في اليوم التالي وجه إلينا الشيخ أحمد عباس، أحد وجهاء نجع كلدول، الدعوة للعشاء والسهرة عنده، وترددنا في قبول الدعوة؛ فنحن نعلم ضيق المعيشة، فصلا عن أن معنا من الزاد ما يكفينا، ولا نريد من الناس سوى المودة والمعلومات والائتناس، ربما كان أشهى ما نريده أرغفة من خبز الدوكة الطري اللذيذ - وفكرنا أن نبادله ببعض ما عندنا من أطعمة محفوظة، لكن لم تكن هناك وسيلة أن نعلن صراحة عن هذه المقايضة؛ خوفا من إغضاب الناس وجرح كرامتهم - لكن الأستاذ محمود صالحين، وكيل بريد قرشة الذي يستضيفنا عنده في نجع البوستة، شجعنا على قبول دعوة الشيخ عباس، وأفهمنا أن رفضها يسيء لكرامة الشيخ.
قرب الغروب مشينا نتسامر مع محمود صالحين ومساعديه، فلم نشعر ببعد المسافة. ونجع كلدول - الذي نسمعه أحيانا «كلدون» كما كان الحال في سيالة، ولا ندري أيهما أصح - يقع بعد نجع العلياب الذي كنا فيه بالأمس، وأثناء سيرنا كنا نرى النساء راجعات من الحقول حاملات لفائف كبيرة على رءوسهن من الكشرنجيج، ومرة أخرى مررنا بخور الشدناب الجميل غاية الجمال.
وبعد مسيرة طويلة لاحت لنا أضواء الكلوبات عند بيت الشيخ أحمد عباس الأبيض الكبير، وفي هذا الضوء لاح لنا البيت الكبير كأنه قصر في رواية خيالية من قصص الشرق، وحين دخلت د. كوثر إلى داخل المنزل زادت إيحاءات قصص الشرق بما وجدت من بياض ناصع على الجدران والأرضية، والنساء والبنات في أردية بيض، والصوت خفيض والنظافة والهدوء يعمان المكان، أما الشيخ عباس فكان في ردائه الأبيض وعمامته الكبيرة ووجهه الأسمر المتناسق التقاطيع وقامته المديدة؛ كأنه شخص قد خرج من التاريخ يطل علينا في كثير من التواضع والرزانة وهدوء الحكماء.
استقبلنا الشيخ عند باب المضيفة الخارجية وبجواره شاب في مثل رشاقته وأدبه الجم؛ هو زوج ابنته على ما نتذكر، وفي طرف المضيفة السماوية ثلاثة أزيرة للماء، وفي الركن الآخر مصطبة، والكل مسور بسور منخفض، أما الجزء المبني من المضيفة فكان صالة كبيرة يبلغ طولها نحو 15 مترا وعرضها نحو ستة أمتار وسقفها قبابي، وبها شباكان يطلان على الخارج، وشباكان مقابلان لتمرير الهواء وترطيب جو المضيفة، وملء الصالة دكك كثيرة وطرابيزات مغطاة بأقمشة بيضاء ذات خطوط زرق، كلوبات الإنارة كثيرة، وعلى إحدى الطاولات جهاز راديو تنبعث منه أغان بصوت مرتفع، والراديو هو وسيلة هامة للاتصال بالعالم الخارجي في مثل هذه الأماكن النائية، كما أنه عامل يجذب الكثير من الناس للحضور والائتناس في المضيفة.
جلسنا، وبعد قليل من التعارف وتبادل الأحاديث الودية بدأ العشاء الفاخر: شوربة وأرز بالخلطة وبسلة سوتيه باللحم المحمر، وفاصوليا باللحم ومهلبية بالكرميل، وكلها مطهية بامتياز، ذكرتنا بطعام أفخر الموائد في القاهرة - معظم موائد النوبة الفاخرة هي من طهي الرجال الذين تمرس بعضهم على ذلك في الفنادق والقصور في مصر - وبعد أن انتهينا من الطعام تجمع نحو عشرين شخصا في أحد أركان المضيفة يطعمون، وكان آخر من أكل هو صاحب الدار وزوج ابنته اللذان كانا يشرفان على حسن تقديم الطعام لنا ولبقية القوم - وقد شهدت مثل هذا في السودان، ولعلها تقليد عربي أن يأكل المضيف بعد الضيفان.
