إهداء
مقدمة الطبعة الثانية
مقدمة
القسم الأول: الرحلة مع النيل والناس
1 - الإعداد للرحلة
2 - من «عمدا» إلى «لندا»
3 - أنقذونا ... الحقونا ...
4 - الليلة الأولى
5 - بوابة كلابشة وحجر السلامة
6 - من كلابشة إلى قرشة
7 - قرشة
8 - العلاقي وسيالة والمالكي
9 - قراءة الماء
10 - من المالكي إلى الدر وتوشكى
11 - رحلة العودة
القسم الثاني: الدراسة العلمية للنوبة القديمة
1 - موجز التاريخ الحضاري للنوبة
2 - مشكلة اللغات النوبية
3 - طبوغرافية النوبة المصرية
4 - سكان النوبة
5 - أوجه النشاط الاقتصادي النوبي
6 - بعض أشكال الحياة الاجتماعية
القسم الثالث: مؤشرات حول مستقبل إقليم النوبة
1 - منطقة بحيرة ناصر
القسم الرابع: مع الناس بالأغنية والصورة
1 - من أغاني النوبة
2 - مذكرة عن بعض أنواع الرقص في النوبة
3 - سياحة بالصورة في النوبة القديمة
4 - المصادر والمراجع
إهداء
مقدمة الطبعة الثانية
مقدمة
القسم الأول: الرحلة مع النيل والناس
1 - الإعداد للرحلة
2 - من «عمدا» إلى «لندا»
3 - أنقذونا ... الحقونا ...
4 - الليلة الأولى
5 - بوابة كلابشة وحجر السلامة
6 - من كلابشة إلى قرشة
7 - قرشة
8 - العلاقي وسيالة والمالكي
9 - قراءة الماء
10 - من المالكي إلى الدر وتوشكى
11 - رحلة العودة
القسم الثاني: الدراسة العلمية للنوبة القديمة
1 - موجز التاريخ الحضاري للنوبة
2 - مشكلة اللغات النوبية
3 - طبوغرافية النوبة المصرية
4 - سكان النوبة
5 - أوجه النشاط الاقتصادي النوبي
6 - بعض أشكال الحياة الاجتماعية
القسم الثالث: مؤشرات حول مستقبل إقليم النوبة
1 - منطقة بحيرة ناصر
القسم الرابع: مع الناس بالأغنية والصورة
1 - من أغاني النوبة
2 - مذكرة عن بعض أنواع الرقص في النوبة
3 - سياحة بالصورة في النوبة القديمة
4 - المصادر والمراجع
رحلة في زمان النوبة
رحلة في زمان النوبة
دراسة للنوبة القديمة ومؤشرات التنمية المستقبلية
تأليف
محمد رياض وكوثر عبد الرسول
إهداء
إلى روح النوبة دائمة الوجود،
وأبناء النوبة وأحفادهم الذين لم يروا أرض الأجداد.
وإلى أبنائنا أحمد وعايدة ونادية رياض،
وذكرى عطرة لروح أستاذنا الدكتور محمد عوض
رائد الدراسات النيلية والسودانية.
مقدمة الطبعة الثانية
منذ صدرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب جدت أمور كثيرة خلال اثنتي عشرة سنة في موضوع النوبة، ملخصها تراكم مشكلات من المعاناة من جوانب عدة، بعضها ما يأتي: (1)
أول أشكال المعاناة كانت من جانب النوبيين المهجرين في الموطن الجديد في «مركز نصر» بحوض كوم أمبو ، والذي نسميه اختصارا «نوبة مصر»، أسس المعاناة هنا عديدة، على رأسها ضيق المسكن بعد أن كبر الأولاد وتزوجوا، ولم يكن لديهم فائض أرض لبناء مساكنهم الخاصة، وأيضا ضيق المعايش؛ لأن الأرض التي خصصت للأسرة الواحدة آنذاك كانت فدانين للاستزراع، وحتى أصحاب المعاشات الحكومية - وهم قلة - ضاقت بهم الحياة بنمو احتياجات الأجيال الجديدة، ومن ثم كثرت هجرة العمل في مصر أساسا وفي الخارج أحيانا. (2)
أولئك النوبيون الذين لم يعوضوا في كشوف الهجرة لعدم تواجدهم في النوبة القديمة، والذين يطلق عليهم اختصارا «المغتربون»، وهو اسم لا يعبر عن معنى الاغتراب! فهؤلاء كانوا يعيشون داخل مصر وطنهم الكبير، يمارسون نشاطاتهم المعيشية في شتى الأنحاء مدنا وسواحل وريفا، مشكلتهم تتلخص في أنهم أو أسرهم كانت لهم بيوت مغلقة في النوبة القديمة، ومن ثم لم يدرجوا في كشوف الإحصاء التي بمقتضاها تم تدبير السكن والأرض في منطقة التهجير الجديدة في مركز ناصر، وهم الآن يطالبون بحق العودة بتخصيص مساحات لهم حول بحيرة ناصر، وهو الاسم الذي يستبدله أكثرهم باسم بحيرة النوبة، باعتبار المكان الجغرافي للبحيرة فوق النوبة القديمة؛ رغبة في استمرارية اسم النوبة الذي كان سائدا من قبل على إقليم النوبة، وأيا كانت التسمية راجعة إلى صاحب مشروع السد العالي أو إلى الموقع الذي تحتله بحيرة السد؛ فإن الواقع يرجح اسم المكان باعتباره أكثر دواما من أسماء الأشخاص، وكحل وسط؛ هل يمكن إطلاق اسم ناصر على السد العالي، واسم النوبة على البحيرة؟ (3)
وخلال السنوات العشر الأخيرة كانت هناك مشروعات استصلاح واستيطان في منطقتين؛ أولهما: وادي النقرة «نجرة» شرق مركز نصر مباشرة، حيث أعمال سائرة لاستصلاح نحو 65 ألف فدان، معظمه مخصص لشركات استثمارية، والقليل منها مخصص للمنتفعين أيا كانوا دون نوع ما من التخصيص للنوبيين ولو قليل من القرى. والثاني: كان إنشاء قرى - ربما قرية أو اثنتين - على ضفاف البحيرة مفتوحة لاستيطان فقراء أقاليم مصر الجنوبية والشمالية، وبصفة عامة لم ينل النوبيون أية ميزة في هذا التخصيص، وقد أثارت هذه التجاهلات النوبيين بصفة عامة؛ فهم كانوا ينتظرون أن يكون لهم أولوية التخصيص حول البحيرة، باعتبار أنها أصلا جزء متمم لأراضي النوبة القديمة بحق الشفعة، أو مراعاة حق الجوار في مستصلحات وادي النقرة. (4)
إزاء هذه المشكلات، وبين أخذ ورد مع الإدارات الحكومية ومحافظة أسوان، جاءت تصريحات السيد رئيس الجمهورية في زيارته أواخر العام 2009، شكل حلا يرضي جميع الأطراف؛ أولا برفع مطالبات البنك الزراعي عن كثير من أهل نوبة نصر، وثانيا حل مشكلة المغتربين بتخصيص أراض لهم حول البحيرة، وقد وقع اختيار الإدارة على منطقة خور كركر في شمال البحيرة، قريبا من مطار أسوان الدولي، مكانا للنوبيين الراغبين في العودة إلى ضفاف النيل، لكن هذا التخصيص المكاني لم يلق قبولا عاما بين دوائر نوبية عديدة؛ بتبرير أنه مكان صغير في أرض كثيرة الهزات الأرضية فليلة القدر، وفي قرارة الأمر فإن منطقة كركر هي الطرف الشمالي لأراضي البحيرة، بينما هناك عشرات الكيلومترات من الأراضي شرق وغرب البحيرة في جنوبها ووسطها وشمالها أصلح للاستيطان من خور كركر، رغم قربه من مدينة أسوان، مما يسهل الحركة وأشكال النشاط الاقتصادي. (5)
إزاء ذلك كله، فإن حركة الناشطين النوبيين والغاضبين منهم لها ما يبررها، وهناك جمع من الأسئلة والاستيضاحات في هذا الموضوع، بعضها كما يلي:
النوبييون الآن مجموعتان مكانيتان؛ أولهما: نوبة نصر، وهم كتلة كبيرة متجانسة في إقليم متقارب. والثاني: نوبة الانتشار في أرجاء مصر، والأغلب أنهم أكثر عددا من نوبة نصر، وهم متجانسون مع بيئاتهم التي يعيشون من خلالها اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وتربطهم معا النوادي الثقافية النوبية الكثيرة، وأيضا رابطة النادي النوبي العام.
في كلتا المجموعتين من النوبيين ارتباطات كثيرة معيشية ومعاشية بكافة المجالات الحياتية مع من حولهم من الناس والأعمال، فكم من النوبيين يمكنهم فك هذه الارتباطات المعيشية ومصالحهم من أجل البدء من جديد في مستوطنات جديدة حول بحيرة النوبة؟
وإذا كان عدد النوبيين المصريين مليونا أو أكثر، فلا شك في أن أقل من الربع راغبون في العودة إلى ضفاف البحيرة، فهل هذا العدد يكفي لسكن الأراضي حول البحيرة واشتقاق حياة جديدة قوامها الزراعة، أم أن تكون هناك أنشطة أخرى صناعية وحرفية وأنشطة الخدمات التعليمية والصحية والسياحية وشئون المجتمع والتجارة ... إلخ؟
وفي المجتمع النوبي القديم كان الأمان والتجانس صفة أساسية، ومع ذلك كان هناك تعامل سلمي وتعايش من أجل مصلحة مشتركة مع غير النوبيين الذين يسكنون في أحيان جنبا إلى جنب النوبيين؛ كالعبابدة والبشارية، أو كأهل الصعيد الأعلى الذين يتعايشون مع صيد النهر في مواسم، ويساعدون في إعداد الأرض للزراعة مع أهالي النجوع في موسم الزراعة، والآن حالة مماثلة بين سكان نوبة نصر من ملاك أراض أو عاملين وتجار مع جيرانهم من سكان مزارع ومصانع وتجار بقية إقليم كوم أمبو، وبطبيعة الحال مثل ذلك بين نوبة الانتشار في مدن وأقاليم مصر.
لا شك أن هناك رومانسية عن حياة الماضي في شبه عزلته، لكن المدقق من النوبيين يرى أن المجتمع النوبي القديم كان يتكون من أغلبية من النساء والأطفال وكبار السن من الرجال، ولم تكن الأسرة في مراحل السن المتوسطة نواة المجتمع المقيم إلا في حالات محددة، حيث الأرض غنية بمشروعات زراعية مثل بلانة وعتيبة والدكة والعلاقي، أو عند زيارة الرجال العاملين خارج النوبة لبلادهم.
واستطرادا لموضوع السكان، فإن النتائج النهائية للتعداد العام للسكان عام 2006، المنشورة بواسطة الجهاز المركزي للإحصاء السكاني، قد أوضح أن سكان النوبيين المقيمين في قرى التهجير بمركز نصر النوبة؛ بلغ عددهم أكثر قليلا من 60 ألفا، لكن الأهم أن الفحص الدقيق لعدد سكان القرى قد أوضح ارتفاع نسبة الذكور إلى مجموع السكان المقيمين من متوسط نحو 38٪ في 1960 إلى نحو 46٪ في 2006، وهو تغير كبير في تركيب المجتمع يوضح أثر الاستقرار، وكما كان في الماضي فإن بعض قرى الكنوز تتصف بنسبة أقل من الذكور مقارنة بقرى الفديجة: فنسبة الذكور كانت أقل أو نحو 40٪ بين قرى الكنوز والعليقات، مثل السبوع ووادي العرب وشاتورمه وقرشة وكشتمنة - وكلها كانت من قبل أقل من 30٪ - بينما سجلت قرى الفديجة نسبا أعلى قليلا من المتوسط العام، مثل بلانة وتوشكى وعنيبة. وبعبارة أخرى، فإن ذلك يؤكد أن الاستقرار بدأ يأخذ طريقه إلى تعديل نسبة النوع في المجتمع النوبي.
الملاحظة الأخيرة أنه تبين من إحصاءات الجهاز المركزي لعام 2006، أن هناك مجموعة من القرى في مركز أبو سنبل حول البحيرة هي: قسطل وأدندان والفراعنة ونلوا الزهور والسلام وعبد القادر والعبابدة والشهداء والمستقبل والصيادين وأبو سنبل السياحية والري. مجموع سكان هذه القرى بلغ 3915 نسمة، أكبرها عبد القادر والسلام والمستقبل ونلوا - لكل نحو 600 نسمة - وتتصف بارتفاع نسبة الذكور إلى فوق معد 55٪، وهو ما يدل على حداثتها وقلة عدد الأسر، فلماذا لا تستفيد هذه القرى من الراغبين النوبيين في العودة إلى ضفاف البحيرة؟
الخلاصة أنه ليس من المستحيل أن تكون هناك قرى نوبية وأخرى غير نوبية على الامتداد الكبير لمنطقة بحيرة النوبة، وفي هذه الحالة سيصبح النوبيون منقسمين مكانيا إلى ثلاثة أقسام؛ هم: نوبة الانتشار، ونوبة نصر، ونوبة البحيرة. لكنهم كلهم متفاعلون معا نسبا وثقافة ولغة، يرفد بعضهم البعض، فينتقلون من هنا إلى هناك، حيث تتنوع مجالات الأنشطة الاقتصادية حسب تأهيلهم التعليمي والمهني داخل الوطن الكبير، مثلهم مثل أي مجموعة مصرية أخرى. «وبالله التوفيق ...»
محمد رياض
القاهرة في يناير 2010
ملاحظة
يعز علي أن أكتب مقدمة الطبعة الثانية لهذا الكتاب التاريخي بعد أن فقدت في نوفمبر 2002 زوجتي ورفيقة عمري وشريكتي في الدراسات الميدانية العديدة، وفي تأليف هذا الكتاب وغيره؛ الأستاذة الدكتورة كوثر محمد عبد الرسول. عليها رحمة الله.
مقدمة
دوافع الكتابة عن النوبة التي كانت
بدأ اهتمامنا بالنوبة أيام كنا طلبة في معهد الدراسات السودانية في العامين 1949-1951م، وهو المعهد الذي أنشأه أستاذنا وأستاذ الجغرافيا في مصر والعالم العربي الدكتور محمد عوض محمد، كمعهد عال للدراسات النيلية والسودانية تابع لجامعة فؤاد الأول - القاهرة حاليا - يدرس فيه خريجو الجامعة من مختلف التخصصات موضوعات عدة، منها الجغرافيا والأنثروبولوجيا والتاريخ والآثار، وهيدرولوجية مياه النيل في إطار السودان ووادي النيل، ويحاضر فيه نخبة من الأساتذة والعلماء والمتخصصين، نذكر منهم الأساتذة محمد عوض، شفيق غربال، سليمان حزين، عبد المنعم أبو بكر، حسين فهمي، حسن عثمان، محمد محمود الصياد، رشدي سعيد ، وغيرهم ممن لم تسعفنا الذاكرة أسماءهم.
وقد بلغ الاهتمام بالنوبة أشده حين تخرجنا من المعهد وأراد محمد رياض أن يسجل رسالة للدكتوراه بعنوان «قبيلة المحس في بلاد النوبة»، واشتهر لفترة بين زملائه باسم «نوبة محس»، لكن السنين دارت ودرس محمد رياض موضوعا عن قبيلة الشلك في السودان الجنوبي، بينما درست كوثر عبد الرسول موضوعا أفريقيا آخر عن شمال نيجيريا، وذلك في الأعوام 1953-1956م في جامعة فيينا (النمسا).
ومرة أخرى كان لكتابات أستاذنا الدكتور محمد عوض عن عمليات استقرار البدو ومراحله في مصر، ثم دراسته لموضوع تهجير النوبيين السودانيين الذين ستغرق أراضيهم بعد تكوين بحيرة السد العالي، إلى مواطن في شرق السودان الأوسط؛ أثره الكبير في إعادة اهتمامنا بموضوع النوبة المصرية، وحينما ظهرت في الأفق عملية تهجير كاملة للنوبيين إلى أماكن جديدة في شرق حوض كوم أمبو، قام مركز البحوث الاجتماعية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة بمخطط دراسي لسكان وثقافة سكان النوبة، وذلك بمنحة من مؤسسة فورد الأمريكية، وقد ظهر أن مكونات النوبة السكانية تشمل مجموعات صغيرة غير الكنوز والنوبيين، وعلى رأسها عشائر تنتمي إلى العبابدة، استقرت تماما في مناطق متعددة في بلاد الكنوز والعليقات، واشترك محمد رياض في المخطط الدراسي لمركز البحوث الاجتماعية سالف الذكر ببحث عن عبابدة عمدية سيالة، وقد قمنا - رياض وكوثر - بدراسة ميدانية في سيالة والعلاقي في يناير-فبراير 1962م.
وقد شحذت هذه الدراسة حمية البحث لدينا عن النوبة بوجه عام؛ فقمنا سويا برحلة نهرية استعرنا فيها أحد «لنشات» الجامعة الأمريكية في النوبة، وبدأنا الرحلة من مرسى اللنش في نجع قناوي - عمدية أمير كاب - وتوقفنا في محطات مختارة من أجل المسح العام الميداني في عمديات قرشة والعلاقي وسيالة والمضيق من بلاد الكنوز، والمالكي والسنجاري من بلاد العليقات وكورسكو التي تتميز بخليط من العليقات والنوبيين والعبابدة، ثم الدر وتوشكى غرب من بلاد النوبيين - يشار إليهم أحيانا باسم الفديجة - وكان المخطط أن نستمر حتى بلانة وأدندان، لكن ظروف تيار النيل الجارف، مع الدوامات وغير ذلك من العوائق أثناء الفيضان؛ حال دون إتمام الرحلة جنوبا ، فقفلنا راجعين، وقد استغرقت هذه الرحلة شهر سبتمبر 1962م بأكمله.
ومن خلال هذه الرحلة تبينا أهمية عمدية كورسكو؛ لما فيها من اختلاط عشائري لمجموعات لغوية مختلفة نتيجة موقعها الجغرافي على بداية طريق وادي كورسكو، الذي هو أقصر طريق مباشر إلى شمال السودان، لهذا عقدنا العزم على العودة مرة أخرى للقيام بدراسة لمنطقة كورسكو وما جاورها من عمديات - السنجاري والمالكي والريجة وأبو حنضل - واستغرقت هذه الدراسة شهرا آخر؛ منتصف يناير إلى منتصف فبراير 1963م.
وهكذا تجمعت لدينا معلومات وملاحظات عن النوبة المصرية خلال موسمي الصيف والشتاء، وشاهدنا متغيرات البيئة النوبية بين امتلاء خزان أسوان وتفريغه، وشكل النهر الطبيعي خلال الصيف وتدفقه القوى وتأثيره على حركة النقل التجاري، وتنقل الناس بين العمديات، والمساحات الزراعية خلال الصيف-الخريف، والسكون الاقتصادي خلال الشتاء-الربيع، إلا من الأنشطة الاقتصادية التي يقوم بها بعض من سكان الصعيد في النوبة، وخاصة صيد السمك وعمل الفحم النباتي، هذا فضلا عن الخدمات التي تؤديها بعض أجهزة الدولة وبخاصة التعليم والصحة والأمن والبريد.
وقد نشرنا نتائج هذه الدراسات باللغتين العربية والإنجليزية في الحوليات العلمية في حينها، لكن بقي لدينا رصيد كبير من مذكرات الميدان، ومئات الصور كسجل متمم لمعرفة بيئة وحياة النوبيين، قبل أن تغرق تحت مياه بحيرة السد العالي، التي تسمى في كثير من الأحيان بحيرة ناصر، وكذلك لدينا بعض السجل الصوتي لأغاني المناسبات، لكننا لا ندري ماذا نفعل بها؛ لأنه لا يوجد أرشيف صوتي قومي في مصر حسب معلوماتنا. وبقي الحلم يراودنا أن ننشر هذه المعلومات كسجل تاريخي باسم «وصف النوبة»، على غرار كتاب الحملة الفرنسية المشهور «وصف مصر»، وقد بدأنا العمل في الكتاب عام 1966م، ثم توقفنا لانشغالنا بإصدار كتب علمية وأبحاث في منطقة الخليج العربي. وفي خلال تلك المدة ظل كتاب النوبة هاجسا يلح علينا من آن لآخر.
وأخيرا عكفنا منذ عامين على هذا الكتاب، ليس كبحث عما كانت عليه النوبة قبل السد العالي فقط، ولكن لنعرف كيف تكيف الناس وتلاءموا مئات السنين في هذه البيئة القاسية، لعلنا نستفيد درسا من دروس التكيف والتلاؤم في حالة التنمية الجادة لإقليم النوبة حول بحيرة ناصر وأذرعها وخلجانها الممتدة في الوديان والأخوار المتآخمة.
ولعلنا نعرف من يقوم بالتنمية؛ الحكومة أم الأهالي؟
ومن هم الأهالي؟ نوبيون فقط أم أيضا من سكان الصعيد الأعلى؟
وما وجه الشراكة بين الحكومة كمتخذ للقرار، والأهالي كمنفذين لمشروعات يرونها أرجح؛ لأنهم أقرب إلى الأرض ومعادلاتها الصعبة، من القرار المبني على دراسات جدوى فيها من العموميات ما يحتاج دائما إلى المحك التجريبي؟
لعلنا نوفق فيما نرجوه من فائدة علمية وثقافية ووطنية.
والله والوطن من وراء القصد.
المؤلفان
القاهرة في ديسمبر 1997م
القسم الأول
الرحلة مع النيل والناس
الفصل الأول
الإعداد للرحلة
بعد الدراسة التي قمنا بها في سيالة في يناير 1962م، بدأ يراودنا مشروع كبير لزيارة كل النوبة المصرية في رحلة شاملة، نتعرف من خلالها على النيل والطبيعة والناس وحياتهم وأفراحهم وأحزانهم وقيمهم الحياتية قبل التهجير إلى منطقة كوم أمبو، وتكون بذلك سجلا لجزء من مصر ستتحول ملامحه تماما في كل النواحي البيئية والبشرية.
وبعد مشاورات عدة بين أنفسنا، قررنا أن تكون الرحلة في شهر سبتمبر لأسباب منها: (1)
بحيرة خزان أسوان ستكون قد أفرغت تماما؛ مما يعطينا الفرصة لنشاهد النوبة في وضعها الطبيعي قبل بناء سد أسوان؛ أي سيكون النيل حرا في جريانه وقت الفيضان، وسيكون الناس منهمكين في استخلاص مورد الأرض الطبيعي، وهو الزراعة. (2)
صحيح أن النيل سيكون في وقت الفيضان الطبيعي الذي كان يمثل فيما قبل السد موسم الانقطاع عن الزراعة، لكن لم يكن هناك حيلة للوصول إلى وضع النيل في النوبة بعد الفيضان، وبالتالي فإن سبتمبر سيكون أقرب الأوقات إلى شيء من صفات البيئة الطبيعية بدون تدخل الإنسان. (3)
وصحيح أيضا أن تيار النيل في الفيضان سيكون قويا جارفا عند الملاحة جنوبا، ولكنه كان مخاطرة يجب أن نأخذها، فإما نجحنا أو فشلنا. وفي حالة الفشل، كان هناك بديل أن نعاود الكرة بواسطة وسيلة النقل المعتادة، وهي الباخرة الأسبوعية البطيئة. (4)
كذلك كان من بين أسباب اختيار سبتمبر، أننا سنكون قد تجاوزنا درجات الحرارة القصوى في يوليو وأغسطس، ويبدأ تحسن نسبي بعدهما، لكن ذلك لم يكن الواقع على الأقل طوال 12 ساعة من سطوع شمس قوية، وهو شيء غير ملائم لمعدات التصوير، ومن ثم كان علينا أن نختار أفلاما قليلة الحساسية للتصوير النهاري بحذر، وأفلاما سريعة للتصوير الليلي بالضوء الصناعي. (5)
وأخيرا كان اختيار سبتمبر ضروريا؛ لأننا يجب أن نلتحق بعملنا في الجامعة في شهر أكتوبر.
