دخل بنا القطار ليننجراد في منتصف الليل، لكن قرص الشمس كان لا زال في السماء يضيء المدينة الكبيرة بنور أبيض كالنهار، ولمعت في الضوء الأبيض القباب النحاسية الحمراء، وانعكست المباني الضخمة المتشابهة على صفحة نهر نيفا ينساب تحت الكباري ليصب في خليج فنلندة.
ومن خلف النهر تلمع قبة نحاسية من فوق مبنى ضخم غارق في الصمت والنسيان؛ أحد السجون القديمة، وفي إحدى زنزانات هذا السجن عاش دستوفسكي فترة من حياته، ومكسيم جوركي أيضا دخل هذا السجن قبل الثورة الاشتراكية وعاش وراء جدرانه يكتب.
ويواجه السجن على الضفة القريبة من النهر يلمع تمثال مكسيم جوركي منتصبا بقامته الطويلة في الفضاء وقبعته في يده، وعلى مسافة غير بعيدة ينتصب لينين بملامحه الدقيقة وقامته المتوسطة ويده المرفوعة نحو القاعة البيضاء، أول قاعة في روسيا تشهد ثورة الفلاحين والعمال، وعلى كراسيها الخشبية وعلى جانبي الكراسي وعلى النوافذ، جلس العمال والفلاحون الثائرون في يوم 26 أكتوبر سنة 1917، ثم دخل لينين القاعة بخطواته السريعة، وأعلن أول دولة اشتراكية في تاريخ روسيا.
وأخذونا في زيارات للمصانع: أحدها مصنع العلم الأحمر. قالوا إنه من أكبر مصانع النسيج في الاتحاد السوفييتي، يعمل به عشرة آلاف عامل منهم 85٪ نساء، ومدير المصنع شابة أنيقة قدمت لنا مجموعة من السيدات قائلة: هذه سكرتيرة لجنة الحزب في المصنع. وهذه مقررة لجنة الشباب. وهذه رئيسة اللجنة النقابية، كلهن شابات جلسن معنا حول مائدة محلاة بالزهور وزجاجات المياه المعدنية والشمبانيا وأطباق الكافيار الأسود والأحمر والسمك واللحوم، ولا بد لنا أن نشرب الأنخاب في صحة المصنع والعاملات وفي صحة الصداقة والحرية والسلام.
وطفنا بأنحاء المصنع الضخم، واستقبلنا العاملات بابتسامات ووضعن على صدورنا الشارات والنجوم. العمل عندهن ثماني ساعات في اليوم، والإجازات الأسبوعية يومان، الحد الأدنى للأجور للعمال والعاملات 110 روبل في الشهر، والحد الأقصى 200 روبل حسب الإنتاج والمهارات، مديرة المصنع تأخذ 300 روبل في الشهر، بالمصنع ست دور حضانة لجميع أطفال العاملات من سن شهرين حتى السابعة، من حق المرأة العاملة أن تحصل على إجازة وضع وشهرين بعد الوضع، بالمصنع مصيف خاص للأطفال ومعسكرات صيفية للأشبال والشباب في مراحل عمرهم المختلفة من سبع سنوات إلى 28 سنة، بالمصنع مصحة خاصة للراحة ومستشفى، أجر الطبيب 180 روبل في الشهر، وأجر الممرضة 100 روبل في الشهر.
ثم خرجنا إلى ساحة كبيرة تتوسطها شعلة ومن خلفها نصب الجندي المجهول ومقابر 700000 شهيد. اصطفت وفود النساء ومن خلفهن مئات السياح من بلاد العالم يحملون الزهور ويسيرون على أنغام موسيقى تشايكوفسكي، تنبعث هادئة، فيها قليل من الحزن وكثير من القوة، وتتراكم الزهور البيضاء والحمراء عند قدمي الجندي المجهول حيث تلك الكلمات بالروسية:
لن ننسى شجاعتكم وصبركم، لن ننسى الشتاء المظلم وقنابل سنة 1943.
لن ننساكم ولن نستسلم.
وقالت لي صديقتي الروسية «نينا»: أهل ليننجراد صمدوا كالأبطال ولمدة 900 يوم في وجه الحصار النازي، عاشت ليننجراد الحرب ضد الألمان النازيين من سنة 1941 إلى سنة 1945، ومات منها مليون شهيد، وقصفت المدينة بأكملها بالقنابل والمدافع، ولكن انظري، كيف بعثت ليننجراد من جديد! هذا هو إصرار الشعب على الحرية! •••
لم أر بلدا مولعا بالمتاحف كالاتحاد السوفييتي، ليننجراد وحدها بها خمسون متحفا، وكل شيء هنا له علاقة بالتاريخ أو الفنانين يمكن أن يتحول إلى متحف، والفنانون يحظون بتقدير يشبه التقديس، والأدباء والشعراء تتحول بيوتهم إلى متاحف، وتقام لهم التماثيل، وتسمى المدن بأسمائهم. بالقرب من ليننجراد مدينة بوشكين، وتمثال بوشكين أمامنا، وأصغر طفل يعرف أشعار بوشكين.
صفحة غير معروفة