الفصل السابع
رحلة الهند
رحلتي إلى الهند لم تكن كأية رحلة إلى أي بلد. كانت أشبه ما تكون برحلة الحياة كلها منذ الولادة حتى الموت، كالدائرة تبدأ وتنتهي إلى النقطة ذاتها. لكنها ليست النقطة ذاتها؛ لأن الولادة ليست هي الموت والبداية ليست هي النهاية.
قد يدهش الكثيرون ممن يهوون السفر والرحلات لماذا شعرت نحو الهند بالذات مثل هذا الشعور، والعالم فيه من البلاد والأمكنة التي ينبهر لها السياح؟ لكن السياحة في رأيي ليست ركوب طائرات وزيارة متاحف والنوم والأكل في الفنادق الفاخرة، السياحة عندي هي التجول على الأقدام في الشوارع والحواري المتربة، واكتشاف الإنسان في أي مكان، وبالذات تلك الأمكنة التي يهرب منها السياح، أو يضعون مناديلهم فوق أنوفهم حين يمرون عليها بالصدفة.
رحلتي إلى الهند كانت طويلة ومرهقة، ولكنها كانت ممتعة، أشبه ما تكون برحلة إلى النفس في قسوتها وفي حلاوتها، ربما هي أصعب رحلة قمت بها في حياتي رغم أنني زرت معظم بلاد العالم ومشيت في أوعر الطرق. لكن صعوبة اكتشاف الهند تشبه إلى حد كبير صعوبة اكتشاف النفس، رغم أن النفس ملتصقة بالإنسان منا، لكن كم من زمن وجهد حتى يعرف الواحد منا نفسه. وهذه هي الهند أيضا، بقدر ما تعرف نفسك تعرفها، وبقدر ما عندك في نفسك بقدر ما تعطيك الهند من نفسها، ولعل هذا هو السبب في أن بعض الناس لا يرون في الهند إلا التراب والفقر، والبعض الآخر يستطيع أن يخترق السطح ويصل إلى قلب الإنسان الهندي.
قبل أن تهبط الطائرة في مطار نيودلهي أعلنت المضيفة أن الساعة السابعة صباحا، نظرت في ساعتي فأدركت أن الناس في القاهرة لا زالوا نائمين (الشمس تشرق في الهند قبل مصر بثلاث ساعات ونصف)، كنا في شهر يناير، وكنت أرتدي معطفا صوفيا، لكني خلعت المعطف بمجرد هبوطي على أرض الهند، وأحسست شمس الشتاء في الهند دافئة حنون بعثت في جسدي نوعا من اللذة والتفاؤل.
انتظرت وصول الحقائب وسط جمع كبير من السياح والمسافرين، معظمهم من الأجانب ذوي الوجوه البيضاء المشربة بالحمرة، ملابسهم عالية أنيقة، حقائبهم كبيرة ثمينة، بعضهم يعلق الكاميرا في كتفه (سياح)، والبعض الآخر يمسك حقيبة يد «سمسونايت» (خبراء بالطبع)، في كل مطار ألتقي بهؤلاء الرجال، أعرف شكل حركاتهم، وأعرف نظرة عيونهم الزرقاء ترقب في استعلاء الوجوه السمراء مثل وجهي أو وجه الهنود، وتتأفف من منظر الحقائب القديمة والملابس البالية، كأنما السفر بالطائرات ليس إلا حق هؤلاء الرجال مندوبي الشركات الاستعمارية أو السياح الأثرياء العاطلين في أوروبا وأمريكا، وكأنما الأموال التي يشترون بها ملابسهم الأنيقة وحقائبهم الكبيرة الثمينة ليست هي في الأصل أموال هذه الوجوه السمراء والكادحة أصحاب الأرض وأصحاب البلد.
الوجوه الهندية من حولي تذكرني بالوجوه في بلدي، وتلك الابتسامة المتواضعة التي تشبه أحيانا ابتسامة من يشعرون بالضعف أو الحرج أو الذل، أحد مخلفات الاستعمار هي تلك الابتسامة، وكم أفضل عليها تكشيرة الغضب. أحد الهنود يفسح مكانه في تواضع لذلك الرجل الإنجليزي المتعالي، يتقدم الرجل الإنجليزي ويأخذ حقائبه دون أن يشكر الهندي أو حتى يبتسم له، أكتم الغضب في نفسي وأرمق الرجل الإنجليزي بنظرة ازدراء وكراهية يقشعر لها بدنه ويكاد يهرب من أمام عيني جريا، أبتسم لنفسي في سخرية، هؤلاء الإنجليز يغلفون أنفسهم من الخارج بكبرياء يشبه الثقة والشجاعة، ولكنهم في حقيقة أمرهم لا يستطيعون مواجهة عينين سوداوين مفتوحتين تنظران إليهم دون أن ترمشان.
حملت حقيبتي بنفسي، حوطني عدد من الحمالين يحاول كل واحد منهم أن يحمل عني الحقيبة، تذكرت مطار القاهرة وشعرت بالحزن، مثل هذا المنظر لا أراه في مطارات أوروبا وأمريكا، ولكن الفقر في الهند أو في مصر أو في أي بلد من بلاد آسيا وأفريقيا ليس إلا أحد مخلفات هؤلاء المستعمرين في أوروبا وأمريكا، وينسى السياح هذه الحقيقة ويتأففون من منظر الحمالين وهم يتنافسون على حمل الحقيبة، أو يصدمهم منظر الشحاذين ، وكم يشكو السياح في الهند من كثرة الشحاذين. •••
وجدت - بحكم خبرتي - في السفر والرحلات أن الانطباعات الأولى للعين الغربية من أهم الانطباعات وأصدقها. وقد تعودت أن أسجل انطباعاتي الأولى عن أي بلد جديد أسافر إليه، قبل أن تألف عيني البلد، وقبل أن تضعف هذه الألفة حساسية العين للأشياء الجديدة، ويصبح الجديد شيئا عاديا لا تراه العين.
صفحة غير معروفة