بعد باريس حملتني الطائرة إلى لندن، ثم ركبت القطار إلى بانجور في مقاطعة ويلز، ومن هناك ركبت الباخرة إلى دبلن عاصمة أيرلندا.
وأصبحت أنتقل من بلد إلى بلد بسهولة أكثر، وكلما اتجهت نحو الشمال وهنت الشمس وتكاثفت السحب واشتدت برودة الهواء، ثم هطلت الأمطار كالسيل، والسحب بعد المطر تتباعد قليلا، وتظهر الشمس مرة أخرى. لكنها ليست كالشمس في مصر.
وكنت أظن أن الشمس لا تشرق إلا في مصر، لكن السفر في البلاد جعلني أرى شموسا مختلفة عن الشمس عندنا؛ فالشمس كنت أراها ساطعة دائما في الصيف والشتاء، وفي الربيع والخريف، ضوءها لا يكاد يتغير طول العام، ضوء ساطع قوي يجعل الأشياء تحت عيني مسطحة أو ذات سطح واحد، كالأرض المستوية بلا ارتفاع وبلا عمق، مساحات أفقية ممدودة كالصحراء الساطعة، وشدة السطوع تجعل الأشياء بيضاء أو سوداء وتختفي الألوان الأخرى والظلال.
لكن الأرض هنا لها ارتفاعات وانخفاضات، استدارات غريبة، منحنيات عميقة، والجبال تلقي الظلال المتعددة على الأرض والأنهار والتلال الخضراء، والمطر ينهمر من السماء كقطع صغيرة من الثلج الأبيض الشفاف عكس الأضواء كمثلثات من البلور الدقيقة أو شظايا المرايا متعددة الزوايا، وأشعة الشمس سريعة التغير، وألوان السماء تتبدل في اللحظة الواحدة ما بين الرمادي والأرجواني مرورا بألوان الطيف السبعة، والغابات كثيفة الخضرة، واللون الأخضر له كثافة ترى بالعين كطبقات متراكمة متعددة الألوان داخل اللون الأخضر الواحد، والهواء أيضا سريع التغير ما بين برودة الشتاء القارص ودفء الربيع الناعم في اللحظة الواحدة، وحركة السحب واتجاه الريح ورائحة الهواء ولون السماء والأرض كلها في تغير دائم، والدنيا متعددة الأبعاد وكأنها ليست دنيا واحدة.
عيناي تدوران حولي، أو ربما أدور حول نفسي، ولا أعرف هل أنا أدور أم الدنيا هي التي تدور.
عيناي لم تتعودا بعد على كل هذه الأبعاد المتعددة للشيء الواحد. كنت أرى الشيء واضحا، والدنيا مكشوفة أمامي في خط مستقيم أرى بدايتها ونهايتها في آن واحد.
وعلى أحد تلال ويلز الخضراء رأيت فوق العشب رجلا عجوزا راقدا يرتدي سترة قديمة وفي الأكمام ثقوب، وسمعت الشباب يقولون إنه السير برتراند راسل، واتسعت عيناي بدهشة، كنت أرى المشهورين في بلادنا يرتدون ملابس ذات قماش جديد يلمع تحت الضوء الساطع، ليس في أكمامهم ثقوب ولا يرقدون على الأرض.
وفي أحد شوارع بانجور رأيت امرأة داخل سيارة ترتدي حلة خضراء وإلى جوارها رجل، وسمعت أحد المارة يقول إنها الملكة إليزابيث، ورأيت المارة يقفون وينظرون نحوها، لا تصفيق ولا هتاف، ثم واصلوا السير، ومرت سيارة الملكة بهدوء، ومن خلفها سيارة أخرى، وانتهى الموكب دون أن يتغير شيء في الدنيا.
لا صفارات ولا سيارات بوليس تزأر لتخلي الشوارع من الناس، لا موتوسيكلات تجري وتعوي كالدبابير المجنونة وتمنع المرور، لا طوابير العساكر الممدودة بطول الشارع ووجوههم للجدار رافعين بنادقهم، لا حشود بشرية تعبأ في العربات اللوري لتفرغ فوق الأرصفة حناجر تدوي بالتصفيق والهتاف.
حركت رأسي من حولي باندهاش، مر الموكب دون أن يتغير شيء في الدنيا. أهي دنيا غير الدنيا؟ أم أن دنيانا هي التي غير الدنيا؟
صفحة غير معروفة