وكانت المشكلة الثانية هي تدبير وسيلة انتقال نهرية نقف بها حيث نريد وللمدة التي نريد، وبطبيعة الحال كانت الوسلة الأمثل هي تأجير قارب مزود بمحركات؛ ليتمكن من الملاحة ضد التيار وبالسرعة الملائمة، صحيح أن أحسن الوسائل تكون قاربا شراعيا يمكننا من التهادي على صفحة الماء، ويسمح بالتصوير والتوقف في أي مكان، لكن القارب الشراعي تحت رحمة الرياح، وقد تصبح سرعته قريبة من الصفر إذا لم تكن الرياح مواتية أو تيار الماء عنيفا، وبعبارة أخرى كان القارب الشراعي هو أحسن البدائل إذا توفر لنا من الوقت شهران على الأقل، وهو ما لم يكن متوفرا لنا، هذا فضلا عن أنه كان من الصعب إقناع صاحب مثل هذا القارب الارتحال بطول النوبة؛ فالماء ثقيل بما يحمل، كثير الدوامات؛ مما يجبر الملاح على سلوك خط سير متذبذب بين الضفة والأخرى؛ تجنبا لمفاجئات عرفناها فيما بعد، كما رأينا الكثير من القوارب الشراعية تلتجئ إلى الصنادل البخارية لجرها في الأماكن التي يستحيل فيها حتى جر المركب بالحبال من الشاطئ «جر اللبان».
بدأنا نستفهم ونسأل عن إمكانيات السفر الخاص في سفن وقوارب بخارية، ووجدنا أنها صعبة المنال بالنسبة لأشخاص من الخارج، فمعظم هذه السفن حكومية أو ملك لشركات وهيئات، وتكلفة تسييرها عالية ما لم تكن مكلفة بعمل معين يخص الهيئة، وكانت هناك «لنشات» خاصة يمكن تأجيرها، لكن الإيجار اليومي كان يتراوح بين عشرة وخمسة عشر جنيها، فضلا عن تكلفة الملاح اليومية، وهذا مبلغ كبير على ميزانيتنا الخاصة؛ فقد كنا في ذلك الوقت مدرسين لا يتجاوز راتبنا الشهري معا مائة وعشرة جنيهات، وفي نفس الوقت كانت معظم اللنشات مؤجرة للهيئات والبعثات العلمية التي كانت تعمل في دراسة وحصر آثار النوبة، وعلمنا أن للهيئة العلمية الألمانية مراكب بخارية وصنادل تتحرك عدة مرات في الأسبوع، من أسوان إلى موقع العمل في معبد كلابشة، حيث كانت شركة «هوختيف»
HochTief
تساعدهم في نقل أحجار المعبد إلى موقعه الجديد غربي أسوان، وبالاتصال بهم وافقوا على سفرنا معهم إلى كلابشة، حيث تكون أول محطة لنا في الدراسة، ثم بعد ذلك يمكننا الانتقال مع مراكب هيئة الآثار المصرية إلى مواقع أثرية أخرى في دندور وعمدا والدر ... إلخ، وبعبارة أخرى يتبخر حلمنا أن نقف عند نواح معينة من النوبة للدراسة، ونكون بذلك تحت رحمة مسار هذه السفن!
ثم هدانا التفكير إلى الالتجاء إلى مركز البحوث الاجتماعية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، الذي كنا قد عملنا لهم دراسة خاصة في سيالة قبل بضعة أشهر، ذلك أن لهم عدة لنشات في النوبة لخدمة نشاط باحثيهم في دراساتهم الأنثروبولوجية في نواح عدة من النوبة بتمويل من مؤسسة فورد، وعرفنا أن هذه القوارب تقف ساكنة عند حراس من النوبيين خلال الصيف، وأن أحدهم موجود في نجع قناوي قبالة عمدية دهميت، وعندما اتصلنا بهذا المركز وعرضنا استئجار أو إعارة قارب دهميت، رحبوا بإعارته لنا، شريطة أن نعيده في آخر سبتمبر؛ حيث يبدأ نشاطهم، وأن ندفع نحن تكلفة الوقود والحارس الذي سيكون بصحبتنا، وقد ساعدنا في ذلك أحد الباحثين الشبان في مشروعهم، هو الآن الدكتور أسعد نديم، صاحب مؤسسة المشربية للمنتجات التراثية بالدقي، والتي قامت مؤخرا بترميم بيت السحيمي في قاهرة المعز.
وقد وافق أسعد على مصاحبتنا في الجزء الأول من الرحلة حتى قرشة، وكان نعم الزميل، ووددت لو أكمل معنا لولا ارتباطاته في القاهرة، فالشكر كل الشكر له، وللدكتورة ليلى شكري مديرة مركز البحوث، والدكتور روبرت فرنيا مدير مشروع دراسات النوبة في تلك الفترة، كذلك صاحبتنا الباحثة النمساوية د. آن هوهنفارت لبعض الوقت، والتي كانت منشغلة بدراسات لغوية وفولكلورية في بلدة الدر.
بعد أن خلصنا من مشكلة تحديد الوقت ووسيلة الانتقال بدأت حمى السفر تجتاحنا، ودخلنا في تفاصيل دقيقة، ماذا نأخذ معنا؟ ماذا نحتاج إليه في هذه الرحلة الطويلة؟
الملابس يجب أن تكون خفيفة مريحة وعملية تتحمل السفر، وتساعد على تحمل الحر والرطوبة، فسنمضي ساعات وساعات وسط مياه النهر، بالنسبة لرياض كانت البنطلونات التيل والفانلات القطنية سهلة الغسل والتجفيف، وبالنسبة لكوثر كانت الجونلات الواسعة والبلوزات القطنية، أو الفستان الواسع من أجل حرية الحركة دون اختناق، الأحذية كانت أحذية باتا الكاوتشوكية الخفيفة، وسهلة التنظيف بالغسل في الماء، هذا فضلا عن أغطية خفيفة تجنبا للذعة البرد في الفجر.
ما هي الأطعمة التي نأخذها معنا؟ وما هي أدوات الطهي والمائدة المناسبة للرحلة؟ بطبيعة الحال كان اعتمادنا الأساسي على الأطعمة المعلبة من خضراوات وبعض الفواكه المعلبة والليمون،
1
واعتمدنا على شراء بعض الخضراوات الطازجة، وربما لحوم من النواحي المختلفة التي نرسو فيها، وكذلك تجهزنا بعقاقير وأدوية أساسية.
2
وحول التجهيزات العلمية، كان هناك إعداد آلات التصوير التي لدينا للتصوير الملون في شرائح والتصوير العادي «أسود/أبيض» والعدسات المقربة، وتلك واسعة الزوايا، ومرشحات الضوء وآلة تصوير سينمائي 16ملم، وشراء الأفلام المناسبة للجو القائظ، وآلة التسجيل الصوتي والشرائط والبطاريات اللازمة لها، ولم يكن يعرف في ذلك الوقت التصوير بالفيديو الذي يغني عن كثير من هذه الآلات، وكذلك لم تكن عدسات «الزووم» والكاميرات الأوتوماتيكية متاحة، وباختصار كان التصوير يعتمد على المهارة الشخصية والسرعة مع الدقة في التصويب، وهو ما كان يؤدي إلى بعض الفاقد في الأفلام وفي اللقطات النادرة، خصوصا أثناء الحركة.
خريطة (1): بعض المظاهر الطبوغرافية للنوبة.
وبعد انتهاء الاستعدادات تركنا ابنتنا عايدة عند جدها وسافرنا إلى أسوان بقطار النوم المسائي، ولم تكن الرحلة مريحة؛ فقد كانت غرفتنا فوق عجلات القطار، لذا كانت الأصوات عالية والقطار كثير الاهتزاز، والخوف من السقوط لمن في السرير العلوي جعل النوم متقطعا، تغلبنا عليه ببعض الضحك. وصلنا أسوان الواحدة والنصف بعد الظهر نتيجة للتأخير في بعض الأماكن من المسافة الطويلة بين القاهرة وأسوان، واتجهنا إلى فندق جراند أوتيل للراحة قليلا قبل معاودة التأكد من استكمال كل المتطلبات، وذهبنا إلى مبنى إدارة شركة «هوختيف»، وقابلنا الهر رايدر، الذي أبدى استعداده لنقلنا على المركب «عمدا» إلى حيث نريد قبل كلابشة، وعلمنا أن «عمدا» سيبحر صباح اليوم التالي.
وعلى الفور قسمنا العمل بيننا؛ كوثر ذهبت إلى السوق مع سيدة أسوانية لاستكمال النقص في المؤن، وخاصة معلبات اللحم والخضروات والفواكه الطازجة، وخاصة الليمون الحلو الذي ظهر أنه أكثر الفواكه مقاومة للجفاف، ويظل محتفظا بعصارته المفيدة، وكذلك اشترت الخبز وأدخلته أحد الأفران لتقدده كي يعيش فترة أطول، وبعض الحلوى وهدايا لأطفال النوبة والنساء، وموقد الكيروسين.
أما رياض وأسعد فقد اتجها لشراء البنزين اللازم للرحلة مع زيت الموتور، وقد اشتريا 68 صفيحة بنزين ومثلها من الزيت. ولما كان اللنش صغيرا لا يحتمل هذه الحمولة الثقيلة، فقد حاولا نقلها بواسطة «البوستة» - أي الباخرة الأسبوعية - لكن إدارة هذه البواخر رفضت؛ لأنه ممنوع نقل المواد الملتهبة بها، وأخذا يبحثان عن مركب «دلتا» - أي الصنادل التي تمخر النهر حتى حلفا - ووفقا في العثور على واحد اسمه «بيومي» سوف يغادر إلى النوبة صبيحة اليوم التالي، وكانت الساعة قد بلغت التاسعة مساء، وأخذ رياض يسأل عن ريس الدلتا حتى عثر عليه، واتفق معه على نقل صفائح البنزين والزيت، وإنزال عدد منها أمانة عند وكيل البريد في عمديات كلابشة وقرشة وسيالة والمالكي والدر وتوشكى وبلانة، في كل محطة ينزل تسع صفائح، عدا كلابشة ستا، ونقلنا البنزين إلى المركب. أتحفنا الريس والمراكبية فوق الأجر لمزيد من الاهتمام بالنقل والتوزيع، أما باقي البنزين فقد أخذناه معنا إلى السفينة «عمدا» التي ستنقلنا إلى حيث يرسو قارب الجامعة الأمريكية، وكان لا بد من إحضار تصريح بنقل الوقود من أحد المكاتب الحكومية - نسينا اسمها الآن - وتم كل شيء حوالي الحادية عشرة والنصف مساء، وفي منتصف الليل تقريبا جلسنا في الحديقة المطلة على النيل؛ نستجمع أنفسنا مع فناجين الشاي بعد المجهود البدني والعصبي طيلة ما بعد الظهر.
وللتعرف على أسعار ذلك الزمان إلى القارئ البيان الآتي :
القطار من القاهرة إلى أسوان:
5,37 جنيه تذكرة درجة ثانية نوم، و8,695 جنيه درجة أولى.
الانتقال بالطائرة من القاهرة إلى أسوان:
960 قرش طريق واحد، 17 جنيه و20 قرشا تذكرة بالعودة إلى القاهرة مكتب مصر للطيران بالفندق، ويتولى أتوبيس الشركة نقل الركاب من وإلى المطار.
باخرة «البوستة» في النوبة:
قرش صاغ واحد عن الكيلومتر بالدرجة الأولى، ونصف القرش بالدرجة الثانية، وبالتالي فإن قيمة التذكرة من أسوان إلى حلفا كانت 340 قرشا للدرجة الأولى، وإلى سيالة 130 قرشا ... إلخ، ويضاف إلى ذلك جنيها واحدا قيمة ثلاث وجبات - طعام أوربي كامل - بشرط الحجز مقدما.
فندق جراند أوتيل بأسوان:
غرفة بسرير واحد بدون حمام 85 قرشا لليوم مع الإفطار، و170 قرشا مع ثلاث وجبات.
غرفة بسريرين بدون حمام 170 قرشا لليوم مع الإفطار، و320 قرشا مع ثلاث وجبات.
غرفة بسرير واحد مع حمام 135 قرشا لليوم مع الإفطار، و200 قرشا مع ثلاث وجبات.
غرفة بسريرين مع حمام 230 قرشا لليوم مع الإفطار، و380 قرشا مع ثلاث وجبات.
الإفطار للفرد 15 قرشا، الغداء 45 قرشا، العشاء 50 قرشا.
في حالة الاستراحة في الفندق - دون مبيت: حجرة بسرير بدون حمام 40 قرشا، ومع حمام 60 قرشا.
التاكسي:
من محطة أسوان إلى فندق جراند أوتيل - حوالي عشر دقائق - عشرة قروش.
من جراند أوتيل إلى محطة الشلال - بداية باخرة البوستة - حوالي نصف ساعة؛ 80 قرشا.
فأين أسعار زمان من الأسعار الحالية حتى مع ملاحظة فروق الرواتب منذ ثلث قرن.
جدول 1-1: جدول للمسافات بين الشلال وعمديات النوبة المصرية «بالنهر».
العمدية
المسافة كم
دهميت
30
أمبركاب
45
كلابشة
50
خور رحمة
55
أبوهور
60
مرواو
70
مارية
80
قرشة وجرف حسين
90
الدكة
105
العلاقى
110
قورتة
115
محرقة
120
سيالة
130
مضيق شرق
140
مضيق غرب
145
السبوع
160
وادي العرب
165
المالكي
175
كورسكو
190
أبو حنضل
205
الديوان
210
الدر
215
توماس
220
قتة
225
إبريم/عنيبة
235
الجنينة ومصمص
240
توشكى شرق وغرب
250
أرمنا
260
فرقندي
270
أبو سمبل
280
بلانة بحري
285
بلانة النقطة
290
أدندان
300
وبناء على جدول المسافات أعلاه، كنا قد وزعنا البنزين والزيت على أساس أن المسافة بين كل محطة والتالية لها في حدود 35 إلى 45 كيلومترا، فمن دهميت إلى كلابشة نحو 25كم، ومن كلابشة إلى قرشة 40كم ، ومن قرشة إلى سيالة 40كم، ومن سيالة إلى المالكي 45كم، ومن المالكي إلى الدر 40كم، ومن الدر إلى توشكى غرب 45كم، وأخيرا من توشكى إلى بلانة 35كم، وذلك على أساس نصف الكمية في الصعود جنوبا والنصف الآخر في العودة شمالا، وقد اتضح لنا بالتجربة أن ذلك كان أكثر من احتياجنا في العودة لمساعدة التيار لنا في الإبحار، كما سيأتي ذكره فيما بعد.
الفصل الثاني
من «عمدا» إلى «لندا»
في العاشرة صباح اليوم التالي كنا عند مرسى شركة «هوختيف» غربي سد أسوان، وأمامنا كانت ترسو السفينة البخارية «عمدا»، وهي قارب فسيح يبلغ طوله قرابة 12 مترا، ويحتوي على كابينة للنوم بها سريران، ومطبخ به مرشح للماء، وحجرة القيادة، ومقصورة مفتوحة في الخلف للجلوس والمشاهدة، وهو قارب قوي المحرك يتولى قيادته ريس وملاح.
تحركت «عمدا» من الميناء حوالي الثانية عشرة إلا ربعا، وحوالي الثانية والنصف ظهرا كنا أمام دهميت، وهي مسافة نحو 35كم؛ أي إن القارب كان يسير بسرعة 12 كيلومترا/ساعة ضد التيار، وهي سرعة كبيرة في مثل هذا الوقت من السنة، وتدل على قوة المحرك.
في البداية كان النهر عريضا أمام «جنوب» سد أسوان، وتكررت أمام أعيننا مناظر الصخور الجرانيتية والجزر الجرانيتية العديدة، وقد حف بها إطار من الطمي المتراكم كشف عنه تفريغ مياه بحيرة السد، وقد زرع النوبيون أجزاء من هذه الأطر الطميية بمحاصيلهم المعتادة، فأعطى المنظر العام ألوانا متناقضة؛ مياه النيل عكرة اللون ضاربة إلى اللون البني، الجرانيت الذي حرقته شمس آلاف السنين فصار من داكن اللون البني إلى الأسود، الخضرة اليانعة التي فقدت زهوها لوجودها بين ألوان قاتمة، وعلى أية حال فإن الخضرة المتناثرة هنا وهناك كسرت حدة الملل الذي تمجه عين المسافر في فصل الشتاء؛ حيث سطح البحيرة الواسعة أزرق بدرجات فاتحة حين تشكل الرياح تموجات الماء الناعمة، ثم صفرة الرمال أو حمرة التلال والحافات الصخرية التي تحف بالماء باستمرار، ونجوع وقرى النوبة بألوانها البيضاء أو البنية تمتد إلى ما لا نهاية.
وبوجود الإطارات الخضراء من أنواع الزراعات ظهرت بوضوح ألوان الحواف الرملية والصخرية أكثر من بانوراما الشتاء، وتضيف مجموعات الطيور العديدة من آكلات الأسماك وآكلات الحب والبذور وديدان الأرض؛ جمالا فائقا للنوبة خلال أشهر الصيف.
ويلحظ الشخص الذي تعود على مناظر النوبة شتاء أن النوبة تعاني من داء «البيات الشتوي»، الذي نلاحظه في طبيعة بعض الكائنات التي لا تفيق من البيات إلا إذا عضها الجوع نتيجة عدم اختزان ما يكفي من طعام خلال الصيف، فالنوبة تسكن في الشتاء إلا من حركة بواخر السياح المتجهين إلى أبو سمبل أو عودة أحد السكان العاملين خارج النوبة إلى قريته لسبب ما، غالبا الزواج - وهو قليل الحدوث في الشتاء الذي هو موسم العمل للعاملين خارج النوبة - ومع هبوط منسوب المياه في النيل - نتيجة تفريغ بحيرة السد - تستيقظ النوبة وتدب فيها الحياة، وتمتلئ الأرض التي خلفها تراجع المياه بأنواع من الأعشاب والنجيل الأخضر الخشن، ويدب الناس هبوطا وصعودا بين مساكنهم على الحافة الصخرية، وبين الحقول التي يزرعونها، في دروب مهدتها الأقدام سنة بعد سنة.
وفي الشتاء قلما يلمح المسافر بالنهر حركة الناس في نجوع النوبة، باستثناء اليوم الذي ترسو فيه باخرة البوستة القادمة من أسوان أو الذاهبة إليها، وهو أيضا يوم السوق حيث تفرغ بعض السلع المرسلة إلى دكان القرية، أو بعض الطرود التي يرسلها العاملون إلى ذويهم من كبار السن أو الزوجات والأطفال، أما في الصيف فإن المسافر يرى الكثير من الحركة، وخاصة النساء بملابسهن البيضاء في الشمال، والسوداء في الجنوب، يرحن ويجئن في الحقول وبين الآبار والبيوت، ومع مجموعات من الماعز والخراف التي ترعى النجيل الأخضر، وغير ذلك من إيقاع الحياة؛ مما يضيف إلى المنظر الطبيعي كثير الألوان لمسة الحياة، ويحيل الصورة الجامدة إلى واقع «يشغي» بالناس وينبض بالزمن.
وبعد نحو ساعة أو أقل مررنا بمنطقة السد العالي، وعلى عكس الهدوء الذي يميز النوبة، فإن منطقة السد العالي بدت خلية دائبة الحركة: الأصوات العديدة للآلاف من الإنسان، والمئات من اللواري الضخمة والآلات العملاقة من حفارات وأوناش ضخمة، وأبراج الكهرباء التي تسمو وتعلو على كل شيء آخر، والعائمات الضخمة واللنشات السريعة والبواخر والقاطرات «الجرارات» النيلية وغير ذلك، ولكل صوت أو هدير أو زئير أو صفير أو فرقعة تهز المكان، ولم تكن الفرقعات دوي تفجير، بل كان مصدرها تفريغ حمولة لوري ضخم من الصخور والأحجار والتراب من فوق مكان معين على القاع الحديدي لعائمة ضخمة، فإذا استكفت العائمة حمولتها، تجرها قاطرة لتلقي بحمولتها في مكان محدد من النيل، فالسد العالي في أساسه سد ركامي يبلغ عرض قاعه نحو الكيلومتر!
وما من مرة مررت تجاه منطقة العمل في السد العالي، إلا لفت أنظار الكثير من السياح وعلماء الآثار الأجانب الذين كانت تعج بهم النوبة في تلك الفترة، ففي يناير التالي 1963م كنت أركب البوستة متجها إلى كورسكو للقيام بأبحاث أخرى عن السكان والحضارة، وتصادف أن كان على الباخرة نفسها البعثة الأثرية النمساوية متجهة إلى سيالة في موسم عملها الثاني، وحين مرت البوستة بمنطقة السد العالي، كان يقف إلى جواري البروفيسور إيجارتنر أستاذ الأنثروبولوجيا الطبيعية «علم السلالات البشرية» في جامعة فيينا، وأخذ يسألني العديد من الأسئلة عن بناء السد والفوائد المرجوة من هذا العمل الجبار، أجبته قدر إمكاني دون أرقام كثيرة؛ لأنها أكثر مما تعي الذاكرة.
سألني عن موضوع الإطماء؛ أي ترسب الطمي الذي يحمله النهر في قاع بحيرة السد العالي سنة بعد أخرى، وهو ما يؤدي إلى تقليل سعة الخزان على مر السنين.
قلت له: إن موضوع الإطماء لا شك من الموضوعات التي تشغل بال المهندسين ورجال الري، ولا بد أن لديهم حسابات عن هذا الموضوع لمدة طويلة، ربما هي قرن من الزمان أو أكثر.
قال: هل يساوي قرن من التخزين وتوليد الطاقة كل الجهد المبذول والتكلفة العالية؟ وأحسبه كان صادقا في تساؤله دون إيحاء ماكر، شأنه شأن الفكر العلمي الناقد.
رددت السؤال بسؤال - وقد أخذت موقف الدفاع الوطني - هل ستعتبر السد العالي بعد قرن من الزمان عديم الفائدة؟
قال: هل هناك حل؟
قلت: قد لا تبدو الآن حلولا لمشكلة الإطماء، ولكن هل نعرف ما يقدمه العلم والتكنولوجيا في المستقبل؟ ثم إن مشكلة الإطماء ليست مشكلة السد العالي وحده؛ فالدول التي بنت سدودا على أنهارها الكبيرة، كالولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، تواجه هذه المشكلة أيضا. وأردفت أن في النمسا حقول بترول محدودة المخزون، فهل منع هذا النمسا أن تقيم صناعة بترولية محدودة أيضا؟ إن أحد مدارس الاقتصاد تقول باستخدام الموارد القائمة كلما أمكن ذلك؛ لأن لها قيمة اليوم، وربما يكتشف مورد جديد في المستقبل يجعل المورد القائم عديم الفائدة، فتضيع فرصة الإفادة منه، وذلك عكس مدرسة المحافظة على الموارد للمستقبل، المهم إيجاد صيغة مناسبة لاستخدام الموارد المتاحة مع محاولة تجنب الهدر؛ حفاظا عليها إذا كانت لها فائدة مستقبلية.
خريطة (2): مسار الرحلة النهرية في النوبة المصرية 1962.
والنيل هو أكبر مورد متجدد في مصر، ولا بد من الإفادة منه على أوجه متعددة، على ألا نصرفه في مشروعات قد تهدر إمكاناته في المستقبل، ولا شك أن تخزين المياه من أجل مزيد من زراعة الأراضي مع توليد الطاقة، هما أساس بناء السد العالي الذي ساعد على الرخاء في حينه، «وأنقذ مصر والسودان الشمالي فيما بعد من حرج ظروف الجفاف التي اجتاحت أفريقيا في الثمانينيات.» ثم حان وقت الشاي فانقطع الحديث مع بروفيسور إيجارتنر.
