وكم جرح دارون الشهير عواطف الناس بنظريته في نشوء الإنسان من الحيوان! وكم خالفه أهلها! وكم مقتوه وعادوه وسبوه لأنه خالف عواطفهم! ولكن في النهاية كان هو الفيلسوف، ومعارضوه بقوا ذوي عواطف لا غير.»
هذا الذي يقوله «الزهاوي»! ويدهشني منه أنه يتكلم عن العاطفة كما يتكلم عنها المغنون و«أولاد البلد» حين يتشاكون جرح العواطف ويتناشدون رعاية الإحساس! فهم إذا قالوا: «فلان صاحب عواطف» قصدوا بهذه الصفة أنه لا يجرح عواطف الآخرين، وأنه «حسيس» بالمعنى الذي يفهمونه! وليس هذا ما نريد؛ لأن العواطف قد تجرح العواطف كما تبقي عليها؛ فالحب عاطفة، ولكنه يجرح نفوسا كثيرة، والغضب والإعجاب والحماسة والغيرة عواطف كلها، ولكنها قد تجرح من النفوس أكثر مما تواسيه، وليس تقسيمنا الناس إلى أصحاب عقول وأصحاب عواطف تقسيما لهم إلى من يجرحون نفوس الآخرين ومن لا يجرحونها؛ فإن أصحاب العقول ربما عرفوا كيف يسوسون الناس فلا يغضبونهم، فكانوا بذلك أقمن ألا «يجرحوا العواطف» بلغة المغنين و«أولاد البلد» المتظرفين.
وأدعى من هذا إلى الدهشة أن يقول الأستاذ إن نصيب الحيوان والإنسان الأول من الخيال والبديهة أكبر من نصيب الإنسان الأخير، فالحقيقة أن الحيوان لا خيال له ولا بديهة، وأن الإنسان الأول أقل نصيبا من الإنسان الأخير في هاتين الملكتين، وليس نصيبنا نحن من الفهم ما نعلم أننا نفهمه، بل نحن نفهم أشياء شتى بالبديهة وبالخيال ولا نعلم بها وهي تعمل عملها في الإحساس والتفكير.
ولقد ذكر الأستاذ اسم «دارون» صاحب «النشوء والارتقاء»، فهل له أن يذكر أيضا أن الخيال كان أصدق من العقل ألوفا من السنين، حين كان العقل يجزم بقيام كل نوع على انفراده، وكان الخيال يقص علينا قصصه ويجزم لنا بتقارب الأنواع وتلامع الإنسان والحيوان؟ نعم إن الخيال لم يفصل لنا «النظرية» العلمية؛ لأن له شأنا غير هذا الشأن، ولكن ألم يعم العقل عن تلك النظرية كل العمى يوم أن كان الخيال يرسمها محرفة بعض التحريف من وراء الظلال والرموز؟ وهل للأستاذ أن يذكر أيضا أن «دارون» ما كان لينفذ بفطنته إلى تقارب الأنواع لولا روح العطف الذي كان يحس به خوالج الحيوان وتعبيراتها على الوجوه والأعضاء؟ أيمكن أن يؤلف كتاب التعبيرات الحيوانية ودلالاتها رجل لا يخالطه العطف العميق، ولا يسري بينه وبين الأحياء سيال من الإحساس الدقيق؟ وما هو نصيب العقل بعد كل هذا في مذهب «النشوء والارتقاء»؟ ما كان له من نصيب إلا أن يصحح أخطاءه هو لا أخطاء الخيال ولا أخطاء الإحساس، فالحقائق التي استند إليها النشوئيون قائمة منذ الأبد، والعقل هو الذي كان يداريها أو يضلل فيها الخيال والإحساس.
ويسألني الأستاذ: «لا أدري أي مناسبة للعاطفة بالمنطق!» وهذا الذي أقوله أنا، وأقول معه إن مناسبة العاطفة أنها هي شيء موجود لا يصح المنطق إلا إذا حسب له حسابه، فأي منطق يحق له أن يكون هكذا، أو لا ينبغي أن يكون كذلك إن لم يكن يحس العاطفة الإنسانية ويستكنه مضامينها ويقيم لها وزنها؟ إن الأستاذ ينبئنا أن العقل أسعد الإنسان بالعلم، فما هي السعادة؟ إن لم تكن عاطفة فهي لا شيء، وإن لم يكن العلم علم إنسان «عاطف» فلا حاجة به لإنسان.
نود أن يتأكد هذا في العقول؛ لأننا على مرحلة يجهل فيها الشرقيون ما ينقصهم، فيجب أن يعلموا أن الذي ينقصهم هو «الإحساس القويم»، وأن سبيل خلاصهم هو سبيل العاطفة الحية والشعور الصادق الجميل. أما نظرية الدور والتسلسل، فهي لا تعنينا في هذا الصدد، ولكني أرجو الأستاذ «الزهاوي» أن يسأل نفسه هذه الأسئلة وهي: (أ)
ألا يمكن أن نقول إن عدد «الأشكال» لا نهاية له بنفس المعنى الذي نريده حين نقول إن عدد الأجرام والجواهر لا نهاية له في هذا الفضاء الذي لا يتناهى؟ (ب)
لماذا نشترط البعد في الزمان والمكان لظهور الشخصين المتماثلين كل التماثل؟! لماذا يتحتم أن يكون أحدهما في هذا الزمن والآخر على مسافة ملايين السنين أو ملايين الأميال؟ إن المقتضي للتماثل هو أن الأشكال تتناهى والجواهر لا تتناهى في قول أصحاب الدور والتسلسل. حسن، فلا داعي إذن لاشتراط التباعد بين الشخصين المتماثلين في الزمان والمكان، بل يجب أن نرى أناسا كثيرين يتماثلون على سطح هذه الأرض في المدينة الواحدة وفي الوقت الواحد، وإلا كان رأي أصحاب الدور والتسلسل باطلا يستند إلى دليل مشكوك فيه، أم تراهم يشترطون التباعد ليقولوا لنا إذا أنكرنا عليهم دعواهم: اذهبوا فطوفوا الفضاء الذي لا حد له، وجوسوا في جوانب الزمان الذي لا بداية له ولا نهاية، فإن لم تجدوا أناسا يتماثلون وأجراما تتماثل، فنحن إذن المخطئون وأنتم المصيبون، وإن وجدتم فعودوا إلينا بالنبأ اليقين؟!
إن اللحظة الحاضرة من الزمان تشمل أشياء مختلفة مضت عليها أزمنة مختلفة وأوضاع مختلفة، فهي بهذه المثابة ككل لحظة من الماضي أو المستقبل، وإن هذا الموضع من المكان هو ككل موضع غيره في اقتضاء التماثل، إن كان له اقتضاء. فإذا وجب أن نرى شخصين أو أكثر من شخصين يتماثلون كل التماثل على كوكبين بعيدين في زمنين بعيدين، فيجب - لهذا السبب عينه - ألا يمتنع ظهور مثل هذين الشخصين في هذا المكان في الزمن الحاضر، وإلا فما هو المانع إن كان أصحاب الدور والتسلسل يمنعونه فيما يزعمون؟
نرجو الأستاذ أن يسأل نفسه هذه الأسئلة، ونحن نرجح أنه لا يجيب عنها أجوبة يسهل التوفيق بينها وبين القول بالدور والتسلسل، وليعلم - حفظه الله - أنني لا أجد عزاء لنفسي في تكرار «العقاد» إلى غير نهاية بين أجواز الفضاء وأبديات الزمان، فإذا ثبت له ثبوت اليقين أن في هذه اللحظة عقادين لا عداد لهم، يكتبون مقالاتهم في بلاغاتهم الأسبوعية التي تصدر في قواهرهم وأفريقاتهم، للرد على الزهاويين الذين لا أول لهم يعرف ولا آخر لهم يوصف؛ فرجائي إليه أن يكتم عني هذه الحقيقة؛ فما في علمها إلا الشقاء بتضاعف الأشغال وتراكم الأحمال، وما في ذلك ترفيه ولا عزاء!
محمد فريد وجدي
هو فريد عصره غير مدافع!
وتلك كلمة مألوفة، طالت ألفتها حتى رثت وبليت وأصبحت حروفا بغير معنى.
ولطالما قيلت عن عشرات من حملة الأقلام في عصر واحد، كلهم فريد عصره، وكلهم واحد من جماعة تعد بالعشرات، فلا معنى لها في باب العدد ولا في باب الصفات، ولا سيما صفات الرجحان والامتياز.
إلا أننا نقولها اليوم عن «محمد فريد وجدي» لنعيد إليها معناها الذي يصدق على الصفة حرفا حرفا، ولا ينحرف عنها كثيرا ولا قليلا حتى في لغة المجاز.
فقد عرفنا في عصره طائفة غير قليلة من حملة الأقلام ورجال الحياة العامة، فلم نعرف أحدا منهم يماثله في طابعه الذي تفرد به في حياته الخاصة أو العامة، وفي خلقه أو تفكيره، وفي معيشته اليومية أو معيشته الروحية، وأوجز ما يقال عنه في هذه الحالات جميعا أنه لم يخلق في عصره من يتقارب المثل الأعلى والواقع المشهود في سيرته كما يتقاربان في سيرة هذا الرجل «الفريد».
نعم، الفريد حتى في لغة الجناس؛ لأن اسمه فريد، والفريد حتى في عزلته؛ لأنه كان في عزلة النساك والرهبان، عليما غاية العلم بالتحليل والتحريم.
بدأ حياته الفكرية على مبدأ لم يخالفه قط في أيام رخاء ولا في أيام عسرة، فقصر طعامه على النبات، وانفرد بهذا الطعام بين أهل بيته، واجتنب الولائم التي يدعى فيها إلى طعام غير طعامه.
وأخذ نفسه بسمت الأولين من عباد «الله» الصالحين، فتورع عن كل بدعة من بدع الضلالة أو الجهالة ينكرها الدين، وجهر باستنكاره لهذه البدع حين صمت الصياحون من الناطقين.
ذكرنا في حديث الخديوي و«البكري» - في غير هذا الفصل - قصة الطرق الصوفية يوم توديع المحمل بميدان المنشية، وخلاصتها أن السيد «محمد توفيق البكري» كان محنقا على الخديو في بعض السنين، فمنع أصحاب الطرق من الخروج لموكب المحمل تحية للأمير في ميدان الاحتفال، فخلا الميدان إلا من الموظفين المدعوين، وغضب الأمير لأنه فهم من ذلك أنه زراية بالموكب الذي تعود أن يشهده العام بعد العام، فانتهر السيد «توفيق» وقال له بصوت مسموع على ملأ من رجال الدولة: «أنت قليل الأدب!» وغضب السيد «توفيق»، فانصرف من الاحتفال وهو يقول للأمير بصوت مسموع كذلك بين الحاضرين: «لست أنا قليل الأدب. إنني وزير مثلك، وآبائي وأجدادي لهم الفضل على آبائك وأجدادك.»
ولم تأخذ صحيفة واحدة بناصر السيد «البكري» في هذا الموقف؛ لأن الصحف الإسلامية لا تغضب الأمير من أجل شيخ الصوفية، ولأن الصحف غير الإسلامية لم تشأ أن تتعرض لمسألة من مسائل الدين.
إلا صحيفة «الدستور» التي كان يصدرها «فريد»، فإنها أخذت بناصر «البكري»، وهو من غير المقبولين عند صاحبها؛ لاختلافهما في المسلك والسيرة، ولكن صاحب الدستور نظر إلى شيء واحد في هذا الخلاف، وهو أن مظاهر الطرق الصوفية بدعة لا يستحسنها، وأن الأمير لم يكن على حق في غضبه على شيخ الطرق لمنع حضورها.
وتتم هذه الخصلة الفريدة في صاحب الدستور صباح اليوم التالي ليوم خروج المحمل، فقد اطلع «البكري» على الصحيفة فأرسل إلى صاحبها بمبلغ من المال كانت في أشد الحاجة إليه، فلم يقبل منه «فريد وجدي» غير قيمة الاشتراك لعام واحد، ثم رد إليه البقية قبل أن ينتصف النهار.
ولقد كانت أزمة الصحيفة أثرا من آثار «المبدأ» الذي لا ينحرف عنه الرجل قيد شعرة، وهو الجهر بالرأي، ولو خالف القوة والكثرة وخالف أحب الناس إليه، وقد كان من رأيه عند تأليف الحزب الوطني أن يكون تبليغ تأليفه والاحتجاج على الاحتلال عاما غير مقصور على الدولة البريطانية، فلم يقبل «مصطفى كامل» مقترحه، ولم يسكت «فريد وجدي» عن تأييد رأيه، فانصرف قراء اللواء عن قراءة الدستور، ولم يكن للدستور قراء من الشيع السياسية الأخرى، فكسدت الصحيفة وعجزت عن النهوض بتكاليفها، ولم يقبل صاحبها أن يعوض الخسارة بالمعونة المعروضة عليه من الجهات السياسة التي لا يوافقها.
ومن المعونات التي عرضت عليه في أحرج أيام الأزمة معونة كبيرة من جماعة «تركيا الفتاة»، يبذلونها للدستور مشاهرة ليكون لسانا عربيا لحركتهم الدستورية، ولكن على شريطة واحدة: وهي أن يرفع من صدر الصحيفة كلمة «لسان حال الجامعة الإسلامية»، فرفض الرجل هذه المعونة، ورفض أن يجعل صحيفته لسانا للحزب إلا بشروطه التي يرتضيها، ولو وافق الحزب على بقائها لسانا للجامعة الإسلامية .
وفي الوقت الذي كانت هذه المعونات تعرض عليه من شتى الجوانب - ومنها جانب الحاشية الخديوية - كان الرجل يتحامل على نفسه وعلى القليل من موارد مؤلفاته، لينفق عليها بعد تصغير صفحاتها واختصار أعدادها، فلما استنفد كل ما قدر على إنفاقه في هذا السبيل أعلن تعطيلها وهو مدين لتاجر الورق وموظفي التحرير والإدارة بمقدار غير يسير، فأبت عليه نزاهة النفس أن يؤخر مليما واحدا لصاحب دين، واتفق مع تاجر الورق على استخلاص دينه من مؤلفاته بثمن يقل أحيانا عن عشر ثمنها في المكتبات، ومنها على ما نذكر معجمه المسمى بكنز العلوم واللغة، وثمنه مائة وعشرون قرشا، فاتفق على حسبانه بثلاثة عشر قرشا، واشترط على التاجر أن يشتري النسخ التي تصرف للموظفين بما بقي لهم من متأخر الأجور والمرتبات، وحضر بنفسه تسليم النسخ واستلام الأثمان.
هذا هو الرجل الفريد في نزاهة نفسه واستقامة خلقه وحفاظه على مبدئه ورأيه.
وهو كذلك، أو أكثر من ذلك انفرادا بين كتاب عصره بجهوده في مؤلفاته، فلا نعرف أحدا منهم توفر وحده على تأليف «دائرة معارف» كاملة، ولا على التأليف في تفسير القرآن وفي معجمات اللغة والعلم، ولا على الجمع بين الدراسات الدينية والقصص الخيالية، ولا على الاستقلال وحده بإصدار صحيفة يومية، ولم يكن معه من المحررين غير كاتب هذه السطور، ولو استطاع وحده أن يؤدي أعمال التحرير خارج المكتب، ومنها الأحاديث وأخبار الدواوين، لاستقل وحده بالإدارة والتحرير.
وأشرف ما يكون صاحب المبدأ إذا كان استقلاله برأيه لا يأبى عليه أن يعرف لغيره حقهم في الاستقلال بما يرون.
وقد كنت يوم اشتغلت بتحرير الدستور كاتبا ناشئا، خامل الذكر، ليس لي بحق الشهرة أن يكون لي رأي مستقل مسموع، ولكني كنت أخالفه في بعض آرائه، بل في بعض مبادئه السياسية وبعض معتقداته عما وراء المادة وتحضير الأرواح، وأشهر ما كان من ذلك حول موقف الحزب الوطني من «سعد زغلول»، فلم يمنعني ذلك أن أنشر في الدستور ما يخالف هذا الموقف، وأن أحادث «سعد زغلول» حديثا ينفي كل ما يعزوه إليه كتاب اللواء. وقد صارحته غاية الصراحة فيما كان يعتقده من تحضير الأرواح، وصارحني غاية الصراحة في أمر المتشابهات من العقائد والأحكام، فلا أذكر أنني لمحت منه عند أشد المخالفة نظرة غير نظرته حيث تقترب الأفكار والآراء.
ومما انفرد به في صناعة الكتابة أنه كان يكتب منفردا كما يكتب بين جمع من الزوار والعمال، وأن سرعة قلمه بالكتابة لم تكن دون سرعة لسانه بالكلام، وأنه كان سريع النظم للشعر كما كان سريع النسج للنثر البليغ، وإن لم يكن يشتغل بنظم الشعر في غير موضعه من قصص الخيال.
ومن شعره في هذه القصص الخيالية قوله:
رمت المخاوف والمخاطر
فرويت ما لم يرو شاعر
وجمعت ما بين البدا
وة والحضارة والمظاهر
وشهدت ما لو قلته
عدوه من عبث الخواطر
وخرجت من ذا كله
بحقيقة تغني المكابر
هي أن هذا الناس قد
سحرتهم فتن سواحر
ظنوا السعادة في التأ
نق والتظرف والتفاخر
وإقامة الدور الشوا
هق والعلالي والمقاصر
والجري أعقاب اللذا
ئذ والتورط في الكبائر
بين افتتان بالقشو
ر ووقفة حول الظواهر
أما السعادة فهي في
أن تفتق الحجب السواتر
وتحصل السر الذي
شقت لمطلبه المرائر
وتنال من معناك ما
حرمته همات قواصر
أن ترتقي بالروح حي
ث الحق عالي القدر سافر
هذي السعادة كلها
فاظفر بها إن كنت ظافر
وله شعر في هذه القصص يقول فيه عن المدنية:
ضل أهل الألمعية
في علاج المدنية
هي من أقدم عهد
عضلة العلم القوية
هي للجثمان غنم
وهي للروح بلية
والذي قر عليه ال
رأي من أهل الروية
أنها شر ضرور
ي لخير البشرية
ولو كانت طواعية النظم للناظم آية الملكة الشعرية لكان «فريد وجدي» في طليعة الشعراء المطبوعين، ولكن سهولة نظمه كسهولة نثره، كلتاهما دليل على بساطة في الطبع، سلمت من العقد المركبة وتقابلت فيها الأعماق والظواهر بغير حجاب من خفايا النيات وعوج الأهواء، فلا تشق عليه سلاسة التعبير ولا سلاسة التفكير.
ومن صراحة خلقه وإيمانه باستقلال الرأي عنده وعند غيره، أنه كان يستمع إلى رأيي في شعره فلا يغضبه ولا يهمه أن يكون له حظ من الشعر أكبر من حظه، وقد قلت له مرة: حسبك من الشعر ما يقنع قلب المتصوف ولسانه. فقال: والله إنه لخير كثير، ومن لنا ببعض هذا النصيب؟ •••
روى العالم اللغوي الشيخ «عبد القادر المغربي»، وهو من تلاميذ السيد «جمال الدين الأفغاني»، أن السيد عرض عليه الزواج فقال: إن «جمال الدين»، وهو متزوج رب أسرة وصاحب بيت، يأوي إليه بين أهله وبنيه صورة من صور الخيال، أغرب من صورة الشيخ «عليش» وهو يسعى إلى «الأزبكية»، ليجلس إلى حانة من حاناتها ويصفق بيديه يستدعي «الجرسون»، ليأمره بسؤال من حوله عما يطلبونه من مشارب الحانات.
أقول إنني قد رأيت بعيني في الواقع ما هو أغرب من هاتين الصورتين، وهو منظر «محمد فريد وجدي» يتمشى في قلب «الأزبكية» بين المتاجر والحانات، وهي لا تدري من هذا الذي يغيب في أطوائها بين هذا الزحام، ولعله هو أيضا لا يدري أن هذه هي «الأزبكية»، إلا كما يدري الطيف في الصور المتحركة أين يضعه المخرجون بين مشاهد الأفلام.
فقد كان السير على الأقدام من رياضات الرجل قبيل الأصيل كل نهار، وكان يمضي في رياضته حيث ساقته قدماه؛ تارة إلى مفازة الخلاء، وتارة أخرى إلى حي «السكة الجديدة»، وحينا إلى قصر النيل، وحينا آخر إلى شارع «جلال» أو «عماد الدين»، ولا يحس من يراه في مكان من هذه الأمكنة، وهو ينظر إلى ملامح وجهه، أنه يفرق بين مكان منها ومكان سواه، كأنه «لانطوائه على نفسه» يتمشى في عالم السريرة ولا يتمشى في عالم العيان.
وكنت أراه أحيانا في طريقي ولا أعرف من هو بين غمار الناس، على علمي ببعض آثاره وسماعي ببعض أخباره، ومنها في قفشات الأدباء «أولاد البلد» أنه يعيش فيما وراء المادة، في عطفة من عطفات عالم الروح.
فلما رأيته لأول مرة بعد إعلانه عن إنشاء صحيفة الدستور أسفت لما فاتني من الشعور بتلك الأعجوبة التي كنت أشهدها كما يشهدها غيري من عابري الطريق ، ولا يشعرون بها! «ما وراء المادة» كله ينتقل إلى حي «الأزبكية» في ضوء النهار؟!
إنني لأشعر اليوم أنه منظر عجب غاية العجب: منظر أعجب من «جمال الدين» رب الأسرة والدار، أو منظر الشيخ «عليش» جليس القهوة والبار.
وقد صحبته في رياضة من هذه الرياضات أول يوم لقيته فيه، فعلمت حقا أنه كان يغشى تلك الأماكن وكأنه لا يغشاها؛ لأنه يستطيع أن يمضي في عزلة عما حوله، كما يستطيع أن يجلس إلى مكتبه ليكتب ويفكر ويناجي سريرته، ولا يدري من يخاطبهم ويخاطبونه أنه بعيد عنهم وأنهم بعيدون عنه، في عالم آخر من وراء المادة، إذا شاء «أولاد البلد» الظرفاء.
وكنت قد عرفته من كتاباته زمنا قبل أن أعرفه رأى العين، ولكنني بعد أن صاحبته في مكتب الدستور من يوم إنشائه إلى يوم تعطيله - إلا فترات من الزمن لا تحسب - أراني أستطيع أن أقول إنني كنت أعرفه من كتاباته كذلك وأنا معه في دار واحدة؛ لأنه كان يعمل في مسكنه بالدار ولا ينتقل إلى مكتبه إلا للقاء طارئ من الزوار، أو للاجتماع بلجنة من لجان الصحيفة لمراجعة أحوال الإدارة والتحرير والتوزيع، وكان يعفيني من إطلاعه على ما أكتب قبل إرساله إلى المطبعة، فربما مضى الأسبوع ولم ألقه، إلا إذا طرأ من شئون الصحيفة ما يدعو إلى مشورته أو تبليغه عنه ليتصرف فيه بما يراه.
قرأت إعلانه عن طلب محرر للصحيفة، فكتبت إليه أخبره بأنني أرشح نفسي للعمل في الصحافة لأول مرة، فجاءني الرد منه بعد يوم أو يومين يسألني أن ألقاه بدار مطبعة الواعظ لصاحبها الكاتب المعروف - يومئذ - «محمود سلامة»، وكنت أقرأ مقالاته النقدية، ويعجبني منه ما يعجبني من مدرسته كلها: وهي مدرسة «عبد الله نديم» و«أحمد سمير»، وكنت أعرف مكان مطبعة الواعظ؛ لأنني فكرت زمنا في إصدار صحيفة على مثالها وفي مثل حجمها، قبل أن أستقيل من وظيفتي الحكومية.