وبعد الشاي انتظم الجميع وجلسوا على الدكك وبعضهم على الأرض وبدأ التسامر، وكان في الجمع الصياد هاوي الصيد، الذي فتح باب الحديث الجماعي بقص مغامرات ونوادر حدثت له أثناء ممارسته للصيد، وعرفنا بعد ذلك أنه أيضا فنان ذو صوت رخيم، فوجدناها فرصة لتسجيل بعض الأغاني، أحضرت «الطمبورة»، وهي الآلة الوترية المتداولة كثيرا في النوبة، وبدأت السهرة بأغان هادئة وبصوت رخيم ناعم، وكان بعض الرجال يردون بعض المقاطع في صورة «كورس» تلقائي، ولكن كان الغناء متقضبا ودون حماس كثير، وقد علمنا أن ذلك راجع إلى حالة حزن وحداد في المنطقة، وبعد فترة بدأ الانسجام يسود والحماس يزداد، وانطلقت الأيدي تصفق والأرجل تدب مع النغم - حتى إننا طلبنا تخفيض الدق والتصفيق من أجل حسن التسجيل - وكانت هناك أغاني غزل كثيرة؛ مثل «ليه يا سمرا» و«بلاجة» - يعني دلوعة - و«حي بنات زينة هالله هالله»، وكلها مقطوعات جميلة شجية للروح البشرية.
ولتشجيعهم كنا نعيد عليهم تسجيل الأغنية بعد أن يفرغوا من غنائها فيطربون لها أشد الطرب، ويطلبون استعادتها مرة أخرى وأخرى، حتى خفنا أن تفرغ شحنة البطاريات، وما لدينا من بطاريات إضافية عدد محدود.
وفي خلال إحدى فترات التصفيق واستعادة الشريط لاحظت د. كوثر أشباحا باهتة على بعد من أحد شبابيك المضيفة، فأيقنت أن النساء والبنات يستمعن دون أن يجرؤن على الدخول وسط هذا المجتمع الرجالي، فخرجت لهن، لكنهن في البداية هربن مسرعات، ثم عدن حينما تبين أن الخارج إليهن هو سيدة مثلهن، وأخذت تتعرف عليهن ويتعرفن عليها داخل البيت، تقول: وجدتهن فتيات صغيرات ملاحا؛ هن بنات الشيخ أحمد عباس، وقد تزين بالمصاغ والحلي الذهبية المتعارف عليها في بلاد النوبة، وتعرفت على ست الدار ووعدت بأني سأعود إليهن في اليوم التالي بدون زوجي لأسجل لهن ما يعن لهن من الأغنيات، وعدت إلى المضيفة نكمل السهرة الممتعة حتى منتصف الليل، فودعونا بمثل ما استقبلنا به من حفاوة، وشكرناهم والشيخ عباس أجزل الشكر على الليلة الطيبة والعشاء الفاخر.
سرنا في مشية سريعة لمدة ساعة في ضوء القمر دون حاجة إلى نور البطاريات: هدوء وحمير مربوطة ترعى في رعاية الله، ونمنا نوما عميقا حتى الخامسة والنصف صباحا، حين استيقظ رياض على صفير باخرة البوستة، فنزل وقابل عليها الأستاذ عبد المطلب مفتش البريد، وبعض مدرسين سنقابلهم في نجوعهم فيما بعد.
وفي اليوم التالي بعد زيارتنا لنجع العرب عرجت كوثر على نجع كلدول لتلتقي بسيدات وبنات الشيخ أحمد عباس كما وعدتهن، تتذكر د. كوثر أنهن دخلن غرفة وأحكمن إغلاقها وأوقفن إحداهن عند الباب لتنبيههن إذا قدم الوالد أو زوج إحدى البنات، ورغم كل هذه الاحتياطات فإنهن كن خائفات أن تعلو أصواتهن، فلم يكن قد أخذن الإذن بذلك، ولهذا جاء التسجيل فاشلا؛ لأن أي حركة في الحوش كانت ترعبهن ويسكتن عن الغناء على الفور.
صفحة غير معروفة