مرة أخرى نرجع إلى رحلتنا في سبتمبر 1962م، كنا على ظهر المركب «عمدا» نراقب بانوراما النوبة الشمالية بإمعان، مر المركب على نجوع عمدية دابود الواحد تلو الآخر، والمنظر لا يتغير كثيرا: حافات جرانيتية صلدة ومتهدلة، وبعضها يشرف تماما على النيل؛ مما يجعل مجرى الماء العظيم ينحني ويلتوي وينعطف بزوايا مختلفة، وإطار الخضرة ما زال يحف بأجزاء من الضفاف، والمساكن فوق الحافات الجبلية معظمها غير مطلي بالجير الأبيض الذي يميز الكثير من أبنية مناطق عديدة من النوبة، ومن ثم كان من الصعب تمييز البيوت؛ لأن لونها يقارب لون الصخور الداكنة حولها، وفوق هذا فإن المنطقة الشمالية تتميز بالأسقف القبابية أو الأسطوانية، فلم تكن هناك زوايا الجدار والسقف الأفقي، مما يزيد من تعتيم الرؤية وتبين المساكن، وبالمناسبة تأخذ هذه الأسقف القبابية في القلة كلما اتجهنا جنوبا، وتكاد ألا تظهر بعد العلاقي تماما، لتسود الأسقف المسطحة.
ومع بداية نجوع عمدية دهميت، أخذت الحافة الصخرية على البر الشرقي في التراجع قليلا بعيدا عن النهر، فتترك مجالا لسهل فيضي محدود الاتساع، وسنرى فيما بعد أن السهول الفيضية تتسع في مناطق متناثرة من النوبة الشمالية، فالسهل في دهميت لا يتجاوز 400 متر اتساعا، وفي قرشة نحو 500 متر في أحسن حالاته، وكذا في سيالة، بينما يبلغ اتساعا يصل إلى 600-700 متر عند الدكة والعلاقي وقورتة، أما في النوبة الجنوبية فإن السهول أكثر اتساعا واتصالا فيما بينها كلما اتجهنا جنوبا من الدر إلى توشكى، ثم تضيق في منطقة بين أرمنا وأبو سمبل، وتعود للاتساع في بلانة-أدندان.
وفي دهميت ظهرت كثير من البيوت مطلية بالجير الأبيض، فبدت على البعد، وقد رصعت الحواف الصخرية الداكنة، مما أعطى لونا جديدا إلى مجموعة الألوان في بانوراما جميلة، وطلبنا من قبطان عمدا أن يدير «سارينة» المركب - الصفارة - أمام نجع الجامع على البر الشرقي لعل أحدا يأتي إلينا؛ لنتفاهم معه على المبيت وإبلاغ حارس اللنش «لندا» التابع للجامعة الأمريكية، ولكن رغما عن إطلاق السارينة عدة مرات، ولمدة ليست بالقصيرة؛ فإن أحدا لم يأت إلى الشاطئ، فقررنا استئناف الرحلة إلى البر الغربي حيث ترسو لندا، وبعد مسيرة حوالي ربع الساعة، وصلنا إلى المكان الذي تقبع فيه لندا.
وعلى الرغم من أننا كنا نعرف أن لندا قارب صغير، إلا أن المفاجأة أدهشتنا؛ فقد وجدنا أنفسنا ننظر من عل - من عمدا - على قارب منخفض لا يزيد ارتفاع أعلى جزء منه عن سطح الماء بأكثر من 130سم، بينما كان ارتفاع عمدا في حدود ثلاثة أمتار، وبينما يبلغ طول عمدا نحو 12 مترا، فإن لندا لم تكن بأكثر من أربعة أمتار ونصف المتر، ويحتل مقدمها قرابة متر ونصف، والباقي هو الفراغ الذي سوف يشغله ركاب القارب وعجلة القيادة والمحركان في الخلف، وفي الوقت الذي كانت فيه عمدا مجهزة بغرفة نوم ومقصورة خلفية وحمام ومطبخ ومرشح للماء وبوتاجاز وكشافات كهربائية وسارينة ومخزن وقبطان ومساعده؛ لم يكن في لندا شيء من هذا كله، ولا حتى سارينة، كل ما فيها محركات قوية وقماش كبير يمتد على أعمدة منخفضة مكونا سقفا يحجب أشعة الشمس القوية، وكنبة من الجلد أمام مقعد القيادة تتسع لثلاثة أشخاص نحاف، وبحذاء الجدارين كنبتان من الجلد بطول قرابة 180سم وعرض نحو 80سم.
وقفنا لحظات نتأمل من عل هذا القارب الصغير، لكنه كان أمرا محتما أن نترك عمدا وننزل إلى لندا تطبيقا للمثل «حمارتك العرجة أحسن ...» أنزلنا ما معنا من حقائب ومعدات وطعام كان عليه أن يبقينا قرابة الشهر على قيد الحياة، وأربعة صفائح بنزين ومثلها من زيت المحركات.
شكرنا قبطان عمدا ومساعده شكرا جزيلا، وأخذ يلوح لنا بيده وهو يغادرنا بسفينته «الضخمة» مودعا قاربنا الصغير، وقد بدا في عينيه تساؤل واضح غير خفي: هل ستخدم لندا غرضنا وتنقلنا إلى أصقاع النوبة كلها؟
وحينما عدنا من رحلتنا من النوبة قابلنا قبطان عمدا في مرساه بغرب أسوان، فهنأنا بسلامة العودة، وأخبرنا صراحة ما كان يجول في خاطره من تساؤل، وأثنى ثناء عاطرا على مقدرة لندا وكفاءتها وتحملها.
وبعد أن بعدت عمدا واختفت عن الأنظار، بدأت لندا تبدو في أعيننا أكبر وأكبر حتى شعرنا بها، وقد احتوتنا واعتدنا على الحركة فيها براحة معقولة، فلقد انتهى أثر عمدا النفسي ولم يعد هناك ما نقارن به لندا.
وعلى الرغم من صغر حجم لندا، إلا أنها كانت ذات شراهة غير محسوبة؛ فقد ابتلعت كميات كبيرة من البنزين والزيت، ولكن ذلك كان طول الرحلة جنوبا ضد التيار الجارف، أما في الرحلة شمالا فقد كان استهلاك الوقود نحو نصف الاستهلاك جنوبا، وذلك بمساعدة تيار النهر؛ مما أدى إلى عدم استخدام عدد من الصفائح تركناها وراءنا لمن يريد استعمال البنزين والزيت، وهذه نقطة سهى علينا إدراكها، وإلا كنا قد وفرنا مبلغا من ميزانية محدودة، كذلك كانت سرعة التيار تساعدنا في قطع نفس المسافات في نحو نصف الزمن الذي قطعناه حين السير ضد التيار.
والواقع أننا فيما بعد أدركنا أننا قد عقدنا أواصر قوية مع لندا، وودعناها وداعا حارا في كلابشة حين تركناها في رعاية الريس محمد علي شاجة ليذهب بها إلى مرساها في أمبركاب، وركبنا سفينة البعثة الآركيولوجية الألمانية إلى أسوان، وحين عدنا مرة أخرى إلى النوبة - كورسكو يناير/فبراير 1963م - لم تكن معنا لندا، افتقدناها وشعرنا بفراغ كبير، خاصة مع كثرة الانتقالات بين كورسكو شرق وغرب ونجوع الريقة والمالكي وشاترمة، التي كانت تحتاج إلى قارب خدوم ودود وصديق مثل «لندا».
الفصل الثالث
أنقذونا ... الحقونا ...
يتذكر د. رياض تجربة أول تحرك للقارب «لندا» وما صادف ذلك من شيء أشبه بالمغامرة على سطح النيل. ***
بعد أن وضعنا كل أمتعتنا داخل «لندا» حضر إلى الشاطئ شخصان، حسبناهما من سكان النجع الذي كنا نراه على بعد عال فوق حافة صخرية، لكن اتضح أنهما من العبابدة يرعون إبلهم، ويبدو أن توقف «عمدا» ونزولنا منها قد أثار فضول سكان النجع، كان الريس محمد علي شاجة أحد سكان النجع، وهو البحار المكلف بحراسة القارب، وكنا نأمل في حضوره فور توقفنا؛ ليعرف ما الخبر، وما الذي يريده هؤلاء الغرباء من القارب، ولماذا وضعوا فيه حاجياتهم.
ولما طال صمتهم سألناهم هل الريس محمد موجود بالنجع، فقال أحدهم إنه متغيب منذ الصباح؛ فقد خرج بقاربه الشراعي وسوف يأتي عما قريب، وقد فتح الحديث عن الريس محمد شهيتهم للحديث والتساؤل: من نحن، ولماذا جئنا، وماذا نبغي، وماذا نفعل بالقارب. وأشبعنا فضولهم المنطقي، أخبرناهم أننا سنأخذ القارب في رحلة طويلة، فاعترضوا وقالوا إن ذلك غير ممكن بدون وجود الريس محمد، وطمأناهم أننا ما جئنا لنأخذ القارب بدون إذن الريس محمد فقط، بل إنه سيرافقنا في الرحلة ملاحا ومرشدا.
وفي تلك الأثناء كان عدد من الأطفال والسيدات قد حضروا إلى المكان، اقترب الأطفال في حين ظلت البنات والنساء على مبعدة غير يسيرة، ولكي تتجنب زوجتي الحر الشديد الذي يرتفع إلى أقصاه في الثالثة والرابعة بعد الظهر، وقد كنا كذلك، فقد ذهبت إلى البنات والسيدات لتتجاذب معهن أطراف الحديث، وتركت كل شيء معنا، وأخذت أنا وأسعد نديم نرتب أمورنا داخل القارب.
لقد حضر الأستاذ أسعد نديم معنا لأسباب؛ فإلى جانب معرفتي الوثيقة به كطالب دراسات عليا في معهد الدراسات الأفريقية الذي أحاضر فيه، فقد حضر من قبل مركز البحوث الاجتماعية بالجامعة الأمريكية، الذي يعمل به باحثا، لكي يعرفنا بأهل دهميت التي سبقت له زيارتها، وعلى وجه خاص بالحاج شاهين عبد اللطيف الذي يستأجر منه مركز البحوث بيتا يخزنون فيه حاجيات معسكر البحث المقام هناك، وبالتالي التحدث مع الريس محمد أن يذهب ويعود معنا نظير مقابل ندفعه له.
على أنه كان هناك سبب جوهري آخر لتفضل أسعد الحضور معنا، فلقد سبق له أن تعرف على هذه القوارب حينما بنيت في القاهرة لحساب مركز البحوث، وقاد بنفسه أحد القوارب الثلاثة في النيل أثناء التجربة، ولما لم أكن أعرف شيئا عن هذه القوارب، فقد كان أسعد هو وسيلتي لتعلم قيادتها والقيام برحلتنا، لكن خبرة أسعد - كما أخبرني قبل قيامنا من القاهرة - خبرة محدودة بساعة زمن أو نحوها، وإن كان قد أكد لي أن قيادة القارب وتشغيله من الأمور غير العويصة، وزيادة في الحيطة أحضر أسعد كتاب تشغيل المحركات، وأخذ يقرؤه بعناية لكي يتذكر إجراءات التشغيل.
وعلى الشاطئ أخذت أرقب أسعد وأعاونه؛ كي أستطيع أن أؤدي العمل بعد أن يتركنا ويعود للقاهرة، بدأنا بخزانات الوقود فتعرفنا على طريقة اتصالها بالخراطيم التي تذهب بالبنزين إلى المحرك، ولكل محرك خزان، وكان هناك أيضا خزانان إضافيان في باطن القارب، ثم رفعنا الخزانات الأربعة، وكان باثنين منهم بعض البنزين، فأفرغناه في خزان واحد، وأشار المؤشر إلى أن به حوالي النصف أو أقل قليلا، واستخرج أسعد من القارب كيس العدد والمفاتيح اللازمة للصيانة السريعة، وفتحنا الصفائح الأربعة التي أحضرناها معنا في «عمدا»، وسكبنا الزيت بمقدار جالون لكل صفيحة، ثم ملأنا الخزانات الأربعة بهذا الوقود المختلط، كل هذا تحت سمع وبصر الرجال والأطفال حولنا.
وكان الحر الشديد والشمس اللاذعة قد أخذت منا كل مأخذ، فدخلنا القارب ومددنا السقف القماش على أعمدته الصغيرة، فلم يعد بالإمكان أن يقف الشخص بطول قامته، بل عليه الانحناء قليلا حسب طول قامته؛ لتجنب ضرب الرأس في العوارض الخشبية التي ينزلق عليها القماش .
وفي ظل السقيفة هذه بدأنا نمعن القراءة في كتاب إدارة المحرك، ونروح ونجيء بين عجلة القيادة ومفاتيح البنزين ومحول السرعة «الفيتيس»، وكلها موجودة في المقدمة، وبين المحركات المثبتة في خلف القارب، ونتحسس الأسلاك والخراطيم وما إلى ذلك، حتى اعتقدنا أننا قرأنا ما يكفي للبدء في إدارة المحرك للتجربة، وتدار مثل هذه المحركات المائية بواسطة حبل قوي ذي يد مصنوعة من المطاط، وعلى الإنسان أن يأخذ اليد المطاطية في راحة يده ويقبض عليها بأصابعه، ثم يجذبها تجاهه بكل قوة لكي يبدأ المحرك في الدوران.
وأخذ كل منا حبل محرك وبكل عزم جذبنا الحبال، لكن أحد المحركات دار دورة واحدة فقط ثم سكن، وجذبنا مرة ثانية وثالثة ورابعة ... وفي كل مرة تضعف قوتنا عن الجذب الشديد، ومع الحرارة العالية وجدنا أنفسنا وقد طفر العرق من كل مسام الوجه والرأس والجسم، وسال العرق في مسيلات متعددة على كل الجسد، ولم نستطع أن نقاوم فألقينا بأنفسنا على الكنبة.
وجاء فتى صغير يقول إن السيدة التي معنا قد صعدت إلى النجع في صحبة نساء النجع، وإنها تطلب حقيبة يدها وآلة التصوير الخاصة بها، فأعطيته ما طلبت وانصرف.
وعاودنا الكرة، ولكن بالنسبة لمحرك واحد نتبادل الجذب أنا وأسعد حتى لا تضيع قوانا سدى، وبعد فترة استراحة ثانية أخذنا نفكر لماذا، وقلنا لا بد أن هذه هي حال المحركات التي تظل خاملة فترة طويلة من الزمن، وأن علينا أن نواصل الجهد حتى تدور المحركات، وفي مرة دار المحرك؛ لم تكن «طقطقة» التروس التي اعتدنا سماعها طوال الساعة الماضية، بل دار دورات منتظمة، وكانت فرحة غامرة أثلجت صدورنا، لكن الفرحة ما أن غمرتنا حتى غاصت مرة أخرى؛ فإن دورات المحرك التي استمرت ما يقرب من ثلاثين ثانية ما لبست أن قل انتظامها ...
ثم اهتز المحرك كله هزتين عنيفتين ثم ... صمت.
لكن دوران المحرك ولو لفترة صغيرة أحيا فينا الأمل بعد يأس، ورحنا نكرر الجذب في المحرك نفسه، مرة يدور، ومرات يظل كالبغل العنيد يأبى الحركة، وظللنا هكذا إلى أن أصبح يدور مع كل جذبة، وانتقلنا إلى المحرك الثاني، وبعد جهد جهيد وإرهاق شديد دار هو الآخر مرة واحدة لفترة قصيرة، ثم أبى تماما أن يتزحزح عن موقفه!
ومع الجهد الذي بذلناه والعرق الذي غسلنا، أخذنا نفرغ في جوفنا كميات كبيرة من الماء الذي أصبح ساخنا في زجاجاته المصنوعة من البلاستيك، وربما بلغ ما شربناه خلال تلك الفترة جالونا من المياه.
وبعد راحة قصيرة، ولما كانت الساعة قد أشرفت على نحو السادسة، ولم يكن الريس محمد قد عاد بعد، ولم تكن زوجتي قد نزلت من النجع، فقد قررنا أن نقوم بجولة صغيرة نجرب فيها المحرك الذي أصبح يعمل ويدور، وحينما أعلنا ذلك قال واحد من الرجلين الذين كانا مسمرين إلى مكانهما منذ أكثر من ساعتين يرقبان في تعجب وفضول ما نفعل؛ إنه يود أن يصحبنا في هذه الجولة، أما الآخر فقد انصرف.
واستجمعنا شجاعتنا وأدرنا المحرك، وقفزت إلى عجلة القيادة ويدي على محول السرعة كي أدفعه إلى الأمام لكي تنتقل الطاقة إلى المروحة الغائرة في الماء، ورفع العبادي المرسي «الهلب» ودفع القارب دفعة بعيدة عن الشاطئ كي لا تصطدم المروحة بالطين، ثم قفز هو الآخر داخل القارب، وأخذت أدير عجلة القيادة للتحكم في اتجاه القارب، لكني وجدتها تتحرك في سهولة غريبة، مما أثبت لنا أن فحصنا لم يكن تاما، فقد كانت الأسلاك التي تربط العجلة بالمحركات لتدير المراوح يمنة ويسرة مفككة، لكن ذلك لم يكن أمرا ذا بال؛ لأنه يمكن توجيه المراوح بواسطة عصا مثبتة في المحرك، على أية حال فقد دفعت محول السرعة إلى الأمام، وأمسك أسعد بعصا الدفة، وزدت من سرعة القارب بواسطة عصا مثبتة بجانب عجلة القيادة، وانتظرنا أن يسرع القارب للأمام، لكن ذلك لم يحدث!
لقد كان القارب يتحرك فعلا، ولكن بواسطة تيار الماء وليس بقوة دفع المحرك، زدت من دفع عصا البنزين إلى أقصى قوة، لكن ذلك لم يؤد إلى دفع القارب، وإن زاد من صوت المحرك فقط، حينئذ علمنا أن الطاقة لا تنتقل إلى المروحة لسبب ما، ولكن كيف ينفعنا الآن معرفة السبب وقد أصبحنا على مبعدة كبيرة من الشاطئ؟! لقد مضى على انهماكنا في محاولة تسيير القارب وتوجيهه وتبين أن هناك عطلا؛ ما لا يزيد عن ثلاث دقائق، لكن المكان الذي كنا نرسو فيه قد بعد مسافة كبيرة، ولا يوجد على الشاطئ أحد يمكن أن نناديه.
وخيم علينا قلق كبير، وصمت شامل؛ ماذا نفعل و«لندا» تسير طوع التيار، ولا تترك لنا بارقة أمل أن نستطيع كسب ودها؟ فهي لا تسلم الزمام إلينا، ولولا أن لندا كانت موسوقة تماما بأمتعتنا ومعداتنا لكانت حركتها أسرع مع تيار النهر السريع، لكنها ظلت في اتجاهها منذ الدفعة الأولى تسير في خط مائل كما لو كانت ستقطع النهر بزاوية محسوبة، ولكن هل سيظل الأمر على هذا النحو، أم ينقلب اتجاهها تدريجيا ويصبح أحد الجوانب هو الذي يتلقى صدمات الموج؟
ولم يكن هذا هو الهاجس الوحيد، فقد فوجئنا بماء يرتطم في القاع يمنة ويسرة كلما اهتز القارب وقطع موجة من التموجات العديدة التي يزخر بها تيار النهر، وانتابنا فزع مكتوم: أيحتمل أن يكون بالقاع شرخ أو كسر يتسرب منه الماء إلى الداخل بعد أن ثقلت لندا؟ وأخذنا نرقب الماء بين الحين والحين فنجده في ازدياد ملحوظ، وبدأت العلب الفارغة في القاع تتحرك مع حركة الماء، محدثة أصواتا أحالتنا إلى كتلة اختلط فيها الخوف والفزع، لكن تماسك كل منا محاولا إخفاء مشاعره تحت ابتسامة باهتة.
وكان لا بد أن نفعل شيئا، وانتابتنا حركة محمومة فقررنا أولا أن نرفع المحرك من الماء لنرى العطب، ولكن كلما رفعنا المحرك ازدادت سرعة لندا، فقررنا أن نترك المحرك ليزيد الثقل نتيجة الاحتكاك بالماء، وتداولنا قليلا ثم اتفقنا على نزح الماء من باطن القارب كخطوة أولية، وبكل ما وجدناه من علب فارغة أخذنا ننزح الماء نحن الثلاثة بهمة ونشاط، وحينما كلت أيدينا كان الماء قد تناقص بصورة ارتحنا لها وبردت أعصابنا.
ولكن ماذا بعد ذلك؟ هل ستظل لندا ميممة شطر الشمال حتى نصطدم بصخرة من مئات الصخور البارزة هنا وهناك شمال منطقة دهميت؟ وتساءلنا: لماذا لا تكون مثل هذه القوارب مجهزة بمجداف أو اثنين يمكن استخدامها في مثل هذه المواقف الطارئة؟ قطعة طويلة من الخشب العريض كان يمكن أن تفيد في توجيه القارب على الأقل، وبحثنا في القاع عن أي شيء يفيد دون جدوى، «ولقد ظلت هذه رغبة لم تتحقق، فقد سألنا في كل مكان رسونا فيه فيما بعد عن مجداف، لكن أحدا لم يكن عنده ما نريد!»
وكان موقفنا سيئا؛ فإنه قد وضح لنا أنه لا إنقاذ إلا إذا رآنا أحد القوارب الشراعية الكبيرة، وغامر بعبور النيل إلى حيث كنا في وسط المجرى تماما، ورمى إلينا بحبل وجرنا إلى أي شاطئ، ولقد أعاد إلي موقفنا في النيل صورة تجربة مماثلة مررت بها وزوجتي في إحدى بحيرات النمسا أثناء دراستنا هناك في أوائل الخمسينيات - أي منذ نحو عشر سنوات - وكان هناك مكان محبب إلينا هو منطقة «سالزكامرجوت»
Salzkammergut
المليئة بالبحيرات، ففي إحدى المرات كنا على ضفاف بحيرة «تراونزيه»
Traunsee ، شاطئها الشرقي جبلي تشرف عليه قمة «تراونشتاين»
Traunstein
استأجرت قارب تجديف - كعادتنا - للاستمتاع بالمناظر الطبيعية، ومياه البحيرة يسبح عليها الكثير من الإوز البري «التم»، وفي طريق عودتنا إلى الشاطئ اكفهر الجو فجأة بعد أن كان صافيا رائقا كالعادة في الصيف، وأسرعت بالتجديف قبل أن يحدث ما لا تحمد عقباه، ورأينا القوارب الشراعية تملأ أشرعتها الرياح، وقد بادرت كلها بالفرار إلى المرسى الآمن، وسرعان ما أقفرت البحيرة الواسعة من المراكب، وبدا لنا أن قاربنا ينجرف مع تيار كبير متجه للشمال، ولم نعرف ماذا نفعل، فالتجديف لم يعد يجدي، ويبدو أن الناس قد تجمعوا على الشاطئ يشيرون إلينا، ولكننا لا نراهم ولا نسمعهم، وفجأة خرج قارب شراعي من المرسى متجها نحونا، ويبدو أن قائده ملاح متمرس، وحين اقترب ألقى إلينا بحبل تشبثنا به وجرنا إلى المرسى، حيث شاهدنا الناس في لهفة لإنقاذنا، وحيوا الملاح الشهم بالتصفيق، وعرفنا منهم أن البحيرة الكبيرة تتعرض في بعض الأوقات لعواصف فجائية، وأنه كان من الممكن أن تقذفنا الرياح وقوة التيار إلى صخور الجبل على الشاطئ الشرقي، وبعدها لم أغامر مرة أخرى في البحيرات الجبلية.
تذكرت هذه التجربة وتمنيت لو أن قاربا شراعيا من القوارب الثلاثة التي بدت لنا على البر الغربي وقد امتلأت أشرعتها بالهواء؛ بادر بإنقاذنا، وصاح زميلنا العبادي ينادي ملاحي هذه المراكب، وعرفنا أنه يصيح: أنقذونا ... الحقونا ... حنغرقوا ... ولكن أحدا - فيما يبدو - لم يسمعنا.