فلما ذهبت إلى الموعد - بالدقيقة - أخرج الساعة من جيبه ونظر فيها، وسكت هنيهة ثم سألني عما اطلعت عليه من مؤلفاته التي أشرت إليها في الخطاب، ثم اختار صحيفة من الصحف التي كانت على مكتب صاحب الواعظ وقال لي: هل قرأت هذا؟ فنظرت في الصحيفة فعلمت أنه يشير إلى مقال عن رحلة لكاتب المقال في العاصمة الفرنسية، كنت قد اطلعت عليه قبل ذلك، فرددت الصحيفة إليه وأنا أقول: إنني لم أذهب إلى باريس، ولكن موضع العجب عندي أن الكاتب لم يطرق منها غير الحي اللاتيني، ولم يعرف في الحي اللاتيني غير معارض الخلاعة والمجون، فهل هذه هي باريس؟ فضحك صاحبنا ضحكة تنم على كل ما في طوية نفسه من براءة طيبة كبراءة الطفولة، وقال: هذه هي باريس كلها، إذا كانت القاهرة كلها هي ما تراه الساعة. هل لك في رحلة قصيرة نقضي بها رياضة اليوم؟
وسرت معه حيث سار، فلاح لي أنه كان كأنما يسير معي ولا يوجهني إلى مكان مقصود بعينه، أو كأنني كنت أوجهه كما كان يوجهني على السواء.
وقال لي في صراحة لا تكلف فيها، إنه عرض علي مقال الصحيفة عن رحلة باريس امتحانا لرأيي بعد أن أغناه أسلوب خطابي عن امتحاني في الكتابة، وبعد أن أغناه حضوري إلى الموعد - بالدقيقة - عن امتحان نظامي في العمل، فلي أن أعتبر نفسي محررا بصحيفة الدستور منذ تلك اللحظة، ولي أن أسأله عما أشاء عن نظام العمل المطلوب.
ولم أسأله عن شيء من ذلك، ولكنه هو قد مضى يسهب في بيان مقصده من إنشاء الصحيفة وبيان خطتها في السياسة والوطنية، ثم مضت الأيام بعد الأيام في هذا العمل المشترك بيني وبينه، لا يعاوننا فيه أحد غير أخيه «أحمد» الطالب بكلية الحقوق، وغير آحاد من زملائه الطلبة ومن وكلاء الصحيفة في الأقاليم، ولم ينقطع عملي في الدستور غير بضعة أسابيع، تركت الصحيفة فيها لخلاف وقع بيني وبين أخيه، لاعتراضه على بعض آرائي في السياسة الحزبية، والحق أنه اعتراض لم يكن فيه ما يسوء، لولا أنني استكثرته من الأخ، وهو يعلم أن أخاه الأكبر لا يبدي على ما أكتب مثل هذا الاعتراض فيما يخالفه أو يناقضه من الآراء السياسية.
ولم ألق «محمد فريد وجدي» بعد تعطيل الدستور غير مرات معدودات، وكنت قد برحت «القاهرة» إلى «أسوان» ثم عدت إلى «القاهرة» للعلاج من وعكة قطعتني عن العمل بضعة أشهر.
وفي حديث من أحاديث الرياضة على الأقدام كان لقائي الأول له بعد عودتي إلى «القاهرة»، فإنني عرفت مسكنه بعد انتقاله إليه من مسكنه بدار الصحيفة، فقصدت إليه على أثر رياضة في الخلاء وبيدي كتاب من كتب الفلسفة الاجتماعية، فقال لي وقد نظر في الكتاب ولمح على وجهي أعراض السقم: وفي مثل هذا الكتاب تقرأ وأنت ترتاض للاستشفاء؟
وأذكر أنني فاتحته باعتقادي قصر العمر وقلة الجدوى من الاستشفاء، فابتسم ابتسامته الأبوية، وفتح الصفحة الأولى من الكتاب وهو يقول لي: اكتب هنا. ثم أملى علي كلاما فحواه أنني سأعود إلى هذه الأسطر وأنا شيخ معمر، لكي أعرف أنني كنت على خطأ كبير حين قدرت لنفسي نهاية العمر القصير.
رحم «الله» ذلك القلب الطهور، وذلك الروح الكريم، وذلك الحق الفريد.
إن يكن اليوم لا يذكر حق ذكراه، فما هو بالخمول ولا هو بالقصور عن الخلود، ولكنه يعيش في عزلة من دنيا التاريخ كما عاش أيامه في عزلة من دنيا الحياة.
الشيخ رشيد رضا
يقول «محمود رشاد بك» في رحلته الروسية: «سألني التتار عن الشيخ محمد عبده، والشيخ علي يوسف والشيخ رشيد رضا ومصطفى باشا كامل وفريد بك وجدي، وشكروا لهم صدق غيرتهم على الدين.»
وقد لقيت أنا في بلدتي أناسا من أبناء «إفريقية الغربية»، الذين يعبرون بأسوان في طريقهم إلى الحج ذاهبين أو عائدين، فوجدت بينهم من يقرأ مجلة «المنار» ويعول عليها في فهم شعائر الإسلام وأحكامه.
وقد تكفي نظرة في باب الأسئلة والفتاوى التي كانت تنشر بتلك المجلة لتقدير مدى انتشارها في الأقطار الإسلامية؛ لأنها كانت تتلقى الأسئلة والفتاوى من جميع الأقطار.
وقد كنت أطلع على بعض أعدادها حرصا مني على متابعة آثار الشيخ «محمد عبده» في كل مظنة، فكنت أحمد له الدعوة إلى التحرر من ربقة القديم ، ولكني أسأل نفسي دائما بعد قراءتها: «من أين يلم بالنفس هذا الشعور بشيء غير مستساغ في كثير مما يكتبه الشيخ «رشيد»؟!»
ولم يكن هذا شأني وحدي فيما كنت أقرأ من كتاباته، ولكنه كان شعورا يشاركني فيه عدد غير قليل من القراء، وما زلت أسائل نفسي حتى تبين لي بعد تجربة الحياة والأدب، وبعد لقاء الشيخ «رشيد»، أنه ضرب من الحاجة إلى الصقل، ولا سيما الصقل من ناحية الكياسة والفكاهة، فما أحسب أن الشيخ - رحمه الله - كان يلتفت إلى شيء من طرائف الحياة التي تتجلى في نقائص الدنيا وأعاجيبها، ولا غنى عنها لتمام التعاطف والتفاهم بين الناس. لقيته مرات لا تحصى، ولكني لم أتحدث إليه غير ثلاث مرات أو أربع في مناسبات قليلة.
أولها في دار المنار بدرب الجماميز؛ كانت دارا صغيرة، لها سلم ضيق تصعد عليه إلى حجرة لا تزيد في مساحتها على أربعة أمتار مربعة، وفيها ديوان مفروش، وعلى أرضها حصيرة فوقها فروة، يجلس عليها الأستاذ وقد ثنى قدمه، وفي يده ورقة يكتب عليها للمنار.
وكنت أعبر بتلك الدار كثيرا في طريقي إلى دار الكتب، فلم يخطر لي أن أزورها أو أعرج عليها، حتى أعلن الشيخ «رشيد» عن كتابه في ترجمة الأستاذ الإمام، وصدر منه جزآن، هما الجزء الثاني والثالث، وأرجئ صدور الجزء الأول إلى حين.
كان الجزء الثاني يشتمل على طائفة من مقالات الأستاذ الإمام ورسائله التي نشرت بتوقيعه أو بغير توقيعه.
وكان الجزء الثالث يشتمل على المراثي الشعرية والنثرية التي قيلت فيه إلى ما بعد حفلة الأربعين، ومعها بعض كلمات المقدرين والمؤمنين من أبناء البلاد الشرقية والغربية.
ولم تكن «ميزانية» الكتب يومئذ تسمح لي بشراء جزأين كبيرين في وقت واحد! فاخترت أن أبدأ بالجزء الثاني، وأرجئ شراء الجزء الثالث بضعة أسابيع.
ولقيت عاملا على السلم فأخبرته بما أطلب، فلم يبد مانعا، وذهب ليجيئني بالجزء الذي طلبته، وعاد به وأنا في حضرة الشيخ «رشيد»، وتناولت الجزء وأخرجت الثمن - فسأل الشيخ «رشيد»: «ما هذا؟»
ثم قال: «إن الجزأين لا يباعان على انفراد.»
ولا أخفي على القارئ أنني حين سمعته يسأل: ما هذا؟ خطر لي أنه سيعفيني من الثمن، بعد أن تناول الحديث بيني وبينه سيرة الأستاذ الإمام، ولمحت منه الرضا عن رأيي في خصومه وناقديه.
فلما فهمت مرمى سؤاله شعرت بخيبة أمل، وازداد شعوري هذا حين أصر على بيع الجزأين، مع توكيدي له بأنني سأعود بعد فترة لشراء الجزء الأخير.
ثم تأخر صدور الجزء الأول أكثر من عشرين سنة، وهو الجزء الذي يحتاج من المؤلف إلى عناء ومراجعة وتحضير، فهيأت تلك المساومة نفسي لاعتقاد خاطئ في حق الرجل، ووقع عندي أنه بادر إلى إصدار الجزأين لما في هذه المبادرة من كسب لا يجشمه شيئا من الكلفة والمشقة، وأنه أخر الجزء الأول لما يتجشمه فيه من التعب، وما يلقاه في سبيله من الخصومات.
ولكن الجزء الأول صدر بعد طول التأخير، وظهر من وقائعه وأخباره أن الشيخ «رشيد» كان موفور العذر في إرجاء صدوره، لأنه لم يكن يستطيع نشره في عهد عباس الثاني ولا في إبان الحرب العالمية، فانتظر حتى زالت المحظورات التي حالت دون إصداره طوال تلك السنين.
ولقيت الرجل مرة أخرى مع اللجنة التي تألفت للاحتفال بعيد المقتطف الذهبي، وكان الدكتور «فارس نمر باشا» قد دعانا إلى حفلة شاي في داره؛ للإعراب عن شكره للجنة الاحتفال وشكر زميله العلامة «يعقوب صروف».
وجلست مع «سعيد شقير باشا» والشيخ «رشيد».
وطاف «فارس باشا» بضيوفه يحييهم، فقال للشيخ: «إنك يا سيد تسمن كثيرا، ألا تتعود رياضة المشي؟ امش بقدر ما تستطيع.»
ثم استطرد الحديث إلى الصحة، فقال «سعيد باشا» إنه يحس إعياء وخواء يشبه «الدوخة».
فسألته: هل كشفت عن الكبد؟
فقال: إن المصيبة كلها من هذه الكبد!
ولاح على الشيخ «رشيد» كأنه قد سمع مني نبوءة، فسألني: وهل درست الطب؟
قلت: إن علاقة الكبد بهذه الحالة لا تحتاج إلى علم طبيب.
ثم تبين لنا من جملة الحديث أن عناية الشيخ بالاطلاع على المعارف العصرية العامة أقل بكثير من عنايته بالاطلاع على مسائل الفقه والدين.
وتحققنا من هذا حين صدر الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام ووجدت فيه إشارة استفهام بعد اسم «عبد الله منو؟»
فاستغربت أن يكون الشيخ على غير علم بتاريخ هذا القائد الفرنسي، وقد دان بالإسلام وكانت له علاقة في مصر ببيت من أكبر البيوتات الإسلامية، ولكن الاطلاع على هذه المسائل التاريخية لم يكن - على ما يظهر - من هم الشيخ. •••
ولقيته مرة أخرى في قطار «المترو» ليلة من ليالي شهر رمضان ومعه قريب له يسمى - على ما أذكر - «عاصما».
فجرى الحديث على المعجزات.
وقال الشيخ: «إن المحقق من سيرة النبي - عليه السلام - كاف للدلالة على وحي القرآن؛ لأنه - عليه السلام - لم يأت بمثل هذه البلاغة قبل الأربعين، وكان يشكو انقطاع الوحي فترة بعد نزول القرآن الكريم عليه.»
فقلت: «إنه دليل حسن ولكنه غير ملزم، فقد اشتهر مثلا عن النابغة الذبياني أنه لم ينظم الشعر قبل الأربعين أو نحوها، وذلك تعليل لقب النابعة في بعض الروايات، واشتهر كذلك عنه وعن غيره أنه أجبل؛ أي انقطع عن النظم فترة ثم عاد إليه، فنحرت قبيلته الذبائح فرحا بانطلاق لسانه؛ لأنه أنفع لها من غزوة تنتصر فيها على أعدائها.» «إنما المعجزة الكبرى هي الرسالة المحمدية، التي لا ينهض بها فرد ولا أمة بغير معونة إلهية.
وإنما المعجزة الكبرى هي أثر القرآن في الضمائر، وأثره في تواريخ الأمم الإسلامية وغيرها.»
ومن حق الشيخ أن أذكر له في هذا السياق أنه لم يغضب ولم ينكر وجاهة التعقيب على كلامه، ودعاني ملحا إلى زيارته في «دار المنار».
ولكنني لم ألقه بعد ذلك، وإن كنت ألقاه حينا بعد حين في صفحات مجلته «المنار»؛ لأنها من المجلات العربية التي حرصت على اقتنائها من أول أعدادها إلى آخرها.
عبد العزيز جاويش
كلما ذكرت الشيخ عبد العزيز جاويش، ذكرت زيه على الخصوص؛ لأنه كان أول ما لفتني إليه، ولم يزل موضع التفاتي بعد ذلك كلما رأيته أو سمعت بخبر من أخباره في بعض المناسبات.
كان لنا زميل في مدرسة «أسوان الأميرية »، لا تقل شهرته بيننا بالجهل عن شهرته بالعبث وقلة المبالاة.
وتخرج بعدنا من المدرسة، فعينته وزارة المعارف مدرسا بها للترجمة، لشدة الحاجة يومئذ إلى المدرسين.
وكنا نعجب لكتابته العربية أكثر من عجبنا لكلامه باللغة الإنجليزية، فهو يعرف الإنجليزية كما يعرف العربية، ومعرفته للعربية بعد ذلك هي موضع الشك الكبير.
وإنه ليلقي درسه في الترجمة ذات يوم إذا بمفتش معمم يدخل عليه، فظنه مفتشا للغة العربية قد ضل طريقه إلى هذه الحصة، فاطمأن على جهله وعلمه، ومضى في درسه بغير اكتراث، ولم يكن من دأبه كما أسلفنا أن يكترث لشيء من الأشياء.
وفوجئ باعتراض من المفتش المعمم، فقال له بغير تردد: «إن هذه القطعة منقولة من كتاب مقرر.»
وسأله المفتس: ما هو؟
فقال: كتاب مرشد المترجم.
وطلب منه المفتش أن يريه القطعة في الكتاب، فقلب الصفحات كأنما يبحث عن واحدة معينة منها، ثم أشار إلى جملة في الصفحة، وقال للمفتش بكل ثقة واطمئنان: هي هذه القطعة!
وهنا المباغتة التي كان أهون منها على صاحبنا أن ينفتح أمامه قمقم مغلق ويخرج منه مارد من الجن؛ لأن الشيخ المعمم قد أخذ يقرأ القطعة الإنجليزية ويسأله عن العلاقة بينها وبين العبارة العربية.
إن المفتش المعمم هو الشيخ «عبد العزيز جاويش» مؤلف كتاب مرشد المترجم، مع زميل من المعلمين!
وضجت المدينة ليلتها من الضحك، ولم يزل شاهدو القصة يذكرونها إلى الآن. لا عجب إذن أن يظل زي الشيخ عالقا بذهني على تعاقب الأيام. •••
وذهبت سنة وجاءت سنة، وتتابعت سنوات بعد سنوات، وألفت في «القاهرة» منظر الشيخ في جبته الغراء، وهي في أشد شتائها قلما أحوجتنا يومئذ - نحن أبناء الصعيد - إلى معطف ثقيل.
ثم استقال الشيخ من وظيفته بوزارة المعارف، بعد إنشاء مدرسة القضاء الشرعي وإسناد نظارتها إلى المربي الكبير «عاطف بركات بك»، وأخذ في حملته على وزارة المعارف على النحو الذي يذكره قراء اللواء في تلك الأيام.
وحضرنا يوما إلى مكتب الصحافة بوزارة الداخلية، فسألنا موظف فيه: «هل صحيح أن الشيخ جاويش اعتزل عمله في تحرير «اللواء»؟»
فقال زميل صحفي: «إن صحيفة الوطن قد نشرت الخبر.» وقال زميل آخر: «إني أشك في صحة الخبر.» وقلنا جميعا: «إن دار اللواء قريبة، والسؤال هناك أيسر من الشك بغير دليل.»
ودخلنا مكتب الشيخ فوجدناه فيه، وتبين من الكلمة الأولى أن الخبر غير صحيح، ثم مضى الشيخ في كلامه من التعليق على صحيفة الوطن إلى تعليق على الصحف عامة، وعلى السياسة والأحزاب، ثم إلى الكلام عن حرية الصحافة وحرية الزعماء السياسيين.
وجلست أسمع وأنا أعجب لرجل يفهم الوطنية المصرية في نهضة المطالبة بالاستقلال، ثم ازداد عجبي حين قدم للمحاكمة، فكان دفاعه الأول أنه «غير مصري»؛ لأنه ينتمي إلى أسرة تونسية، و«تونس» خاضعة للحماية الفرنسية.
ثم ازداد العجب حين سافر إلى «الآستانة» وأنشأ فيها صحيفة «الهلال العثماني»؛ لينشر بها دعوته السياسية على الوجه الذي كان يفهمه ولم يعدل عنه بقية حياته، وبلغ غايته حين علمنا أنه أنشأ في «الآستانة» حزب «الوطن العثماني»؛ ليعارض به حزب «محمد فريد»، الذي جعل شعاره «مصر للمصريين».
وكانت صحيفة «الهلال العثماني» تصل إلينا سرا في فترات متقطعة، فكنت أسأل نفسي: هل بلغ من يقين الشيخ بمذهبه في الوطنية أن يفترض قبوله على كل مصري يسمع باسمه من بعيد؟
وعدنا إلى زي الشيخ حين سمعنا نبأ الحملة التركية على هذه البلاد، فقد قيل يومئذ إن كسوة المشيخة الإسلامية كانت في حقيبة الشيخ، وإنه قد حيل بينه وبين مصاحبته الحملة في اللحظة الأخيرة لامتعاض شيخ الإسلام هناك من حركاته حول مصر والحجاز. •••
وانتهت الحرب، ولقيت الشيخ اتفاقا قبل تعيينه مرة أخرى بوزارة المعارف، فإذا هو هو في تفكيره وتقديره عن السياسة الوطنية: «أنقرة» هي صاحبة القول الفصل في السيادة المصرية، «أنقرة» هي المرجع الأخير في الامتيازات الأجنبية، معاهدة سنة 1840 هي أساس ما نطالب به من حقوق!
قلت: «الحمد لله، لقد تغيرت مصر كثيرا في عشر سنوات، وإن لم يتغير الشيخ عبد العزيز جاويش، ومن جرى على مجراه.» •••
لقد ذكرنا «رشيد رضا» في الفصل السابق، وبين الشيخ «رشيد» والشيخ «جاويش» جامعة لا غنى عن الإشارة إليها لتقدير كل منهما معا، وكل من دخل معهما في هذه الجامعة، فبعد «جمال الدين» و«محمد عبده» أصبح من هم كل شيخ ناشئ أن يصبح أستاذا إماما أو نمطا آخر من «جمال الدين».
ومن هنا نشأت مدرسة «رشيد رضا»، و«مصطفى المراغي»، و«طنطاوي جوهري» و«عبد الحميد الزهراوي»، و«محمد الخضري»، و«محمد المهدي»، و«النجار»، وغيرهم.
ولكن الشيخ «عبد العزيز» كان يتشبه ب «جمال الدين»؛ حيث يتشبه أقرانه على الأكثر بالأستاذ الإمام.
وفارق آخر بينه وبين الشيخ «رشيد» أن الشيخ «رشيد» كما قلنا كانت به جفوة عن الفكاهة والكياسة.
أما الشيخ «عبد العزيز»، فقد كانت فيه من «أبناء البلد» الظرفاء مشابهة كثيرة.
ذهبت يوما لزيارة الأستاذ «محمد صادق عنبر» بمكتب صحيفة العلم على ما أذكر، فوجدت الشيخ «عبد العزيز» يصيح صيحة المحنق الذي يغالب ضحكا مكظوما: إنه خبر أدهش البقر، إنه خبر أدهش البقر!
فسألت الأستاذ «صادق عنبر»: ما هذا الخبر؟
فجعل يغمغم بين الضحك والخجل وهو يقول: إنه مصحح عندنا من أهل الشرقية، جاءه من بلده خبر عن بقرة قتلها قطار السكة الحديد، فاختار للخبر عنوانا يليق بهذه الفاجعة العالمية، وكتبه بهذا العنوان: «خبر أدهش العالم!» وفي رأي الأستاذ كما سمعت أن الدهشة من حق البقر في هذا المقام!
قلت: صدق أبو العيناء، رأوه يأكل في الطريق أمام الغادين والرائحين فلاموه.
قال: أمن البقر حياء؟ «وأراد أن يثبت لمن لاموه أن القوم بقر، فوقف ونادى: أيها الناس! قال هي بن بي عمن لا يوثق له برأي: من بلغ طرف لسانه أرنبة أنفه دخل الجنة. فلم يبق من حوله أحد إلا أخرج لسانه يحاول أن يبلغ أرنبة أنفه!» «ومضى أبو العيناء وهو يقول لمن لاموه: ألم أقل لكم؟» وقد أبى الأستاذ «صادق» إلا أن ينقل الحديث الروي لصاحب الخبر ليرى أين هو من قول الشيخ «عبد العزيز» ومن قول «أبي العيناء».
إبراهيم الهلباوي
كان في مصر قبل الثورة العرابية حزبان سياسيان: أحدهما حزب «محمد شريف باشا» والآخر حزب «مصطفى رياض باشا».
وقد يخطر للقارئ العصري أن تعريف الأحزاب بالأشخاص دليل على أن الحركة كلها شخصية لا علاقة لها بالبرامج السياسية، ولكن الواقع أن تعريف الأحزاب بالأشخاص كان سنة معروفة في ذلك العصر حتى في أعرق الأمم البرلمانية، فكان الحزبان المتناظران في إنجلترا يعرفان يومئذ باسم حزب «غلادستون» وحزب «بيكنسفيلد»، ولم يكن ذلك دليلا على وحدة البرامج بين الحزبين.
وقد كان الحزبان المصريان كذلك مختلفين في البرامج، ولم يكن الخلاف بينهما مقصورا على الانتماء إلى هذا الوزير أو ذاك الوزير.
كان حزب «شريف» أقرب إلى التجديد السريع.
وكان حزب «رياض» أقرب إلى المحافظة مع التقدم في رفق وأناة.
وكان «الهلباوي بك» ناقما على «رياض باشا» لسبب من الأسباب، فكان يطلق فيه لسانه ويكتب عنه ما لا يرضيه.
فأمر عالما من رجال الدين أن يستجوب الشيخ «إبراهيم الهلباوي» تمهيدا لمعاقبته. فبدأ العالم المحقق كلامه بتهديد الشيخ الناشئ، واستطرد قائلا: إن ناظر النظار سيخرب بيتك إن لم تكف عن الحملة عليه.
فضحك الشيخ «إبراهيم» وأجابه ساخرا: إنه لا يستطيع.
