هذا الشكل من التقدم النسبي في النوبة ارتبط أساسا بدخول الساقية خلال فترة العصر الروماني،
4
وقد ساعدت الساقية على اتساع الأراضي الزراعية بصورة مضاعفة، بالقياس إلى الري بالشادوف المصري الذي دخل قبل ذلك بنحو ألفي عام، ومع انتشار نمط الري بالسواقي زاد السكن الريفي في أماكن لم تكن مأهولة من قبل، وبدأ التخلي عن نمط السكن السابق المرتبط بنقاط ومدن حصينة، ومع تزايد المساحات الزراعية والإنتاج المحصولي والرخاء العام؛ زاد سكان النوبة - ربما تقديرا - إلى نحو 50 ألفا، معتمدين على موارد زراعية محلية دائمة إلى جانب الموارد الخارجية الناجمة عن الدور التجاري التقليدي للنوبة، وسوف يترسخ هذا النشاط الزراعي بصورة أعم وأشمل في العصر المسيحي النوبي، حينما حل سلام نسبي بسقوط دولة مروى، واتجاه مصر إلى سياسات العالم الإسلامي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
أما المحراث فإن دخوله إلى النوبة يبدو متأخرا جدا، فلم يذكر أحد من الرحالة المحدثين وجوده، بل إن بوركهارت لم يره في أي مكان في النوبة عام 1813، ويذكر أن النوبيين لا يحرثون الحقول كما يفعل المصريون، وحسب معلوماتنا الحالية أن حسين باشا خليفة مدير دنقلة وبربر للفترة 1869-1873، هو الذي حث النوبيين على تعلم استخدام المحراث، فالغالب إذن أن أهل النوبة استمروا في استخدام الفأس بأنواعه طوال آلاف السنين من الزراعة، رغم وجود المحراث إلى جوارهم في بقية مصر طوال العصور الفرعونية وما تلاها إلى القرن الماضي، وهذا الموقف يشكل تساؤلا محيرا قد لا نجد إجابة عليه، إلا من خلال دراسات أنثروبولوجية عديدة في أماكن مختلفة من العالم، توضح أن الاستعارات الحضارية لا تأخذ بالضرورة كل تكنولوجيات الإنتاج، إنما تختار منها ما هو مناسب لسبب دفين في تاريخ أو معتقد أو النظم البيئية للمجتمع المتلقي.
العصر المسيحي
اختلفت المنتجات الفخارية وطرق الزراعة، خاصة بعد هجرة بعض أقباط مصر إلى النوبة بعد دخول الإسلام مصر، والأغلب أن المسيحية بدأت تتسرب إلى النوبة في أواسط القرن السادس الميلادي، لكن قمة المسيحية النوبية شغلت الفترة بين أواسط القرن التاسع إلى نحو 1100م، وفي نحو القرن التاسع أصبحت كل بلاد النوبة المصرية والسودانية مملكة مسيحية تعرف باسم «مقرة» وعاصمتها دنقلة العجوز، حدث عهد من الازدهار فتحسنت الأحوال الاقتصادية وخاصة التجارة مع مصر؛ زاد عدد السكان وانتشر نمط الأسرة الزواجية الأحادية، ونمت المدن عبر أسوارها القديمة، وانتظم المجتمع في أبروشيات تابعة لثلاث كاتدرائيات كبرى في النوبة المصرية: هي الدكة وإبريم وفرس، وهو ما يشير إلى أهمية هذه المدن الثلاث خلال معظم العصور.
خريطة (4): النوبة في عصور مختلفة حتى القرن الخامس عشر.
وفي خلال فترة المسيحية الأولى في النوبة، حدثت ثورة هددت جنوب مصر الإسلامية؛ مما اقتضى عبد الله بن سعد إلى غزو النوبة في 651م، ووصل إلى دنقلة وهدم كنيستها، وعقد مع ملك النوبة معاهدة شهيرة عرفت باسم «البقط» - ربما تحريف للمصطلح اللاتيني بمعنى معاهدة
- والتي نصت على إرسال جزية سنوية من الرقيق إلى مصر، والسماح بارتحال المسلمين إلى النوبة وارتحال النوبيين إلى مصر، على ألا يكون ذلك بغرض الإقامة الدائمة، مع عدم التعرض للديانة المسيحية في النوبة، وفي سنة 1171 غزا شقيق صلاح الدين الأيوبي النوبة المصرية وحول كنيسة إبريم إلى مسجد إسلامي، وكذلك غزا المماليك النوبة في 1272، وكان آخر العهد بالمسيحية في النوبة عام 1315 حين أخذ آخر الملوك المسيحيين أسيرا إلى القاهرة.
5
صفحة غير معروفة