وأثار انتباهنا أمر توقعنا أن يكون أوخم عاقبة من مجرد الطواف مع التيار إلى الشمال: فقد لاحت لنا في الأفق السفينة السياحية «نفرتيتي»، وهي من النوع الذي يسمى هيدروفيل الذي يرتفع فيه جسم السفينة بعد سرعة معينة عن سطح الماء، وتظل زحافاتها ملامسة للماء، ويؤدي ذلك إلى سرعة كبيرة ربما بلغت 60كم/ساعة نتيجة تقليل احتكاك جسم السفينة بالماء، وكانت «نفرتيتي» تقوم في تلك الفترة برحلات تجريبية بين أسوان وكلابشة؛ تمهيدا لقيامها في الموسم السياحي الشتوي برحلات سريعة بين أسوان وأبو سمبل، وأثناء سيرها مرتفعة، كانت تشبه طائرا من طيور الماء ذات الأرجل النحيفة الطويلة كالفلامنجو، أو وحش بحري أسطوري، أو جرادة بشعة تضخمت مئات المرات. كتمنا أنفاسنا و«نفرتيتي» تقترب منا بسرعتها العظيمة، فهي لا تستطيع أن تغير خط سيرها لتبتعد عما يصادفها إلا بزاوية منفرجة مع تقليل تدريجي للسرعة، وفي داخلنا تساءلنا: هل رأى القبطان «لندا» الصغيرة طافية بلا معين في قلب النهر؟ وإذا كان القبطان قد رآنا وتنبه لوجودنا وابتعد قليلا عنا، فهل ستنجو «لندا» الصغيرة المثقلة بحمولتها من الأمواج الكبيرة التي ترسلها «نفرتيتي» أثناء عبورها قريبا منا؟ ومثل هذه الأفكار القاتمة مرت أمام مخيلتنا بسرعة متوقعين الخطر ونحن عاجزون عن أن نفعل شيئا.
ولكن لحسن الحظ لم تكن نفرتيتي تتوسط النهر، بل كانت أميل إلى الجانب الشرقي، شأنها في ذلك شأن معظم المراكب والسفن التي تتجنب التيار المائي الشديد في وسط النهر، وبذلك وصلت إلينا أمواجها ضعيفة غير عميقة، هزت «لندا» هزات خفيفة، أو لعل ما توقعناه من موج كبير جعلنا نحس أن أمواج «نفرتيتي» ليست كبيرة، لكن الحقيقة التي بدت لنا بعد تدبر الأمر حين وصلنا الشاطئ واستراحت أعصابنا، أن الموج لا يتناسب مع السرعة؛ لأن الزحافات هي التي تلامس الماء وليس جسم السفينة كله، أو هكذا كان ظننا فيما بعد.
وبعد مرور «نفرتيتي» وزوال الخطر زفرنا بارتياح، ولما لم يكن هناك تغيير جوهري في موقفنا فقد أخذنا نقطع الملل ونخفي اليأس بحديث عن «نفرتيتي» وما هي سرعتها القصوى، وكم من الركاب تحمل، وعجائب التقدم التكنولوجي.
ثم انتهى الحديث وقضينا فترة في صمت وتأمل داخلي، بحيث لم نتنبه إلى الشراع الكبير وهو يتحرك نحونا إلا بعد أن صاح زميلنا العبادي فرحا، مشيرا إلى المركب الذي يقترب منا في خطوط متعرجة حسب الريح والتيار، والتقط العبادي الحبل الذي ألقته السفينة الشراعية بلهفة عظيمة، فقد كان الوحيد بيننا الذي يرسل مشاعره على سجيتها دون تحفظ، وطلبنا من ريس المركب أن يعود بنا إلى مرسى نجع قناوي، فقال: لقد بعدتم عنه نحو خمسة أو ستة كيلومترات، ولا يمكنني أن أسحبكم إليه ضد التيار. لقد كان موقفا محرجا، فالدكتورة كوثر ما زالت هناك، ولا بد أنها قلقة أشد القلق لغيابنا، ولعلها سمعت صوت المحرك يتوقف، أو لعلها شاهدت «لندا» تطفو إلى وسط النهر عاجزة عن الحركة!
وفكر أسعد في الموقف ثم قال: إننا لا بد قريبون من النجع الذي يوجد فيه الحاج شاهين في دهميت، فلماذا لا ننتهز الفرصة وننزل إلى البر الشرقي ونتكلم معه على الترتيبات اللازمة. وطلبنا من الريس أن يرسو بنا على البر الشرقي، ونزلت أنا وأسعد وربطنا «لندا»، بينما ركب الزميل العبادي المركب الشراعي المتجه إلى البر الغربي مع توصيتنا أن يرسل أحدا إلى نجع قناوي يطمئن زوجتي والريس محمد إذا كان قد عاد. ولكن للأسف كانت المسافة إلى نجع قناوي بعيدة، وكانت الساعة قد أشرفت على السابعة والنصف، وحين عاد لا بد أنها كانت الثامنة، والشمس تغيب بسرعة، فلم يتمكن من إبلاغ الرسالة إلا متأخرا.
كان رسونا على البر الشرقي قرب حقل من الحقول، سرعان ما خرج منه رجلان سألهما أسعد عن الحاج شاهين، قال أحدهما إن الحاج في أسوان، لكن والده موجود في الحقل المجاور. توجه أسعد إلى الحقل وبقيت جنب القارب أسترجع ما حدث وأنا في عظيم الدهشة، وبدأ الغروب سريعا، ومعه أحسست بانخفاض سريع في درجة الحرارة مع نسمات خفيفة منعشة، وطال الحديث بين أسعد ووالد الحاج شاهين، وكنت أستطيع أن أتبين هيأتهما بين عيدان الذرة، لكني لم أسمعهما، ثم جاء أسعد وأخبرني أن والد الحاج سيتوجه إلى بيته، وسيرسل لنا حمارا لنقل أمتعتنا؛ خوفا من تركها وحدها في القارب طوال الليل.
وأخذنا نتجاذب أطراف حديث طويل قبل أن يصل الحمار، وكانت الظلمة قد لفتنا تماما، ولم يصعد القمر بعد إلى أعاليه كي يعطي بعض الضوء، ونقلنا أحمالنا من القارب إلى البر الطيني ذي الشقوق الواسعة، وطلب مني أسعد أن أذهب مع الحمولة الأولى ويبقى هو مع المتاع إلى حين حضور الحمار مرة ثانية، وأخبرني أننا موجودون شمال مسكن الحاج شاهين بنحو كيلومترين على وجه التقريب، ولكني طلبت منه أن يذهب أولا، فهو على معرفة الآن بالوالد، ويمكنه أن يدبر بعض الأمور معه أو يتجاذب معه الحديث إلى حين وصولي إليهم.
وركب أسعد وأمامه حمل كبير، وبين ذراعيه أحمال أخرى وعلى كتفيه بعض آلات التصوير، فقد كنت وزوجتي قد أحضرنا أربع آلات تصوير وآلة سينما 16ملم تزن وحدها نحو ثمانية كجم؛ لتسجيل الظاهرات في حركتها، إضافة إلى جهاز تسجيل صوتي يعمل بالبطارية الجافة، وآلة سينمائية أخرى أحضرها أسعد، وإلى جانب ذلك صناديق بها الأفلام وشرائط التسجيل ولمبات فلاش للتصوير الليلي، وبدا أسعد أصغر من المحمولات على ظهر الحمار.
وجلست فوق صندوق من صناديقنا وقد أطبق الصمت على المكان، ورحت أفكر فلم أستطع التفكير؛ فقد كنت مجهدا من عناء هذا اليوم الطويل: من أسوان، إلى غرب أسوان، إلى السفينة عمدا، إلى نجع قناوي، إلى مغامرة النيل ... ورحت أتسلى بإضاءة البطارية التي أحملها بين الحين والآخر، أحاول أن أحدد أماكن الشقوق وحقل الذرة الذي يحيط بي، أو أوجه الضوء إلى الشرق محاولا تقصي نهاية السهل الفيضي وبداية الحاجز الصخري دون جدوى، وأقوم أتمشى قليلا محاذرا أن أفقد توازني فوق أحد الشقوق الواسعة، ولا بد أنه قد مضى علي قرابة الساعة وأكثر قبل أن أسمع وقع الحوافر، جاء رجلان ومعهما حماران؛ لأن باقي المتاع كان كثيرا، وأنا متعب لا أكاد أسير المسافة كلها على قدمي.
حملت جهاز السينما الضخم على كتفي وآلات تصوير أخرى، وساعدني أحدهم على ركوب الحمار ووضع أمامي بعض الحقائب، وحملت الصناديق والحقائب الأخرى على الحمار الآخر، وسار موكبنا الصغير طويلا في المنطقة السهلية، ولم أبدأ في التنبه إلى وصولنا إلى المنحدر المؤدي إلى أعلى إلا عندما مال الحمار بي إلى الخلف، وزادت زاوية الميل كثيرا لدرجة أن الحقائب التي أمامي كانت تدفعني إلى الخلف، وأحمال كتفي تشدني إلى الأرض، وبعد فترة وجدتني شبه واقف على الأرض والحمار انفلت من تحتي! ويجب أن أعترف أنني لست ممن يجيدون ركوب الحمير أو غيرها بحكم نشأتي في القاهرة وانعدام الصلة بالريف، وبعد وقوعي أخذنا نلملم ما انفرط من أغراض، وفضلت ارتقاء المنحدر على قدمي، وبعد فترة التوى بنا الدرب ووجدنا أنفسنا بين البيوت، وسرنا حتى بوابة ضخمة دلفنا منها إلى حوش واسع بدا أكثر اتساعا في ضوء القمر الذي كان قد تسلل في صمت إلى أعلى.
إلى اليمين كان أسعد جالسا على عنجريب طويل وعلى مائدة صغيرة فانوس من النوع المقاوم للريح، وفي ظل القمر جلس شيخ لم أتبين ملامحه، وإن كان الضوء القليل المنبعث من الفانوس قد أعطاه وقارا كبيرا؛ تحت العمامة الكبيرة كان وجه صغير نمت حوله لحية بيضاء صغيرة، وكان ذلك هو والد الحاج شاهين عبد اللطيف، وألح الشيخ أن يأمر لنا ببعض الطعام، لكن كان معنا بعض السندوتشات الباقية من الغداء، ورحبنا بالشاي الذي قدمه لنا، ومضت نصف ساعة في عبارات الترحيب المعتادة، وبلغت الساعة نحو الحادية عشرة، والجهد بلغ منا مبلغه، وأخيرا دخلنا غرفة واسعة واستلقى كل منا على عنجريب حتى الصباح الباكر.
أنعشتنا رطوبة الصباح مع رشفات الشاي والبيض الذي أعده أهل الشيخ، وفي ضوء الصباح بدا لي الشيخ وسيما وافر الأدب جم النشاط رغم تقدمه في العمر، يتكلم في صوت خفيض به بعض رعشة، ويرد على السؤال بعد ترو وفي إيجاز، كما هي عادة أهل النوبة من كبار السن.
وتجولت حول المنزل قليلا، ثم صعدت إلى السور، فتفتحت عيني على منظر آخذ بالمجامع، فالبيت على ربوة عالية والدرب ينحدر ملتويا بين البيوت، وينفرج المنظر عن مساحة شاسعة من الخضرة الزاهية، وبعدها يمتد النيل كشريط طويل يقسم المنظر البانورامي المفتوح قسمين: فعبر النهر كان الشاطئ الآخر يمتد عاليا وفوقه تناثرت البيوت البيضاء، وقد سجلت ما رأيت بالسينما والصورة، ولكن كلما نظرت إلى الصور أرى أن العين البشرية ترى أشياء أجمل بكثير مما تسجله عدسة التصوير؛ لأن العين لا تجتزئ المنظر، بل تراه شمولا متكاملا.
وعلى قدر ما كان هذا المنظر ينبض بالخضرة والماء والحياة، كانت التفاتة إلى الخلف تكفي لأن أعرف أين أنا من خط الحياة والموات، فالجبال الجرداء تضرب ستارا حاجزا بين النوبة الحية والصحراء التي تتناثر فيها بعض أشجار السيال الشوكي في مناطق متفرقة محدودة.
وحوالي الثامنة كنت لا أزال مأخوذا بالمنظر أدقق النظر إليه بواسطة العدسات المقربة في جهاز السينما، وفجأة ظهرت زوجتي من خلال العدسة ومعها نوبي طويل القامة وحولهما زفة صغيرة من الأطفال، كانوا يصعدون الدرب الطويل متجهين نحونا، وكانت جائعة، فهي لم تذق طعاما منذ سندوتشات ظهر أمس، وعلى الفور أعد الشيخ عبد اللطيف طبقا من البيض المقلي والشاي، وأخرجنا من مؤننا بعض الجبن والخبز، وكانت وليمة إفطار شهية.
وبعد استراحة قصيرة أخذنا نتدبر أمورنا، وقررنا أن نرسل بعض أحمالنا بالبوستة على عدد من المحطات، كما فعلنا من قبل بصفائح البنزين؛ وذلك لكي نتجنب شحن كل شيء معنا في القارب الصغير، فبعض ملابسنا النظيفة وجانبا من المؤن وضعناها في حقيبتين نتسلمهما في سيالة والمالكي؛ باعتبارهما محطات متوسطة، نأخذ منها بعضها في الذهاب، والباقي في رحلة العودة.
وفي الوقت الذي كنت فيه وزوجتي منشغلين بإعادة ترتيب الأغراض، كان أسعد قد نزل إلى الشاطئ مع الريس محمد لإصلاح القارب، ولم يمض وقت طويل على ذهابهما حتى سمعنا صوت المحرك يعمل، فنظرنا فإذا بالقارب يسير ويدور عدة دورات، كان الريس محمد يختبره.
وحين عاد أسعد إلى النجع، كان الريس محمد قد توجه بالقارب - وقد ربط إليه مركبه الشراعي - إلى نجع قناوي ويخبر أهله بسفره معنا، ويترك لهم ما يعينهم على المعاش إلى أن يعود، وقال لي أسعد: إن المحرك كان يحتاج إلى لمسة سحرية؛ فما أن جذب الريس محمد حبل المحرك الآخر حتى دار على الفور، وكنا قد ذكرنا له أن المحرك الذي دار معنا لم يكن ينقل الطاقة إلى المروحة، فقال لنا إننا كنا سيئي الحظ؛ لأن هذا المحرك معطل منذ فترة، ولو كنتم ركزتم على المحرك الثاني، لكان قد دار فعلا وجنبكم مغامرة الأمس. واختتم: لكن جت سليمة! كذلك سألناه عن المياه التي كانت تزيد في جوف القارب فقال: إن ذلك راجع إلى بقاء القارب بضعة أشهر راقدا في مرساه تحت أشعة الشمس؛ فجفت أخشابه وتشققت، وحين عاد القارب إلى الماء تسربت المياه إليه، ويجب نزحها من حين لآخر لمدة يومين أو ثلاثة أيام حتى يبتل الخشب تماما، فيتمدد وتغلق الشقوق تماما، وهذا هو ما حدث بالفعل في الأيام التالية.
وإلى أن عاد الريس محمد كنا قد تغدينا، وتركنا الحقائب التي سترسل على باخرة البوستة إلى سيالة والمالكي عند وكيل بريد دهميت ونحن مطمئنون تماما؛ فالأمانة هي سمة أهل النوبة الكرام، وفي الثانية بعد الظهر بدأ موكبنا يتحرك إلى «لندا»، وفي الثالثة والربع رفع محمد المرساة وأخذ العجلة بين يديه، بينما نحن نلوح للجمع الذي جاء لوداعنا على الشاطئ، وكانت فرحتنا عظيمة إذ بدأت رحلتنا الحقيقية بالفعل، وكان هدفنا هو كلابشة، حيث توجد عمليات نقل معبد كلابشة الذي تقوم به البعثة الألمانية، هناك كنا نأمل أن يصلح أحد المهندسين العطب الذي أصاب محرك «لندا» الثاني.
الفصل الرابع
الليلة الأولى
تتذكر د. كوثر الليلة الأولى التي قضتها وحدها في نجع قناوي، بعد أن جرف تيار النيل القارب «لندا» وعليه الأستاذ أسعد ود. رياض. ***
نزلنا من «عمدا» إلى البر الغربي في نجع قناوي أول نجوع أمبركاب، وحيث يرسو القارب «لندا» منذ نحو ثلاثة أشهر في عهدة بحار من الكنوز اسمه محمد علي شاجة، وبعد أن نزلنا بقليل جاء شخصان عرفنا منهما أن الريس محمد متغيب عن النجع، وبدا لزوجي والأستاذ أسعد تفقد القارب، وخطر لي أن أنتهز الفرصة وأستغلها في التعرف على نساء النجع ومشاهدة بيوتهم، وسرعان ما أتت مجموعة من الأطفال مع سيدة شابة في مقتبل العمر، جميلة الملامح باسمة الثغر، يلمع فوق جبهتها قطعة من الذهب تسمى قصة الرحمن مثبتة إلى الشعر، دعتني للصعود إلى النجع، واندهشت؛ فليس من عادة النوبيات الإقبال السريع على الغرباء، بل حسب خبرتي قبل أشهر في سيالة أنهن كن يهربن داخل الأسوار سريعا، ولم أتمكن من التكلم معهن إلا بعد الحديث مع الفتيات الصغار لكي أصل إلى أهاليهن.
على أية حال، قبلت دعوتها ومشيت إلى جوارها وقطعنا المنطقة السهلية بصعوبة؛ إذ إنها تتكون من تربة طميية شققها الجفاف بعد انحسار مياه الخزان، وكانت الشقوق كثيرة وكبيرة، قد يصل بعضها إلى عشرين سنتيمترا مع عمق كبير، كان لا بد أن أرى موضع قدمي تجنبا لما لا يحمد عقباه من التواء أو ملخ، وساعدني في ذلك الحذاء الكاوتشوك الذي ييسر الخطى، وبعد أن قطعنا المنطقة السهلية وصلنا إلى أقدام الهضبة، حيث تقع البيوت أعلاها، وبصعوبة وحذر مشيت وراء فاطمة أتسلق المرتفع الصخري، بينما أطفالها يقفزون أمامنا في خفة الغزال وصغار الماعز فوق الصخور.
ووصلنا إلى النجع وقابلتنا سيدة كبيرة السن ترتدي ملابس سوداء، عرفت أنها شقيقة الريس محمد، أما فاطمة فكانت زوجته، دخلنا البيت الذي يواجه النيل من عل، وهو محاط بسور يصل ارتفاعه إلى نحو ثلاثة أمتار، مزين في جزئه العلوي بزخارف من الجبس تأخذ شكل مثلثات داخلها دوائر مفرغة، وللمنزل بوابة خشبية كبيرة، فوقها أيضا بعض الزخرف هندسي الشكل، عندما عبرنا البوابة وجدنا أنفسنا في حوش سماوي رملي كبير، في ركنه الأيمن جزء محاط بسور منخفض - نحو 30 سنتيمترا - به شجرة قصيرة شبه جافة، وكانت هذه هي الحديقة كما أسموها، وكان في الجزء الأيسر من الحوش ما يسمونه «السبيل»، وهو عبارة عن جزء مسقوف على ثلاثة حوائط، والجانب الرابع مفتوح على الحوش، وسقف السبيل مصنوع من فلج النخيل وعيدان الذرة، وقد زان الجدران رسوم ملونة لأغصان وورود، وفي داخل السبيل عنجريب واحد للجلوس والراحة، وخارج السبيل زير مياه تغطيه مظلة من الخشب والذرة، مفتوحة الجوانب لتبريد الماء في هذا الهجير القاسي، والسبيل هو مكان استقبال النساء، بينما يجلس الرجال خارج السور غالبا على مصطبة مبنية، وفي مواجهة البوابة حجرتان: إحداهما للنوم، أثاثها عنجريب ومنضدة صغيرة وصندوق خشبي كبير مزدان بالرسومات الملونة، وهو مثل الصناديق التي توجد في الريف وتستعمل لخزن الملابس، ويتدلى من السقف عدد من «الشعاليق» أو «الشعاليب» التي تعلق فيها الأطباق؛ والشعليق عبارة عن ثلاث جدائل من غزل الصوف، تربط أطرافها العليا معا إلى السقف، وتجتمع الأطراف السفلى معا ويتدلى منها «شرشوبة» من الصوف المنفوش، ويوضع الطبق بين الجدائل المتدلية فوق العقدة السفلى والشرشوبة، وتزين هذه الجدائل بالودع الذي تجمعه النساء عند زيارتهن لأزواجهم العاملين في مدن ساحلية، وهذه الشعاليب بجانب فائدتها في حفظ الطعام بعيدا عن الحشرات والأيدي، فإنها أيضا من أسباب الزينة داخل الحجرات أو المضايف؛ خاصة إذا كان الصوف والأطباق كثير الألوان المتناسقة، وكثرة الشعاليب عنوان على الرخاء، وليست الشعاليب والرسوم الجدارية هي كل أسباب الزينة الداخلية للبيوت، فهناك أيضا أشغال السلال والخوص من أبراش وأطباق تزين بها العروس حجرة نومها.
أما الحجرة الثانية فهي «الكانون»؛ أي المطبخ، وبها عدد من الأزيرة الفخارية صنع الصعيد، وتستخدم لخزين اللوبيا والتمر والدقيق والذرة، وفي ركن الحجرة يوجد مكان «الدوكة»، وهي عبارة عن ثلاث قطع من الحجارة، فوقها قطعة مستديرة من الصاج يحمى تحتها النار لعمل عيش «الخمريت» أو «الدوكة»، كما يوجد موقد كيروسين وبعض أواني المطبخ الفخارية والنحاسية.
وأمام الغرفتين بنيت مصطبة ترتفع إلى نصف متر بطول نحو خمسة أمتار أو ستة، ويوجد في أعلى حوائط الغرف بعض الفتحات هي طاقات للتهوية، بعضها استخدمه الحمام الذي يربى في البيوت للدخول والخروج، كما يوجد بجوار الغرفتين مكان صغير محوط للطيور الداجنة، وفي السور الخلفي للبيت يوجد باب صغير يستعمل لخروج الحيوانات المنزلية إن وجدت.
وقد زرت منزلين آخرين لا يخرجان عن وصف البيت السابق في شيء، اللهم إلا إضافة غرفة ثالثة في أحد البيتين مثبت عليها راية بيضاء مخضبة بالحناء، علمت أنها الراية الباقية من أربع رايات تعلق فوق باب حجرة العروس عند زواجها.
والبيوت كلها مبنية من الحجر الرملي النوبي الشائع في النوبة، وبعضها أضيفت إلى جدرانها محارة من الرمل والطين، ثم طلاء جيري أبيض مزين برسومات نباتية من الزهور والأغصان والطيور، أو أشكال هندسية، وتستخدم بكثرة الألوان الزرقاء والصفراء والحمرة الضاربة إلى البنية.
وكنت قد أرسلت فتى إلى زوجي ليأتي لي بحقيبة يدي والكاميرا، وقمت بتصوير بعض مناظر للبيوت والسكان، وطوال التجوال والجلسة كنا نسمع صوت موتور القارب يعمل فترة ويتوقف فترات، ولما طال الانتظار وفرغ الحديث، قررت النزول إلى الشاطئ لتحري الخبر.
صحبتني فاطمة والأطفال إلى النهر فلم أجد أحدا، وكذلك القارب لم يكن موجودا، ووجدت اثنين من العبابدة الذين ينتقلون بإبلهم عبر النهر للرعي خلال هذا الموسم، ثم يعودون إلى الضفة الشرقية بقية السنة، وهؤلاء يرعون بقايا النجيل بعد أن تجتثه نساء النجع، وأية أعشاب طبيعية أخرى، وذلك بموافقة أهل النجع، وكثيرا ما يعهد إليهم أهل النجع بما لديهم من حيوان - غالبا أغنام وماعز - لرعيهم طوال الموسم.
ويمكن تمييز العبادي عن النوبي بسرواله الواسع ورأسه العاري ذي الشعر الأشعث - وبعضهم يلبس عمامة كبيرة مثل أهل النوبة - ويضعون أحجبه ضد الذئب - وربما الوحوش الأخرى التي أشيعها الضباع في النوبة - وكان واحد منهم يربط الحجاب إلى ذراعه، والثاني يعلقه في صدره.