فعجب العالم المحقق وقال: كيف لا يستطيع وهو ناظر النظار والحكومة كلها في يديه؟
قال الشيخ «إبراهيم»: «وليكن ناظر النظار، أو أكبر من ناظر النظار، ليكن أمير البلاد، ليكن خاقان البرين والبحرين، بل ليكن الله جل جلاله، فإنه لا يستطيع أن يخرب لي بيتا.» ففزع العالم المحقق، وخيل إليه أن المسألة تنتقل من التمرد والعصيان إلى الكفر بالله، والعياذ بالله!
فصاح بالشيخ الناشئ حنقا: أهذا الذي تعلمتموه من «جمال الدين»؟!
وكان «جمال الدين» مظنة «الزندقة» عند بعض العلماء في ذلك الحين، فطاب للعالم المحقق أن يجد في كلام التلميذ برهانا على زندقة الأستاذ.
وكان الشيخ «إبراهيم الهلباوي» من تلاميذ «جمال الدين»، فلم يكن أسرع منه إلى رد التهمة إلى المتهم، وقال لصاحبنا: بل هذا الذي تعلمناه منكم قبل أن نتعلمه من «جمال الدين»!
قال الرجل: أعلمناكم نحن الكفر؟
قال الفتى المتحذلق: بل علمتمونا أن قدرة الله لا تتعلق بالمستحيل، وخراب بيتي مستحيل؛ لسبب واحد، وهو أنه ليس لي بيت!
على أن تلمذة «الهلباوي» «لجمال الدين»، لم تكن تمنعه أن يستطيل عليه بمثل هذه الحذلقة إذا «حكمت القافية» كما يقولون، فلعله هو التلميذ الوحيد الذي كان يجترئ على السيد بالدعابة في مجالس الدرس أو مجالس الحديث.
قال لي عظيم من عظماء هذا العصر الذي حضروا كثيرا من تلك الأحاديث - أو تلك الدروس - وكانت كل أحاديث «جمال الدين» من قبيل الدروس: إن السيد كان يتكلم يوما عن بعض الرذائل التي تصيب الجسد والنفس الناطقة، وبعض الرذائل التي تصيب الجسد ولا تمس النفس الناطقة.
فقاطعه «الهلباوي» قائلا: يا خبر! وهل السيد من هؤلاء؟
فانتفض السيد مغضبا وصاح به: «اغرب عني أيها الخبيث. لعنة الله عليك!»
و«الهلباوي» الذي تدل عليها هاتان النادرتان هو «الهلباوي» الذي عرفه الناس طوال حياته، ويمكنك أن تلخصه في عبارة واحدة، وهي أنه - رحمه الله - كان «ذلاقة لسان، لا تطيق نفسها، ولا تريح صاحبها».
ومن هذه الذلاقة المتعجلة، كان يؤخذ على «الهلباوي» كل ما هو مأخوذ عليه. •••
سمعنا عنه قبل أن نراه، أو نسمع عنه ممن رآه.
كان أشهر المحامين بين الفلاحين بلا استثناء، وكان من آيات شهرته أنها دخلت في «النكتة المصرية»؛ فكان الذين يساومون القصابين في شراء لسان الذبيحة يقولون إذا اشتط عليهم القصاب في الثمن: والله ولا لسان الهلباوي!
وسمعنا بشهرته كاتبا كما سمعنا بشهرته محاميا، فكان عنوان مقالاته «إلى أي طريق نحن مسوقون؟» يتردد على كل لسان، وكنا نسمع به وإن لم نقرأ تلك المقالات.
ثم أدركته آفة التعجل وقلة الاستقرار، فتحول في الوطنية إلى خطة «الاعتدال» وفسر الاعتدال بمصانعة الاحتلال.
ثم كانت الطامة الكبرى، ونعني بها قضية «دنشواي» التي وقف فيها موقفا ظل نادما عليه طول حياته.
وعن قضية «دنشواي» قلت في كتابي «سعد زغلول»: لقد كنا أربعة نقرأ وصف التنفيذ في «أسوان»، فأغمي على واحد منا ولم نستطع إتمام القراءة إلا بصوت متهدج تخنقه العبرات .
ويستطيع القارئ إذن أن يتخيل مبلغ السخط الذي أثارته في نفوسنا رؤية «الهلباوي» أمامنا وجها لوجه في دار الجريدة، يوم ألقى الأستاذ «لطفي السيد بك» خطابه الذي أشرنا إليه في الكلام عن صاحب «المؤيد».
لقد كان اغتباطي شديدا بما أصابه من الأذى في ذلك اليوم، ولكني أقول إنصافا له إننا رأينا في الرجل شجاعة لم نرها في غيره من المقصودين بالهتاف العدائي ذلك المساء؛ فقد أوى بعضهم إلى حجرات الدار حتى اطمأن إلى انصراف الجمهور الغاضب، وأبى «الهلباوي» إلا أن يقتحم الجمع خارجا من الدار في إبان الهياج، ولم يحفل بما تعرض له في طريقه من اللكم والإيذاء.
وغاب «الهلباوي» زمنا عن ميدان السياسة، ثم ظهر بعد الثورة الوطنية معارضا ل «سعد زغلول»، وكانت المساجلات بين الأحزاب يومئذ على أعنفها، ولكني أشهد القارئ أنني ما وجدت القلم ينبعث في يدي انبعاثا إلى القول القارص العنيف كما كان ينبعث في الرد على خطب «الهلباوي» وأحاديثه، فردودي عليه فيما أعتقد كانت أعنف ما كتبت على الإطلاق.
ثم مضت الأيام، وشاء القدر أن يكون للهلباوي شأن في موقف من أهم المواقف في حياتي السياسية؛ لأنه الموقف الذي اعتزمت فيه جديا أن أترك الهيئة الوفدية مستقلا عن جميع الأحزاب.
كان الوفد والأحرار الدستوريون مؤتلفين على عهد الوزارة «الصدقية» التي عدلت الدستور.
وجاء اليوم الثالث عشر من شهر نوفمبر، فعقد «الأحرار» الدستوريون اجتماعا في دار حزبهم، وذهبنا إليه تأييدا لمظهر الائتلاف.
وإذا «بالهلباوي» هو خطيب الاجتماع.
وإذا بي جالس أمامه على قيد خطوة واحدة، وإذا به يحتال في كلامه ليهملني عند مناسبة ذكري، ويتجاوز الإهمال إلى التعريض.
وعلقت على الخطبة في اليوم التالي، ورآها فرصة سانحة لإرغامي باسم الائتلاف.
وجاءتني دعوة إلى بيت الأمة، حيث تجتمع طائفة من أعضاء «الوفد» على رأسهم «مصطفى النحاس باشا».
ما الخبر؟
الخبر - كما قالوا - أن مصير الائتلاف معلق على بيان مطلوب منا، ونحب أن نتلوه عليك.
قلت: وما شأني في هذا البيان؟
قالوا: بل الشأن شأنك؛ لأن فحوى البيان أن الوفد لا يقر ما كتبت عن «الهلباوي بك».
قلت: إنكم أحرار فيما تكتبون، ولكنني سأرد لا محالة على هذا البيان، وأقول لكم سلفا إنني أنا المسئول عما أكتب، ولم يعلم الناس قط أنني أكتب بإشارة من أحد.
ثم ذكرت لهم سابقة «سعد» مع اللورد «جورج لويد» حين حملت على اللورد من أجل زياراته للأقاليم، وثار «اللورد» ثورته التي أوشكت أن تعصف بالبرلمان، وأرسل إلى «سعد» من يقول له إن «اللورد» يعتقد أنه هو الموعز بتلك الحملة، فقال سعد كلمته المأثورة: «إنها تهمة لا أدفعها أو شرف لا أدعيه.» ولم يفاتحني في الأمر حتى انقضت الأزمة، لكي لا أفهم أنه يقترح علي الكف عن الكتابة في هذا الموضوع!
ولكنهم لم يقتنعوا وقالوا إن صدور البيان من «الوفد» أمر لا محيص عنه، فإن شئت فاسمعه لتقترح تغييره أو تعديله فيما لا يرضيك.
قلت: «لن أسمعه، ولن أسكت عن الرد عليه.»
في ذلك المساء زارني «مكرم عبيد باشا»، والمرحوم «صبري أبو علم باشا»، وسألاني: ماذا صنعت؟
قلت: كتبت ردا على البيان سينشر في عدد الغد من جريدة «مصر» - وكانت من الصحف الصباحية - وفيها كنت أكتب مقالاتي كل يوم.
فحاولا وقف المقال.
فقلت لهما: إذا كنت لم أستطع أن أقنعكم بوقف بيانكم، فلن تستطيعوا إقناعي بوقف المقال.
ثم قلت لهما: إنني أملك أن أنشره في غير الصحيفة الوفدية، إذا حيل بيني وبين نشره فيها.
وكان قد جاءني فعلا من يعرض علي العروض الطوال العراض لأعطيه المقال وينشره حيث يشاء.
وبعد مناقشة طويلة قال «مكرم باشا»: إننا كنا نود لو قبلت رجاءنا وعدلت عن نشر مقالك، أما وأنت مصر على نشره فاقبل منا رجاء آخر.
قلت: ما هو؟
قال: أن يخلو المقال من الملام الشديد.
قلت: إنني إذا ذكرت الحقائق كما حصلت، فلا حاجة بي إلى ملام شديد.
ومضت سنوات ثلاث أو نحوها و«الهلباوي بك» لا يقع لي في طريق.
وحدثت في خلال ذلك جفوة بيني وبين المرحوم «عبد القادر حمزة» لمناقشة دارت بيني وبينه حين كنت أكتب في صحيفة «الجهاد».
ثم زارني يوما بعد طول القطيعة، وهو يقول لي: لقد مررت بدارك وأنا في «مصر الجديدة» فحمدت هذه الفرصة وقلت لنفسي: فلنزره إن كان هو لا يزورنا، فما رأيك؟
قلت: إنه فضل لك سبقتني به، وعلي أن أشاركك فيه.
وزرته في دار «البلاغ» - بعد يوم أو يومين - فإذا «بالهلباوي بك» هناك، فكدت أهم بالرجوع.
بيد أن «الهلباوي بك» كعادته هجام لا يتردد، فجذب يدي وبدأني بالحديث.
ولقد خطر لي في تلك اللحظة أن واقعتي معه آخر ما يذكره في تلك المقابلة، ولكنها على عكس ذلك كانت أول ما ذكره وأسهب فيه، وجعل يقول وهو يضحك: كنت والله يا رجل أحب أن يكتب الله لي ثواب إخراجك من تلك الجماعة، ولكنه فاتني، وأراك خارجا منها على التسعين!
وبعد حديث متشعب، دعاني والأستاذ «عبد القادر» إلى قضاء سهرة في منزله فاعتذرت، وخرج معي حين انصرفت حتى افترقنا عند دار «محمد محمود باشا» - رحمه الله.
ويظهر أن رغبته في زيارتي له بقيت تساوره زمنا حتى صدرت صحيفة «روزاليوسف» اليومية وواليت الكتابة فيها، فدعانا جميعا إلى قضاء السهرة عنده، وذهبنا إليه مع السيدة «روزاليوسف» والدكتور «محمود عزمي»، وكانت في الحق من أمتع السهرات؛ لأن الرجل محدث ظريف لا يمله المستمع إليه.
ولقد كانت أحاديثه في تلك الليلة أكثر من أن تذكر، إلا أنني أذكر من طرائف السهرة أن السيدة «روزاليوسف» كانت تخاطب قرينته وهي تظن أنها زوجة ابنه، لبعد الفارق بينها وبين زوجها في السن، ولم تزل على ظنها حتى نبهها إلى خطئها بنكتة من نكاته التي تناسب المقام.
نابغة من نوابغ عصره لا مراء، كان يسلم من كثير مما يؤخذ عليه، لولا تلك الحيوية التي أقلقته وباعدت بينه وبين الصبر والاستقرار.
جرجي زيدان
كنت حوالي سنة 1905 أعمل في دواوين الأقاليم: «قنا» ثم «الزقازيق».
وكنت أزور القاهرة مرة كل أسبوعين، أو كل شهر، عندما كنت أعمل في «الزقازيق».
أزورها لغرضين في وقت واحد: أن أشهد التمثيل بفرقة «سلامة حجازي»، وأن أبحث عن الكتب التي لا تصل مع الباعة المتجولين إلى الأقاليم.
وفي مرة من هذه المرات، قصدت إلى حي الفجالة لأسأل عن كتاب ما - أي كتاب - في فلسفة الجمال.
ولم أكن أعرف باسم الكتاب الذي أبحث عنه لأنه - كما ظهر لي بعد ذلك - لم يوجد من قبل باللغة العربية، ولم يوجد إلى اليوم. وإنما كنت أتصفح فصول الأديب الخطيب الإنجليزي «إدمون بيرك» عن الجليل والجميل، فخطر لي أن مثل هذا المبحث لا بد أن يكون مطروقا باللغة العربية، وكان اعتقادي في كتابنا المحدثين منذ أواسط القرن التاسع عشر كاعتقاد أجدادنا في الأوائل إذ يقولون: ما ترك الأول شيئا للآخر. فإذا كانت اللغة الإنجليزية قد اشتملت على بحث في فلسفة الجليل والجميل، فأكبر الظن أن كتابنا المترجمين لم تفتهم ترجمة بحث من هذه البحوث.
ودخلت المكتبة فوجدت على شمال المنضدة المعدة لعرض الكتب رجلين يجلسان على كرسيين متجاورين: أحدهما مطربش والآخر معمم، وطرق مسمعي اسم السيد «توفيق» و«صهاريج اللؤلؤ»، فسمعت الرجل المطربش يقول لمحادثه المعمم: إن السيد «توفيق» قد عاد بالنثر العربي خمسمائة سنة إلى الوراء.
وسألت البائع: هل يوجد عندكم كتاب في فلسفة الجمال؟
قال مستغربا: فلسفة ماذا؟!
فأعدت قولي بلهجة التوكيد: فلسفة الجمال!
والتفت الرجل المطربش إلى هذا الحوار، فنظر نظرة استفهام إلى البائع، فأجابه هذا: إن الأفندي يسأل عن كتاب في فلسفة الجمال!
فتمهل الرجل المطربش، ثم قال: ما أظن كتابا في هذا الموضوع قد ألف باللغة العربية. ثم سألني: هل رأيت الكتاب المطلوب وعرفت اسمه، أو اسم مؤلفه؟!
قلت: كلا، ولكني رأيت شيئا في بحث الجليل والجميل بالإنجليزية فخطر لي أن البحث مطروق بلغتنا.
قال في تؤدة وهو يبتسم: ينبغي حقا، ولكنه لم يطرق في كتب مستقلة، ولا يزيد ما كتب عنه على بعض الإشارات المتفرقة في المجلات.
علمت من البائع أن الرجلين المتحادثين هما: جرجي زيدان صاحب «الهلال»، و«أبو بكر لطفي المنفلوطي» أخو «مصطفى لطفي المنفلوطي» الكاتب المعروف. و«أبو بكر » نفسه كاتب لم يشتهر شهرة أخيه، وهو الذي كان يكتب بعد ذلك بسنوات في جمعية «مصر الفتاة» مقالات يحكي بها مقالات أخيه في «المؤيد» بأسلوب كأسلوب «صهاريج اللؤلؤ» في التفخيم والإغراب.
ولا أزال أذكر صورة «جرجي زيدان» كما رأيته في ذلك اليوم؛ رجلا بسيط المظهر بعيدا عن كل تكلف في زيه وجلسته وحديثه: يتكلم في الأدب والبلاغة والأحاديث العامة بأناة العالم المحقق، ولكن بسهولة المتحدث المفيد، كأنه يقول ما يقوله للتعليم دون أن يبدو عليه مظهر المدرس في حصة التدريس، ولا أذكر أنني رأيت من أبناء عصره كاتبا بمثل شهرته ومكانته وبمثل هذه البساطة في المظهر والحركة والحديث، وقد رأيته بعد سنوات في داره وفي ساعات فراغه فلم أجد بين مظهره وهو بعيد من الناس ومظهره وهو في المكتبة العامة أقل خلاف. •••
وقد طبعت أول ما طبعت من كتبي بمطبعة «الهلال»، وهما كتاب «خلاصة اليومية»، ثم «رسالة الإنسان الثاني عن المرأة»، وتاريخ طبعهما كما هو مكتوب عليهما (سنة 1912).
ولهذه المناسبة كنت أرى «جرجي زيدان» أحيانا في مكتبة «الهلال» وأحيانا أخرى في مطبعة الهلال، فإن لم يكن في المطبعة ووجب سؤاله عن شأن من شئون الطبع، فالدار التي يسكنها غير بعيدة من دار المطبعة، والاستئذان بالتليفون قبل الزيارة لم يكن من مألوفات ذلك الزمن، ولم يكن شيوع التليفون بين المكاتب والمنازل كشيوعه في هذه الأيام، وإنما كان طالب الزيارة يطرق الباب ويسأل عن صاحب الدار: أهو حاضر؟ وهل يمكن لقاؤه؟ وغالبا ما يجاب بغير حاجة إلى موعد آخر محدود.
وكان العمل مقسما بين الإخوة الثلاثة: «جرجي» للمجلة و«متري» للمطبعة، و«إبراهيم» للمكتبة، وليس بين المطبعة ومسكن صاحب الهلال غير خطوات قلائل، أما المكتبة فقد كانت بينها وبين المطبعة مسيرة دقائق معدودات.
وأحسب أن الأمر لم يدع إلى مقابلتي إياه بداره أكثر من مرة واحدة سألته فيها عن رأيه في فلسفة التفاؤل والتشاؤم، وعلمت فيما عدا هذه المقابلة - عرضا - مبلغ عناية الرجل بالاطلاع على موضوعات العلوم من شتى المباحث والمطالب ، وإن لم تكن لزاما من موضوعات النشر بمجلة «الهلال».
سألته: أيهما أصح وأصوب؛ نظرة المتفائل أو نظرة المتشائم؟
وربما كان السؤال: أي الفلسفتين أصدق؛ فلسفة التشاؤم أو فلسفة التفاؤل؟
لست أذكر نص السؤال بكلماته، ولكنني أذكر موضوعه العام لأنني كنت مشغولا في كل مطالعة وكل نظرة إلى مسائل الأدب والحياة، وفي كلا الكتابين اللذين طبعتهما بمطبعة «الهلال» إشارة إلى الإمامين المتشائمين: «أبي العلاء»، و«شوبنهور»، وهما متلازمان في ذهن كل قارئ عربي يسمع بالتشاؤم في الثقافة الأوروبية.
ففي خلاصة اليومية أقول بعنوان «القول والقائل»: «انظر إلى ما قيل لا إلى من قال - قاعدة لا يصح إطلاقها في كل حالة - فالكملة تختلف معانيها باختلاف قائليها، فإن كلمة مثل قول المعري:
تعب كلها الحياة فما أع
جب إلا من راغب في ازدياد
يؤخذ منها ما لا يؤخذ مما تسمعه في كل حين بين عامة الناس من التذمر من الحياة وتمني الخلاص منها، فإننا نثق بأن المعري مارس الأمور الجوهرية في الحياة ودرس الشئون التي تكون منها عذبة أو مرة، نكدا أو رغدا، ولم يسبر منها أولئك العامة إلا ما يقع لهم من الأمور التي لا تكفي للحكم على ماهية الحياة.»
وفي «رسالة الإنسان الثاني» بعنوان «عصر المرأة» أقول:
وقفت على آراء في المرأة للفيلسوف الألماني آرثر شوبنهور، فأعجبني حذق الرجل وجرأته على المجاهرة بأقوال، يعد قائلها في أوروبا خلوا من التهذيب وسلامة الذوق، وإن كنت أراه قد غلا في مذهبه إلى حد ربما كان الدافع به إليه غلو المدنية العصرية في نظرها إلى المرأة ورعايتها إياها.
وقد سألت صاحب الهلالي في هذا الموضوع لأنني انتظرت أن أعرف الرأي الراجح من تجاربه كما أعرفه من اطلاعه ودرسه، فسمعت منه الجواب المفيد عن الأمرين.
قال لي في بساطة الرجل الذي يتحدث عن الجو أو أحاديث السمر العارض: «إننا نعرف من التشاؤم مزاج صاحبه كما نعرف ذلك من التفاؤل، وقد يكون رأيهما واحدا في حقيقة من الحقائق العلمية، أو الفكرية، ولكن هذا يجعله سببا للرضا والآخر يجعله سببا للسخط على حسب مزاجه، فليست المسألة معهما مسألة صحة أو بطلان، ولكنها مسألة التأثر على حسب المزاج.»
وأحسب أنه قال أيضا: «إننا نترك البحث عن الأصح ونبحث عن الأصلح، فنرى أن التفاؤل أصلح للعمل في الحياة والنجاح فيها؛ لأنه أصلح لاحتمال الشدة وأصلح للأمل في النتيجة.»
وأحسن ما حسن عندي من سمت الرجل، ومن بساطته في حديثه وبساطته في كتابته؛ أنه لم يتخذ من قواعد العلم كتافا لعقله يحجر عليه ويحرجه إحراج الموسوس، الذي يكرر الواقعة مرة بعد مرة ليستوثق من صحتها وضبطها من جميع نواحيها وأطرافها، ثم يرى أنها هي العلم وكل ما عداها فليس من العلم في شيء.
وكذلك لم يتخذ من قواعد العلم كساء مزركشا يخشى عليه اللابس أن تنكسر قصبة فيه إذا طاوع عقله في الحركة بعض المطاوعة، ولم يتخشب مع الكساء المزركش، على سنة الوقار أو على سنة الجمود.
فقد كان على اطلاع واسع في العلوم التجريبية كاطلاعه على بحوث التاريخ والاجتماع، ولكنه كان في سماحة الفكر وسهولة النظر بحيث يحس كما يفهم أن العقل قد يكون «علميا» وهو يخوض في كلام لم يقرره العلم ولم يقرر نقيضه كذلك.
ولهذا كان «جرجي زيدان» يبيح لفكره أن ينظر في «علم الفراسة الحديث» وليس هو من العلوم التي فرغت التجربة من قوانينها كما فرغت - مثلا - من قوانين الحركة.
وكان يبيح لفكره أن ينظر في أصول اللغات وأصول الكلمات وأصول القواعد اللغوية دون أن يكون للعلم حكم قاطع في كل أصل من تلك الأصول.
فإن لم يكن ما يقوله علما مصبوبا في قالبه الأخير، فهو - بلا شك - مادة علمية يجب أن تتهيأ لقالبها على شكل من الأشكال، ويمتنع علما أن تترك بغير التفات إليها؛ فإن عمل العلم في تشكيل المادة قبل ثباتها على شكل من الأشكال أوجب من صب القوالب على الشكل الأخير، وأوجب من ذلك ألا يكون «الشكل الأخير» هذا هو كلمة الختام، وهو الحكم الذي لا يقبل النقض والتنقيح.
وقد كتب «جرجي زيدان » في كل مسألة من مسائل عصره الاجتماعية والفلسفية والأدبية، فكان في كل منها بسيطا تلك البساطة التي عهدناها منه وهو يتكلم عن أسلوب «البكري» أو عن كتاب فلسفة الجمال، أو عن فلسفة التفاؤل والتشاؤم، ولكنه قال فيها جميعا رأيه الذي لم يناقضه العلم ولم يأت بما هو أثبت منه على اختلاف النظر في الأمور.
ولسنا نحسب أن تناول الدراسات المختلفة بمثل هذه البساطة مسموح به لكل صاحب قلم مشتغل بالبحث والتفكير.
إنما يسمح به - في غير حاجة إلى الرخصة من أحد - للعقل الذي يستمد بساطته من مصدر واحد: وهو مصدر القوة التي هي أكبر من قيود البحث ومراسم الدراسة، وهي في طمأنينتها إلى قدرتها على سبك القوالب وصهر المادة التي تملؤها تعالج المادة في دور التشكيل كما تعالجها في قالبها الأخير.
فرح أنطون
مضت عدة سنوات على احتجاب ذلك الطيف الذي كان كثيرا ما يرى في هذه العاصمة غاديا أو رائحا في خطوة وئيدة وعزلة بعيدة، كأنما يسري من حيث لا يعلم الناس إلى حيث لا يعلمون، ذاهب الطرف أنى سار كالعابر من عالم لا يذكره إلى عالم لا يرجوه، غير مشغول بأمر الطريق، على وجهه سماحة تظللها سحابة من أسف شجي ولوعة مخامرة، وفي عينيه حيرة قرت من فرط القلق فعادت في رأي العين طمأنينة راضية، وعلى شفتيه صمت مصر كظيم، يصف لك من صاحبه هاتفا دعا ثم ألحف داعيا مناديا حتى مل وفتر، فلم يستمع إليه مصيخ ولم يجب إلى صوته صدى، فأطبق شفتيه إطباقة من لا ينوي افترارا ولا يهم بصيحة ولو علقت النار بردائه.
مضت سنوات على احتجاب ذلك الطيف واحتباس حركته، فكان مغيبه في نفوس المحبين والعارفين رزءا فادحا وألما بارحا ونزعة شديدة وشقة بعيدة، وكان في تصور الخيال خطوة واحدة كخطوة الطيف الهائم جفلته لواعظ الأصوات فأوى إلى ظلمته الساكنة.
مضت سنوات على وفاة «فرح أنطون».
ولقد رأيت «فرحا» مرارا، ولكني لم أكلمه إلا مرتين أو ثلاثا. وكانت مرة منها في مكتب «الأهالي»؛ إذ كان يعمل في تحريرها، فتلاقينا في غرفة الأستاذ صاحبها وتعارفنا على يديه، فسمعت من نبرة صوته وفاق ما رأيت من خشوع نظراته، وأحسست موضع دائه، فقلت له مؤاسيا، وكان كلامنا على النهضة السياسية: إنك يا «فرح أفندي» طليعة مبكرة من طلائع هذه النهضة العامة، وسيعرف لك المستقبل من عملك ما لم يعرفه الحاضر، وستكون حين تفترق الطريقان خيرا مما كنت في هذا الملتقى المضطرب. فأومأ برأسه إيماءة شاكرة وحرك يده حركة فاترة وقال: «إنه يا أخي تيار جارف، فماذا يحفل المستقبل بالحاضر، وماذا يبالي السائر المغذ بمن كان قبله في مفترق الطرق؟!» فبدا لي أن الرجل يئس من الحياة، وأنه جرب كل سهامه حتى ساء ظنه بالسهام والهدف. على أنه كان إلى يوم وفاته ممسكا بالقوس لا يحول بصره عن الهدف الذي خدعه، وذلك ديدن غالب في النفوس الراجية، وهو كهامة الأمل تتردد حتى تفيض روحه.
ما يئس ذلك الفاضل الأبي هذا اليأس إلا لأنه أبعد منزع الرجاء، فلم يكن غريبا أن يمنى بحسرة المضيع المنبت عن غايته، لم يكن ذلك غريبا ولو أنه كان في بلاد الغرب الناشط منشؤه، وفي ذلك الميدان الممهد جهاده، فكيف به وقد نشأ في هذا الشرق المسرف الذي يمشي بين الأمم في أطمار الفاقة، ويمزق ما يضفي عليه من نسج العقول تمزيق البذخ والغنى! إلا أننا نقول: من أين للشرق المسكين أن يفعل غير ما فعله؟ ومن أين لعظمائه المغبونين أن يفعلوا غير ما يفعلون؟! كفاهم عزاء أنهم أضخم من عظماء الغرب واجبا وأجل منهم قربانا، فإن يكن أمدهم بعد الأين والنصب قريبا وأثرهم بعد الجهاد ضئيلا قليلا، فلتكن سلواهم - لا بل فخرهم - أن واجبهم ثقيل وأن سفرهم على قرب الأمد سفر طويل.
و«فرح أنطون»: كسائر الكتاب الذين يستوحون قلوبهم ويقطرون على القرطاس من دمائهم، مفكر تؤثر في تفكيره عوامل الحياة وتنبث في نفسه ألوان الجو الأدبي الذي يحيط به. ولقد فاتني أن أحيط بكل ما كتب ذلك الأديب الفقيد، ولكن الذي قرأته من كتبه ناطق بحياة صاحبه، يدل على أنه من وحي ذهن لا تمر به مذاهب الفكر الشائعة في زمانه عبثا، ولا تتعارض حوله تيارات الحياة بغير جدوى، ولعل أصوب ما يقال في كتاباته أنها خير دليل على اتجاه تيار الفكر في أيامه وخاصة في نشأته الأولى؛ أي في عهد الصبا المتفتح للدنيا، المقبل على كل جديد، الذي قل أن يوصد بابه في وجه طارق من طوارق الأفكار الجميلة، أو يضن بموضع في نفسه على ضيوف الأحلام اللاعبة والخواطر الوسيمة.
نشأ «فرح أنطون» في سورية، وكانت نشأته في أواسط النصف الأخير من القرن التاسع عشر، فبقي في حياته الفكرية أثر واضح من وطنه المكاني ووطنه الزماني. فأما وطنه المكاني فظاهر الأثر في حملته على رجال الدين وشغفه بالمؤلفات التي تنحي عليهم أو تخفض من دعواهم وتقوض من دعائم سلطانهم، فمن ذلك إكثاره من الكتابة عن «تلستوي»، وتلخيصه لكتاب «رينان» في «تاريخ المسيح»، واشتغاله بالمقارنة بين «الدين والعلم والمال» وبين ما يتنازعه سدنة هذه الأرباب الثلاثة من سيادة على الضمائر والأجسام، ومن ذلك دعوته إلى الفصل بين الكنيسة والحكومة، ورأيه الذي ارتآه في كلامه على ابن رشد ذاهبا فيه إلى انتقاد الجمع بين السلطتين الدينية والدنيوية في الخلافة الإسلامية، وهو الرأي الذي كان من أسباب فشله وكساد مجلته «الجامعة».
ولعل سائلا يسأل: ولماذا يكون التحدي البين للنفوذ الديني خاصة من خواص النشأة السورية؟ فأقول لهذا السائل: إنني كنت كذلك أعجب لهذا الأمر وأستغرب الغيظ الشديد الذي تتوهج به كتابة السوريين الأحرار حين يحملون على النفوذ الديني في بلادهم ويصفون تغلغله في شئون قومهم، وكنت لا أعرف لذلك علة حتى تذكرت القوة التي يقبض على زمامها رجال الدين في سورية، فخطر لي أنه لا عجب! لأن رجال الدين هناك ربما كانوا أقوى الطوائف الدينية في العالم، وأوسع رعاة الكنائس إشرافا على حياة أتباعهم، فقد جمعوا بين الزعامة في الدين والزعامة في السياسة والزعامة في العلم.
وناهيك بها من سطوة هائلة تغري بالتحدي وتغري بالمناجزة ! أما سبب اجتماع هذه السطوة لهم، فللحوادث التاريخية التي حدثت عقب غارات الصليبيين وعقب الاتفاق على الامتيازات الأجنبية؛ دخل عظيم فيه. وخلاصته القريبة أن طائفة رجال الدين كانت في البلاد السورية - ولا تزال - معقد آمال الشعب المسيحي في الحرية السياسية، لما بينها وبين الحكومة الفرنسية والحكومات الأوروبية الأخرى من صلة معروفة، وأنها كانت - ولا تزال - قائدة الأفكار وقدوة المسترشدين؛ لأنها منشئة المدارس وطابعة الكتب ومربية الصغار والكبار. وإذا اجتمعت لفئة واحدة أزمة السطوة الروحية من كل جانب - كما اجتمعت لفئة القسيسين السوريين - فغير عجيب ألا يرضى عنها، وأن يتبرم بها، فريق الشبان المتعطشين إلى المعرفة الحرة، التواقين إلى الآراء المتجددة من أصحاب النفوس الأبية والعقول الطليقة والأخلاق المعتقة من أسر التقاليد والعادات، وغير عجيب أن يجعلوا تحديها والإغراء بها هجيراهم وشغلهم الشاغل في كل ما يدرسون ويكتبون، وهذا ما تراه في كتابات «فرح أنطون» مع شيء من الرفق والاعتدال، وتراه على تفاوت في الجرأة وغلو في اللهجة في كتابات الأدباء السوريين المهاجرين إلى الأقطار الأمريكية.
أما وطنه الزماني، فأثره ظاهر في الطريقة الكتابية التي تبعها منذ عهده الأول ولم يغيرها إلا قليلا في عهده الأخير، ونعني طريقة الكتاب القائلين بالعودة إلى الطبيعة، وهي - كما لا يخفى - الطريقة التي كانت كتبها وآراؤها ميسورة للقارئ الشرقي في ذلك العصر حيث يأخذ في مطالعة الآداب الفرنسية، ولا سيما الخفيف القريب المتناول منها، فلما ترعرع «فرح» واشتاقت نفسه إلى ما عند الغربيين من زاد الفكر ولذة النفس، ألفى بين يديه كتب «روسو» و«برناردين» وغيرهما تدعوه إلى موائدها السهلة الهنيئة، فأقبل عليها ولهج بها وتملكت لبه وأصابت من فطرته الوادعة الكريمة موقعا حسنا، وحق لها أن تصيب ذلك الموقع؛ لأنها كانت في عصرها أصدق ما يعبر به عن سآمة النفوس من آفات المدنية وأدرانها وجور الطغاة من ساسة القرن الثامن عشر، ويخيل إليك أن أديبنا كان يكتب بقلم من أقلام أولئك الفلاسفة والأدباء الذين تعشقهم وأغرم بآرائهم لقرب مأخذه من مأخذهم ومشاكلته إياهم في أسلوبهم وطلاوة عباراتهم. ولا أقول إنه كان يقلدهم أو يترسم خطاهم، فإني أجله عن ذاك ولا أضعه دون «برناردين» مثلا في منزلة أو صفة، ولكني أقول إنه توافق في الفطرة وتطابق في النظرة يسلكه في مضمارهم ويتقدم به إلى صف الكثيرين منهم.
على أنني لا أحسبه استمر طويلا على الإيمان بعقيدة العود إلى الطبيعة وابتغاء السلام في حظيرتها؛ إذ هي عقيدة لا تثبت على تجارب الأيام واختيار حقائقها ولا تبهر النظر في ضوء المذاهب المستحدثة بعد «روسو» وتلاميذه. ولا أشك في أنه اجتواها وأعرض عنها بعدما زاول من حقائق الدنيا ونظر في «دارون» و«نيتشه»، فإن الاطلاع على «دارون» و«نيتشه» ومن حذا حذوهما ينشئ للنفس إحساسا جديدا بمسئوليات الحياة، يغض من قداسة الرجعة إلى الطبيعة، ويجعل النكوص من المعترك وصمة وعارا. هذا فضلا عن أن الطبيعة التي يصورانها ليست بالملاذ الأنيس ولا بالملجأ الأمين من شرور المدنية وأوضار المجتمع، إنما هي والمدنية سواء في حكم تنازع البقاء وبطش الأقوياء بالضعفاء والأشرار بالأتقياء.
وفي مناجاة الكاتب لشلال «نياجرا» وقفة تريك العابد يمسح صنمه ويؤنبه ويسبح باسمه ويذكر له قلة غنائه عنه، تريك «فرحا» يحب الطبيعة وينكرها ويلومها ويعذرها، ويقول فيها ما يقوله الكافر الذي يود لو يؤمن والمؤمن الذي شق عليه أن يكفر، ففي مزاجه حنين إلى عقيدته القديمة فيها، وفي عقله نبو عنها وسوء ظن بها. ومن هذا النزاع بين مزاجه وعقله استملى مقالا من غرر ما يقرأ على نمطه في آدابنا الحديثة، وبث زبدة حياته وصفوة تجاريبه في بضع صفحات لا يمل تكرارها، وعندي أنها حسب كاتبها من أثر في عالم الكتابة إن لم يكن له قط أثر سواها.
كان «فرح أنطون» كاتبا على استعداد للرواية والقصص، وكانت ملكته القاصة تظهر أحيانا في مقالاته الأدبية والسياسية كما تظهر في رواياته وحكاياته، فمال به هذا الاستعداد إلى وضع الروايات، فأحسن وارتفع في روايته «أورشليم الجديدة»، ثم تقلبت به صروف، وألمت به محن، وتجرع من مرارة الخيبة مرارا.
وطلب إليه وهو بين اليأس والرجاء أن يترجم أو يكتب للمسرح، فلبى وبدأ بداءة حسنة، ولكنه لم يحقق بغيته، ولم يصنع شيئا يليق به أو يضاف إلى محاسنه، وقد حضرت إحدى رواياته التلحينية، فما أطقت الصبر على أكثر من فصل منها، ولم أر في موضوعها، ولا في فنها، ولا في غنائها، ولا في ممثليها، ولا في الجمهور الذي يسمعها، أثرا ل «فرح أنطون» الذي نعرفه، ولا علامة على ملكته السامية ومكانته الأدبية، وهي زلة نأسف لها ونعتبر بها. ولكن هل هو أول من يلام على اضطراره إلى هجر ملكته والخروج عن جادته؟ ألم يكن يربح في الرواية الواحدة من هذه الروايات ما يعادل ربحه من جميع مؤلفاته ومترجماته الصالحة؟ فمن المسئول عن ذلك؟ أهو أم الجمهور الأحمق المأفون؟! وماذا كان يصنع «فرح أنطون» إن لم يؤلف تلك الروايات؟! ألا فلنعلم أننا إذا كنا لا نختار للأديب النابغ المريض المنقطع الموارد إلا أن يموت بيننا على «الكتمان» جوعا، فقد يحق لذلك الأديب أن يختار لنفسه خاتمة أسلم وأكرم من تلك.
رجال حول «مي»
مي.
في سجل الأدب «الخاص» من عصر النهضة العربية الحديثة مكان فسيح لصفحات جميلة لا تزال مطوية إلى اليوم، وإن كان منها ما يهم أن يطلع إلى عالم النور من طيات الخفاء.
ونعني بالأدب الخاص، ذلك الأدب الذي لم يقصد للنشر، وإن كان فيه ما يشوق الاطلاع عليه كثيرين غير أصحابه في حياتهم الخصوصية. وعلى رأس هذه الصفحات صفحة «الندوة» التي كانت تعقدها نابغة جيلها «ماري زيادة»، وقد اختارت لتوقيعها الأدبي اسم «مي» من الحرفين الأول والأخير في اسمها بدفتر الميلاد، وتأتي هذه الصفحة على رأس أمثالها بين صفحات هذا الأدب الخاص، لمكان «مي» من نهضة الأدب ونهضة المرأة في آن.
لو جمعت الأحاديث التي دارت في ندوة «مي»، لتألفت منها مكتبة عصرية تقابل مكتبة «العقد الفريد» ومكتبة «الأغاني» في الثقافتين الأندلسية والعباسية.
ولو جمعت الرسائل التي كتبتها «مي» أو كتبت إليها من نوع هذا الأدب الخاص لتمت بها ذخيرة لا نظير لها في آدابنا العربية، وربما قل نظيرها عند الأمم الأوروبية التي تصدرت فيها المرأة مجالس الأزياء الأدبية والأزياء الاجتماعية، إلا أن يكون ذلك في عصر «الصالونات» أو عصر النهضة منذ القرن السابع عشر إلى ما قبل القرن العشرين.
أذكر هذا بعد قراءة الرسائل التي نشرتها مجلة «الهلال» للعلامة المفضال أستاذ الجيل «أحمد لطفي السيد»، فإن هذه الرسائل تعرفنا بصورة «للطفي السيد» لا نعرفها من كتابته في الجريدة ولا في كتابته في تراجم «أرسطو»، ولا في كتابته بدواوين الوزارة، وفيها من طابع الشخصية، وطابع الندوة، وطابع العصر ما تحسبه خاصا إن شئت، وتحسبه ملكا عاما، من ناحية الفن، لقراء الأدب الذي اقترن باسم «لطفي السيد»، واسم «مي»، وأسماء كتاب الندوة وأدبائها الكثيرين.
وعند «مي» - على ما نعلم - أنماط عديدة من الرسائل التي تسللت في عداد هذا الأدب الخاص ولا ندري أين موضعها الآن، وإن كنا نخشى أن تكون قد أحرقتها أو ردتها إلى كتابها لتسترد منهم كتبها إليهم، كما صنعت في غمرة من غمرات الحزن، غلبتها على صبرها بعد وفاة والديها.
ولكن الذي بقي منها في موضعه أو عند أصحابه، يساوي الجهد الجميل الذي يبذل في جمعه، وإنقاذه، وتسليمه لأصحاب الحق الأخير فيه، وهم قراء الآداب ومحبو الفنون.
كم كان زوار تلك الندوة العالية؟ وكم كان كتاب الرسائل منها وإليها؟
إنني أعد ممن رأيتهم غير مرة نحو الثلاثين، أذكرهم كما ترد أسماؤهم على القلم في هذه الساعة: «لطفي السيد»، «عبد العزيز فهمي»، «شبلي شميل»، «سليمان البستاني»، «أحمد شوقي»، «خليل مطران»، «أنطون الجميل»، «داود بركات»، «نجيب هواويني»، «توفيق حبيب»، «توفيق إسكاروس»، «أمين واصف»، «مصطفى عبد الرازق»، «مصطفى صادق الرافعي»، «هدى شعراوي»، «إحسان القوصي»، «إدجار جلاد»، «سليم سركيس»، «يعقوب صروف»، «حافظ إبراهيم»، «إسماعيل صبري»، «إدريس راغب»، «فؤاد صروف»، «عبد القادر حمزة»، «منصور فهمي»، «طه حسين»، «ملك حفني ناصف»، «مجد الدين حفني ناصف»، «عبد الستار الباسل»، ونخبة من هذا الطراز على اختلاف التشكيل ومع حفظ المقام. كما يقال في هذا المقام .
وكل زائر من هذه النخبة كان حقا له أن يزور الندوة في موعدها في أصيل يوم الثلاثاء، وكان يرى من حقه، أو واجبه، أن يعتذر لفوات موعده منها بعض الأيام، بل كان من حقه أن يكتب رسائل الاعتذار أو رسائل السؤال والتحية، وإن لم يكن من مطمعه دائما أن يتلقى الجواب.
أكل هؤلاء عشاق؟
وعلى كل من هؤلاء ينبغي ل «مي»، إذا أجابت، أن تجيب جواب المحبوبة التي تتقبل العشق ممن يدعيه.
هذا هو الخاطر العاجل الذي يسبق إلى الوهم كلما ذكرت تحيات الرسائل، أو القصائد أحيانا، من غير واحد في هذه الزمرة المختارة.
وهذا هو الخاطر الذي تصححه لمحة سريعة أيضا، إلى طبيعة الندوة وطبيعة التحية «العرفية» التي تناسبها، بل تستوجبها بقانون الشعر والفن، وإن لم نقل بقانون الجنتلمانية والفروسية!
فتاة جميلة أديبة، يزورها أدباء وشعراء وكتاب قصة وأصحاب ذوق في جمال الكلمة وجمال الطلعة.
إن فات أحدا من هؤلاء واجب التحية المناسبة للمقام، فما هو بزائر صالح لمثل هذه الزيارة، ولو لم تكن زيارة عشق ومناجاة.
وإن فات «ميا» أن تتقبل هذه التحيات، أو وجب عليها - كما قد يخطر على بال الأقدمين - أن تصدها بالعبوس والغضب، فليست هي زيارة «ندوة» إذن، ولكنها زيارة واحدة قد تنتهي كما تبتدئ عند باب الدار.
وهذا هو تأويل الرسائل على أسلوب الفن العاطفي، أو العاطفة الفنية، بين صاحبة الندوة وأكثر من زائر من نخبة هؤلاء الزوار.
ولكل منهم أسلوبه في تعبيره داخل هذا الإطار من التحية. «لطفي السيد» وأسلوب الجنتلمان الفيلسوف.
و«عبد العزيز» وأسلوب الصمت الخجل، كأنه الصبي في مجلس الفتيات القريبات.
و«أنطون الجميل» وأسلوب بائع الجواهر في معرض الهوانم.
و«شبلي شميل» وأسلوب المصارع في حلبة الفكر والشعور.
و«خليل مطران» وأسلوب «موليير» على غير مسرح التمثيل.
و«سليم سركيس» وأسلوب الدعاية للبيوتات في صالونات من أشهر صالونات البيوت.
و«مصطفى صادق الرافعي» وأسلوب المفاجأة بالكتابة التي يغني الاطلاع عليها عن السماع.
و«إسماعيل صبري» وأسلوب الشاعر الذي يعلم أن حق الغزل الصريح أولى بالرعاية من حق الكناية والتلميح، وهو الذي كان يكتب الأبيات قبل يوم الزيارة مستئذنا في الحضور:
إن لم أمتع بمي ناظري غدا
لا كان صبحك يا يوم الثلاثاء
و«أحمد شوقي» وأسلوب الإيماء من بعيد، وعليه تعليق الفيلسوف المعجب بالطرفين!
تتألف لجنة من لجان المحافل الثقافية، فيخرج «شوقي» من صمته مرة واحدة ليشترط أن تكون «مي» سكرتيرة اللجنة، وإلا فلا احتفال.
ويدركه «لطفي السيد» ليسأل: أهذ اقتراح شعري أو اقتراح في النظام؟!
وغير ذلك من الأساليب كثير على كل لون، ومن كل طراز، ولكنها كلها أساليب التهذيب واللباقة التي تناسب الزوار وصاحبة الدار.
وبين الزائرين الذين كانت لهم زلفى الرعاية الطويلة «إدريس راغب» رئيس المحافل الماسونية إلى عهد الملك «أحمد فؤاد»، ولم تكن «مي» من أعضاء المحافل الماسونية على ما أعلم، ولكن «إدريس راغب» كان يملك مطبعة المحروسة وينزل لوالد «مي» «إلياس زيادة» عن حق إدارتها وإصدار الصحيفة منها، وكانت ل «إدريس راغب» هواية صحفية تمكنت منه على الخصوص بعد عزله عن وظائف الإدارة على أثر القضية المعروفة بقضية أرض المطرية بين الخديو «عباس» و«حسن موسى العقاد»، فاقتنى المطابع لإصدار الصحف الفرنسية والعربية، وخص والد «مي» بالإشراف على المطبعة العربية دون أن يقيده بسياسة يمليها عليه، وكانت زيارته لندوة «مي» أشبه بالزيارات العائلية كلما اصطحب معه إحدى كريماته الفضليات، وإن أبت عليهم محافظة الأسرة أن يجلسن مع الزوار، فإذا حضر منفردا عرفنا ذلك من سؤال «مي» عن آل بيته السيدات، ومن جوابه بالاعتذار عنهن، أو دعوتها إلى زيارتهن في موعد قريب.
وكانت الآنسة «مي» حريصة على تقاليد العرف في الصالونات العائلية إلى حد التكلف، فهي تعقد ندوتها الأسبوعية للأدب والأدباء، ولكنها لا تنسى برنامج الصالون المصطلح عليه في البيوت، ولا تحب أن يظن الزوار العائليون أن أدبها ينسيها تقاليد «ربة الصالون» في مجتمع الأسرة، وأن مادة الثرثرة الاجتماعية «نمرة» منتظرة في كل صالون يحضره أناس من أصدقائها الأدباء، الذين تعرفهم معرفة عائلية وتقابل زوجاتهم وأخواتهم في بيوتهم وفي ندوتها، وقد كان يلوح لي غير مرة أنها كانت تنتظر من أولئك الزوار العائليين خبرا أو أخبارا عما يجري فيه الحديث بينهم في شئون الزواج والطلاق والخلاف والوفاق، وتعقب عليه بملاحظة عابرة أو نكتة فكهة، إلا أن يكون فيه شيء من المساس الصريح بالأخلاق المرعية، فهي في هذه الحالة تتابعه بالصمت أو تصرفه بكلمة عابرة.