والعبابدة من الرعاة عادة ما ينفرون من الغرباء، لذلك دهشت عندما اقترب أحدهما مشيرا إلى النيل قائلا: إن الرجال استقلوا القارب بعد أن دار الموتور بضع دقائق ثم توقف، لكن الماء جرف القارب بعيدا ولم نعد نراهم.
أصابني خوف شديد أخفيته بصعوبة بالغة، وبعد فترة تماسكت وقلت: لا بأس سوف ننتظر على الشاطئ إلى أن يصلحوا الموتور ويعودوا، وربما يأتي أيضا الريس محمد فيتمكن من جر القارب «لندا» إذا لم ينصلح حال الموتور، ووجدت الفرصة جيدة للتعرف على العبادي وزميله، ودون أن أشعر، وكما تعودت في الدراسات الميدانية، امتدت يدي إلى الكاميرا لأسجل لهم صورا مع حيواناتهم، لكن العبادي كان أسرع من يدي واختفى في سرعة البرق خلف جمل كبير، بينما أخفى الآخر وجهه وأدار ظهره وهو جالس على الأرض وفي يده عصاه الطويلة، ورغم ذلك فقد أخذت صورة على هذا الوضع، وتركت الكاميرا وحاولت محادثتهما، لكنهما ازدادا نفورا وأسرعا بالحيوانات بعيدا.
وألحت علي فاطمة أن أرجع إلى النجع ثانية، لكن الأمل في رجوع القارب كان أقوى، فرفضت تماما العودة معها إلى النجع، وكان على الشاطئ قارب قديم جلست فوقه أنظر إلى التيار الجارف أرهف السمع لعلني أسمع شيئا، لكن دون جدوى، وأسرح في أفكار تقطعها فاطمة الجالسة إلى جواري وأرد عليها باقتضاب وأنا شاردة الفكر.
ويمر الوقت والجفاف شديد لم أتعوده بعد، وجف فمي وتحجر حلقي وكنت أجد صعوبة في الكلام، ورجوت فاطمة أن تتركني لترعى أطفالها، ورجوتها أن ترسل لي بعض الشاي أروي به ظمئي، وبعد ذهابها استرخيت على القارب أنظر إلى السماء أرقب تغير الألوان قبيل الغروب، والهدوء شامل عدا صوت ارتطام مياه النهر الرقيقة بالشاطئ، أصبحت أنا الشيء الوحيد الحي في مساحة كبيرة من الأرض والماء، وتطاردني أفكار سوداء، وأتفقد القارب القديم فربما أقضي به الليل، فماذا لو هاجمني وحش؟ وأحاول أن أطرد الأفكار بالتطلع إلى ألوان الغسق وانعكاساتها على سطح النيل، وأجد المنظر أخاذا لو أنني في موقف غير موقفي هذا.
وخيم الظلام الخفيف الذي يعقب الغروب وتمنيت أن ترجع فاطمة؛ فقد أخذني الخوف وتملكتني الرهبة في هذا المكان الموحش، وقد لا أستطيع الصعود إلى النجع بمفردي، ومهما ناديت فالأغلب ألا يسمعني أحد على هذا البعد، وبغروب الشمس تنخفض درجات الحرارة بسرعة ويصبح الجو رطبا محتملا، ومن حسن حظي أنها كانت ليلة مقمرة، فسرعان ما بدا القمر في رحلته الليلية متسلقا السماء حتى بدا قمرا مستديرا جميلا يشع بعض الضوء، فأعطى المكان لونا أبيض باهتا، كأن لمسة سحرية قد حولت كل شيء إلى عالم تتمازج فيه الأطياف والأبعاد كالقطن المندوف!
وبينما أنا في هذا العالم العجيب سمعت شيئا يدب وشبحا يقترب؛ فتجمدت رعبا، لكن صوت فاطمة أجرى الدم في العروق، فقد نزلت لتخبرني أن شخصا من النجع البحري جاء وأبلغها أن قارب زوجي قد رسى على البر الشرقي بمعونة قارب شراعي، الآن انتهى هاجس مخيف، وبقي الأمل أن يرجع الريس محمد عما قريب، جلست فاطمة بجانبي ترقب هي الأخرى رجوع زوجها.
ومرت أمامنا قوارب شراعية سراعا، فقد ملأ الريح أشرعتها، وتطلب مني فاطمة أن أزعق لأسأل عن قارب زوجها، فالتقاليد تمنعها من أن ترفع صوتها، كنت أنادي: يا ريس، الريس محمد فين؟ وكان الجواب دائما هو «جاي ورانا.» وبرغم التقاليد كانت هي الأخرى ترفع صوتها بالسؤال ويمتلئ الجو بحديث قصير متبادل باللغة الماتوكية، ورويدا ضعف الأمل في عودته بعد أن زادت عتمة السماء، وقل عدد القوارب التي تمر بين الحين والآخر، وأصبحت مجرد أشباح باهتة.
ووجدت أنه لا مناص من الصعود إلى النجع والانتظار هناك، وفي النجع تجمع كل السكان للترحيب بي وإعداد مكان أقضي فيه الليل، والحقيقة أن سكان النجع لم يكونوا سوى السيدة شقيقة الريس محمد وزوجته وأطفاله، وسيدتين في مقتبل العمر هن بنات عمومته؛ إذن الريس محمد هو الرجل الوحيد في النجع! وليس هذا بغريب عن النوبة الشمالية.
وفيما يشبه ميدان النجع؛ أي الأرض الواسعة بين البيوت، فرشت لي سيدات النجع أحد الأبراش وفوقه مرتبة رقيقة، استأت لهذا الترتيب، ومرد الاستياء شيئان دارا في ذهني؛ أولهما: لماذا لا ننام على عنجريب داخل أحد البيوت؟ وثانيهما: خوفي الشديد من العقارب والثعابين السامة التي تجوب النوبة بحثا عن رزقها في ظلمة الليل، ففي الشتاء تسكن هذه الكائنات هربا من البرد، وبالتالي فإن أخطارها قليلة في الفصل البارد، فماذا عن الصيف؟ وكنا في القاهرة قد بحثنا عن مصل ضد لدغة العقرب والثعبان دون جدوى، وحتى لو كان معنا فبماذا يفيدني في موقفي هذا وكل أغراضنا في القارب بعيدا على البر الشرقي؟!
وكانت الإجابة العملية لاستيائي الأول هو أن السيدات والأطفال قد افترشن الرمل حولي، وكذا فعل الكلب الوحيد في النجع، وأخذنا نتجاذب الحديث حول موضوعين؛ الأول: أن زوجي وزميله والقارب في أمان على البر الشرقي. والثاني: أن الريس محمد أخذ قاربه الشراعي الصغير منذ الصباح الباكر، واتجه إلى النجوع والنواحي التي تقع إلى شمال نجع قناوي بحثا عن دقيق يشتريه، فقد نفذت مؤنهم من الدقيق ومن كل شيء يؤكل، وأخذت النساء تبدين الأسف أنهن لم يستطعن أن يقدمن لي غداء أو عشاء، ولما كنت قد تناولت وجبة غداء ونحن على ظهر السفينة «عمدا»، فلم أكن أحس بالجوع، وكان كل ما طلبته هو الشاي أروي به العطش الذي يلاحقني.
لقد كان الماء متوفرا في الزير، لكني خشيت أن أشربه؛ لأن لي مع الماء في النوبة تجربة مرة، ففي أثناء الأبحاث التي كنا نجريها في منطقة سيالة في الشتاء السابق، حدث لي ألم شديد في المعدة، ومرضت وظللت طريحة الفراش خمسة أيام متتالية، وبقيت أعاني الألم حوالي الشهر بعد الرجوع إلى القاهرة، وأعتقد أن ذلك كان بسبب الماء الذي كنت وزوجي نغليه ثم نضع فيه حبات من الحلزون زيادة في تعقيمه، وفي هذه المرة أحضرنا معنا مياها معبأة في زجاجات بلاستيك اشتريناها من أسوان، ولكن كانت كلها موجودة في القارب البعيد.
ورويدا قلت أصوات المتكلمات وأغمض الكل جفونهن مستسلمات للنوم في الجو المفتوح الصحو المنعش، وكنت ما زلت أخشى الحشرات إلا أن تعب اليوم والقلق والخوف والجو الرطيب والصمت المخيم حولي؛ قد ساعدني على الإخلاد للنوم لأول مرة في العراء وبدون غطاء.
لا أستطيع أن أذكر كم مضى من الوقت عندما تنبهت على نباح الكلب الذي كان يشاركنا نومنا، رفعت رأسي فزعة بعض الشيء، فإذا بشبح طويل يقفز بخفة الهر من وراء الحافة الصخرية فحجب عني القمر، وإذا به يصيح بالماتوكية وترد عليه زوجته، وتسكن نبرات صوته المنفعلة، ويهدأ ويتجه نحوي مسلما، لقد حضر الريس محمد بعد عناء يوم كامل فلم يجد القارب المكلف بحراسته، فقطع المسافة الطويلة من الشاطئ إلى النجع يجري ويلهث ويصيح: أين القارب؟ أين القارب؟ وطمأنته زوجته وكل من في النجع أن القارب بخير على البر الشرقي، وأنني كنت في انتظاره ليوصلني إلى هناك، وقال لي إن ذلك غير ممكن الآن، وإن علينا أن نستقل قاربه الشراعي الصغير في الصباح الباكر، وأخذ يقص على زوجته كيف أنه أخذ يتنقل من نجع إلى نجع بحثا عن دقيق يشتريه فلم يجد شيئا، حتى وصل إلى منطقة العمل في السد العالي، حيث استطاع هناك أن يشتري بعض أرغفة من العيش الشمسي، اشتراه من أحد المراكبية من أهل الصعيد، وقدم لزوجته ما اشتراه!
أخذت الزوجة رغيفا وقطعته أجزاء لكل من حولنا، ورفضت أن آخذ نصيبي فلم تكن بي حاجة إليه، وفضلت أن أعطيه للأطفال الجياع الذين كانوا قد استيقظوا مع الجلبة التي أحدثها والدهم، والتفوا حوله في فرح وغبطة ينظرون إليه كما تفعل أفرخ الطير حين تطعمهم أمهاتهم.
ودخل الأب والزوجة والأولاد إلى البيت، وعاد الصمت يطبق على المكان من جديد، ولم أنم لفترة طويلة، أتأمل القمر يشيع أضواء وظلالا تبعث الكثير من الرهبة وتطلق للخيال أعنته، وبدت لي الأسوار العالية بزخارفها في صورة قلاع وقصور خيالية لم يعد يسكنها سوى أشباح الماضي، لقد بعدت بي صورة الأسوار بألوانها البيضاء وظلالها السوداء في ضوء القمر بعدا تاما عن صورة النجع تحت أشعة الشمس القوية، حيث كل شيء محدد وواقعي، لقد جردها ضوء القمر من الواقعية الجامدة وأحالها إلى ألوان متداخلة في عالم خيالي ليس له قوام مادي.
وفي الفجر انتابتني قشعريرة بسيطة، فقد برد الجو إلى أدناه.
وبكى الرضيع، وقامت فاطمة تجهز لنا الشاي والإفطار الذي كان يتكون من طبق به قطع من لحم طائر يسمى محليا «البجة» - لم أعرف ما هو ولم أتابع السؤال عنه - وبيضتين صغيرتين مقليتين في الزيت، وتركت الطعام للريس محمد فهو أحوج إليه مني، رغما عن أنني بدأت أحس بالجوع، إلا أنني منيت النفس بإفطار من مؤنتنا حين نصل البر الشرقي، شربت الشاي المر الذي كنت أجده أكبر نعمة في هذا الجو الجاف.
وأسرع الريس محمد وأنا خلفه إلى قاربه الشراعي الصغير قائلا: إن التبكير قبل طلوع الشمس مهم قبل أن تنشط حركة الهواء والأمواج، ساعدني على الصعود إلى القارب، وبمهارة أدار القارب ودفعه نحو النيل وقفز داخله بخفة لا تتناسب مع سنه الذي تبينته في ضوء النهار، فهو غالبا في حدود الأربعين، بينما زوجته لا تكاد تصل إلى الخامسة والعشرين أو نحوها.
جدف محمد بمهارة مستخدما تيار النيل في سرعة الدفع إلى الشمال الشرقي، حيث يوجد القارب وزوجي والأستاذ أسعد.
وحينما سافر الريس محمد معنا لمدة شهر لا أعرف كيف تصرف مع أهله؛ هل أعطى نقودا لشخص كي يشتري حاجات الأسرة، أم تمكن من الشراء من عمدية دهميت قبل أن يعود بالقارب إليهم يسلم عليهم ثم يعود إلينا في دهميت لنبدأ رحلتنا؟ لست أدري!
الفصل الخامس
بوابة كلابشة وحجر السلامة
تحركت «لندا» من دهميت بمحرك واحد، لكنه أثبت جدارة كبيرة، وبعد أن سرنا بحذاء البر الشرقي لمسافة قليلة، عبر بنا الريس محمد النيل في اتجاه نجع قناوي لكي يودع أسرته مرة أخرى، ويأتي بأشياء يحتاجها في رحلته الطويلة معنا. وبعد توقف أمام النجع لم يزد عن نصف الساعة كثيرا، عاد محمد وعلى ظهره بطانية وكيس آخر ومدراه لسبر غور المياه، سألناه عما في الكيس فرد ضاحكا: شبكة صيد سمك. وكنا نعرف أن سكان النوبة لا يأكلون السمك كثيرا، رغم توفره بكثرة أمام أعينهم ، بل إن معلوماتنا التي حصلنا عليها من سيالة قبل بضعة أشهر تؤكد أن هناك بعض المناطق في النوبة لا تأكل السمك إطلاقا، وحجتهم في ذلك أنهم يطلقون على السمك عامة اسم «حوت»، ويسمون الصيادين «حواتة» وفي القليل «سماكة»، وذكر لنا بعض أهل سيالة أن الحوت قد ابتلع جدهم يونس، ومن ثم فرضوا حظرا على أكل الحوت؛ أي السمك؛ لأنها كائنات مفترسة.
لكن مناطق أخرى تخصص اسم الحوت على سمك «القرموط» فقط، ولهذا فهو غير محبب إلى النفس ولا يؤكل، كما هو الحال في قرشة، وقد لاحظنا أن هذا التحريم لا يسري إلا على عدد من قرى الكنوز ووادي العرب، أما منطقة الفديجة «النوبيين» ابتداء من كورسكو حتى الحدود المصرية، فإن سكانها يأكلون الأسماك بدون تحريم.
ويقوم أبناء الصعيد عادة بحرفة السماكة في طول بلاد النوبة، ومعظم صيدهم يملح ويرسل شمالا إلى الصعيد، وإن عمليات الصيد تستغرق السنة كلها، عدا ثلاثة أشهر الفيضان؛ حيث يصعب الصيد مع تيار الماء القوي إلا في مناطق محدودة، والغالب أن بعض النوبيين يمارسون صيدا من أجل الاستهلاك الخاص، وقد اتضح لنا من الأسئلة التي طرحناها في عدة أماكن، وعلى عدد من الصيادين، أن أشد مناطق التحريم توجد في القسم الشمالي من بلاد الكنوز، من دابود إلى أبوهور، ثم في المنطقة الوسطى من محرقة إلى السبوع، وكذلك لاحظنا أن عددا كبيرا من أهل النوبة المقيمين خارج النوبة قد تحرروا من فكرة المحرم، وأخذوا يدخلون السمك في طعامهم كلما كان ذلك في مقدورهم.
ولما كان الريس محمد من سكان المنطقة التي تحرم أكل السمك، فقد تساءلنا: هل صحيح سوف يصطاد أسماكا ليأكلها أم ليبيعها؟ لكن ظروف الرحلة وتنقلنا الكثير فيما يبدو لم تمكنه من ممارسة الصيد، فقد ظلت الشبكة جافة إلا مرة واحدة حينما كنا في منطقة قرشة، فقد اصطاد سمكتين وقرموطا صغيرا، هنا أكد لنا أهل قرشة أن هذا القرموط هو الحوت الذي يسري عليه التحريم، كما أضافوا: إذا ربطت القرموط وتركته في قليل من الماء فسوف يستبد به الحزن فيتغير لون جلده ويموت بعد قليل، وللتدليل على ذلك ربطوا القرموط الصغير الذي اصطاده محمد، وتركوه في وعاء به ماء، وبعد عدة ساعات لم يكن القرموط قد غير لون جلده، ولم يكن قد مات ولا أتذكر الآن مصير القرموط المسكين، وربما كان من نصيب الكلاب الجائعة!
ولا شك أن بعض النوبيين لا يتركون فرصة للكسب الإضافي ويتركونها تمر، ومن هنا كان تساؤلنا حول مصيدة السمك التي أحضرها الريس محمد، وما دار بيننا من حديث حول صفائح البنزين الفارغة: - أريد أن نحتفظ بالصفائح الفارغة لاستعمالي. - لماذا يا ريس محمد؟ - إننا نحتاجها في النجع. - ولكن سوف يكون هناك نحو 50-60 صفيحة فارغة، فكيف سنحتفظ بها في القارب الصغير؟ - لن أحتفظ بها كلها في القارب، بل سأضع الفوارغ على الشاطئ في البلاد المختلفة التي تتم فيها عملية تفريغ البنزين، ثم أوصي بعض المراكبية أن يحملوا هذه الصفائح إلى النجع كلما مروا بالمناطق التي أتركها فيها.
ومع عدم اقتناعنا تماما بما قاله إلا أننا سكتنا، فماذا يهمنا من أمر الصفائح الفارغة طالما أنها لن تضايقنا في القارب، لكن أسعد أسر إلينا بعد قليل أن الريس محمد سوف يبيع الصفائح في المناطق التي نتوقف عندها، وسألنا أسعد: كم يكون ثمن الصفيحة؟ فقال: إنها غالية في هذه المناطق، خاصة أنها صفائح جديدة ومن النوع المجلفن الذي لا يصدأ إلا بصعوبة، وهذا النوع نادر جدا في النوبة؛ لأن البواخر والزوارق تستخدم وقود الديزل الذي يباع في براميل كبيرة الحجم لا تصلح لتخزين الماء مثل صفائح البنزين، وربما استخدمت أيضا في أغراض أخرى مثل حفظ الدقيق أو غير ذلك من المواد الغذائية التي يحرص عليها السكان لعزلتهم النسبية.
وفي مناسبة أخرى سألنا الريس محمد بكم يبيع الصفيحة فقال: حوالي عشرة قروش، وقلت: لماذا يبيعها رخيصة؟ فقال إنه يبيع بالجملة، ثلاثا أو أربعا معا، ويبيع لأي شخص يقابله على الشاطئ الذي نرسو عليه، فلا يوجد وقت للصعود إلى النجوع وبيع الصفائح على مهل، وربما تصرف الريس محمد في نحو ثلاثين صفيحة طوال الرحلة؛ مما أضاف إلى مدخوله نحو ثلاثة جنيهات، وهذه ليست بالمبلغ القليل كمكسب إضافي خلال شهر واحد، ولكن مثل هذه الفرصة شيء نادر الحدوث في النوبة.
تحركنا حوالي الرابعة بعد الظهر من نجع قناوي الذي يتبع عمدية أمبركاب، برغم أنه مواجه لدهميت وأكثر تعاملات أهله هي مع دهميت، وعمدية أمبركاب هي منطقة صخرية فقيرة في مجموعها، وتمتد نجوعها نحو 19 كيلومترا، وهي بذلك أطول عمديات النوبة قاطبة، ولا ندري لماذا هذا الطول المفرط سوى أنه ولا شك تقليد تاريخي.
المنظر العام متكرر غير متغير؛ الحافات الصخرية العالية تقترب في معظم الأحيان من النهر، فلا تترك سوى مساحات حوضية صغيرة متناثرة على الشاطئين الشرقي والغربي وقد كستها الخضرة اليانعة، وفوق الحافات الصخرية تظهر المساكن بعضها طليت باللون الأبيض، وكلها تكون على البعد شكلا كالحمائم البيضاء أو كسلسلة من القلاع والأسوار.
وحينما بدأت الشمس تغيب بدأت نسمات رطبة تلطف الجو كالمعتاد، وتضفي علينا جوا من البهجة والسرور: «لندا» تسير بنا مجتهدة والنوبة تتكشف لنا رويدا رويدا، ونحن على صفحة النيل الخالد نرقب كل شيء وأي شيء، وغربت الشمس فجأة وراء الجبال الغربية، أخذت الأضواء تبهت تدريجيا، وفي السابعة والنصف دخلنا بوابة كلابشة.
وبوابة كلابشة عبارة عن منطقة خانقية ضيقة، يمر بها النيل في مسار فيه تعرجات كثيرة لمسافة تناهز خمسة كيلومترات، هنا تشرف الحافة الصخرية تماما على النيل في معظم مساره، وترتفع في صورة شبه عمودية من الماء إلى نحو 30-50 مترا، والقادم من الشمال يجدها فعلا في صورة بوابة ضخمة؛ إذ إن النيل يضيق مرة واحدة دون مقدمات كثيرة، وإذا به يجد نفسه بين حوائط صخرية عالية متتابعة، وفي داخل المسار المائي منعرجات كثيرة وبعض المناطق الفسيحة نسبيا حين تنسحب الحافة الصخرية بعيدا عن النهر قليلا .
وحينما اقتربنا من البوابة كان الضوء يقل والظلمة تسود، وحين دخلنا البوابة كان على الريس محمد أن يبعد القارب عن الضفة ويتوسط نحو ثلث مجرى النهر، وعلى الرغم من أن المحرك كان يعمل بانتظام طيلة الساعات الأربعة الماضية، إلا أن ظلا من الشك والقلق ساورنا، ماذا نفعل لو أن هذا المحرك الوحيد تعطل لسبب ما؟ نحن هنا في منطقة صخرية جوانبها شبه عمودية، ولا توجد فيها ضفافا من الأرض الطينية التي يمكن أن يرسو إليها القارب دون أن يصاب بتلف جسيم؛ فالقارب يحمل أربعة أشخاص وحمولة لا بأس بها، ومحركا واحدا ضد التيار المائي العنيف، وفي ظلمة بدأت تطبق علينا إطباقا، لكننا سرعان ما أبعدنا هذا الخاطر المخيف عن أذهاننا بالاستمتاع بلذة المغامرة!
وسرعان ما أخذنا نقلل من التساؤل والكلام حتى أطبق علينا صمت مثل إطباق الظلام، ولم يعد صوت المحرك نسمعه قويا وسط الحفيف الكثير الذي كانت «لندا» تفعله مع الماء، والرشاش الصغير الذي كان يتطاير من مقدمتها بين الحين والحين عندما تضرب المقدمة موجة صغيرة إثر أخرى، فتهدهد القارب قليلا فتعود بنا حركته إلى عالم الواقع، وأخذ كل منا يتطلع إلى الصخور أمامه وعلى جانبيه وخلفه، وأخذ القمر يطلع ببطء في السماء فيلقي ظلالا عملاقة للصخور على الماء الداكن، أخذت الصورة تتحدد خطوطها العامة كما لو كنا ننظر إلى صورة فوتوغرافية مهزوزة بعض الشيء، وراح كل منا يضرب بخياله في آفاق لامادية مستمدة من صلب المادة التي تملأ فراغ أعيننا: الصخر والماء وسماء سوداء ترصعها آلاف مؤلفة من النجوم، ينعكس ضوء بعضها كحبة ألماس فوق جزء هادئ من سطح الماء، ثم يتلألأ مع تموجات الماء فيستطيل خطوطا رفيعة متشابكة، لا تلبث أن تختفي مع موجة أخرى؛ فتظهر نقاطا صغيرة من الضوء على سطح الماء المتحرك أبدا.