قال أحد الحاضرين يوما: أسمعتم أن الأستاذ «حافظ رمضان» قد تقدم لطلب الزواج من السيدة «هدى شعراوي»؟
فقالت: «إنه خطيب كفؤ للزوجة المخطوبة»، والتفتت إلي كالمتسائلة عن رأيي في رأيها هذا، لأن الخطيبين لهما شأن في الحياة العامة، فقلت بغير اكتراث كأنني أساق سوقا إلى الحديث: إن الأمر يعنيهما، وبارك الله للعريس في العروس وللعروس في العريس!
وقد كانت «الحشمة الصعيدية» لا تفارقني بحكم العرف الذي نشأت عليه، وكنت أشهد مجلس والدي في صباي فلا أسمع خبرا من هذه الأخبار التي تدور على الحريم وكل ما يتصل به من سر أو علانية، فإذا عرض اتفاقا فإنه يعرض ليصرف على الأثر ولا يعاد إليه، وكانت - رحمها الله - مولعة بالإلحاح علي في هذه الأحاديث خاصة، وهي تنظر إلى تحرجي من الخوض فيها نظر الحضري إلى الريفي «الخام» القادم من القرية صباح يومه!
سألتني مرة: هل صحيح أن الأستاذ «عبد القادر حمزة» تزوج من السيدة «منيرة ثابت» صاحبة «الأمل»؟
قلت: لا أعلم، ولم ينشر الخبر في البلاغ على الأقل!
قالت متهافتة: أولا تعلم من أخبار زملائك في البلاغ إلا ما ينشر في الصحيفة؟
قلت: أو ما يعنيني أن ينشر!
فعادت تقول في شيء من التخابث المصطنع: لا لا يا أستاذ، لعل الخبر لا يرضيك لأمر يعنيك!
وكانت تتحدث قليلا جدا عمن يخطبونها كأنها تعتذر لرفض الخطبة بعد الخطبة، لغير سبب وجيه في رأي الأصدقاء الذين قد يلومونها على إعراضها الدائم عن الزواج.
قالت مرة لمن سألها عن خطبة شاب من أسرة غنية ذات لقب غير مقبول: أتريد أن تناديني غدا باسم مدام «بعجور»؟! ونحن نذكر اسم «بعجور» هنا بدلا من اسم الأسرة الصحيح، رعاية لشعور أبنائها الأحياء.
وخطبها طبيب لبناني، فعاتبها صديق له؛ لأنها ردته بشيء من الجفاء، فقالت: إنه لطيف لا خلاف، ولكن اللطف الذي قد يسميه من شاء «تأنثا» لا يعجبني.
وخطبها صحفي ثرثار كانت تصفه «بيبوسة المخ»، فلم تزد في جواب السائلين على السماح للخطيب المرفوض يوما من أيام الندوة بالانطلاق في الحديث عن عادته من اللجاجة والعنت، فكاد الحاضرون أن ينصرفوا جميعا، وكان هذا هو جوابها الغني عن البيان!
وتحدث بعضهم عن فتيات لاهيات متطرفات في الحرية الاجتماعية، وأبدى إشفاقه من فوات حظهن في الزواج بمن يناسبهن، فقالت ساخرة: ولكن هؤلاء وأمثالهن، يا أستاذ، هن اللواتي يسرع إليهم الأزواج من الأكفاء، وفوق الأكفاء!
ولقد كان لكل من رواد ندوتها العائليين، دور «عائلي أدبي» ملحوظ على منهجه المألوف.
كان للدكتور «شميل» دور الأب العصري الذي يحض فتاته على التحرر من قيود التربية العتيقة، وكان رفع الكلفة مع الناس جميعا طبعا من طباع الدكتور «شميل» لا يتكلفه مع أحد، فإذا استقبلته يوما في الندوة، فلمح على محياها أثرا من آثار الوجوم والاحتجاز، صاح بها صيحة الغضنفرية: ما هذا يا صغيرتي؟!
أنا حاضر هنا إلى صغيرة مثل بناتي، فماذا أرى؟ شيخة أناديها يا «أم شولي»؟
وكان «شميل» يملك حريته كلها في الندوة، كأنه صاحب الدار وصاحبته هي الضيفة الزائرة فيه، فرفع عصاه ذات يوم على الخطاط المشهور «نجيب هواويني» ولم يدعه حتى أخرجه من الباب، وذنبه الذي استحق عليه هذا الطرد العنيف أنه كتب قصيدة كان الدكتور يلقيها ويقول فيها على ما أذكر:
ماذا دهاك وكنت دين سياسة
ورئاسة يا أيها الإسلام
فكتب الخطاط «الكسلان» بدل الإسلام، وثارت ثورة الدكتور على الرجل الذي يبلغ من غبائه أن يكتب في القصيدة الواحدة قافية بالنون بعد قافية بالميم، وأبى أن يكون لمثل هذا حق في حضور ندوة يحضرها من يقرءون ويكتبون!
وكثيرا ما كان «شميل» يحمل على «الأدباء» في عصره حملاته المنكرة، ويصيح بهم كأنهم حاضرون أمامه يخاطبهم ويخاطبونه: فضونا من غلبتكم يا أدباتية يا أولاد الكلب!
وكانت الآنسة تجيبه ضاحكة كلما صاح هذه الصيحة: قلمك يقول إننا أولاد القرد ولسانك يقول إننا أولاد الكلب، فمن من الوالدين الكريمين تستقر نسبتنا إليه؟!
وكان للأستاذ «داود بركات» مثل هذا الدور الأبوي المتحرر من الفتاة الرصينة المتحرجة، وقد يتجاوز النصيحة الكلامية إلى الأخذ بيدها في محافل العائلات التي يسمح فيها بمراقصة الفتيان والفتيات، ليجذبها جذبا إلى مراقصة هذا أو ذاك من زوار الدار، وكانت هي تتملص من يده بلطف ووداعة، ولكن بعناد وإصرار.
والأستاذ «الجميل» كان كصديقه «شبيلي» و«بركات» في هذه الأبوة الأدبية، ولكنه كان يؤثر نصيحتها برعاية صحتها وراحتها على النصيحة بالتحرر والانطلاق من قيود التحرج والاحتجاز، وقد كانت له شدة تبلغ منه غاية ما يستطيعه بمزاجه «الدبلوماسي» المطبوع، كلما لحظ عليها نوبات العناد والإصرار في أيام مرضها الأخير، فربما قال لها وهو يظهر قلة المبالاة: ماذا تظنين وأنت تهملين صحتك هذا الإهمال؟! أتظنين أن العالم الأدبي يجفل في احتجاجك الصامت هذا ويجلس للبكاء عليك أو للضراعة بين يديك؟! التفتي إلى نفسك، التفتي لمصلحتك، وإلا فأنت الباكية وحدك لما يصيبك من هذا الإهمال، وهذا العناد.
أما الأستاذ «خليل مطران» فقد كان دوره في الأبوة الأدبية كهذا الدور بعينه، ولكن من ناحيته الفنية الشعرية، ولعله كان دور «الأب» الممراح في صورة من صور أبطال «موليير» تلقى القبول والاختيار؛ حيث تكون الأبوة هناك أبوة جد وإلزام.
كانت طريقته معها طريقة الدعابة السمحة والنقد المباح، وكان في دعابته أحيانا يضع تكلفها الاجتماعي أو العاطفي موضع «الرياء» المتفق عليه، ويغايظها بإبراز هذا الرياء للعيان، فلا تغضب منه ولا تأباه، بل تضحك منه كما يضحك الزوار.
خرجت يوما لتودع سيدة جليلة وكريماتها من أصدقاء «مطران» فخرج معهن، وطال بهن الموقف عند باب الندوة بين التوديع، وإعادة التوديع، والحزن للفراق والرجاء في قرب اللقاء، فلما انقضى هذا «الفصل» الذي لا حيلة في تمثيله على البداهة أو على الروية، سبقهم الشاعر الكبير عائدا إلينا وهو يفرك يديه ويتباكى من الحسرة والأسى، وراح يقول وهو ينظر إلى الآنسة: يا سلام! يا سلام! «الجماعة دول وداعهم مؤثر. مؤثر قوي!»
فقلت له متشككا كأنني أقتص من دعابته التمثيلية: «مش باين» يا أستاذ.
قال: رحمتك يا أخ، أتريد أن ألطم؟
وحضر في أثناء ذلك زائر كبير من زوار الندوة وهو يغالب الضحك على خلاف عادته من الوقار، فقال «مطران»: الحمد لله، ماذا يضحك يا أستاذنا الجليل؟!
وكان الزائر الحاضر هو العالم الفيلسوف الأمثل الأستاذ «مصطفى عبد الرازق»، وقد مر ببار اللواء في طريقه إلى دار الآنسة، فاستوقفه صديقه الإداري الأديب «أمين واصف» وحدثه عن رئيسها «أحمد شفيق باشا» في جماعة الرابطة الشرقية، وراح يحكيه وهو يمشي إلى محطة العاصمة بملابسه التي اخترعها لتوحيد الأزياء الشرقية، وكان من حديثه عنه أنه لم يسلم عليه حين رآه للوهلة الأولى؛ لأنه حسبه في ذلك الزي مسجونا يسفرونه تحت الحراسة إلى الليمان!
وانقلب «التباكي» القريب إلى «انفجارة» مندفعة من ضحك القوم جميعا؛ لأنهم كلهم يعرفون أضاحيك «أمين واصف» ومراسم الشيخ المتزمت الغالي في التزمت «أحمد شفيق».
وثاب الشيخ «عبد الرازق» إلى وقاره بعد هنيهة، فقال كالمعتذر من هذه الثورة الضاحكة إلى الآنسة ربة الدار: ما هذا؟! إننا نضحك هذا الضحك مرة واحدة، فلا تؤاخذينا، فالعتب على القافية.
ولحقه «مطران» بغير أناة وهو يواصل ضحكه ويقول للشيخ: اضحك، اضحك يا مولاي، من الذي يطول ضحكة من هذه الضحكات في هذه الأيام؟! •••
وكان مطران أخبر زوار الندوة باللغة التي يجيب بها عن أسئلتها كلما سألت عن أحد، أو عن أمر، لا يسمح المقام بالصراحة «التامة» في الحديث عنه، جرى ذكر شيخ من كبار المستهترين في زمانه فضحكنا، فسألت: لماذا تضحكان من سيرة هذا الشيخ؟ ومن هو؟!
قلت: إنه شيخ متعبد وشرب الخمر أخف معاصيه.
قالت: يا حفيظ!
والتفتت إلى «مطران» ففهم أنها تستزيد البيان، فقال: هو رجل مستريح الضمير!
وربما كانت الألفة «العائلية» أقرب من ألفة الأدب في ترجيح دور «مطران» في الندوة ؛ لأن والدة الآنسة «مي» - وهي سيدة ذكية حازمة - كانت تعرف أهله كما تعرفه وتستمع إليه وإن لم يتحدث عن الأدب والفلسفة.
وانطلق ذات ليلة في نوادره ومداعباته وأخباره، لا يكاد يسكت أو يؤذن السامعين بالسكوت، فهمست في أذن الآنسة أقول: يحق للسيد «خليل» أن يعجبه كلامه كما يعجبنا، فإنه محدث ظريف خبير بأفانين السمر.
وسمعت والدتها هذه الملاحظة الهامسة فابتسمت وقالت بصوت مسموع: إنه كأمه تماما، أمه مثله كلمة كلمة!
وقد كنت - كلما ازددت معرفة ب «مي» وبحياتها في ندوتها وفي بيتها - أشعر بحنان هؤلاء الأفاضل الأبويين نحوها، فإنهم - ولا ريب - كانوا يقصدون التسرية عنها، ويدركون من بواكير صباها أن فرط التزمت في طويتها يجاوز حده المأمون، وإنما يوشك أن تعاني كثيرا من عادة العزلة النفسية التي جنت عليها في أخريات أيامها، وأنها تغالب شجنا كمينا لانطوائها الشديد على ذاتها، يخيل إلي أنه مزيج من الصدمة العاطفية وشعور التبتل العميق في سليقتها الدينية.
أحمد لطفي السيد
1
كان في فكرته «أفلاطونيا» بجميع معاني هذه الكلمة، ومن معانيها «الأفلاطونية» التي هي فكرة بغير منفعة أو بغير داع من دواعي الأثرة والأنانية، كالحب العذري كما تفهم بالعربية.
ومن معانيها، وهو أقرب إلى ما نعنيه في هذا المقال، أن الرجل العام ينبغي أن يعيش للمصلحة العامة تطوعا وحسبة بغير جزاء، وألا يشتغل بخاصة أموره «الشخصية»؛ لأن الدولة التي يتجرد لخدمتها هي التي تتكفل له بكل وسائل التفرغ لتلك الخدمة، وليس له بعد ذلك حق في وقته الخاص لغير القيام بحقوقها.
وهذا هو دستور الحكم الأفلاطوني كما شرحه الفيلسوف اليوناني في كتابه الموسوم باسم «الجمهورية»، وقد اشتهر في العالم القديم والعالم الحديث باسم «جمهورية أفلاطون».
ولقد كان «لطفي السيد» يعيش فعلا على وفاق هذا الدستور، وكان - من زمن بعيد - يعهد في زراعة أرضه وتثميرها إلى بعض أقربائه، ولا يتعرض لتفصيلات حسابها، مكتفيا بما يقدمه وكيله عليها من حساب مجمل عن غلاتها ونفقاتها. وكانت طريقته في تدبير نفقات البيت كطريقته في تدبير حساب ضيعته، وهي الضيعة التي أبى أن يملكها كلها حين أراد أبوه أن يختصه منها بخمسمائة فدان لا تدخل في تقسيم الميراث بينه وبين إخوته، فأبى ذلك وأصر على الإباء، ولم يقبل من الميراث غير حصته التي يستحقها مع سائر الورثة على سنة المساواة.
يفكر للكون كله
طال حديث اللغة والمجمع يوما حتى وصلنا إلى نادي «محمد علي»، وكان النادي على مقربة من المجمع اللغوي؛ إذ كان مقره بأول شارع القصر العيني، فدعاني إلى إتمام الحديث في مجلسه المختار بالنادي، حيث كان يقضي أوقات الفراغ ويتناول أحيانا طعام الغداء أو العشاء.
وحضر إلى النادي صديقه الدكتور «بهي الدين بركات»، فعلم منه عرضا أنه ينوي السفر إلى عزبته لبعض أعمال زراعية تستدعي حضوره، فسأله مصطنعا الجد كعادته في توجيه بعض الأسئلة التي يريد أن يستطرد منها إلى مناوشة من مناوشاته الفلسفية، قال يخاطب الدكتور «بهي الدين»: وهل من حق «الرجل العام» أن يفرغ لخاصة شئونه.
ففهم الدكتور مقصده من هذه المقدمة التي تعودها منه - على ما يظهر - كما تعودها محدثوه، وقال ما معناه: وهل العمل في الأرض محرم في شريعة الحكمة؟
قال: أنا لم أقل هذا.
وأردت أن أشترك في المناوشة فقلت: إنما هو سؤال ليس إلا.
قال الدكتور «بهي الدين»: أهو سؤال بريء؟
قال الأستاذ: أما أنه سؤال بريء فلا!
ومضى الدكتور «بهي الدين» يتحدث عن العمل الذي يسافر إلى العزبة من أجله، ومنه مشروعات للتعاون والخدمة الاجتماعية لمصلحة الفلاحين.
فعاد الأستاذ يقول: أما هذا فمرخص به للرجل العام.
وقد كان أقدم زملائه وأصدقائه من أيام الدراسة الثانوية «عبد العزيز فهمي» باشا يداعبه كثيرا من هذه الناحية، ويقول كلما خالفه في رأي من آرائه الفلسفية أو اللغوية: إنك يا «لطفي» تفكر للكون كله، ولا يعنيك أمر الزمن القريب ولا أمر هذه الخلائق الفانية.
وكان أمتع ألوان الحديث بين الرجلين الكبيرين تلك الأحاديث التي كانت تجري بينهما في السيارة أثناء الطريق من دار المجمع إلى «مصر الجديدة»، حيث يقيمان وأقيم على مقربة منهما، ويتفق كثيرا أن يدعواني إلى صرف سيارتي ومصاحبتهما بعد انتهاء جلسات المجمع، ولا سيما الجلسات التي يطرأ عليها بعض الخلاف بيني وبين «عبد العزيز باشا» في مسائل اللغة أو الأدب، وحدث ذلك كثيرا أيام المناقشة على كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية، وهو موضوع شغل صاحبنا القانوني الكبير يومئذ عدة شهور، ولم يكن يطيق المعارضة فيه.
فقال لي مرة، وقد أنس من الأستاذ «لطفي» شيئا من الميل إلى ترجيح رأيي: «اوع تطلع فيها يا عقاد على طريقة أستاذنا «لطفي»، إن «لطفي» ينظر إلى هذه الأمور التي نشتغل بها نظرة الأرباب، قل له: ما رأيك إذا كتبت العربية غدا بالحروف الصينية؟ يقل لك على الأثر: «ويجرى إيه؟»»
فقال لطفي: «ويجرى إيه؟!»
وعاد «عبد العزيز» يكرر الحديث عن نظرة الأرباب وصديقه يكاد يهم بالتأفف من هذا التكرار، حتى قال متأثرا: ألا ترى أنك تسخر مني بهذا الحديث عن الأرباب والنظرات الكونية؟
فأسرع «عبد العزيز» يرد على صديقه بلهجة جافة، كلهجة الدائن الذي يخاطب المدين المماطل: ما هذا التجني يا أخي؟!
فصرف لطفي موضوع هذه المناقشة قائلا: ليكن حديث أرباب، دع الأرباب هي التي تحتج عليك هذه المرة!
معركة ولي العهد
وأشهد أنني ما عرفت خليقة الحلم في «لطفي السيد»، ولا فضل هذا الحلم في دوام الصداقة بينه وبين أصدقائه وأخصهم «عبد العزيز فهمي»، إلا من أمثال هذه المساجلات التي تنتهي بالجفاء في الخطاب، وقد اشتد بعضها حتى بلغ من الشدة أن «يقفل» «عبد العزيز فهمي» التليفون في وجه صديقه، على أثر محادثة سريعة كان موضوعها أيضا ذلك الموضوع الشائك عن الحروف اللاتينية.
روت إحدى الصحف عن الأمير «محمد علي توفيق» أنه يستنكر الدعوة إلى كتابة العربية بالحروف اللاتينية، فثارت عليه ثائرة «عبد العزيز فهمي»، وبسط لسانه فيه بكلام حاد على مسمع من أعضاء نادي «محمد علي»، وقد كان الأمير «محمد علي» رئيسه يومذاك، وكان أيسر ما قال في تلك الحملة خطابه لسامعيه وهم يجتهدون في تهدئته: أتحسبون أنني لا أحترم الأمير «محمد علي»؟ أتحسبون أنه حين يتكلم عن الكتابة بألفاظه الفصيحة «كخذروف الوليد» يستحق مني غير الاحترام؟ كلا، إنني مطالب باحترام ولي العهد بحكم الدستور!
ثم خرج من النادي توا إلى قصر عابدين فكتب اسمه في دفتر التشريفات، وجعل مناسبة هذه الكلمات في غير موعد من مواعيد التهنئة أو المعايدة: أنه يسأل الله أن يرزق الملك ولي عهد رشيدا تقر به عيناه!
وسمع «لطفي السيد» بهذه الجملة، فخاطبه تليفونيا ليرجوه أن يترك الأمير وشأنه على الأقل في أحاديث النادي، فوضع «عبد العزيز» سماعة التليفون بعنف شديد ولم يعتذر من هذا المسلك مع صديقه إلا بعد أيام، وإن كان على هذا في سائر أحواله عظيم الإكبار له عظيم الثناء عليه. •••
ولا شك أن كلام القاضي الكبير عن نظرات صديقه الكونية لم يخل من أسلوب الدعاية التي تبيح بعض المبالغة، ولكنها - بعد السماح للمبالغة بحصتها في وصف هذه النظرات - لم تخل من العدل في تقرير الواقع إلى حد محدود.
ف «لطفي السيد» كان ينظر إلى المسائل الفكرية والاجتماعية نظرة محيطة واسعة، يوشك أن تتعادل فيها جميع الجوانب والأطراف، ولكنه كان من أشد المفكرين اهتماما بما يعتقد فيه الخير والصلاح، وكنا نلمس على محياه أمارات الغم الصامت كلما خولف اعتقاده وجرت الأمور على غير ذلك الاعتقاد في الحياة العملية.
إلا أن الأمر الذي كان يبيح لصديقه أن يحسبه من الأرباب في تفكيره، أنه على كل إيمانه بعقائده العقلية والخلقية لا يرى من المستحيل أن يكون لغيره الحق في إيمان كهذا الإيمان على خلاف ما يراه بعقله ووجدانه.
وكان كثيرا ما يقول لمن يحتم أمرا من الأمور: وهل في هذه الدنيا شيء ضروري؟ وهل في هذه الدنيا أحد ضروري؟ وهل يمتنع غدا أن تتساوى النتائج وتتلاقى الأضداد التي نحسبها الآن على افتراق بلا لقاء؟
رأي ل «سعد زغلول»
وهذه النظرة المحيطة هي سر «ديمقراطيته» في مسلكه بين الناس ومسلكه بين زملائه في العمل، وإن خالفوه أبعد المخالفة في الآراء، ولا أذكر مرة واحدة في نحو عشرين سنة قضيناها معه بمجمع اللغة العربية، أنه حاول بالتصريح أو التلميح أن يؤثر في اتجاه المناقشة أو يقاطع صاحب رأي يعارضه وينفر منه، وإنما كان على الدوام يصغي باهتمام إلى نهاية المناقشة ولا يشعر المخالفين له بعد ذلك أنه كان معهم على خلاف.
تلك السماحة الواسعة في تقدير وجوه الخلاف التي جعلته مرجعا للمشورة الصادقة بين أصدقائه وتلاميذه من المشتغلين بالحكم والقائمين بأعمال الوزارات، فقد كان يمحضهم الرأي من جميع جوانبه ويوازن لهم بين جميع احتمالاته، ويتركهم أحرارا فيما يختارون، وإن كان ليتركهم أحيانا أخرى على باب التيه يحارون بين مضطرب الأفكار ومفترق الظنون والتقديرات، ولا أدري ممن سمعت - أمن «سعد زغلول» أم من «محمد محمود» - أن «لطفي السيد» قوي الفكر، ولكنه قد يكون في بعض تقديراته واحتمالاته قوتان متعارضتان، فيقف به هذا التعارض دون العمل المستطاع، أو يقف به دون الحماسة لرأي من الرأيين؟ ولا بد من الحماسة «ذات النظر الواحد» لمن يريد أن يمعن إمعان الجد والعناد في طريق مقصود إلى غرض محدود، ولم يكن «لطفي السيد» قط ذا نظر واحد يحجب عن تفكيره سائر الأنظار.
فلم يكن من طبعه أن يصادم أحدا أو يصطنع في الخصومة قسوة ولددا، ولكنه كان يثبت في مكانه ويترك لمن يخالفه أن يصطدم به إذا شاء، ولا سماحة فيما وراء ذلك إذا سامته السماحة أن يتحول عن مكانه الذي استقر عليه. فهو عند رأيه لا ينحرف عنه وإن أعطاه من الصور الفكرية ما يدفع عنه شر الضغينة والافتراء.
مصر للمصريين
كان من مبدأ «لطفي السيد» - كما هو معلوم - أن استقلال مصر مقدم على الاعتراف بالسيادة العثمانية، وكان هذا معنى شعاره وشعار زملائه في الرأي والعقيدة: أن مصر للمصريين.
ووقعت الجفوة بينه وبين الخديو «عباس الثاني»؛ لأن الخديو وجده على غير ما كان يرتضيه حين اختاره عضوا في الجماعة السرية التي تنشر الدعوة إلى القضية الوطنية في الديار الأوروبية. واتفقا مع أعضاء هذه الجمعية على سفر «لطفي» من مصر وإقامته بسويسرا سنتين لاكتساب الجنسية السويسرية والانتفاع بهذه الحماية في مكافحة الاحتلال، فلم يستحسن «لطفي السيد» هذه الحيلة، ولم يلبث أن تنحى عن الجماعة حين أحس أن الخديو يريد أعضاءها خداما لشخصه وأعوانا لسلطانه على غير المبادئ الدستورية، وتمت القطيعة بينه وبين القصر بعد ولاية «لطفي» لتحرير «الجريدة» لسان حال حزب الأمة، فتحمل القصر وحاشيته معاذيرهم لرفع الدعوى الجنائية عليه، واتخذوا من مناداته الصريحة بالاستقلال التام دليلا «قانونيا» على «خيانة» السيادة المعترف بها للخليفة العثماني والمتفق عليها في العلاقات الدولية، بمقتضى المعاهدات التي يقرها المحتلون ولا يستطيعون «قانونا» أن يسقطوا العقوبة عمن يخرج عليها.
وخطر للطفي السيد أن يحبط هذه المكيدة بعد أن جهرت بها الصحف الموالية للقصر، ومنها «المؤيد» الذي كان له وزنه ونفوذه في الصحافة العربية.
قال «لطفي السيد» مدافعا عن رأيه: إنه يدعو إلى استقلال مصر ولا ينكص عن هذه الدعوة، ولكن التمام غير الكمال، وقد يقال إن الطفل إنسان تام، ولكن الإنسان الكامل لا وجود له بين الأطفال ولا بين الكبار، وكان من حجته التي أعدها للدفاع عن رأيه أن بقاء الخلافة لا يقتضي أن تكون مصر مسلوبة السيادة، ولا أن يكون استقلالها ناقصا غير تام.
وشاءت المصادفات في دراسات المجمع أن تعرض مسألة الفرق بين التمام والكمال، وأن أذكر رئيسنا برأيه القديم، فابتسم وقال: لعله من الوجهات السياسية رأي مقبول، ولكنني لم أندم على شيء ندمي على ذلك التفسير الذي أحبطت به دسيسة القوم، ووددت لو أنني تركتهم يدعون ما يدعون ولم ألحق مبدأ «الاستقلال التام» بأي تفسير.
وبقي الرجل على شعار «مصر للمصريين» ومبدأ «الاستقلال التام» بغير تفسير، وكان هو ثالث ثلاثة وضعوا صيغة توكيل الوفد في طلب الاستقلال التام، أما الاثنان الآخران فهما صديقاه «عبد العزيز فهمي» و«سعد زغلول»، ولولا أنه لم ينتخب عضوا للجمعية التشريعية، لكان ثالثهما في زيارة دار الحماية للمطالبة بإلغاء الحماية البريطانية والاعتراف لمصر بالاستقلال التام، مع إنكار السيادة العثمانية والحماية البريطانية على السواء.
المرشح الديمقراطي
وقصة سقوطه في انتخابات الجمعية التشريعية إحدى أعاجيب الدعاية الانتخابية التي تعرض لها من جراء المناداة بالحقوق الديمقراطية؛ إذ كان منافسه يشيع عنه أنه يطلب للمرأة الحق في الجمع بين أزواج أربعة؛ لأنه يطلب لها المساواة الديمقراطية، ويسألونه: هل أنت حقا من طلاب الديمقراطية؟ فيجيبهم بالتأكيد ويعيد لهم الشرح من جديد.
ومما أذكره أنني ذهبت إلى مكتبه بالجريدة لمؤاساته في هذه الخيبة المؤسفة، فوجدته قد تلقاها بصبر الحكماء وفكاهة العظة والاعتبار، وهو لا يخفي إعجابه بذلك «الريفي» الماكر الذي غلبه باسم الديمقراطية! ثم حضر «الشيخ طه حسين» وأنا عنده، وكان شابا يلبس العمامة لا يزال، فإذا بالأستاذ يتبسط معه ويعزيه؛ لأن زميله في ترجمة بعض الكتب - الأستاذ «محمد رمضان» - قد خرج بمثل هذه الهزيمة من معركة الانتخاب، وكان الشاب «طه حسين» كفؤا لهذه الدعابة، فكان جوابه للأستاذ: إنني أتقبل التعزية ولكنني أرجو يا أستاذنا ألا ترفضها!
وهذه الديمقراطية التي نادى بها لطفي السيد - فكرة وقولا - قد عاش لها وعاش بها عملا وإيمانا، وقد كانت هي الطابع الذي طبع عليه بمزاجه قبل أن يطبع عليه بتفكيره ودراسته، ولم تمنعه شيمته التي تتمثل فيها كل خلائق الوجاهة الفطرية أن يكون «أرستقراطيا» بالشكل ديمقراطيا بالموضوع، إذا جاز هذا التعبير.
كان هذا الرجل الممتاز بشخصيته وخلقه فكرة في حياة، أو حياة ملكتها الفكرة في خاصة شأنه وعامة عمله وقوله، وإخالنا نقيمه في مقامه الوطيد بين مفكري العصور حين نقول إنه في عصرنا هذا زميل عربي «لأرسطو» اليوناني، تجدد مع الزمن في مدرسة الثورة الفرنسية؛ مدرسة «فولتير»، و«روسو»، و«مونتسكيو». وعاش بعدهم فتقبل من حكمة العصر ما كانوا يتنزلون إلى قبوله من حكمة القرن العشرين، ولكنه لم يزل بعد منتصف هذا القرن العشرين على نمطه السلفي الأفلاطوني، فكرا في إهاب إنسان.
حول مذكرات عبد العزيز فهمي
بعد وفاة «لطفي السيد» - رحمه الله - ظهرت لزميله وصديقه «عبد العزيز فهمي باشا» مذكرات عن تاريخ حياته، تكلم فيها عن أعمالهما في الحياة العامة، وفي حركة الوفد المصري الذي كانا عضوين فيه، واستوقفني خلال المذكرات بعض مواضع للملاحظة والتصحيح ولم يتسع المجال للتعقيب عليها جميعا، فاكتفيت بما جاء منها عن مقدمات الحركة وهو كاف للإبانة عن مدى الاختلاف بين الواقع والرواية في سائر المذكرات، وهذا هو التعقيب كما نشرناه في صحيفة الأخبار:
قرأنا في مذكرات الأستاذ «عبد العزيز فهمي باشا» فصلا عن تأليف الوفد المصري، وعن الأعضاء الثلاثة الذين قابلوا المندوب البريطاني «سير ريجنالد ونجت»، قال فيه: «هؤلاء الثلاثة هم سعد زغلول وعلي شعراوي وعبد العزيز فهمي، ومما تجب ملاحظته هنا أن اختيار هؤلاء الثلاثة إنما وقع بطريق المصادفة والاتفاق، وإلا فباقي إخوانهم فيهم من هو أكفأ في النضال المنطقي وأولى بالسفارة، مثل رجلنا الكبير أحمد لطفي السيد، ولعل التقدم في السن كان هو السبب الطبيعي الذي أدى إلى اختيارهم.»
هذا ما جاء في المذكرات بنصه منقولا عن أحد الأعضاء الثلاثة، يليه كلام عن المناقشات التي دارت بين «سعد» وزملائه حول الاستعداد لإثارة القضية المصرية أمام مؤتمر الصلح، يدل كله على ضرورة «التبييض» في كل كلام يتعرض لمسائل الخلاف في السياسة؛ لأنه يحتمل السهو والنسيان كما يحتمل التأثر بالميول والخصومات، ولكننا نكتفي هنا بالفقرة الأولى من هذه القصة كلها؛ لأن الحقيقة فيها أظهر من أن تحتاج إلى المراجعة والمناقشة، وهي تتعلق بسبب اختيار الأعضاء الثلاثة لمقابلة ممثل الدولة البريطانية دون غيرهم من المشتركين في الوفد بعد تأليفه.
لم يكن اختيار هؤلاء الأعضاء الثلاثة مصادفة واتفاقا، ولم يكن للتقدم في السن على سائر الأعضاء، ولكنهم كانوا هم نواب الجمعية التشريعية بين الأصدقاء الخمسة الذين تألفت منهم نواة الوفد في المرحلة الأولى، وهم كما ذكرهم الأستاذ «أحمد لطفي السيد» في قصة حياته: «سعد زغلول» و«عبد العزيز فهمي» و«علي شعراوي» و«محمد محمود» و«لطفي السيد»، ولم يكن الاثنان الأخيران من أعضاء الجمعية التشريعية، فتقرر الاكتفاء «بسعد» وكيلا للجمعية و«شعراوي» و«عبد العزيز» العضوين فيها، ليكون للثلاثة صفة الكلام بالنيابة عن الأمة.
وقد كان الانتخاب للجمعية التشريعية أهم أسباب هذا الاختيار باتفاق الأعضاء، ولكنه لم يخل من أسباب أخرى لوحظت فيه - كما سمعنا من «سعد» بعد ذلك - ومنها أن «علي شعراوي» يمثل أعيان الفلاحين، وأن «عبد العزيز فهمي» - الذي كان نقيبا للمحامين - يمثل طائفة المتعلمين، وأن الأول من الوجه القبلي والثاني من الوجه البحري، فهم صالحون لتمثيل الناخبين في أوسع نطاق.
ولما تقرر القبض على الزعماء الأربعة ونفيهم إلى جزيرة مالطة، لم يكن هذا الاختيار أيضا من قبيل المصادفة والاتفاق في نظر الجهات الرسمية، ولكنه كان عند هذه الجهات موافقا لتقاليد «البروتوكول» في نظام الأولية، فكان «سعد زغلول» رئيس الوفد ووزيرا سابقا، وكان «إسماعيل صدقي» عضوا يليه في الأسبقية الوزارية، وكان «محمد محمود» مديرا من كبار الموظفين، وكان «أحمد الباسل» يحمل لقب الباشوية ويمثل رؤساء العشائر في البلاد.
فلم يكن هنالك محل للمصادفة، ولا لاعتبارات السن، في اختيار الزعماء من جانب الوفد أو من جانب السلطات الرسمية، ولكنه عمل من أعمال النظام متفق عليه، وقد سها عن ذلك رجل من أولى الناس بذكر مسائل النظام فضلا عن كونه أحد هؤلاء فكيف بسائر الروايات؟ وكيف بسائر الرواة؟
أما بقية الكلام على المناقشات التي دارت عند التفكير في إثارة القضية الوطنية، فهي أحوج من هذه القصة إلى التعقيب، وهي لحسن حظ التاريخ مما يكفي للتعقيب عليه مجرد البيان الوجيز.
2
كان حزب الأمة يضم بين أعضاء مجلس إدارته وسائر أعضائه البارزين فئة كبيرة من السروات وأصحاب الجاه والثراء في البلاد، وكانت الصلة الجامعة بينهم كافة أنهم من «غير المرضي» عنهم في قصر الأمير، وأرادوا أن يتخذوا لحزبهم صحيفة على «أوجه» طراز بين الصحف الأوروبية، وبخاصة صحافة «فرنسا» التي كان معظم المتعلمين من رؤساء الحزب يتثقفون بثقافتها ويفضلون صحفها على صحف «إنجلترا» دولة الاحتلال، فاختلفوا زمنا على اختيار إحدى الصحفيتين الكبريين في باريس مثالا لصحيفة الحزب اليومية، وهما «الطان» و«الجرنال».
أما «الطان» فكان المرجح لها عند العارفين بالشئون الصحفية أن ترجمة اسمها «الزمان» تجعلها أصلح للنداء عليها في اللغة العربية.
ولكن «الطان» صحيفة شبيهة بالرسمية وعلى صلة بالدواوين العليا ، فليس من الموافق لحزب يسمى بحزب الأمة ويتجنب الاتصال بقصر «عابدين» وقصر «الدوبارة» على السواء، أن يتخذها مثالا لصحيفته القومية.
فانتهى الخلاف إلى اختيار «الجورنال» نموذجا لصحيفتهم، و«الجريدة» هي ترجمة اسم الجورنال.
وظهرت «الجريدة» على مثال الجورنال في الصبغة «غير الرسمية» وفي نظام التحرير وترتيب الصفحات، وأظهر ما كان في هذا النظام فتح صفحات «الجريدة» للكتابة الأدبية، بأقلام ناشئة الجيل الحديث، وربما أفسحت في صفحتها الأولى - إلى جانب المقال الافتتاحي - موضعا بارزا لقصيدة عاطفية أو مقال طريف من مقالات الوصف والنقد اللغوي، وترددت على صفحاتها أسماء «هيكل» و«عبد الرازق» و«طه حسين» و«محمد السباعي» و«شكري» و«المازني» و«القاياتي» وكاتب هذه السطور، وغيرهم وغيرهم كثيرون.
وكان «اللواء» لسان حال الحزب الوطني، و«المؤيد» لسان حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية يتقبلان الكتابة بأقلام الناشئين، ولكنهما يقصرانها على الناحية السياسية ولا يرحبان بالكتابة الأدبية، إلا إذا كانت بأقلام الشعراء والكتاب النابهين من طراز «شوقي» و«حافظ» و«مطران» و«المويلحي» و«المنفلوطي» وأمثالهم بين أدباء الجيل المتقدم، فاتجه الأدباء الناشئون إلى «الجريدة» ولا سيما الطلبة والموظفون؛ إذ كانت الكتابة في السياسة محظورة عليهم، وكانوا يكتبون فيها أحيانا إلى الصحف عامة - ومنها الجريدة - بتوقيع مستعار.
وكنت أرسل مقالاتي أو مقطوعاتي الشعرية بالبريد فتنشر بعد يوم أو يومين من وصولها، ولكني قدرت لإحدى المقالات أنها لا تحل عند قلم التحرير محل الترحاب إذا وصلت إليه محولة من مدير التحرير، فتعمدت أن أسلمها إلى المدير يدا بيد، ولم أجد صعوبة في لقائه عندما قصدت إلى مكتبه على غير ميعاد.
كانت المقالة على ما أذكر نقدا لكتاب الأستاذ «محمد لطفي جمعة» عن «كلمات نابليون»، وكان الأستاذ «جمعة» قد نقل بعض الكلمات كلما ترجمتها بحروفها ولم يشر إلى هذه الترجمة، فلما نبهت إلى ذلك في تعليقي على كتاب الأستاذ «محمد لطفي جمعة»، تذكرت أنه صديق لأكثر المحررين «بالجريدة». فكان ذلك من دواعي التفكير في لقاء الأستاذ «أحمد لطفي السيد» لتسليمه المقالة، ولإرضاء فضول الشباب برؤية ذلك «الفيلسوف» الكبير الذي كنا نقرأ له ولا نراه.
واستقبلني مدير الجريدة استقبال الرعاية والترحاب، ثم تصفح المقالة على عجل وأمر بإرسالها إلى المطبعة على الأثر، وهو يقول مبتسما: ألا تخاف من نابليون يا بني؟!
قلت وأنا أعلم أن كلمة الديمقراطية من أحب الكلمات إليه وأكثرها ترددا على لسانه وقلمه: الحمد لله على نعمة الديمقراطية!
ولفت نظري أن إمام الديمقراطية المصرية يلبس «البونجور»، ويحرص على السمت «الأرستقراطي» في زيه وتقاليد سلوكه المهذب مع زواره ومرءوسيه، فثبتت في ذهني هذه الصورة ولا تزال ثابتة إلى اليوم، فإذا ذكرت «لطفي السيد» في غيبته، فلست أذكره إلا وهو يلبس «البونجور»، بعد أن رأيته عشرات المرات بالزي «الإفرنجي» المألوف.
وعزز هذه الصورة عندي أنني رأيته بعد ذلك يخطب بدار الجريدة وهو يلبسها، ورأيته وهو يلبسها بديوان الأوقاف؛ إذ حضر يوما لزيارة وزيرها «محمد محب باشا» وكنت في حجرة استقباله، لأسلم مدير المكتب بعض المذكرات التي تعرض على مجلس الإدارة.
أما أن «لطفي السيد» ديمقراطي المبدأ في تفكيره وسياسته ودعوته الوطنية، فلا مراء في ذلك ولا خلاف.
وأما أنه «أرستقراطي» السمت والشارة في مظهره ووجاهته، فذلك أيضا مما لا مراء فيه ولا خلاف.
ولم تطل بي الحيرة للتوفيق بين الحالتين ولا أراهما نقيضين.
لأنني لم ألبث أن شعرت من مراقبته ومراقبة الوجهاء من أبناء الفلاحين أنهم جميعا ديمقراطيون على هذا المثال، فهم كلهم ديمقراطيون؛ لأنهم ينكرون سيادة الطبقة التركية واستئثارها بشرف الوجاهة الاجتماعية، وقد كان الوجيه التركي يأبى على أكبر الوجهاء الفلاحين أن يساويه أو يصاهره أو يتخذ من المظاهر الاجتماعية مثل مظهره، وقد سمعنا الكثير من تعليقات البيوتات التركية على قبول رئيس الوزارة لمصاهرة «سعد زغلول»، وهو - على وجاهته بين أبناء الفلاحين - علم مشهور من أعلام القانون في عصره.
قال لي «عبد العزيز فهمي باشا» مرة: إن «لطفي» ديمقراطي الرأي والعقيدة، ولكنه طول عمره أرستقراطي بين الأرستقراطيين، وحكى لي أنه كان يقتني جوادا خاصا يتنقل به من بلد إلى بلد للتحقيق والتفتيش وهو وكيل للنيابة، ولا يكلف نفسه أن يطلب جوادا من خيل الشرطة كغيره من وكلاء النيابات، وأنه كان يتحدى عظمة التركي بعظمة الفلاح، فيلبس قفطان الوجيه الريفي، وهو في الدار.
إن «أحمد لطفي السيد» أشهر المنادين في الصحافة بمبدأ مصر للمصريين، قد كان ديمقراطيا ليساوي المصريين بغيرهم من أصحاب السيادة في بلادهم، وكان أرستقراطيا ليتحدى الأرستقراطيين من أولئك السادة المتغطرسين، وقد أصهر إلى أسرة رجل كان من أقران الخديو «إسماعيل» في زمانه، وهي أسرة المفتش «إسماعيل صدقي».
فليست ديمقراطية «لطفي السيد» إلغاء للعرف الاجتماعي في آداب الطبقات، ولكنها ديمقراطية المساواة بين أبناء كل طبقة من المصريين وغيرهم من الغرباء، كل الغرباء في الأصل؛ لأنهم شركاء الطبقة في المجتمع وأجانب من جميع الأجناس على عهد سيادة المحتلين.
والديمقراطية على هذه السنة بجميع معانيها هي المبدأ الواسع الذي كان يلحظه هذا الفيلسوف الوجيه في حقوق الرأي وفي حقوق الطبقة، فليس إيمانه بتغليب رأي الكثرة مانعا عنده للقلة أن تبدي رأيها وتقبل به آراء الأكثرين من المخالفين.
كان شعار «الجريدة» كلمة الفيلسوف الأندلسي «ابن حزم»، وهو من قرائه في مسائل الأخلاق والعقائد واختلاف الطوائف والعبادات.
وكان «ابن حزم» يقول: «من حقق النظر وراض نفسه على السكون إلى الحقائق، وإن آلمتها لأول صدمة، كان اغتباطه بذم الناس إياه أشد وأكبر من مدحهم إياه.»
وقد وضع هذا الشعار تحت عنوان «الجريدة» منذ صدورها في شهر مارس سنة 1907 إلى احتجابها بعد ذلك بنحو ثماني سنوات؛ لأنه كان في طوال هذه المدة يعلم أن معارضيه بالرأي أضعاف مؤيديه، وكان أنصار الأحزاب من القائلين بالسيادة العثمانية والمشايعين للحاشية الخديوية والجانحين من الطرف الآخر إلى مشايعة السلطة الفعلية أو مشايعة الاحتلال، كل أولئك الأنصار كانوا أضعاف أنصاره في حزب الأمة، وقد فارقه شطر كبير من هؤلاء الأنصار في منتصف الطريق، وجنحوا إلى ناحية القصر احتجاجا على ما سموه «استبداد محرر الجريدة بسياستها»، وفيها ما فيها من مناصبة الأمير.
وهذا الديمقراطي الذي أباح للقلة أن تعلن رأيها في غير مداراة ولا مواربة، هو هو الديمقراطي، الذي يسلم للكثرة بحقها عند مفترق الطريق، وعند مفترق الطريق هذا سلم للكثرة من أعضاء اللجنة السياسية بما قررته في المفاوضات التي أجرتها وزارة «أحمد ماهر»، وهو على رأي في تلك المفاوضات غير ما تراه.
ولقد هنأني في الصباح الباكر على مقال كتبته بالأهرام مؤيدا فيه خطة الوزارة «الماهرية»، فلما وافق اللجنة أخيرا على قرارها، سألته في ذلك ونحن عائدان في سيارته من المجمع إلى مصر الجديدة، فقال: «إذا كانت كثرة اللجنة وكثرة أهل البلد على هذا القرار؛ فالكثرة لها حكمها الذي لا حيلة لنا فيه.»
وذكرته يومئذ - مازحا - بمخالفته للزعيم «سعد زغلول» بعد مفاوضات «لورد ملنر»، فقال: «بل هذا - أيها الأخ - من ذاك؛ فقد خالفت سعدا، ولكني لم أخالف كثرة الوفد في النهاية.»
على أن المبالاة بالعرف الغالب لم تكن شيئا هينا في تقديرات هذا السري الفيلسوف؛ فقد كان يولي ذلك العرف فوق حقه من المبالاة، إلى جانب تقديراته الفكرية أو تقديراته المنطقية، فلم تزل رعايته للفكر مع المراسم والتقاليد أرجح عنده من هذه الرعاية له إلى غير الجانب الموافق لتلك المراسم والتقاليد.
وليس من التناقض أن يكون «لطفي السيد» الفيلسوف كذلك، وهو الثائر على الجمود والرجعية بلا مراء، فإنه في ثورته يقف إلى جانب مجتمع كبير، ولا يقف إلى جانب الشذوذ والانفراد، وإنما كان إيمانه بمبادئ الحرية على قواعد الثورة الفرنسية إيمانا أيده مع الزمن أضعاف من خالفوه. •••
لقد كانت لهذا الثائر تقاليده التي يثور عليها ويعلن الحرب على أنصارها.
ولكنه لم يكن يحاربها إلا من أجل تقاليد أخرى يسالمها ويقرها ويعمل على إقرارها.