وبين فترة وأخرى يظهر على صفحة الماء ظل شجرة من تلك الأشجار السنطية التي تنمو في أماكن غير معقولة على الصخور شبه العمودية، وتمد جذورا طويلة في شتى الاتجاهات لتحفظها من السقوط ، بينما يلتوي جذعها إلى أعلى يطلب الشمس والهواء! ونمر في منطقة يبتعد فيها الشاطئ قليلا فيما يشبه القوس الكبير، فتمتد خيوط من ضوء القمر الساحر بين تعرجات الصخور، كما لو كانت أصابع يتشبث بها القمر وهو يجهد نفسه في الصعود.
ونظل قرابة الساعة نمخر العباب في هذه الثنيات العديدة، نتأمل هذه الصخور الجبارة، وهي لا تكاد تحس بنا، ونمضي في صمت إلا من جلبة المحرك الذي أصبح الآن على هامش السمع، يطن على الدوام فيمنحنا شعورا بالحياة وسط هذا العالم الأبكم، وعادت بي الصورة إلى يوم أن كنت فيه أنقل الخطى في تؤدة وصمت في ليلة مقمرة في دهاليز معبد الكرنك، كنت شيئا صغيرا يتحرك في احترام بالغ في ظلال الأعمدة الشامخة والحوائط الشاهقة، وسط خضم زاخر بتاريخ المجد والفخار ... تاريخ مصر العظيم ... وتاريخ الحضارة الإنسانية.
وسئمنا الصمت، وسئمنا الخيال، ورحنا ندير أعيننا بنهم كلما مرت «لندا» بإحدى المنعطفات باحثين عن هدفنا المنشود، فلقد أصبحت الساعة التاسعة، وفي كل مرة نسأل الريس محمد: كم بقي على كلابشة؟ يطمئننا قائلا: «جريب» - يعني عما قريب - ويسكت. ثم انفرجت الحوائط الصخرية فجأة، واتسع المجرى وأمامنا على البعد وملء العين أنوار كهربية تشيع انعكاسات عديدة كبيرة أحالت النهر حولها كتلة من الضياء، فلم نعد نعرف مصدر النور من انعكاساته، ولم نتبين العوامة التي تحمل هذا الضياء.
لكن القلق الذي تبدد لحظات حين رأينا الأنوار عاد يلح بشدة، معبد كلابشة على البر الغربي، فالمفروض أن تكون العائمات في الغرب، لكن الأنوار التي شاهدناها كانت على البر الشرقي، أمر محير، ظننا أن الأنوار هي لباخرة بوستة، لكن محمد ذكرنا أن اليوم ليس بموعدها الأسبوعي، ثم ظننا أنها باخرة سياحية عائدة إلى أسوان، ولكن قبل أن نجزم بشيء ظهر على البعد ضوء خافت على البر الغربي، هل يحتمل أن تكون عائمات مهندسي معبد كلابشة راسية على البر الشرقي بينما مخيم العمال على البر الغربي؟ وطرحنا التخمين جانبا ويممنا نحو أنوار الشرق وعما قليل سنعرف الخبر اليقين، واقتربت لندا وتبينا عائمة كبيرة، لكن أحدا لم يظهر في الشرفة، ودرنا إلى الجانب الآخر حيث كانت القاطرة، وصاح الريس محمد مناديا، فلم يكن في لندا جهاز تنبيه، وخرج إلينا بعض الملاحين ، سألناهم عن عائمات شركة «هوختيف» الألمانية، فأشاروا إلى الأنوار البعيدة عبر النهر، أما هم فقد كانوا إحدى عائمات وزارة الشئون الاجتماعية، وعليها عدد من الموظفين الذين يقومون بمتابعة دراسة الأحوال الاجتماعية للسكان، حتى تكون الوزارة ملمة بكل التطورات التي تحدث للعائلات النوبية وعدد أفرادها ... إلخ، توطئة لعملية التهجير الكبير لكل سكان بلاد النوبة إلى منطقة كوم أمبو.
ولقد قابلنا في رحلاتنا إلى النوبة عددا من موظفي الشئون الاجتماعية متناثرين هنا وهناك، يدققون ويفحصون ويتابعون المعلومات ويحدثوها بهمة ونشاط، وتمنيت كثيرا لو أن الوزارات المعنية بموضوع النوبة قد وجهت الدعوة إلى طلاب الجامعة في أقسام الاجتماع والجغرافيا والأنثروبولوجيا أو خريجي هذه الأقسام؛ للمشاركة في هذه العملية الوطنية في شكل تدريب ميداني، يفيد الطلاب والخريجين في عملهم المستقبلي، فليس هناك طريقة أحسن من العمل في الميدان خارج الغرف والمكاتب لبناء كوادر علمية شبابية قادرة على الوفاء بمهام وظائفهم في المستقبل، وإذا كانت هذه فرصة ضاعت في الماضي، فإن مشروعات التنمية الحالية في مصر - الصغيرة قبل الكبيرة - في حاجة إلى إسهام الشباب وتدريبهم على طبائع الأشياء وطبائع الناس على الواقع، حينئذ لن يكونوا منفصلين عما يتم من تنمية وإنماء، وحين تئول إليهم أعمال ريادية سوف يكونون خير الرواد والقادة.
والآن هناك حاجة ماسة لهؤلاء الذين تدربوا في أرض الواقع لدراسة وتفهم التطبيق في مشروعات حيوية معلنة الآن في الوادي الجديد وجنوب الوادي وشمال سيناء، ومشروعات لا تقل حيوية على رأسها إعادة توطين النوبة؛ حيث الماء والأرض في متناول اليد التي تمتد لتبني مجتمعات جديدة، قوامها حاصلات زراعية صناعية وثروة حيوانية، فضلا عن توطين بعض الصناعات وصناعة السياحة بمفاهيم جديدة عن المفهوم الجزئي الحالي.
نعود مرة أخرى إلى رحلتنا بعد هذا الاستطراد الذي يمليه الواجب: دار محمد بالقارب ويممنا غربا وأخذت الأنوار تزداد وضوحا، وبعد نحو عشر دقائق كنا نقترب من عائمتين كبيرتين، وإذا بعدد من الرءوس تطل علينا من العائمة الكبيرة التي اتجهنا إليها. درنا في مناورة صغيرة حتى نتمكن من تبادل الحديث مع من أطلوا علينا، ثم درنا مرة أخرى وربطنا القارب وصعدنا إلى العائمة.
قابلنا المهندس الألماني «أندورف» رئيس مجموعة العمل في نقل معبد كلابشة، وكان معه زميلان شابان من الألمان أيضا، حدثناه عن توصيات المهندس «رايدر» الذي يعمل في رئاسة «هوختيف» في أسوان، ولكن ما كان هناك داع للتوصية، فإن مجرد غريب في النوبة هو في حد ذاته توصية أن يساعده أي شخص قادر على إعطاء المساعدة - سواء كان ذلك الشخص من أهل النوبة أو موظفا حكوميا أو موظفا في إحدى الشركات أو من قباطنة البواخر والصنادل - فكما يحدث في أعالي البحار يحدث في النوبة؛ فأية باخرة في البحر تجد من يعينها من أقرب السفن إليها، وكذلك يحدث في النوبة، وكثيرا ما احتجنا إلى مساعدة ما فمد يده إلينا أقرب من نسأل، وكثيرا ما احتاج إلينا شخص يريد الانتقال من ضفة إلى أخرى، أو مريض يريد الانتقال من بلده إلى أقرب مستشفى عائم فكنا نلبي النداء على الفور.
استقبلنا «أندورف» بابتسامة، وفي الوقت الذي أخذنا فيه لكي نقوم بجولة ليلية تحت أضواء الكاشفات الكهربية في بقايا معبد كلابشة، كان عشاء جيد يطهى لنا، ولقد كان حديثنا بالألمانية مع الهر «أندورف» جواز مرور لتوفير أكبر راحة لنا في بياتنا تلك الليلة في العائمة، كما دعاه ذلك إلى الإفاضة في شرح عمليات نقل المعبد حجرا حجرا، قال لنا كلاما كثيرا: عدد الأحجار وطريقة وضع العلامات والأرقام عليها حتى يمكن وضعها بسهولة في مكانها عند إعادة بناء المعبد غربي أسوان، وما الذي ينقل والذي يترك في مكانه من المباني، وتاريخ بناء المعبد و«النيلومتر» - مقياس النيل - الملحق بالمعبد، والأرضية الحجرية التي تركت دون نزعها واحتمال وجود معبد سابق على المعبد الراهن، والتي ما زالت أحجاره موجوده، وبعضها استخدمها الرومان في بناء المعبد ، والبعض الآخر استخدموه كجزء من أحجار الأرضية، وشاهدنا فعلا بعض أحجار الأرضية عليها رموز منحوته، وفي مكتب أندورف بالعائمة شاهدنا مئات الرسوم والصور للمعبد وأجزائه المختلفة، وكلها مرقمة كي تتم عملية الترقيم على الأحجار بسهولة.
وطلب منا أحد المهندسين الشبان أن نقرأ بعض الكتابات غير الهيروغليفية التي توجد على بعض أحجار المعبد الخارجية، وليس معنى هذا أن المهندس كان على دراية بالكتابة الهيروغليفية، لكنه تعود على أشكالها فقط، وقد ظن المهندس أن الكتابات التي طلب قراءتها عربية، لكن حين رأيناها لم تكن كذلك، وربما كانت قبطية أو إغريقية.
على أية حال قام أحد الأثريين الألمان، بروفيسور «شتوك»، بأبحاث أخرى في موسم صيف 1963 بأبحاث في أرضية المعبد بعد أن تم نقله، وتدل التقارير الأولية على أن معبد كلابشة الروماني قد بني على أنقاض معبد من العصر البطلمي، وأن عددا من أحجار المعبد البطلمي قد استخدمها الرومان في بناء معبدهم، وعلى أي الحالات تدل الدراسات الأثرية على أن المعبد البطلمي أقيم على معبد مصري قديم بني في عهد الملك أمنوفيس الثاني في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، ولقد قيل الكثير عن معبد كلابشة؛ من حيث إنه أكبر معابد النوبة الحرة البناء - معبد أبو سمبل أضخم، ولكنه ليس مبنى حرا، وإنما هو حفر في الجبل - وهو من حيث ذلك فهو أكبر معابد النوبة، وقال بعض السائحين أو الأثريين الذين لم يدققوا: إنه يشكل أجمال المعابد. وفي رأي آخرين أنه ليس كذلك، وإن كان كثير الزخارف، ولكن نقوشه ورسومه ليست على قدر الدقة والجمال للمعابد المصرية الفرعونية، وليس هذا بغريب؛ فإن معبد كلابشة الروماني بني بين 30ق.م و14م. حين كانت التقنية المصرية القديمة قد شابها غير قليل من التسطيح وعدم المهارة.
وفي أثناء رحلتنا الأولى عبر بوابة كلابشة في الليل، فاتنا أن نعرف شيئا رأيناه في أثناء عودتنا شمالا في نهاية سبتمبر، فقد ودعنا «لندا» والريس محمد في كلابشة، وركبنا صندلا ضخما من الصنادل التي تنقل أحجار معبد كلابشة من موقعه القديم إلى أسوان، وكان هذا الصندل الذي يبلغ طوله قرابة 30 مترا وتدفعه قاطرتان كبيرتان ربطتا على جانبي الصندل، يحمل آخر حجر من حجارة معبد كلابشة، وقد لفه العمال بعيدان الذرة والكثير من أوراق خضراء رمزا للحياة، ولقد كان الأهالي والعمال الذين يعملون في المعبد قد تجمعوا فجر ذلك اليوم ليلقوا نظرة وداع على آخر حجر يترك مكانه منذ ألفي عام. اصطف الأهالي على الحافة التي تشرف على مكان المعبد في صمت كامل، والعمال ينظرون إلى الصندل وهو يتحرك ببطء، وفي عيون الجميع نظرة حزن عميق، كنا نجلس في مقدمة الصندل في ظل «ونش» جبار يحمل الحجر، وبعد فترة جاء القبطان ووقف أمامنا على مقدم الصندل يحرك ذراعه يمنة ويسرة، وينقل هذه الإشارات ملاحان يقفان على مبعدة منه إلى قباطنة القاطرات فيحركانها حسب التعليمات، ثم أخذ القبطان الواقف أمامنا يتمتم ببعض العبارات، وقد حملقت كل العيون صوب ناحية من النواحي، وساد صمت قليل. سألنا أحد الملاحين: ما الأمر؟ فقال: حجر السلامة. ونظرنا حيث أشار فلم نتبين شيئا سوى عدة جزر صخرية صغيرة تبرز هنا وهناك. - أين هو حجر السلامة؟ - مختف تحت الماء. - وما هو؟ - إنها منطقة صخرية تعود البحارة والقباطنة حين يمروا تجاهها أن يقفوا في صمت، وأن يقولوا بعض العبارات مثل «حمد الله على السلامة»، ويقرءون الفاتحة، ومن ثم أطلق عليه حجر السلامة. - ولكننا لم نعبر بوابة كلابشة بعد. - إن الحجر موجود في القسم الجنوبي من البوابة، ومن يمر بالبوابة من الشمال إلى الجنوب يمر بالحجر فيشكر الله على السلامة، ومن يعبرها من الجنوب يمر أولا بالحجر ويشكر الله سلفا تيمنا بسلامة العبور.
والملاحظ أن الكثير من المعابد المصرية الكبيرة كانت تقع جنوب مناطق يضيق فيها النهر وتصبح الملاحة خطرة، معبد كلابشة يقع عند النهاية الجنوبية لبوابة كلابشة، ومعابد السبوع تقع إلى الجنوب من المضيق، ومعبد أبو سمبل يقع جنوب مضيق فرقندي، فهل هناك ارتباط بين هذه المعابد الكبيرة ومواقع بنائها جغرافيا؟ وبعبارة أخرى هل نشأت أولا كمعابد صغيرة عند هذه المواقع الخطرة على الملاحة ليقدم فيها الملاحون الفراعنة الشكر على سلامة العبور؟ وهل ما كان الملاحون النوبيون المعاصرون يفعلونه من تقديم الشكر لله عند عبور حجر السلامة هو امتداد لعادة موروثة حضاريا منذ آلاف السنين؟
ونعود مرة أخرى إلى تجربتنا في كلابشة، فبعد العشاء الفاخر والمرطبات في عائمة هوختيف، استمتع كل منا بحمام مريح غسلنا فيه عرق أمس، ونستعد به للعرق الذي سيتلو ذلك لفترة طويلة، فالاستحمام في ماء النيل هو لمن يعرف السباحة وفي خلال أشهر التخزين، أما في خلال الفيضان فإن الماء ملبد بالكثير من الطمي؛ مما يجعل المستحم يحتاج إلى حمام ماء نظيف!
وفي الصباح الباكر قمنا بجولة أخرى في المعبد، بينما أخذ الميكانيكي المصري الذي يعمل مع هوختيف في محاولة إصلاح المحرك الثاني لقاربنا، وعندما عدنا من جولتنا قال الميكانيكي إنه لا فائدة من الإصلاح؛ لأن المحرك ينقصه قضيب صغير من الصلب ينقل الحركة إلى المروحة، وإن هذا القضيب يجب أن يكون أصليا أو يصنع في أسوان، وقد بحث في أدراجه فلم يجد غير قضبان حديدة قابلة للانثناء أو الانكسار تحت قوة الحركة، وكنا قد لاحظنا أن حقيبة الآلات المزود بها القارب يوجد بها علاوة على مروحة إضافية قطع غيار أخرى، وأخذنا نفرغ المحتويات أمام الميكانيكي عله يجد بغيته، لكنه كان يهز رأسه بالنفي ويقول لنا: هذه غيار لكذا وتلك لكذا! وأخيرا عثرنا على كيس صغير به عدد من القضبان والمسامير، قال أولا ليست هي، ثم هز رأسه وأمسك أحد القضبان ووضعه أمامه، ثم أتى بالقطع الثلاث التي تكون القضيب المكسور ووضعها بترتيبها في موازاة القضيب الذي كان بالكيس، ودقق النظر، ثم أخرج كل القضبان من الكيس ووضعها كلها بموازاة بعضها وابتسم ابتسامة كبيرة وصاح هذا هو المطلوب، عليكم أن تحافظوا على هذه القضبان جيدا؛ لأنها روح المروحة. وبرغم أن القضيب من الصلب إلا أنه قابل للكسر إذا غير السائق مسار الحركة من أمام إلى الخلف مرة واحدة، أو إذا حدث ضغط مفاجئ يوقف حركة المروحة مرة واحدة. وشرح لنا عمليا تغيير القضيب المكسور، فإذا به عمل غير معقد، وفرحنا كثيرا حين دارت مروحة المحرك الثاني، وشعرنا أننا في أمان أكثر بوجود محركين عاملين.
وبعد الإفطار كان الميكانيكي قد ثبت الأسلاك التي تربط الدفة بعجلة القيادة، لكنه قال لنا محذرا: لم أتمكن من ربطها على الوجه الصحيح، وقد أصبحت إدارة العجلة معكوسة لما هو مألوف، فلو أردت أن تدير القارب إلى اليمين لا تدر العجلة يمينا بل إلى اليسار، وهكذا. ثم قام بتجربة قصيرة على سطح الماء للمحركين معا.
وفي التاسعة والنصف صباحا شكرنا الميكانيكي والهر أندورف وزملاءه، وتمنوا لنا السلامة.
الفصل السادس
من كلابشة إلى قرشة
تجاربنا الفاشلة في التكيف مع البيئة. ***
جلس رياض في مقعد القيادة ودارت المحركات، وأراد أن يدور بالقارب صوب الجنوب، لكنه أدار العجلة يمينا فإذا «لندا» تتجه صوب العائمات، لكنه أسرع بالعجلة يسارا وسار القارب ميمما الجنوب، ثم أراد أن ينحرف يسارا إلى داخل النهر فاتجه يمينا، وفزعنا لكنه عدل الوضع بسرعة، وهكذا سار في خط متعرج لبضع دقائق، ثم سارت الأمور على ما نشتهي، وحينما عدنا إلى عائمات كلابشة في نهاية رحلتنا قال أندورف ضاحكا: رأيتكم تتجهون شمالا ثم جنوبا ثم غربا ثم جنوبا، فلم أدر أي اتجاه تريدون، كأنما كنتم مترددين أن تغامروا جنوبا، أو أن القارب لم يكن يريد ذلك.
وبعد ساعة أو نحوها مررنا بمحطة أبوهور النهرية، وكل من سافر على باخرة البوستة وظل مستيقظا حتى وقت متأخر قليلا كان يشاهد منظرا فريدا في أبوهور، فالبوستة ترسو عند حاجز صخري أمام الفانوس الأحمر الذي يرشد الباخرة إلى مكان الرسو ليلا، وبجوار الفانوس ترتفع الأرض إلى اليمين مباشرة في انحدار شديد يأخذ صورة أسطوانية ضخمة، وتنتهي هذه الأسطوانة ببروز صخري كأنما هو تاج أحد أعمدة الكرنك، لكن بصورة مضخمة عدة مرات، وفوق هذا البروز بنى السكان سورا صغيرا من الحجر يقي الصاعد والنازل من السقوط، وإذا رفع المسافر عينه إلى أعلى يجد عشرات العيون تحملق إلى أسفل عند مدخل الباخرة ترقب عزيزا راحلا أو عزيزا قادما، إنها عيون نساء أبوهور اللاتي لا يجرؤن على الظهور أسفل المنحدر لسببين: ضيق المنحدر، والاحتشام الذي تبديه نساء النوبة بصفة عامة.
وفي إحدى المرات كان هناك عريس قادم إلى أبوهور، وكان المنظر ساحرا لدرجة تقصر عن وصفها الكلمات، فعلى الضوء الكهربائي المنبعث من كشاف السفينة، وضوء الفانوس الأحمر الخافت، وأضواء عشرات الفوانيس التي يحملها الناس دائما في تنقلهم داخل النجوع ليلا ووسط الزعاريد الطويلة الحادة؛ صعد العريس الشاب المنحدر بين عشرات الجلابيب البيضاء، وتحركت أضواء الفوانيس مع الموكب البهيج صاعدة إلى أعلى، ثم تلاشت الأنوار وخفت الزغاريد، ودار محرك البوستة.
لكن كانت هذه هي المرة الأولى التي نرى فيها أبوهور نهارا وفي الصيف، وكان المنظر جميلا ولكن بشكل آخر، فقد انخفض النيل عن منسوب الشتاء بنحو عشرين مترا أو أقل قليلا، وكنا في لندا الصغيرة نرفع أعيننا إلى حائط صخري يزيد ارتفاعه عن قرابة الخمسين مترا، وعند أقدام الحائط الصخري شريط أخضر لا يزيد اتساعه عن خمسين مترا، وأعلى الصخور تناثرت البيوت عالية، ونظرا للارتفاع فلم نكن نر غير أطراف أسوارها المزركشة لمسافات طويلة، تذكرنا بأسوار القلاع والحصون التي تحف بنهر الدانوب بين فيينا وبلدة ملك، أو قلاع نهر الراين الأوسط بين بنجن وكوبلنتز.
وبعد قرابة نصف ساعة تراجع حائط أبوهور الصخري في قوس كبير، وانفرج عن حوض زراعي صغير لا يزيد عمقه إلى الداخل عن مائة وخمسين مترا، وكانت المناطق المزروعة في هذا السهل الصغير لا تتجاوز عدة شرائط ضيقة، بينما كسى النجيل الأخضر المساحات الباقية، وانتشرت في المنطقة أعداد من الإبل، ربما زادت عن خمسة وعشرين جملا، وأعداد من الماعز والأغنام، أوقفنا القارب ونزلنا نريد الكلام مع الراعي العبادي، لكنه رفض الكلام معنا في البداية ثم ذكر لنا أنه من عبابدة العشاباب بدنة المحمداب بيت الفشيجاب، وحين أردنا أن نأخذ صورة له هرب وراء الجمال، ومع ذلك صورناه بواسطة العدسة المقربة «تلي لنز».
في الحادية عشرة والنصف وصلنا محطة «مرواو » النهرية، هنا المنظر أكثر اتساعا لكن الصخور ما زالت تحف بالوادي الضيق من الناحيتين، عبرنا إلى الجانب الغربي، لكن تيار الماء كان شديدا، فعدنا أدراجنا إلى الجانب الشرقي من النهر.
تجربة أول غداء في العراء
حوالي الساعة الواحدة ظهرا وصلنا إلى مشارف عمدية «ماريا»، وانتقى لنا الريس محمد مكانا نرسو فيه بجوار ساقية قديمة مهجورة، ربطنا القارب على مبعدة قليلة عن الساقية؛ لأن بنايات السواقي من الحجر الرملي الذي يزداد صلابة في الماء - ومثل هذه السواقي يغمرها ماء خزان أسوان تسعة أشهر من السنة - وأخذنا معدات أول غداء لنا في العراء وجلسنا إلى حائط الساقية مستفيدين بالظل القليل، أخذنا علب الخضراوات واللحوم المحفوظة وغلاية للشاي وموقد الكيروسين، وبعد جهد شديد وإقامة ساتر من البطاطين، أمكن إيقاد الشعلة وتسخين الخضر واللحم وعمل الشاي، لكننا فيما بعد أقلعنا عن فكرة التسخين، فيكفي تعريض العلب للشمس بعض الوقت ليصبح الطعام دافئا، وبعد فترة تعودنا أن نأكل دون ملح أو خبز، أما الشاي فكنا نجهزه في المكان الذي نبيت فيه ونضع كميات وافرة منه في «الترموس» الكبير، وماء ساخنا في «ترموس» آخر لعمل قهوة أظن أحدا لا يستطيبها إلا في الأماكن النائية.
وفي أول غداء أحضر كل منا ما يخصه من شوكة وملعقة وسكين وفوطة، لكننا بعد ذلك وجدنا الملاعق تكفي، وهي - فضلا عن ذلك - أسهل في الغسيل من الشوكة، وحينما غسلنا الأطباق في مياه النيل لأول مرة خرجت إلينا وبها قدر من الطمي الناعم، وودنا لو أن معنا «زيرا» صغيرا نضعه في القارب نشرب منه ماءا باردا نظيفا، ونغسل به معدات الأكل ووجوهنا وأيدينا، لكن ذلك ظل حلما، فلم نستطع شراء الزير أو حتى «قلة»؛ لأن هذه صناعة الصعيد ولا يوجد منها ما هو معروض في النوبة، وبقينا طوال الرحلة نشرب كميات كبيرة من الماء الذي نروقه بالشبة ونعبئه في زجاجات كبيرة من البلاستيك، وقد تعودنا أيضا على شرب الماء الدافئ باستمرار، وما أكثر ما تعودنا عليه خلال الرحلة!