وإنما كان يفضل بعضها على بعض بشفاعة الواقع، أو بشفاعة «قانون» التقدم، كما آمن به الثائرون العلميون في إبان القرن الماضي، وثبتت عليه بقيتهم إلى هذه الأيام من القرن العشرين. •••
لقيته بمكتبه وهو مدير لدار الكتب لتجديد رخصة الاستعارة، وقدم زميله العالم الجغرافي «رأفت بك» مدير المتحف العربي التابع لدار الكتب في بناء واحد. فحيا تحية مقتضبة يلوح عليها شيء كثير من الامتعاض والابتئاس، والتفت إليه الأستاذ «لطفي» يسأله: كيف حال متحفك وآثارك يا «رأفت بك»؟ قال «رأفت بك» ولم يفارقه امتعاضه وابتئاسه: إنها أثر بعد عين، شباب هذا العصر لا يحفلون بماض لا وحاضر، لا يقرءون، لا يدرسون، افتقدهم في متحف آثار أو معرض فنون، فلا تجدهم ولا تسمع خبرا عنهم، ولكنهم موجودون ليلا ونهارا بين المراقص، والقهوات، والبارات، زفت وقطران، زفت وقطران. ألا يسمع هؤلاء الشبان بأحوال أندادهم في البلاد الأوروبية؟ ألا يسمعون بأندادهم من الأوروبيين في بلادنا؟ ألا يعرفون المفازة والغابات ومصاعد الجبال التي ينطلق إليها الشباب يستجلون فيها جمال الطبيعة وينشدون فيها صحة الجسد والذوق؟
فنظر إليه الأستاذ «لطفي» مليا، وقال له معاتبا في لهجة لا تخلو من التأنيب اللطيف: الله، ومالك منفعلا ثائرا هكذا يا سيدنا البك؟
فهدأ «رأفت بك» ثم قال بصوت كصوت الصدى يحاكيه في لهجته: عفوا يا سيدنا البك.
قال الأستاذ «لطفي»: يغضبني ذلك أكثر مما يغضبك، ولكن الحق على من في هذه التقاليد الرثة؟ أرأيت هناك شابا يخرج إلى المفازة والغابات وحده؟ ألا يخرج الفتى ومعه الفتاة أو تخرج الفتاة ومعها الفتى؟ ألا يعرفون الحب بينهم قبل أن يعرفوا حب الجمال في السهول والجبال؟
وشاركت الأستاذين في الحديث قائلا: وهل يبتعد الفتيان عندنا عن البنات حيث يذهبون إلى المراقص والبارات؟
قال الأستاذ «لطفي»: وماذا يصنعون؟ إنهم يسرقون الحرية في المرقص والبار، وإن نصيبهم من الحرية المشروعة لا يزيد عن نصيب الفتيات في الخدور.
وهنا نلتقي «بالجنتلمان» الديمقراطي في مجلسه وفي تفكيره، إنه لم يستطع أن يجيز لزميله ذلك «الانفعال» الممنوع في قانون «الإتكيت»، ولم ينتصر للثورة على التقاليد الرثة إلا لأنه ينتصر لتقاليد أخرى لا تزال في ثوبها القشيب. ولكنها، على أية حال، تقاليد لها شفاعة من «قانون» التقدم المتفق عليه. وقد ظل الفيلسوف السري على إيمان بهذا التقدم المتفق عليه حتى نهاية حياته، وحتى بعد تعديل ذلك القانون بقانون آخر ينسخ منه مادة مرفوضة كلما أقر منه مادة مقبولة ، وهو قانون التطور الذي لا يقول بالتقدم المطلق المطرد في كل سبيل، ولا يستلزم أن يكون كل حديث في عصرنا أصلح من كل قديم في ماضي العصور، وبخاصة في مسائل الأخلاق والآداب.
وكلما أباح فيلسوفنا لنفسه أن يمضي مع «ابن حزم» في شجاعة الرأي ومخالفة الإجماع، عاد إلى رأيه المخالف، فلم يتقبله إلا لأنه قانون الغد المتفق عليه سلفا، لو سارت الأمور حيثما ينبغي أن تسير. وقد قال في ذلك من نصائحه للشباب: «كل ما تفكر فيه أو تلفظه أو تفعله، انظر هل ترضى أن يكون قانونا للعالم أولا، فإن رضيت فافعله في غير خوف، وإن لم ترض فلا تفعله أبدا.» •••
وقد رأيت «أحمد لطفي السيد» مديرا للجريدة ومديرا لدار الكتب ومديرا للجامعة وعضوا بمجلس الشيوخ ووزيرا ورئيسا للمجمع اللغوي ورئيسا للجمعية الخيرية، فلم تحجب عني خصلة من خصلتيه في وظيفة من هذه الوظائف الملاحقة، وهما السمت الوجيه والديمقراطية الصادقة، وكانت «ديمقراطيته» أجمل ما تكون في مجال الرأي ومباحث التفكير، وقد شهدناه نحو عشرين سنة في هذا المجال، بعد أن عملنا منه عضوا بمجمع اللغة العربية، ثم رئيسا للمجمع بانتخاب أعضائه، فكان أقدر رئيس عرفناه في مجمع من مجامع البحث العلمي؛ دانت له ديمقراطيته بغير كلفة، ودان لها زملاؤه احتراما لحق الحرية الفكرية، واحتراما لرئاسته الأبوية، تلك الرئاسة التي كان لها سند من العطف المتبادل أقوى من أسناد المراسم والتقاليد.
وكان - رحمه الله - يشترك في المناقشة ويورد الشواهد في أثنائها من محفوظاته الكثيرة، وأولها القرآن الكريم، وفي جملتها قصائد الشعراء الأقدمين من الجاهليين والمخضرمين والأمويين والعباسيين، وربما حفظ للمحدثين كما يحفظ للأقدمين، ولكنه يقصر شواهده في مقام الاحتجاج بالسند المقبول، على الأولين دون الآخرين.
وكان إجماع الأعضاء على توقيره وحبه يريحه كثيرا من كلفة الرجوع إلى النظام في رعايته لسنة المساواة التامة بين الأعضاء عند إبداء الآراء، ولكنه كان يعمد إلى الصمت الوديع؛ كلما احتدم النقاش، وحميت وقدة الخلاف، وتكلم من يتكلم، ورد عليه من يرد، واعترض عليهما من يعترض دفعة واحدة. تختلط فيها الأصوات، وتحار معها الأسماع.
ويميل الرئيس إلى أقرب الأعضاء إليه يسأله مستسلما: هل آمنت معي بأننا في المجمع اللغوي؟ ويتفق أن أكون إلى جواره فأقول: بغير شك يا أستاذنا، وتسكين الغين في هذه الساعة!
ويعود النظام توا في لمحة عين. وقبل أن يحوجه الأعضاء إلى دق الجرس؛ لأنهم يفهمون من همسته في أذن جاره أو انطوائه على صمته أنه يدق لهم أبلغ الأجراس!
وقد عرفناه من قبل، ومن بعد، على صورته التي لا تتغير ولا يختلف مظهر منها عن مخبر؛ لأنها صورة المفكر الذي تتجلى أعمق أفكاره في مسالك حياته، والذي يعيش لفكره وبفكره وعلى وفاق فكره، ثائرا محافظا على قدره، وديمقراطيا في قرارة طبعه، يزيده من الديمقراطية ولا ينقصها عنده أنه لم ينسها قط وهو في سمت العلية وفي عزوف الحكيم الفيلسوف.
3
كان «لطفي السيد» من المرحبين بالظاهرة الأدبية التي تمثلت في فن «المنفلوطي»، أو في أسلوبه الإنشائي، عند ظهورها في عالم الصحافة وبعد جمع المقالات في كتاب «النظرات»؛ لأن المقالة الإنشائية كانت «قالبا لفظيا» لا عناية فيه بالمعنى قبل «المنفلوطي»، وقبل «محمد المويلحي» في فصول «عيسى بن هشام» على التخصيص، فكانت كتابة «المنفلوطي» على عهد «الجريدة» التي كان يحررها «لطفي السيد» ظاهرة ملحوظة بين المنشئين.
وقد كتب في تقريظ مقالات «النظرات» يقول:
من الكتاب من هو ضنين بشخصيته لا يدعها تتلاشى في بيئة الكتاب، لا يتكلف تقليد شيخ من أشياخ الكتابة ولا يكتب للكتابة، بل لا يكتب إلا إذا قامت بنفسه أغراض واضحة يجب أن يبرزها للناس في الثوب الذي يناسبها على تفصيل «مودة» الأذواق الحاضرة، وحسبما يقتضيه الفصل الزمني للأفكار. وكتاب هذا الصنف قليلون عادة في كل أمة وفي كل جيل، إلا أن كتاباتهم على قلتها هي المربي الوحيد للأمم والعلل الأولى التي تدفعها إلى الأخذ بكل نوع من أنواع الرقي والنجاح، وهي خير اللغات وأبقاها.
ثم ينتقل من هذا التمهيد فيقول عن أسلوب «المنفلوطي» بين هذه الأساليب:
من أشياخ البيان عندنا السيد «مصطفى المنفلوطي». أكاد لا أجد له في طريقته مثيلا بين كتابنا، فإنه يمتاز بالمساواة، وقل من يعرف المساواة. يمتاز باستعمال ألفاظ الخصوص، فلا يلبس معنى الألفاظ الذي لا يكاد يشاركه فيه معنى آخر.
والمساواة والخصوص في هذا السياق كلمتان من تعبيرات «لطفي السيد»، لم يكن معناهما غنيا عن التفسير عند استخدامهما للمعنى الذي أراده؛ فقد أراد بالمساواة أن تكون العبارة اللفظية مساوية للغرض الفكري الذي تؤديه، وأراد بالخصوص أن يكون اللفظ على قدر معناه، أو يكون باصطلاح العرف الحديث كثوب «التفصيل»، وليس كالثوب المجهز لكل لابس على التقريب بعد القص والتوسيع، وقد يصح أن يقال عن أسلوب المساواة والخصوص إنه هو أسلوب «القصد» بمعنييه: معنى الاقتصاد ومعنى الإرادة؛ لأن أسلوب القصد هو الأسلوب المحكم الذي لا فضول فيه، وهو الأسلوب الذي يؤدي به الكاتب لفظه؛ لأنه يقصده بذاته وفاقا لغرضه ولا يقصد غرضا سواه، ولولا أن كلمة القصد أقرب إلى الإحكام والتقدير منها إلى التسوية والتنسيق، لكان فيها الغنى عن كلمتي المساواة والخصوص.
والتفات «لطفي السيد» إلى هذه «الخاصة» في الأسلوب الإنشائي لم يكن بالأمر الغريب من كاتب «القصد المحكم» في اللفظ والمعنى؛ لأن تحديد ما يريد بالكلمة كان هو طبيعة عقله الغالبة على تفكيره وتعبيره، بل على تقديره للأمور وتقديره للأعمال، فلم يكن للعمل عنده شأن أكبر من شأن المطابقة للكلمة والمطابقة للفكرة التي تدل عليها، وكانت حياته لفكرته هي الحياة الأولى التي تتلوها بعد ذلك كل حياة عملية تعنيه.
وكانت مرانة عقله على تحديد عباراته تشغله للتسلية والرياضة كما تشغله للجد والتدبير، كأنه الجبار الرياضي الذي يداعب صحبه بالضغط على أكفهم عند المصافحة أو بالشد على ظهورهم عند المعانقة، يوهمهم أنها ملاكمة ومصارعة وليست بمصافحة وعناق، وكذلك كان «لطفي السيد» يصنع بتحديد معاني الألفاظ كلما طابت له الدعابة مع صاحب أو زميل، بين يدي عمل من أعمال الفكر والنظر أو أعمال الإدارة والتنفيذ.
دخل إلى مكتبه بوزارة الداخلية وكيل الوزارة يتأبط ملفات الحركة الإدارية فبادره قائلا: ماذا تتأبط يا حسن؟ خيرا؟!
قال حسن: نعم خير إن شاء «الله»، الحركة الإدارية!
قال «لطفي السيد» متجاهلا: حركة؟ وهل هذه حركة في الزمان أو في المكان؟
ربما كان الكلام على حركة الزمان والمكان أول كلام من نوعه ورد على مسمع وكيل الداخلية الحائر في أمره بين يدي هذا الفيلسوف الوزير، فعاد يقول: بل هي حركة التنقلات بين المديرين ووكلاء المديريات والمأمورين وموظفي الإدارة على العموم.
قال الفيلسوف: وهل هي حركة بغير مقتض؟ ولماذا يتحركون؟ هل طلبوا منك أن تحركهم؟
ثم انقضت هذه المحادثة كما شاء الوكيل أن يقضيها، وكانت فكاهة الليلة في مجلس رئيس الوزراء «محمد محمود»! •••
وعاد إلى مصر مع ثلاثة أعضاء من «الوفد» لمراجعة الأمة في المقترحات البريطانية، فقابله الصحفيون على الميناء وسأله أحدهم: هل أنتم قادمون بمهمة سياسية؟ فكان جواب الصحفي القديم على الصحفي الناشئ: ماذا تعني بالسياسة: دبلوماسية أو بوليتيقية؟
وحاول صاحبنا أن يخلص من الورطة بقوله: أعني الاثنتين!
قال الفيلسوف: ليس لنا مهمتان، ولسنا سفراء فتكون لنا مهمة دبلوماسية، ولا وزراء فتكون لنا مهمة بوليتيقية! ولقد ذهب الصحفي الحائر فكتب هذا اللغز الفلسفي كما استطاع، وبدل فيه وعدل كما أراد. •••
ولما ألف أصدقاؤه «الأحرار» الدستوريون حزبهم كان هو معارضا لهذه التسمية، وظل معارضا لها بعد تأليف الحزب بزمن طويل، وإنما كان اقتراحه أن يسمى الحزب باسم «الحريين الدستوريين»، وحجته في تفضيل هذه التسمية أن كلمة الحريين هي التي تقابل كلمة «ليبرال» بالفرنسية والإنجليزية، وإلا فماذا نسمي المحافظين خصوم الأحرار؟ هل نسميهم «بالعبيد» وهم لا يقنعون بالحرية وحدها دون السيادة على العالمين؟!
ولم يكن يكرثه أن يداعبه إخوانه من ظرفاء الحزب قائلين: أهلا بالحري، سلاما على الحري، ذهب الحري، جاء الحري، ولا لزوم للتسمية مع هذا التحديد.
قال «لطفي السيد» في قصة حياته:
نشأت من الصغر ميالا إلى العلوم المنطقية والفلسفية، ولقد لفت نظري في «أرسطو» أنه أول من ابتدع علم المنطق وأكبر مؤلف له أثر خالد في العلوم والآداب، ولما كنت مديرا لدار الكتب المصرية تحدثت مع بعض أصدقائي في وجوب تأسيس نهضتنا العلمية على الترجمة قبل التأليف كما حدث في النهضة الأوروبية. ولما كانت الفلسفة العربية قد قامت على فلسفة «أرسطو»، فلا جرم أن آراءه ومذهبه أشد المذاهب اتفاقا مع مألوفاتنا الحالية، والطريق الأقرب إلى نقل العلم في بلادنا وتأقلمه فيها؛ رجاء أن ينتج في النهضة الشرقية مثل ما أنتج في النهضة الغربية.
والحق أن «لطفي السيد» كان «أرسطيا» قبل أن يعرف «أرسطو» أو يفكر في ترجمته؛ لأن تكوين عقله المنطقي هو الذي حبب إليه منطق «أرسطو» حين اطلع عليه، وحبب إليه صاحب المنطق حتى كان يتحدث عنه متبسطا فيسميه «سيدنا أرسطو رضي الله عنه». وقد استفاد من أرسطو ما كان مستفيده من مراجعة عقله بغير اصطلاحات المنطق وألفاظه «المخصوصة» على حد تعبيره، فإن الفكرة المحددة كان ديدنا طبيعيا عنده، ولم تكن من الدروس التي تكتسب بالتعلم، وقد كان حرصه على حد الفكرة أشد وأكمل من حرصه على حد العمل؛ لأنه عرف بالتجربة أن نتائج الأعمال قد تختلط بينها وقد تتناقض المقدمات والنتائج فيها، لكثرة العوامل المنطقية وغير المنطقية التي تحيط بها، ولكن حدود الفكرة في ذهنه لم تكن تلتبس بين معنى ومعنى، ولم تكن تخرج على حدود المساواة بين أغراضها وعباراتها، وقد كانت كلمة «يجرى إيه؟» تجري على لسانه - كما لاحظ صديقه «عبد العزيز فهمي» - عند التسوية بين نتائج الأعمال، ولو كانت في ظاهرها على أبعد ما تكون من التناقض والاختلاف، ولكن «يجرى إيه؟» كانت تنقلب إلى «يجرى كل شيء»، إذا حدثت التسوية بين كلمة وكلمة لا تتساويان في النتيجة المنطقية؛ لأن حدود المنطق واضحة أمامه بمقياس الشعرة وبغير لبس ولا اختلاف بين أقرب النتائج وأشدها شبها في ظاهرها.
وقد ذكرت في غير هذا المقال أن أستاذ الجيل كان يتجنب التصريح برأيه أثناء مناقشات المجمع اللغوي؛ تورعا منه عن التحيز إلى جانب من جوانب المناقشة، ولكنه كان في اللجان التي تعد القرارات للفصل فيها يشترك في المناقشة ولا يترخص في رأيه عند المعارضة بين اقتراحه واقتراحات غيره، بل أذكر في جلسة من جلسات اللجان أننا قضينا نصف الوقت في الخلاف على كلمتي المفكرة والمذكرة، أيهما أصلح للترجمة عند التفرقة بين اليومية والقائمة والمدونة والمذكرة، فكانت معارضته لكلمة «المفكرة» طويلة في غير هوادة، واستغرقت نحو نصف الوقت كما تقدم؛ لأنه - كما قال - لا يفهم كيف ينسب التفكير إلى المفكرة وكيف يكون الخلط بين مدلول التفكير ومدلول التذكير. •••
في أوائل عهدي بالصحافة قرأت مقالات لبعض الرحالين السياسيين، حكموا فيها على إحدى الأمم الشرقية حكمهم الذي يداخله الهوى كما يداخل أحكام الساسة على العموم. ثم قرأت نقدا للرحلة ولأمثالها من الرحلات يدور على فكرة واحدة، وهي أن رحلة الأسابيع المعدودة في أمة من الأمم - كبيرة كانت أو صغيرة - لا تكفي للحكم عليها.
وقرأت النقد كما قرأت الرحلة، فوافقت الناقد في تخطئته لكثير من أحكام كاتب الرحلة، ولكنني عدت إلى نفسي أسألها: أمن الحق أن الأمم لا تعرف من سياحة أسابيع بين ربوعها؟ وهل إقامة السنين تكفي من ليس لديه مقياس صحيح للعلم بأحوال الأمة التي قام فيها؟
وظلت هذه الخاطرة تشغلني زمنا طويلا حتى انتهيت منها إلى الرأي الذي أعتقده اليوم، وهو أن العبرة بالمقياس وبمن يقيس، وليست العبرة بطول الوقت أو قصره عند فقدان المقياس الصحيح، وصح عندي أن شيئين اثنين قد يعينان الناظر على العلم بنصيب الأمة والفرد فلا يصعب الوصول إلى تقدير هذا النصيب في بضعة أيام، فضلا عن الأسابيع.
هذان الشيئان هما: تقدير الكلمة وتقدير الوقت، فلا شك في تقدم الأمة التي تعرف للكلمة قيمتها وتعرف للوقت قيمته، ولن تكون الأمة التي تستخف بالكلمة أو تستخف بالوقت على نصيب من التقدم أو من قوة الخلق وسلامة الفطرة، ولو أعجبتنا جميع ظواهرها الأخرى.
وليس من الصعب أن نعرف نصيب الأمة من تقدير الكلمة وتقدير الوقت بعد يومين نقضيهما بين أبنائها، ففي عناوين الدكاكين ونداءات الباعة ومواعيد المواصلات ومواعيد الزيارات مادة كافية للقياس الصحيح في جميع الحالات.
وقد درجت - منذ وقرت في نفسي هذه العقيدة - على قياس العظماء وغير العظماء بهذين المقياسين: ما قيمة الكلمة عند هذا العظيم أو عند هذا الأديب أو عند هذا الإنسان كائنا من كان؟ وما قيمة الوقت عنده فيما يعنيه؟ ولا أعرف أنني أخطأت تقدير إنسان أمكنني أن أعرف قدره بهذين المقياسين.
وكذلك تعرف قيمة الكلمة على حسب معدنها المأثور عند من يقدرها ويحرص عليها، فإذا كان هناك تفاوت بين عظيمين يقدران الكلمة ويحرصان عليها، فمعدن الكلمة هو موضع التفاوت بين ذينك العظيمين.
ولقد خطر لي يوما أن أقابل بين «لطفي السيد» وبين أناس ممن عرفتهم من أبناء جيله وهم: «سعد زغلول» و«عبد العزيز فهمي» و«محمد محمود»، فظهر لي مرة أخرى أن الكلمة هي الرجل كما قيل.
وكانت الكلمة عند «سعد زغلول» كائنا عضويا يكاد ينضح بالدورة الدموية، وكان هو يفهمها هكذا من كلام غيره كما كان يفوه بها من كلامه على غير تعمد منه، فلا يسمعها السامع إلا أحس أنه سيحضر معها أثرها «الحيوي» انفعالا نابضا في نفس المخاطب بها فردا كان أو جماعة.
وكانت الكلمة عند «عبد العزيز فهمي» «حيثية» في حكم قضائي، يعنيه منها قبل كل شيء ماذا تقرر من الحكم وماذا تدفع من وجوه الأشكال أو الاعتراض، وقد يسمع الكلمة فلا يستريح إليها؛ لأنه يحس أن هناك اعتراضا قد يرد عليها، وإن لم يتضح له هذا الاعتراض لأول وهلة، ثم يعرف السبب فلا يلبث أن يبدل الكلمة المقبولة بالكلمة المعترض عليها، وله على ذلك قدرة المرانة على التمييز بين النصوص وقدرة الاطلاع على كتب الأدب والقانون.
وكانت الكلمة عند «محمد محمود»، بل كانت كلمات اللغة كلها، تصريفا لكلمة واحدة هي كلمة «الكرامة» أو الوجاهة، وربما التقى في هذا التصريف قاموس السيد الصعيدي وقاموس «الجنتلمان».
أما «لطفي السيد» فالكلمة عنده «حد منطقي» في قضية كاملة، ولا التباس عنده بين حد وحد من الوجهة المنطقية الصميمة، وإنما يعرض لها اللبس حين تتعرض للنزاع بين المنطق العقلي والمنطق «السيكولوجي»، أو منطق الوعي الخفي والوجدان العاطفي؛ لأنه - على تسليمه الدائم بجوانب الضعف الإنساني - لم يكن من طبيعة عقله أن يسمح للضعف أن ينتقل إلى كفة الميزان في موازنته بين الحقائق الفكرية، وربما جاء من هذا العزل بين منطق الفكر ومنطق النفس أن روح الفكاهة في كتابته تختفي وراء الرأي الممحص والتقدير المحكم بالقياس الصحيح. •••
ولقد كان يستطيب «القفش الحلو» كما سماه في بعض مقالاته، ولكنه لم يكن سريعا إلى «لقط» النكتة، ولم تكن له تلك الضحكة العميقة التي تملأ الأفواه كما تملأ الصدور، وقد يشترك المجلس كله في الضحك ولا يشاركهم فيه، فيحيل الخطأ على نفسه ويقول معتذرا: لا مؤاخذة! إنني بطيء في فهم النكتة!
ومما أذكره نماذج شتى من النكات «البلدية» التي كانت تضحك جلساءه ولا تضحكه، ومنها حديث أطرفنا به الأستاذ «عبد الوهاب خلاف» - رحمه الله - عن صاحب له ولنا من الشيوخ المعممين الملتحين الذين لا يعطون المشيخة ولا اللحية كل حقهما من التزمت والحشمة، وكانت مناسبة الحديث «دردشة» عارضة - على حد تعبير رئيسنا - فيما يقال قبل انعقاد جلسات اللجان الخاصة بالمباحث اللغوية في موضوع من الموضوعات، وكان موضوع الجلسة تعريب المصطلحات الموسيقية أو تهذيبها.