وكانت مشكلة تنظيف الأسنان مشكلة فعلا؛ فإننا وإن تعودنا على غسل الأيدي والوجه بماء النيل، إلا أن إدخال الماء الكدر في الفم كان أمرا صعبا، ومن ثم خصصنا كوبا من الماء النظيف كل يوم لغسيل الفم، ولكي نهون على أنفسنا هذه المتاعب الأساسية بأن نجعلها مادة للتسري؛ فماء النيل المليء بالطمي والطين أصبح الماء المغذي بما يحتويه، أو نقول إن الطبقة الرقيقة من الطين التي تعلق بالبشرة مفيدة؛ لأنها تحمي من الحر الشديد، وماء الشرب الساخن نقبله على أنه مطهر للأمعاء!
تجارب فاشلة لتبريد ماء الشرب
فكرنا في وسيلة لتبريد ماء الشرب الذي نعبئه بعد غليه في زجاجات بلاستيكية، أول الأفكار أن نربط الزجاجات بحبل ندليه في ماء النهر إلى جوار القارب لكي تظل بعيدة نسبيا عن حرارة الشمس المباشرة، لكن حين يتحرك القارب ترتفع الزجاجات إلى سطح النهر؛ لأنها خفيفة، فضلا عن أن سرعة القارب تجعلها تطفو لا أن تغرق داخل مياه النهر، ويزداد الطفو كلما شربنا وخف حمل الماء في الزجاجة، ثم وضعنا الزجاجات في شبكة بلاستيكية ذات عيون واسعة، ولكي تغوص الشبكة فكرنا في إطالة الحبل المعلقة فيه، لكن الريس محمد نبهنا إلى أن الحبل الطويل يجعل الشبكة قريبة من المراوح أثناء السير؛ مما قد يؤدي إلى اشتباك الشبكة وتعطيل المروحة، ووجدنا الحل في أن نضيف إلى الشبكة زجاجتين من الزجاج نملؤهما من ماء النهر ونقصر الحبل وبالتالي تغوص الشبكة بما فيها، ولم يكن بالإمكان ربط الشبكة بمقدم القارب؛ لأنها سترتطم بالقارب باستمرار نتيجة التموجات، ولأنه كان خطرا تحرك أي شخص إلى المقدمة؛ لصغر الحافة الجانبية المؤدية إلى المقدمة، إلا في حالة توقف القارب، وبرغم نجاحنا في جعل الشبكة تغوص بعض الشيء إلا أن النتيجة أن ماء النهر كان ساخنا طوال النهار، وبالتالي لم نحصل على ماء بارد، وتوقفنا عن هذه المحاولات، وكنا قد شربنا آخر كوب من الماء البارد الذي جلبناه من عوامة هوختيف ونحن نتناول الغداء فوق الساقية القديمة في «ماريا»، هذه التفصيلات الدقيقة - رغم اعتراضها سياق الحديث - إلا أنها على جانب من الأهمية؛ فالشعور ببعض الراحة مكون مهم في البحث الميداني.
لم نكن نعرف بالضبط كم بقي لنصل إلى عمدية قرشة، وكلما سألنا أحدا من سكان النجوع التي نمر عليها يتصادف أن يكون قريبا من ضفة النهر؛ كان الجواب أن قرشة ما زالت للأمام، وكنا نعتمد على الذاكرة في تبين محطة قرشة أثناء سفرنا قبل ذلك بالبوستة في الشتاء، وكان أهم معلم يلح علينا حائط صخري عال، تربع فوقه جامع أبيض بمئذنة أسطوانية، قل أن نجد لها مثيلا في النوبة باستثناء مئذنة جامع الدر؛ إذ إن معظم جوامع النوبة بدون مآذن، لكننا كنا الآن في الصيف ولا شك أن المنظر العام سيتغير بظهور السهل الفيضي الواسع، كما أنه كان هناك فرق بين قاربنا الصغير وبين سفينة البوستة التي ترتفع إلى طابقين؛ مما كان يعطي أفقا أرحب للرؤية.
كذلك كنا نتذكر أن قرشة تقع على منحنى نهري، يراه القادم من الشمال امتدادا طويلا يسد على الناظر بقية مجرى النهر، لذلك أخطأنا حين تركنا مرواو وظهرت ماريا أمامنا على انحناءة للنيل تشابه كثيرا حنية قرشة، وقد ساعدنا على الخطأ أننا لم نكن قدرنا بعد سرعة قاربنا «لندا»، فمعروف أن سرعتها وقت الخزان 12 كيلومترا/ساعة، فكم تنخفض السرعة في الصيف ضد التيار؟ لقد افترضنا أنها ستكون بين 8 أو 9كم/ساعة، والمسافة بين محطة كلابشة وقرشة هي 40كم، ولما كان قد مضى على ركوبنا النيل من كلابشة ست ساعات، ينقص منها حوالي ساعتين للغداء في مرواو والتوقف عند عوامة مصلحة الآثار عند معبد دندور للتزود بماء شرب نظيف مبرد، فمعنى ذلك أننا وصلنا إلى انحناء النيل عند قرشة، وأخذنا نجوب المنظر بأعيننا بحثا عن جامع قرشة فلم نجده، ومع ذلك فقد توقفنا وصعد رياض وأسعد إلى البر للسؤال عن اسم المكان فعرفا - بعد مسيرة نحو نصف ساعة ذهابا وجيئة - أننا ما زلنا في ماريا.
عاودنا التحرك جنوبا لنحو الساعة إلى أن انتهت نجوع ماريا وظهرت ثنية قرشة على البعد، وفيما بين ماريا وقرشة منطقة صخرية وعرة لا تترك سوى مكان ضيق لمرور الراجلين بينها وبين ضفة النهر، وبعد قرابة ثلث ساعة أخذت الحافة الصخرية في التباعد بسرعة عن النهر تاركة سهلا يزداد اتساعا ترعى فيه قطعان من الإبل والأغنام بهدوء وصمت، وبعد عشر دقائق أخرى ظهر مسجد قرشة على البعد شامخا فوق الحائط الصخري.
وكانت الساعة قاربت السادسة حينما ربطنا القارب إلى الشاطئ في محطة نجع البوستة، وبعملية حسابية بسيطة أدركنا أن «لندا» تسير بسرعة متوسطة تتراوح بين خمسة وستة كيلومترات في الساعة ضد التيار، وهي ضئيلة لكننا روحنا عن أنفسنا أن هذه، وإن كانت سرعة إنسان أو دابة على الأرض، إلا أنها سوف تعطينا فرصة عظيمة للمشاهدة والتقصي والتصوير.
الفصل السابع
قرشة
نزلنا إلى البر وعلى بضعة أمتار رأينا رجلا ينحني إلى الأرض وفوق رأسه قبعة عريضة، وحين تبينا وجهه كان عمره لا يقل عن ثمانين عاما، كان يجمع حشائش خضراء في «قفة» إلى جواره، سألناه عن مكتب بريد قرشة، فأشار إلينا بيد معرورقة إلى مكان إلى أعلى، وسألناه ماذا يفعل فقال إنه الدكتور؛ أي الدكتور الذي يعالج بالأعشاب، وسألناه عن عدد من الأشخاص كنا نعرف أن أبناءهم يعملون في القاهرة، فأجاب: إنهم في نجع بعيد عن نجع البوستة الذي نحن فيه.
سرنا في سهل متسع نبتت فيه الأعشاب فأكسبته خضرة يانعة، وعلى البعد ارتفعت كتل مفردة من الصخر هنا وهناك كمقدمات للحافة الصخرية العالية التي ترتفع عن السهل قرابة 30 إلى 40 مترا، وتنتشر فوقها البيوت البيضاء في صورة أعادت إلى الذاكرة مناظر في جزر اليونان، وعبرنا جسرا صغيرا فوق مجرى مائي تكون نتيجة نشع المياه، فأصبح بحيرة طويلة تنعكس على صفحة مائها الرائق السماء شديدة الزرقة مختلطة مع الحافة الصخرية البنية اللون، ونبات الذرة يتطاول على ما عداه من مزروعات وأعشاب أخرى، ومررنا وسط الذرة في طريق ملتو حتى وصلنا إلى الصخور، فدار بنا الدرب إلى أعلى وسط أكوام من الحجرة، فتذكرنا صورة قرشة في الشتاء حين تغطي مياه خزان أسوان كل هذا النابض بالحياة، ولا تترك سوى الحجر القاسي والبيوت البيضاء.
ظللنا نرتقي الدرب الصاعد بين بيوت مهدمة مهجورة ولا نجد أحدا يرشدنا إلى مكتب البريد، وهذه البيوت المهجورة هي بيوت قرشة قبل تعلية خزان أسوان عام 1933، وارتقينا أخيرا حافة الهضبة علنا نكتشف مكان المكتب، لكننا لم نوفق، فنادينا بأعلى صوت: أستاذ صالحين، يا أستاذ صالحين. وبعد فترة رد علينا صوت من بعيد، وتلفتنا إليه ووجدناه على البعد يقول إن الأستاذ صالحين في أحد البيوت خلفنا، ودخلنا بيتا حسبما أشار وأخذنا نصفق لكن أحدا لم يرد، وكان الشخص الذي كلمنا لا يزال يرقبنا، فصاح بنا أن هذا بيت مهجور، وعلينا أن نخترق هذه الساحة إلى الساحة التالية، ثم نهبط قليلا حيث نجد بيتا أبيض اللون هو بيت صالحين، وحينما فعلنا لم يكن أحد جالسا أمام البيت المغلق، نادينا وطرقنا الباب ولا من مجيب من داخل هذا البيت أو البيوت المجاورة، وفي اللحظة التي يئسنا فيها واستدرنا للعودة، سمعنا صوتا ضعيفا من الداخل يسأل من الطارق، وبعد فترة فتح الباب: نحن ضيوف من القاهرة، أين نجد الأستاذ صالحين؟ - أنا هو، ماذا يمكن أن أؤديه لكم من خدمة؟ - نحن معارف الأستاذ عبد المطلب مفتش البريد في أسوان، وقد جئنا بتوصية منه، نحن أساتذة في جامعة عين شمس، ونقوم بأبحاث جغرافية واجتماعية في النوبة، ومعنا قارب صغير، وكنا قد شحنا صفائح بنزين من أسوان إلى قرشة وغيرها من المحطات، فهل وصلت شحنة البنزين إليكم؟ - تفضلوا إلى المكتب، لا لم تصلني مثل هذه الصفائح، وهذه أول مرة أعرف أن البنزين سيصل إلي، فعلى أي ناقلة شحنتم الصفائح؟ - على الناقلة «بيومي»، وقد شاهدناها تعبر هويس السد أثناء تحركنا إلى دهميت، فلا بد أنها قد وصلت قبلنا؛ لأننا بتنا ليلتين في دهميت وكلابشة، ثم ألم يتصل بك المفتش عبد المطلب من أسوان؟ - لا لم يتصل، ولكن زميلي وكيل بريد سيالة كان قد طلبني ولم أكن موجودا، كما أن إحدى الناقلات قد مرت أمس صباحا أمام قرشة ولم تتوقف، فلعلها أنزلت شحنتها خطأ في سيالة بدلا من قرشة! - نعم إن الناقلة سوف تنزل صفائح أخرى في سيالة والمالكي ... إلخ. - سأتصل الآن بسيالة لأعرف الخبر.
ورفع صالحين السماعة وطلب سيالة ودار حديث طويل لم نفهم منه شيئا، ثم قال لنا: إن المفتش كان قد اتصل بي ولم أكن موجودا، واتصل بسيالة وطلب منه أن يتصل بي ليخبرني عن حضوركم وحضور البنزين، ووكيل سيالة يقول إن الناقلة «بيومي» لم تصله بعد، أهلا وسهلا في قرشة، أين القارب؟ ودعانا للدخول في بيته مؤكدا سعادته بوجودنا.
وسواء كان البنزين قد وصل أو لم يصل، فقد كان في نيتنا أن نقضي بضعة أيام للدراسة والمشاهدة في قرشة باعتبارها عمدية مهمة من بلاد الكنوز، وكذلك كنا نعرف عددا من العاملين في معهد الدراسات الأفريقية - السودانية سابقا - من أهل قرشة، وبذلك كانت هذه بمثابة توصية للتعارف والبحث والتقصي؛ لهذا رحبنا شاكرين بدعوة الأستاذ صالحين للإقامة.
قضينا المساء في مسامرات مع صالحين وعدد قليل من سكان النجع الذين حدتهم الرغبة في التعرف على الغرباء وماذا يريدون، وقد عرفنا أن نجوع قرشة عديدة هي كما سجلناها كالآتي:
أمبو كول:
وتعني ساقية شجر الدوم حيث أمبو = الدوم، وكول أو كولة = ساقية، بمعنى الأرض التي ترتوي من ساقية واحدة، أي زمام ساقية.
كوله سيه:
الساقية الضيقة، بمعنى زمام ضيق لساقية، سكن عشيرة الجوهراب.
خضر كوليق:
ساقية أو أرض ساقية خضر، سكن عشيرة الحاجناب.
حمدنا بتجوج:
نجع تحت جرف نجع حمد - ينطق أحيانا حمدنا بتقوق - سكن عشيرة الجابراب.
جانب كوليق:
نجع جانب الساقية، سكن الحاجناب.
جار بطحة:
نجع جار ذو الأرض الجيدة - ربما جار اختصار لعائلة أو بدنة جاراللاب - البطحة الأرض الجيدة، سكن الجوهراب.
الشدناب:
نجع باسم عائلة أو بدنة شدناب، وينطق أحيانا الشديدناب.
العلياب:
نجع باسم عشيرة أو بدنة العلياب.
راحب كوليق:
نجع سكن بدنة المكناب، وأحيانا تنطق راهب بدلا من راحب - ربما يشير هذا الاسم إلى أصول قديمة منذ العصر المسيحي في النوبة.
الحرازة قبلي وبحري:
نجوع بدنة الجوهراب.
كلدول:
الساقية الكبيرة، نجع سكن بدنة العلياب.
فضل كوليق:
ساقية فضل، نجع سكن الجوهراب.
شلوف بطحة:
شلوف = اسم الجد الذي أنشأ الساقية، وبطحة الأرض الجيدة، نجع سكن المكناب.
خور العرب:
المقصود عشيرة أو عشائر من العبابدة «والبشارية» استقروا نحو منتصف القرن الماضي.
ساقية الدنجراب:
نجع باسم عشيرة الدنجراب.
جد كول:
جد = شيخ، وهي أرض فيها نشع مائي كثير، وهو نجع يسكنه المكناب.
ساقية متر:
متر = بئر، وربما تعني ساقية البئر، نجع يسكنه المكناب.
همي متر:
همي = اختصار همام، وتعني بئر همام، نجع يسكنه المكناب.
الترجمي:
نجع يسكنه الجوهراب.
الحوض:
نجع يسكنه الجوهراب.
ويبدو أن غالبية سكان قرشة تعود إلى عشيرة أو قبيلة واحدة هي «العونالاب» التي تمتد بعض بيوتها أيضا في عمديات كشتمنة وجرف حسين وجانب من عمدية ماريا، وفي قرشة ينقسم أولاد عون إلى أولاد جابر «الجابراب» وأولاد مكن «المكناب»، وينقسم الجابراب إلى عدة بدنات منها «العلياب» وأولاد محمد «الحاجناب» - ربما الحاج ناب؟ - و«الجوهراب» و«الدنجراب». أما الشدناب فهم من بيت أولاد اليزيد «أبو اليزيد» من العونلاب الذين يسكنون جرف حسين، ويعود عونلاب ماريا إلى بيت شهاب الدين، وعونلاب الدكة إلى سعداللاب.
ويتتبع سكان قرشة من العونلاب نسبهم إلى «عون الله» في سلسلة من 13 جيلا كما يدل على ذلك شجرة النسب عن أحد سكان نجع العلياب: «محمد حسن خليل إبراهيم محمد بشير حسين أبو بكر ظافر أبو النور مكن عبد الله عون الله.»
وإذا كان الجيل يعمر نحو ثلاثين سنة، كما هو متعارف عليه، فإنه يبدو أن عون الله كان يعيش منذ 400 سنة؛ في نحو القرن ال 16م، وهو القرن الذي تم فيه سقوط المسيحية من النوبة وشمال السودان تماما، وقد سبقه بقرنين أو ثلاثة تداخل الكثير من القبائل العربية في النوبة الشمالية، فإذا استكملنا سلسلة النسب السابقة من نجع العلياب بثلاثة أسماء يذكرونها أجدادا لعون الله جدهم الأكبر، وهم نجم الدين ورضوان ونصر الدين، فإن أصول العونلاب ترجع بدون شك إلى فترة تداخل العرب في النوبة الشمالية، وبذلك فإنه من المدهش أن يحتفظ هؤلاء الناس بأنسابهم على مر القرون!
هل معنى هذا أن أصولهم عربية؟ لا نستطيع الجزم بجواب محدد، ولكن الأغلب أن العرب الذين تداخلوا مع سكان النوبة قد أنتجوا نسلا خليطا من أمهات نوبيات وآباء من العرب وأخلاطهم، مما أضفى على النسل الجديد كل مؤسسات الحضارة الإسلامية، بما فيها من نسب عصبي، لكن بقيت اللغة القديمة مع بعض التداخل بالعربية لغة القرآن ولغة التخاطب مع بقية سكان مصر، وكان لاستمرار التزاوج الداخلي أثره في التكوين النهائي السلالي والثقافي للكنوز.
وربما حان الوقت لمداخلة صغيرة عن سكان النوبة: من هم؟ وما هي أقسامهم الرئيسية؟
في عجالة صغيرة ينقسم سكان النوبة إلى ثلاثة أقسام هم بالترتيب من الشمال إلى الجنوب:
الكنوز:
من غرب أسوان إلى عمدية المضيق مسافة نحو 150 كيلومترا، وهم يتكلمون لغة خاصة قريبة الشبه بلغة الدناقلة في السودان.
العليقات:
هم مجموعة عربية تداخلت في وسط النوبة من عمدية المضيق إلى عمدية كورسكو مسافة تبلغ نحو 45 كيلومترا.
النوبيون:
ويطلق عليه أحيانا اسم الفديجة، وأوطانهم من كورسكو حتى الحدود المصرية السودانية مسافة تبلغ نحو 110 كيلومترات، ولهم لغة خاصة شبيهة بمجموعة لغات المحس في شمال السودان.
والنوبيون هم أكثر سكان النوبة المصرية عددا؛ ربما لغنى بلادهم زراعيا، بينما بلاد الكنوز والعليقات أفقر لضيق السهل الفيضي وتداخل الحافات الصخرية مع الأراضي الزراعية، ولمزيد من التفصيل حول هذا الموضوع نحيل القراء إلى القسم الثاني من هذا الكتاب.
صحونا من نوم مريح حوالي السابعة وتمشينا قليلا إلى الحافة التي تطل على النهر، وتتذكر د. كوثر المنظر الأخاذ فتقول: نجع البوستة يعتبر غاية في الجمال فهو يرتفع عاليا فوق الصخور في تدرج جذاب، كما لو أن فنانا قد وضع كل مكونات صورة رائعة في مكانها؛ فأسفل الصخور ذات الألوان المتعددة يمتد مرج أخضر عريض، تنتشر فوقه بحيرات تعكس كالمرايا أضواء شمس اليوم الجديد والحشائش والنباتات كالموج الهادئ حين تهب النسمات وراء بعضها، وقد رصعت الحيوانات بألوانها السوداء والداكنة هذا المرج ، ترعى في هدوء وترعاها أعين النساء والأطفال منتشرين فوق البساط الأخضر في سكينة وسلام، والنيل يمتد كشريط جبار رمادي اللون تشوبه أشرطة بيض، يفصل قرشة عن جرف حسين التي تمتد في الأفق تنعكس أشعة الشمس على بيوتها القليلة البيضاء، وبالنجع بئر مياه نقية باردة محببة للشرب.
دخلنا عدة منازل تتشابه في التصميم وإن اختلفت في الأحجام: فهناك الحوش السماوي وعلى جوانبه غرفة النوم - أو غرفتين - والمطبخ والسبيل الذي هو استراحة النساء المظللة، وإلى جوارها المزيرة. السقوف كلها قبابية مبنية من الطوب اللبن، والبيوت كلها مطلية بالجير الأبيض ناصع البياض، وكذا أرضيات بعض الغرف عليها طلاء من الجير. سقف المطبخ مستو وليس قبابيا ومصنوع من فلق النخيل والكثير من الجريد، وبه فتحة صغيرة في منتصف السقف. تجهيزات المطابخ متشابهة: فرن مبني من الطوب اللبن وكانون وموقد كيروسين في أحيان، ومواعين فخارية وزير لمياه المطبخ وأطباق من الخوص. غرف النوم بسيطة وأبرز ما فيها العنجريب وطرابيزة صغيرة وصندوق حفظ الملابس، وفي أحيان دولاب، وحبل لتعليق الملابس، وفي أحد أركان الحوش تحويطة للماشية والأغنام، وتحويطة أصغر للدواجن، وفي بعض البيوت سلم يقود إلى السطح حيث يخزن الحطب، وأخيرا هناك غرفة مخزن بها أزيرة فخارية وأوعية كثيرة من السلال والخوص لحفظ الغلة وما شابه من أطعمة جافة، وفي أحد أركان المخزن يوجد حمام الاغتسال، وبعض حوائط المخزن بها طاقات مغلقة تستخدم لوضع الأشياء كاستخدام الرفوف.
الحياة في نجع العلياب
وبعد الإفطار تحركنا إلى نجع العلياب، حيث يوجد أهل معارفنا بالقاهرة، وصلنا حوالي الثانية عشرة ظهرا بعد أن مررنا على عدة نجوع وأخوار، أهمها خور الشديناب الذي تتغلغل مياهه في مسيل حالم بين كتل وجلاميد صخرية، متوغلا إلى الداخل مزهوا بخضرة يانعة يداعبها النسيم بين الصخر الأشم، الطريق وعر صاعد هابط لمدة نحو ساعتين، استرحنا قرب أحد البيوت فخرج إلينا صاحب البيت ورش علينا بعض ماء الكولونيا تحية لنا، وفي الطريق لاحظنا حفرا كثيرة يؤخذ منها الجير الحي المستخدم بكثرة في تبييض البيوت، وربما كان كثرة مصادر الجير سببا في أن غالبية البيوت في قرشة مطلية بهذا البياض الناصع الذي لا شك في أنه يعكس الإشعاع الشمسي ويقلل الحرارة داخل الغرف، كذلك لاحظنا حفرا أخرى في مناطق بقايا البيوت القديمة التي هجرها السكان عند تعلية خزان أسوان، وهذه تشكل سمادا كفريا يستخدم في تخصيب الزراعة الشتوية في الحدائق الصغيرة.