وقال الأستاذ «عبد الوهاب» عن ذلك الشيخ المرح إنه شوهد وهو يتأبط ذراع الموسيقي المعروف «سامي الشوا» فسئل: ما الذي يجمع هذا على ذاك؟ وما الذي يقرن بين زمرة الأولياء وزمرة الطرب والغناء؟
قال الشيخ غير متلعثم: ولم لا؟ هذا شيخ «كمان»!
وشوهد الشيخ في إحدى سهراته وأمامه كأس من الوسكي، فسأله الزائر الطارئ مستنكرا: أما تستحي لهذه العمامة فوق هذه اللحية التي وخطها الشيب؟!
فقال كذلك غير متلعثم: وماله، هذه أيضا «بلاك آند هوايت!»
وكان يقول للمازحين من أصحابه كلما ذكروه بوقار اللحية: إنها لا تربيني، أنا الذي أربيها!
وقد كان الرئيس - خلال هذه الدردشة - يبتسم ولا يضحك، ويعود فيلقي اللوم على تقصيره هو في هذا المجال.
وعلينا أن ننصفه من نفسه في هذا اللوم؛ لأن النكتة الجناسية في الواقع ليست من أجود النكات ولا من أصدق ألوان الفكاهة، وليس بالمستغرب من العقل المنطقي ولا من صاحب القلم الحريص على «ألفاظ الخصوص» ألا يأنس إلى لعب الجناس «اللفظي»، وألا يشغل باله بعد استيفاء شروط العقل بحواشي المشابهات في الآذان، وقد مرت بنا فيما نقلناه من تقريظه لأسلوب «المنفلوطي» كلمة من الكلمات الجناسية يتحاشاها في مكانها من يلقي باله إلى مشابهاتها، ولكنها لم تكن مما يتحاشاه «أرسطو المصري» في لغة الجد والتحقيق.
إنه يقول عن كتاب الخصوص:
إن كتاباتهم - على قلتها - هي المربي الوحيد للأمم والعلل الأولى التي تدفعها إلى الأخذ بكل نوع من أنواع الرقي والنجاح.
وكم من نكتة جناسية في هذه «العلل» لمن يشاء أن يحكم «القافية» في لغة التفكير والتعبير!
إلا أن الإنصاف الذي يعفي فيلسوفنا من اتهام نفسه بالتقصير في مجال النكتة، لا يمنع المنصف أن يلاحظ أن نصيب الروح الفكاهية في كتاباته قليل، يشكو الحرمان من جور الجد المنطقي عليه. •••
وبعد، فإن الكلمة عند «لطفي السيد» هي موضوع مقالنا، ولكننا ذكرنا في عرض المقال مقياسا آخر للأمم وللرجال غير مقياس الكلمة وهو مقياس الوقت، فلا ننسى أن نضيف هذا المقياس إلى ذلك المقياس، ولا نرانا بحاجة إلى كلمات كثيرة لنقول إن الكفة ستبقى على رجحانها في الحالين.
لقد تولى «لطفي السيد» رئاسة مجمع اللغة وهو يقارب التسعين، فلم يتخلف عن المجمع يوما واحدا وهو قادر على الخروج من داره، ولم تأت الساعة الحادية عشرة في يوم من أيام حضوره وهو بعيد من كرسيه بقاعة الجلسة، ولا تتم الدقيقة التاسعة والخمسون ويده بعيدة عن جرس التنبيه!
ميرزا محمد مهدي خان
زعيم الدولة ورئيس الحكماء
نشرت في صحيفة «الدستور» سلسلة من الفصول عن شعراء الفرس النابهين، معتمدا فيها على قصائدهم وأخبارهم المترجمة إلى اللغة الإنجليزية، وحدث في صيف سنة 1909 أن شاه الفرس أراد أن يلغي الحياة النيابية فنشبت الثورة في البلاد، واضطر إلى النجاة منها بنفسه، فبايعت الأمة ولي عهده وهو في نحو الحادية عشرة من عمره، ونقلت الأنباء البرقية عنه أنه بكى حين بويع بالملك بين تلك الزعازع المرهوبة، فكتبت يومئذ مقالا في صحيفتي «الدستور» و«مصر الفتاة»، وجهت فيه الخطاب إلى الشاه الصغير، وقلت في مفتتحه: «أنت في الشرق، بين أمة الشعر والشعور.» ثم قلت: «إنك إن لم تضمر لهم سوءا ولم تحمل عليهم ضغنا، فالعرش أوثر من المهد، وحجر الأمة ألين ملمسا من حجر الأم، وأنت مع ذلك أسعد أسلافك؛ لأنك أول من رفعته إيران إلى عرشها بيدها، وأيمن شاه؛ لأنك توليت الحكم في العهد الذي سيذكر التاريخ أنه أول عهد وافق نهضة الإسلام من جديد.»
ولقيني غير واحد من صحبي بعد نشر هذا المقال وهم يقولون لي: «إن مقالك قد أعجب الدكتور «مهدي خان» وهو يحب أن يراك.»
فمن هو هذا الدكتور «مهدي خان»؟
لقد كانت القاهرة يومئذ تموج بالتيارات السياسية، بين ظاهرة وخفية. كانت كأنها مرصد الحوادث في الشرق الإسلامي كله؛ فكان فيها دعاة من العرب، ودعاة من الترك، ودعاة من الفرس، ومن آسيا الوسطى على اختلاف شعوبها، ومنهم من يعمل للحرية والتجديد، ومنهم من يعمل في خدمة المستبدين، بل في خدمة الاستعمار.
وكان الدكتور «مهدي خان» في ذلك الحين علما من الأعلام المشهورة بين أولئك الدعاة.
كان يعرف في بلاده باسم «الدكتور ميرزا محمد مهدي خان زعيم الدولة ورئيس الحكماء»، وكان مولده في أوائل القرن التاسع عشر، وكان قد ناهز التسعين حين لقيته، وكان نموذجا صادقا لثقافة القرن التاسع عشر في زمنه وفي وطنه؛ لأنه تعلم الطب في فارس، ثم حضر دروسا مختلفة في علم الأديان المقارنة على أساتذة من الألمان، وكان ينظم الشعر الفارسي أحيانا، ويكتب العربية والتركية، ويتكلم الألمانية مع أهلها، وربما كان على معرفة بالفرنسية؛ ولهذا كان يشترك في مباحث الفلسفة كما طرقها أولئك الفلاسفة الأطباء.
ولست على يقين من تفصيلات برنامجه السياسي، ولكنني أعلم أن صحيفته «حكمت» كانت تصادر أحيانا في بلده، وكان يرسلها سرا في كثير من الأوقات إلى جهات من بلاد الدولة العثمانية تنقل منها إلى إيران وبعض بلاد المسلمين الذين كانوا تابعين يومئذ للحكومة القيصرية .
وكان شديد السخط على الحركة البابية، ويعتقد أنها تخدم مآرب الإنجليز والأمريكيين في إيران.
ولم ألقه على أثر كتابة مقالي إلى الشاه الصغير، ولكنني لقيته بعد ذلك بفترة وجيزة، وعرفني إليه صديقنا الشاعر المجيد الأستاذ «علي شوقي» رئيس قلم النظارة بوزارة الأوقاف.
كان من أسباب ترحيبي بمعرفة الدكتور «مهدي» أنه مرجع موثوق به في الشعر الفارسي خاصة، وقد تحققت منه مما كنت أرجحه ترجيحا عن خطأ الترجمات الأوروبية لشعر الخيام وغيره من شعراء الفرس المترجمين، فإذا هي في الواقع محشوة بالأغاليط؛ عن جهل باللغة تارة، وعن رغبة من المترجمين في التزويق تارة أخرى.
وكان للرجل فضل في تمكننا من حضور ليلة عاشوراء بالتكية الفارسية، ولم يكن ذلك ميسورا لكل راغب فيه، فلم يكن في التكية ليلة شهدنا الحفلة أحد من المصريين غير «حسين رشدي باشا» وثلاثة من الزملاء والأدباء هم: الأستاذ «المازني»، والأستاذ «علي شوقي»، والأستاذ «عبد الرحمن البرقوقي» - رحمه الله.
على أنني مدين له بالفضل في الوقوف على أسرار مسألة من أخطر مسائل السياسة الشرقية في أيامها، وهي مسألة المطبعة العثمانية التي يتوقف على العلم بها تقدير أناس يحسبون الآن من أبطال الحرية والدعوة الوطنية.
فقد كنت أرى الرجل كلما زرته في مكتبه شديد الحذر على أوراق صحيفته، وعلى أسماء المشتركين فيها من المقيمين في إيران وروسيا على الخصوص.
وكنت أعيب عليه هذا الحذر، وكان يقول لي: إنك يا بني لا تعلم أنها مسألة خطرة على حياة المئات. ومن يدري؟ فقد تتعرض لما تعرض له أصحاب المطبعة العثمانية من حيث لا نعلم، وذلك غاية ما نخشاه.
أما مسألة المطبعة العثمانية هذه فيستطيع من شاء أن يراجعها في الصحف المصرية (أبريل سنة 1902)، وخلاصتها كما سمعتها من هذا الرجل العليم بها - دون أن نتوسع هنا في تفصيلاتها - أن أحرار الترك نشطوا يومئذ لنشر الدعوة إلى الدستور والحكومة النيابية، وأصدروا بالقاهرة صحيفة كانوا يرسلونها خفية إلى أنصار هذه الحركة في أنحاء الدولة العثمانية، وقلق السلطان «عبد الحميد»، واشتدت رغبته في الوقوف على أسماء هؤلاء الأحرار من رعاياه المقيمين في بلاده، وجزاؤهم - لو أنهم عرفوا - قضاء بالموت أو بالعذاب في غيابات السجون، فإذا بقضية تدبر في القاهرة للحجز على المطبعة العثمانية؛ ظاهرها أنها دعوى مدنية، وباطنها أنها حيلة للاستيلاء على الأوراق التي فيها الأسماء والعناوين.
ويفزع أحرار الترك حذرا من سوء العاقبة على إخوانهم الغافلين في بلادهم، فيلجئون إلى الوكالة البريطانية!
وتتخطى الوكالة البريطانية القانون، فتأمر بكسر الأختام وتسليم الأوراق إلى أصحابها وترك ما في المطبعة ما عدا ذلك محجوزا عليه، وتكسب بذلك ولاء طائفة من أحرار الترك، ومعاكسة السلطان «عبد الحميد».
وهنا يقرأ العجب من شاء الرجوع إلى الصحف في تلك الأيام: بين الغيرة على الأختام، والغيرة على أرواح المئات من طلاب الحرية والدستور.
فؤاد «الصاعقة»
أحمد فؤاد.
إذا كان سبب من أسباب السمعة مانعا للكتابة عن أحد، فهذا الكاتب الصحفي أولى الناس بالسكوت عنه.
ولكنه أحق الصحفيين بالكتابة عنه إذا كان تاريخ «الأدوار الكتابية» في حياة الصحافة عندنا موجبا للكتابة عن صاحب الدور.
فقد كان «أحمد فؤاد» صاحب صحيفة «الصاعقة» الأسبوعية أشهر الصحفيين من أبناء جيله في تمثيل ذلك الدور الذي عرفناه في صحافتنا، بعد ظهور الصحف السيارة عندنا وانتشارها في أواسط القرن التاسع عشر، فإذا وجب أن تختصر أسماء الصحف التي يصح أن نطلق عليها عنوان «صحافة الهجاء الاجتماعي» في اسم واحد، فاسم «فؤاد الصاعقة» هو ذلك الاسم الذي لا يزاحمه شريك مثله في هذه الصناعة.
كان الناس يعرفون اسم «فؤاد الصاعقة» ولا يعرفون اسم «أحمد فؤاد» إذا انفرد بغير هذه القرينة، وقد يكتفون باسم «الصاعقة» ولا يزيدون، فيعرف قراء الصحافة من يريدون.
وقد كان «فؤاد الصاعقة» ممثلا في المجتمع المصري لدور واحد على صورتين: صورة تظهر في محيط الأدب الشعبي، وهي صورة «الأدباتي» المتجول بين بلاد الريف والحضر.
وصورة «مفصحة» من هذا الأدباتي وهي صورة الأديب «الأريب» المحتال لعيشه في لغة المقامات، واسم «أبو زيد السروجي» في مقامات «الحريري» عنوان عليه.
وإذا أردنا أن نترجم هذه الصناعة بالأسلوب الاقتصادي لتفسير الأدب والتاريخ، فالصحفيون من طائفة «أحمد فؤاد» هم «محصلو ضريبة الوجاهة والهيبة» في المجتمع الجديد.
ولنا أن نتخيل أن هذا المجتمع سلطان من السلاطين الأقدمين كان له خدامه على طريقته، وكان لهؤلاء الخدام نصيب من التزاماته وجباياته المقررة على رعاياه، فإن هؤلاء الأدباتية يخدمونه بالرقابة على أصحاب الجاه والهيبة، فيحيلهم بتحصيل الضريبة لحسابه أو لحسابهم من جميع هؤلاء، هربا من تكلف المغارم والوفاء بحق الجزاء الصريح؛ لأن المجتمع نفسه وأصحاب الجاه والهيبة فيه، أولئك الجباة المسلطون عليهم، كلهم جميعا غير صرحاء.
على أن «الوظيفة» هذه لم تكن مخجلة لأصحابها، ولا كان أصحابها يكتمونها ويدورون حولها.
جلس أحدهم بين زمرة من الكتاب والفضلاء يتحدث عن صديقه السري الذي يستدنيه منه ويسومه أن يجاريه بتعاطي المخدرات وشم «الكوكايين»، وكان يومئذ بدعة «أولاد الذوات» المتبطلين من رواد السهرات.
قال الأدباتي «السروجي» الحديث: «ولكن من ذقنه فتل له، كان - بسلامته - يريد مني أن أشم له الكوكايين لأعينه على السهر، ولكنني كنت أسهر بغير كوكايين وأجمعه عندي إلى ساعة الحاجة في آخر الليل، تلك الساعة التي توصد فيها أبواب الصيدليات ومخابئ العقاقير الممنوعة، وتحلو فيها الشمة الواحدة بأضعاف سعرها في جميع الأسواق السوداء، وأبدي لصاحبنا الغيرة على خدمته والتحرق على شمة أو شمتين معه قبل انقضاء السهرة، فلا يقنعني في الجرام الواحد أقل من ثمن عشرة جرامات، وأخرج من هنا وفي جيبي حصيلة الأسبوع من الكوكايين المدخر لتلك الساعة، ثم أعود إليه ببقية «العشرة الجنيهات» قروشا معدودات، ولم أصرف من الورقة نصف مليم!»
وتحدث صحفي آخر عن كلمة غمز بها بعض الوجهاء، وفهمها ذلك الوجيه وفهم المقصود منها، فأرسل إليه خمسة جنيهات ولمح هو من الوسيط أن الحكاية قابلة للمساومة والزيادة جنيهين أو ثلاثة جنيهات.
ثم اعتدل الصحفي الأدباتي، وهو يقول في زهو وخيلاء: «ولكن فشر! محسوبكم «بري فكس»، كلمته واحدة لا يقبل المساومة، عشرون جنيها على داير المليم، وإلا فالذي قرأه الباشا غمزا يقرؤه الناس جميعا تصريحا على المكشوف، وعينك ما تشوف إلا النور ، لقد جاءتني الجنيهات العشرون قبل مغيب الشمس في ذلك المساء.»
كان هذا الصحفي يلقب بيننا «بالزبرا» أي حمار الوحش، وكان بعضهم يتطلف فيسميه الفنان؛ لأنه من أسماء الحمر الوحشية، فلما سمعنا منه هذه القصة صاح الأستاذ «أحمد صبري» المصور المعروف متهكما متبرما وهو يلوح له بيديه في وجهه: لا والله، ومن الآن فصاعدا حمار وكفى، ولا «زبرا»، ولا فنان، ولا يحزنون!
على هذا المثال كان «الصحفي الأدباتي السروجي» يؤدي وظيفته في بقايا المجتمع من القرن التاسع عشر، وكان محصوله من هذه الوظيفة ضريبة المجتمع على الوجاهة والهيبة بحسب براعته في التحصيل.
وكان «فؤاد الصاعقة» أبرع هؤلاء الجباة في استغلال وجاهة الوجيه وهيبة المهيب شفويا وتحريريا بغير عناء، وهو عالم بحدود العرف والقانون مع كل طبقة من تلك الطبقات.
كان له جعل من المصروفات السرية يصيبه حينا ويفقده حينا ويتطلبه في جميع الأحيان، وكان «عبد الخالق ثروت باشا» و«حسين رشدي باشا» ممن عودوه المنحة بعد المنحة من هذه المصروفات.
وانقطعت عنه منحة «ثروت باشا»، وهو لا يزال رئيسا للوزارة، فتربص به إلى ساعة اجتيازه ببار اللواء مشيا على قدميه كعادته في أكثر الأوقات، وتعمد أن يجلس ذلك اليوم بين رهط من كبار رجال وزارتي العدل والداخلية. فما هو إلا أن عبر «الباشا» بهم، وهو يعرفهم جميعا، حتى وثب «فؤاد الصاعقة» وراءه، ووقف على قارعة الطريق يناديه: يا سي «عبد الخالق»، يا سي «عبد الخالق»!
فهرول أولئك العلية إلى داخل البار، وعاد إليهم مقهقها وهو يقول: ليس بيني وبينه تكليف!
وقال أحدهم وهو يلطمه على فمه: ولا بيني وبينك تكليف يابن ...
ولمح «رشدي باشا» عند محطة الرمل بالإسكندرية بعد اعتزاله الوزارة، فوضع ذراعه تحت إبطه ونظر إليه في غاية من الهدوء والتبسط وهو يمازحه قائلا: لا صاحب دولة الآن ولا صاحب عطوفة، ولا حجاب على الباب ولا حراس في الطريق، كلانا سواء يا «حسين»! فدفعه الباشا عنه بتلك البساطة الطريفة التي عرفت عنه، وقال له كأنه يرد المزاح بمثله: لكن أنا عندي فلوس يابن ...
وكانت صحيفة «الصاعقة» أسبوعية كما تقول رخصتها أو يقول عنوانها.
ولكنها في الواقع لم تكن أسبوعية ولا يومية ولا شهرية ولا سنوية؛ إذ كان لا بد من تحديد الموعد بوقت معلوم.
وإنما تصدر كلما وجدت «الضحية» التي تؤدي ضريبة الجاه والهيبة، سواء من هذه الضريبة ثمن الثناء أو ثمن الهجاء أو ثمن النجاة من التهديد والوعيد.
ويحدث كثيرا أن تقع المعاملة مع هؤلاء الضحايا بالجملة، كما حدث في رثاء بعض الأعلام من المشاهير، فإن رثاء العلم المشهور لم يستغرق غير كلمات في بضعة أسطر، ثم عقب «فؤاد» بعد هذه الكلمات متسائلا: أيجوز في شرعة القدر أن يموت مثل هذا ويعيش أمثال فلان وفلان وفلان؟! إلى آخر القائمة المطولة من أسماء المغضوب عليهم والمطالبين بسداد الاشتراك، عند عددين في السنة، أو بضعة أعداد!
وقد يصدر العدد من أجل عنوان واحد يتكرر على الصفحة بجميع البنوط:
لا تبيعوا أقطانكم إلا بمائتي ريال!
لا تبيعوا أقطانكم إلا بمائتي.
لا تبيعوا أقطانكم.
لا تبيعوا.
لا ... لا ...
ويبلغ من يعنيه الأمر أن الإعلان سيعاد ويعاد مع مضاعفة الأجور في كل مرة، فيسرع من يعنيه الأمر إلى السداد.
أما من كان يعنيه الأمر في قصة بين القطن، فهو رجل من أصحاب المزارع والمحاصيل، كانت له مساهمة في صناعة القلم على أسلوب المقامات وما جرى مجراها، وكانت منافسة «الصاعقة» له سببا مضافا إلى سبب الطمع في ماله، أو في ضريبة الجاه والسمعة من يديه، فحسب عليه تلك النصيحة الفاشلة التي ضيعت على الفلاحين محصول العام زلة يهدده بها كلما نقم منه واحتاج إلى جدواه.
وقد يؤجر «فؤاد الصاعقة» على التحرش بالأدباء والكتاب ممن لا مال ولا جاه، فيعرف قراء «الصاعقة» ذلك كلما طلعت لهم الصحيفة بفصل من فصول الكاتب المغضوب عليه، يتبعه تهديد للمشتركين المتخلفين بمواصلة النشر والإعادة من أمثال هذه الفصول!
وربما أخذ التوقيع الذي يوقع به الكاتب مقالاته فترجمه من عنده على هواه؛ فتوقيع «ك. ك» هو توقيع «كامل كيلاني» بالحرفين الأولين من اسمه، ولكنه عند «فؤاد الصاعقة» إما «كلب كلب»، وإما «كاهن كذاب»!
ولم تبلغ الجرأة بأحد مبلغ هذا «الأدباتي السروجي» في مخاطبة الأمراء والرؤساء؛ فقد انقطعت عنه المعونة الشهرية من ديوان المعية الخديوية، فكتب إلى الأمير مباشرة خطابا يقول فيه: إن كان بعضهم يظفر بعطايا الأمير لأنه ينظم فهو حقيق بهذه العطايا لأنه ينثر، وإن كان لعيب من العيوب، فهو - أي «فؤاد الصاعقة» - يضم إزاره بحمد الله على تلك العيوب، وعلى شر منها، وزيادة عليها، ثم يمضي في تعداد عيوبه غير مقتصد فيها، كأنها عيوب ضحية من ضحاياه.
واسم «الصاعقة» نفسه مثل من أمثلة الشهادة على نفسه في مقام المقابلة بينه وبين غيره.
كان «فؤاد الصاعقة» يدين بالأستاذية للمويلحيين الكبير والصغير.
وكان المويلحيان أستاذين في ذلك الجيل للكتاب من مدرسة «النقد الاجتماعي» على الأسلوب المهذب في لفظه ومعناه.
فأخذ تلميذهما اسم «المصباح» وحوله إلى «الصاعقة».
وأخذ أسلوب «النقد» وحوله إلى أسلوب «الهجاء».
وارتد على الأستاذين بالتهديد والوعيد، وحاول أن يتقاضى منهما ضريبة الابتزاز والإتاوة، فعلمه المويلحي درسا قال له فيما بعد إنه قد فاته أن يتعلم منه مع الهجاء؛ هجاء الألف والباء.
أرسله إلى الآستانة برسالة يغنم فيها الهيل والهيلمان، من سلطان «آل عثمان».
فلما وصل إلى الميناء كان في استقباله مدير الشحنة السرية بدلا من مدير التشريفات بالمابين، وقضى في السجن ما شاء المويلحي الكبير أن يقضيه هناك، قبل أن يشفع له ويدفع الشبهة عنه.
ولقد سمعت من هذا «الأدباتي السروجي» وصية تدل على طريقته في تقاليد هذه الصناعة.
كان يقول لي كلما لقيني بدار البلاغ أو الأهرام: أنا أعلم أنك لا تخافني كما يخافني فلان وفلان، وكل ما أرجوه منك ألا تجهر بذلك أمام هؤلاء، ودعنا نأكل عيشنا معهم، يرزقنا الله وإياك.
ومرة واحدة لقيني جالسا إلى بعض زملائنا الصحفيين على قهوة بجوار البنك الأهلي، فهتف بي كالمعاتب الناصح: كله إلا هذا يا أستاذ، إن الكاتب الذي يلقبه «سعد زغلول» بالجبار لا يجلس على القهوات، دعهم يحسبونك من مردة الأساطير، يتلو أحدهم الطلسم كلما خطر له أن يراك.
صفحة غير معروفة