وفي نجع العلياب ذهبنا إلى مضيفة عثمان سليمان والد خضري الذي يعمل بمعهد الدراسات الأفريقية، والمضيفة هناك تسمى السبيل الذي يتكون من حجرة كبيرة مستطيلة سقفها قبابي، وأمامها مكان ممهد فسيح مسور بسور منخفض لجلسات ليالي الصيف أو نهار الشتاء المشمس، بينما تستخدم الغرفة في ليالي الشتاء أو قيظ الصيف، ولما كنا في جو قائظ فقد كان استقبالنا داخل السبيل، حيث توجد مجموعة من العنجريبات والطرابيزات، قدموا لنا غداء شهيا من الشوربة واللحم والأرز، ولا بد أنهم ذبحوا ذبيحة تكريما لنا، وكان بين الحاضرين شخص هوايته صيد الغزلان التي تتواجد عند خور ماريا أمام معبد دندور، ولهذا فهو دائم الارتحال، كذلك يصطاد أنواعا من الطيور المهاجرة في مواسمها، وكان الموسم الراهن هو موسم طائر يسمونه أبو العنز - هل كانت هذه الطيور والغزلان تدخل قائمة الطعام للصياد، أم يبيع منها؟ وأين؟
جلسنا نتحدث مع الشاي، أنواع المزروعات هي الذرة «العويجة» ونبات يسمى في النوبة الكشرنجيج، وهو ذو نمو خضري كبير وسريع ويحش مرتين، وأوراقه وحبوبه جيدة كعلف حيواني، ولو أن بعضها يسلق ويدخل طعام الإنسان، ونبات آخر هو المسيق أشبه كثيرا باللوبيا الصغيرة، ثم نبات اللوبيا، وتزرع في مساحات صغيرة أنواع من الخضروات كالخيار والبصل، كما يزرع قليل من البطيخ والشمام، وكلها محاصيل ثانوية بعد الذرة والكشرنجيج واللوبيا، وهم يطحنون دقيقهم في مطاحن في عمدية الدكة على بعد نحو 15 كيلومترا - يذهبون إليها بالمراكب - أو يشترون دقيقا جاهزا من الدكاكين، وعند الحاجة الملحة يجرشون ما عندهم من غلة في الرحاية ثم المهراكة للتنعيم.
تذكر الشيخ عثمان أن نجع العلياب قد نقلت بيوته أربع مرات، أولاها كانت قبل بناء سد أسوان في 1902م؛ وذلك لأن الأرض كانت تنشع كثيرا مع الفيضانات، بينما المرات الثلاث الأخرى كانت مع إنشاء السد وتعليته مرتين في 1911 و1933، ويبدو أن النجع قد أنشئ في القدم في منطقة جيدة، لكن نشع المياه ربما جاء نتيجة تغير طفيف في مسار النهر، نتيجة النحت والإطماء حين كان النيل يجري حرا طليقا دون ضوابط بشرية.
وقادنا الكلام عن نقل النجع إلى موضوع الانتقال إلى كوم أمبو بعد إنشاء السد العالي، وقد أجمع الحاضرون على أن هناك معايب في البيوت التي تبنيها الحكومة والتي سينقلون إليها، وتركز النقد حول صغر مساحات البيوت الجديدة والتصاقها بعضها البعض، وعدم وجود مدخل خاص للماشية والحيوانات بخلاف الباب الرئيسي، وكذلك أن المزيرة توجد إلى جوار الحمام مباشرة، كما ينقص البيت غرفة مخزن لوضع التبن وأعلاف الحيوان ومتعلقات أخرى، والخلاصة أنهم كانوا يفضلون لو أن الحكومة قد أعطتهم تعويضات مالية يبنون بها بيوتهم على النسق الذي اعتادوه.
ولا شك أن جانبا كبيرا من هذا النقد صحيح، وبخاصة التصاق البيوت في النوبة الجديدة؛ مما قد يخلق ظروفا اجتماعية مستجدة بالنسبة للكنوز، بينما لا يشكل ذلك موضوعا للنقد بين النوبيين الذين تلتصق بعض بيوتهم عكس بيوت الكنوز المنفصلة عن بعضها.
وفي الأغلب فإن المجمعات السكنية التي تبنيها الهيئات الحكومية لا تفي باحتياجات الناس الذين سوف يستخدمونها، فمهما أدخل المهندسون المخططون من حسابات ومدخلات اجتماعية وديموجرافية، فإنه تظل هناك فروق فردية وجماعية لا يمكن إدخالها في حسابات مشروع إسكاني واسع مثل النوبة الجديدة، وأحسن الحلول هو ترك الناس تقيم محلاتهم العمرانية ضمن أطر تنظيمية وهندسية عامة، وربما كان ذلك ممكنا بالنسبة للنوبة لو أن عملية التهجير قد أخذت وقتا كافيا قبل وأثناء بناء السد؛ مما كان يسمح للناس بالبناء في الأرض الجديدة حسب مواصفاتهم والانتقال بحرية.
ثم دار الحديث عن بيوت نجع العلياب المسكونة منها والمغلقة، كان في النجع ثلاثة وثلاثون بيتا وأربع مضايف، ومن البيوت كان هناك أربعة مسكونة بأسر كاملة؛ أي زوج وزوجة وأبناء، وأربعة عشر بيتا مغلقة؛ لأن ذويها يعملون خارج النوبة، وثمانية بيوت مهجورة بعد أن توفي أصحابها، وستة بيوت شبه خالية يقيم في كل منها أرملة أو أم متوفى، وبيتان يعمل أصحابها في الخارج، لكن يقيم فيها بعض أقاربهم، وكان كل سكان النجع المقيمين خمسة رجال وإحدى عشرة سيدة كلهم كبار السن، وعددا قليلا من الأطفال، أما المقيمون خارج النجع فقد كانوا نحو خمسة وثلاثين من الرجال والنساء، فضلا عن أطفالهم، وشابين يدرسان في معهد معلمي الدكة؛ أي إن السكان العاملين خارج النوبة أكثر من ضعف المقيمين في النجع، وهذه حالة عامة بالنسبة لغالبية عمديات بلاد الكنوز، وغالب العاملين يقيمون في القاهرة، والقليل في الإسكندرية وأسوان، وواحد فقط كان يعمل في السودان. دخلنا عددا من البيوت، وهي لا تختلف كثيرا عما سبق وصفه من حيث الحوش السماوي والغرف وتجهيزات البيت والمطبخ والمخزن وأماكن الحيوانات والحطب والدريسة فوق السطح، ووجود باب ثان لدخول وخروج الماشية.
واستعرضت السيدات روتين الحياة اليومية لهن: في الصباح تقوم السيدة بسقاية البقرة وما لديها من حيوانات أخرى، ثم تجهز الشاي والإفطار الذي يتكون من بيض أو لحم أو طعمية أو لبن رايب وجبن قديم، ثم تخمر العجين لعمل خبز الدوكة - دقيق قمح أو ذرة - ثم تنزل إلى الحقول لجمع النجيل والأعشاب، وتعود لخبز العيش وطهي الغداء، سواء كان عدسا أو لوبيا أو جاكوتا - غالبا أي غموس - ثم تسقي الحيوانات مرة ثانية وبعدها تغفو قليلا للراحة، يعقبها عمل آخر متمثل في ملء الزير بالمياه وجمع النجيل، ثم تجهز العشاء المتكون من الشاي والحليب، وكذلك تخض اللبن للحصول على الزبد الذي يغلى للحصول على السمن الذي يوضع في «قرعة» كبيرة - يزرع القرع الكبير في أحيان - وتصنع المرأة أيضا الجبن من اللبن بعد أخذ الزبد، ويوضع على مياه اللبن الرائب حلبة وكمون وشطة، ثم يضاف إليه لبن بارد ويترك في وعاء يوما أو اثنين ثم يخسر، ويقوم الأطفال بالمساعدة في رعي الحيوان وجمع العشب من الحقول، وأحيانا الرجال أيضا، أما في الشتاء فإن العمل أقل؛ حيث لا توجد حقول وأعشاب ورعي للحيوان؛ ومن ثم فإن الشتاء فصل ركود، والصيف فصل عمل يتضمن كثيرا من الجهد والتعب، خاصة بالنسبة للسيدات.
ونزلنا إلى الحقول فشاهدنا الكثير من البرك والبحيرات الصغيرة التي يكونها نشع النيل، وعددا من النساء والأطفال يجمعون الكشرنجيج والنجيل الأخضر وبعض الذرة غير الناضجة تماما.
ويبلغ زمام ساقية العلياب تسعة أفدنة، منها 3,5 أفدنة ملكية خاصة؛ بواقع فدان ونصف لعثمان سليمان، وفدان واحد لزينب شلبي، ونصف فدان لفضل بشير، ومثله لقاسم حسن أحمد، وهناك نحو ستة أفدنة ملكية على المشاع لأحفاد عبد الله ويونس وظافر وهب.
ويبدو أن وهب كان من كبار الملاك منذ نحو مائة سنة من تاريخ زيارتنا 1962؛ فهو الجد الثاني لعبد الرحيم إسماعيل يونس وهب - أحد محدثينا من كبار السن في نجع العلياب - وكان وهب بن زيدان بن بشير بن حسن بن يونس - يونس غالبا هو الجد الأكبر لسكان العلياب وعدد آخر من النجوع - يمتلك نحو 15 فدانا في ساقية العلياب وحمدنا بتجوج، قمست بالتساوي بين أبنائه الثلاثة: يونس وعبد الله وظافر، ولكن يونس أضاف 7,5 أفدنة إلى نصابه من أرض ساقية حمدنا بتجوج، وقسمت ملكية يونس على ستة من أبنائه - 12,5 ÷ 6 = 2,08 فدان - وهذه قسمت بعد ذلك على 22 وريثا - 12,5 ÷ 22 = 0,56 فدانا - وبعبارة أخرى فإن هذا مثال لتفتيت الملكية الزراعية، ومن ثم يصعب تحديد ملكية محددة، ولهذا فهي تزرع على المشاع، وبطبيعة الحال فإن إنشاء سد أسوان، وإغراق الأراضي تحت مياه الخزان لمدة تسعة أشهر من السنة؛ جعل من غير المفيد أن يحاول شخص ما استصلاح أرض جديدة يضيفها إلى أملاكه، وبعبارة أخرى فإن سد أسوان جمد أية مجهودات للتنمية الزراعية في النوبة لمدة جيلين كاملين، وثبت ما هو موجود من أرض لم تعد ملكية قانونية، وإنما حق انتفاع وزراعة خفية - بحكم التعويضات غير العادلة التي دفعت للنوبيين - وسنعالج هذا الموضوع بشيء من التفصيل في القسم الثاني من هذا الكتاب. وبطبيعة الحال، فإن هذه الأوضاع ضاعفت عدد العاملين من النوبة في مصر والسودان؛ بحيث أصبح ذلك نمطا حياتيا بعد أن كان مجرد نشاط اقتصادي يساعد على المعيشة في النوبة.
سهرة في نجع كلدول
في اليوم التالي وجه إلينا الشيخ أحمد عباس، أحد وجهاء نجع كلدول، الدعوة للعشاء والسهرة عنده، وترددنا في قبول الدعوة؛ فنحن نعلم ضيق المعيشة، فصلا عن أن معنا من الزاد ما يكفينا، ولا نريد من الناس سوى المودة والمعلومات والائتناس، ربما كان أشهى ما نريده أرغفة من خبز الدوكة الطري اللذيذ - وفكرنا أن نبادله ببعض ما عندنا من أطعمة محفوظة، لكن لم تكن هناك وسيلة أن نعلن صراحة عن هذه المقايضة؛ خوفا من إغضاب الناس وجرح كرامتهم - لكن الأستاذ محمود صالحين، وكيل بريد قرشة الذي يستضيفنا عنده في نجع البوستة، شجعنا على قبول دعوة الشيخ عباس، وأفهمنا أن رفضها يسيء لكرامة الشيخ.
قرب الغروب مشينا نتسامر مع محمود صالحين ومساعديه، فلم نشعر ببعد المسافة. ونجع كلدول - الذي نسمعه أحيانا «كلدون» كما كان الحال في سيالة، ولا ندري أيهما أصح - يقع بعد نجع العلياب الذي كنا فيه بالأمس، وأثناء سيرنا كنا نرى النساء راجعات من الحقول حاملات لفائف كبيرة على رءوسهن من الكشرنجيج، ومرة أخرى مررنا بخور الشدناب الجميل غاية الجمال.
وبعد مسيرة طويلة لاحت لنا أضواء الكلوبات عند بيت الشيخ أحمد عباس الأبيض الكبير، وفي هذا الضوء لاح لنا البيت الكبير كأنه قصر في رواية خيالية من قصص الشرق، وحين دخلت د. كوثر إلى داخل المنزل زادت إيحاءات قصص الشرق بما وجدت من بياض ناصع على الجدران والأرضية، والنساء والبنات في أردية بيض، والصوت خفيض والنظافة والهدوء يعمان المكان، أما الشيخ عباس فكان في ردائه الأبيض وعمامته الكبيرة ووجهه الأسمر المتناسق التقاطيع وقامته المديدة؛ كأنه شخص قد خرج من التاريخ يطل علينا في كثير من التواضع والرزانة وهدوء الحكماء.
استقبلنا الشيخ عند باب المضيفة الخارجية وبجواره شاب في مثل رشاقته وأدبه الجم؛ هو زوج ابنته على ما نتذكر، وفي طرف المضيفة السماوية ثلاثة أزيرة للماء، وفي الركن الآخر مصطبة، والكل مسور بسور منخفض، أما الجزء المبني من المضيفة فكان صالة كبيرة يبلغ طولها نحو 15 مترا وعرضها نحو ستة أمتار وسقفها قبابي، وبها شباكان يطلان على الخارج، وشباكان مقابلان لتمرير الهواء وترطيب جو المضيفة، وملء الصالة دكك كثيرة وطرابيزات مغطاة بأقمشة بيضاء ذات خطوط زرق، كلوبات الإنارة كثيرة، وعلى إحدى الطاولات جهاز راديو تنبعث منه أغان بصوت مرتفع، والراديو هو وسيلة هامة للاتصال بالعالم الخارجي في مثل هذه الأماكن النائية، كما أنه عامل يجذب الكثير من الناس للحضور والائتناس في المضيفة.
جلسنا، وبعد قليل من التعارف وتبادل الأحاديث الودية بدأ العشاء الفاخر: شوربة وأرز بالخلطة وبسلة سوتيه باللحم المحمر، وفاصوليا باللحم ومهلبية بالكرميل، وكلها مطهية بامتياز، ذكرتنا بطعام أفخر الموائد في القاهرة - معظم موائد النوبة الفاخرة هي من طهي الرجال الذين تمرس بعضهم على ذلك في الفنادق والقصور في مصر - وبعد أن انتهينا من الطعام تجمع نحو عشرين شخصا في أحد أركان المضيفة يطعمون، وكان آخر من أكل هو صاحب الدار وزوج ابنته اللذان كانا يشرفان على حسن تقديم الطعام لنا ولبقية القوم - وقد شهدت مثل هذا في السودان، ولعلها تقليد عربي أن يأكل المضيف بعد الضيفان.
وبعد الشاي انتظم الجميع وجلسوا على الدكك وبعضهم على الأرض وبدأ التسامر، وكان في الجمع الصياد هاوي الصيد، الذي فتح باب الحديث الجماعي بقص مغامرات ونوادر حدثت له أثناء ممارسته للصيد، وعرفنا بعد ذلك أنه أيضا فنان ذو صوت رخيم، فوجدناها فرصة لتسجيل بعض الأغاني، أحضرت «الطمبورة»، وهي الآلة الوترية المتداولة كثيرا في النوبة، وبدأت السهرة بأغان هادئة وبصوت رخيم ناعم، وكان بعض الرجال يردون بعض المقاطع في صورة «كورس» تلقائي، ولكن كان الغناء متقضبا ودون حماس كثير، وقد علمنا أن ذلك راجع إلى حالة حزن وحداد في المنطقة، وبعد فترة بدأ الانسجام يسود والحماس يزداد، وانطلقت الأيدي تصفق والأرجل تدب مع النغم - حتى إننا طلبنا تخفيض الدق والتصفيق من أجل حسن التسجيل - وكانت هناك أغاني غزل كثيرة؛ مثل «ليه يا سمرا» و«بلاجة» - يعني دلوعة - و«حي بنات زينة هالله هالله»، وكلها مقطوعات جميلة شجية للروح البشرية.
ولتشجيعهم كنا نعيد عليهم تسجيل الأغنية بعد أن يفرغوا من غنائها فيطربون لها أشد الطرب، ويطلبون استعادتها مرة أخرى وأخرى، حتى خفنا أن تفرغ شحنة البطاريات، وما لدينا من بطاريات إضافية عدد محدود.
وفي خلال إحدى فترات التصفيق واستعادة الشريط لاحظت د. كوثر أشباحا باهتة على بعد من أحد شبابيك المضيفة، فأيقنت أن النساء والبنات يستمعن دون أن يجرؤن على الدخول وسط هذا المجتمع الرجالي، فخرجت لهن، لكنهن في البداية هربن مسرعات، ثم عدن حينما تبين أن الخارج إليهن هو سيدة مثلهن، وأخذت تتعرف عليهن ويتعرفن عليها داخل البيت، تقول: وجدتهن فتيات صغيرات ملاحا؛ هن بنات الشيخ أحمد عباس، وقد تزين بالمصاغ والحلي الذهبية المتعارف عليها في بلاد النوبة، وتعرفت على ست الدار ووعدت بأني سأعود إليهن في اليوم التالي بدون زوجي لأسجل لهن ما يعن لهن من الأغنيات، وعدت إلى المضيفة نكمل السهرة الممتعة حتى منتصف الليل، فودعونا بمثل ما استقبلنا به من حفاوة، وشكرناهم والشيخ عباس أجزل الشكر على الليلة الطيبة والعشاء الفاخر.
سرنا في مشية سريعة لمدة ساعة في ضوء القمر دون حاجة إلى نور البطاريات: هدوء وحمير مربوطة ترعى في رعاية الله، ونمنا نوما عميقا حتى الخامسة والنصف صباحا، حين استيقظ رياض على صفير باخرة البوستة، فنزل وقابل عليها الأستاذ عبد المطلب مفتش البريد، وبعض مدرسين سنقابلهم في نجوعهم فيما بعد.
وفي اليوم التالي بعد زيارتنا لنجع العرب عرجت كوثر على نجع كلدول لتلتقي بسيدات وبنات الشيخ أحمد عباس كما وعدتهن، تتذكر د. كوثر أنهن دخلن غرفة وأحكمن إغلاقها وأوقفن إحداهن عند الباب لتنبيههن إذا قدم الوالد أو زوج إحدى البنات، ورغم كل هذه الاحتياطات فإنهن كن خائفات أن تعلو أصواتهن، فلم يكن قد أخذن الإذن بذلك، ولهذا جاء التسجيل فاشلا؛ لأن أي حركة في الحوش كانت ترعبهن ويسكتن عن الغناء على الفور.
وقد لاحظت أن السيف والكرباج معلقين إلى جدار الغرفة، فقد كن في غرفة البنت التي تزوجت حديثا، وهو تقليد متبع في كل أرجاء النوبة أن يدخل الزوج حاملا السيف والكرباج ليلة عرسه في إشارة إلى ضرورة طاعته، وسنعالج هذا الموضوع فيما بعد.
نجع العرب وبقايا حياة البداوة
استيقظ الجميع في السادسة والنصف وتناولنا إفطارا خفيفا، ثم جلسنا نتحدث مع بعض الأشخاص بعض الوقت عن حياتهم السابقة في القاهرة وأعمالهم، وفي العاشرة والنصف تحركنا بالقارب «لندا» لأول مرة منذ إقامتنا في قرشة، متجهين إلى نجع العرب الذي يبعد نجعين عن نجع كلدول الذي كنا فيه بالأمس، وبالمناسبة نذكر أن الناقلة «بيومي» كانت قد وصلت قبل يومين أنزلت شحنة البنزين، وقام الريس محمد بتعبئة خزانات «لندا»، والباقي تركناه في عهدة مكتب البريد لحين عودتنا من الجنوب.
وفي أثناء إبحارنا إلى نجع العرب قابلنا الباخرة «شيخ البلد» التابعة لمصلحة الآثار المصرية، متجهة جنوبا إلى أحد المواقع الأثرية في النوبة، وصلنا قبالة نجع العرب بعد نحو الساعة والربع، فوجدنا المضيفين الذين قادونا إلى السبيل المقام إلى جوار الجامع، والذي يسمونه هنا الخيمة كمصطلح حضاري يشير إلى أصولهم البدوية، والخيمة مبنية على نسق مضايف جيرانهم من الكنوز؛ أي جزء سماوي مسور وحجرة كبيرة، لكنها تختلف في أنها ذات نوافذ صغيرة وسقف مسطح من فلج النخيل والأبراش - جمع برش - وفي الداخل عدد من العنجريبات والطرابيزات مغطاة بقماش هندي وارد السودان، وجهاز راديو ألماني أيضا وارد من السودان، والعلاقة مع السودان مهمة بحكم قيام بعضهم بالسفر بإبلهم عبر الدروب الصحراوية، وسنشير إلى ذلك فيما بعد، وهناك عصى معلقة بالحبال من طرفيها تستخدم لتعليق ملابس الضيفان إذا كانوا في ضيافة طويلة.
وعلى أحد جدران الخيمة علقت قربة ماء وزمزمية وشنطة لوضع الزاد، وهي من مستلزمات الرحلة داخل أودية الجبال الشرقية، كذلك كان مقود الجمل معلقا على الجدار، وكلها تشير بوضوح إلى استمرارية التنقل والارتحال لبعض هؤلاء السكان في مواسم أو مهام معينة إلى داخل الصحراء وفي اتجاه السودان أيضا.
مصطلح «عرب» يطلقه سكان النوبة بدون تمييز على البدو الذين يعيشون في الصحراء، ويأتون في موسم الصيف إلى النوبة؛ من أجل السقاية ورعي الجمال وتقديم خدمات أخرى مقابل أجر نقدي أو عيني، ولكن هؤلاء هم في الغالب من قبائل العبابدة، وفي الأقل من قبائل البشارية، وسواء كان العبابدة من أصول عربية أو من قبائل البجة الذين استعربوا، فإنهم ينقسمون إلى أربع قبائل كبرى: ثلاث منها مستقرون في نجوع كثيرة في الحاجز (أطراف الأرض الزراعية والصحراء) بين قفط (محافظة قنا) وكورسكو (النوبة المصرية)، فضلا عن انتشاهم أيضا في منطقة بربر في شمال السودان. أما القبيلة الرابعة فغالبها تسكن الصحراء المصرية الجنوبية الشرقية، جنوب خط نظري يمتد من قنا إلى القصير، والقبائل المستقرة هي: (1) الجميلية. (2) العبودين والشناطير. (3) الفقرا والمليكاب. أما القبيلة البدوية فهي (4) العشاباب. وبعض العشاباب مستقرون نصف استقرار، وبعضهم بدو أقحاح كعشائر المحمداب في الصحراء والجريجاب بالقرب من ساحل البحر الأحمر، ولغة كل العبابدة العربية بعد أن تركوا لغة البجة القديمة منذ عدة قرون، وإن كان بعض العشاباب يتكلمون أيضا خليطا من العربية ولغة التبداوية البجاوية، قريبة الشبه بالبشارية، أما قبائل البشارية فيسكنون أساسا في جزء من منطقة حلايب وجبل علبة، وينتشر بعضهم مع وادي العلاقي وأودية أخرى حتى بلاد النوبة، ويمارس العشاباب البدو حياة رعي مشابهة للبشاريين، لدرجة أنه يصعب على الغريب التفريق بينهما، ومن هنا يحدث خلط لدى النوبيين، فهم كلهم بالنسبة لهم «عرب».
وعبابدة نجع العرب في قرشة هم من العبديناب، أحد بطون المحمداب من قبيلة العشاباب، ويبلغ عددهم في النجع حول 150 شخصا، منهم عدد كبير من المعاتيق - أي أصلا رقيق للعبابدة أعتقوا منذ فترة طويلة - وليس كل هذا العدد مقيما في النجع، فبعضهم يعمل خارج النوبة، وإن كان بنسبة أقل من الكنوز، وربما كان أكثر الأعمال خارج النوبة التي تغري العبابدة هو العمل في سلاح الهجانة، الذي يتوافق كثيرا مع طباعهم الموروثة. وحسب اتفاق محدثينا، فإن في النجع 30 من الذكور و34 من الإناث، غالبيتهم الساحقة من بيت فكاك من العمراناب من العبديناب.
كان أحد الحاضرين يربط عمامته بطريقة مغايرة لمن حوله، وتبين بعد السؤال أنه في حالة حزن؛ فقد مات ابنه في الجبل منذ فترة قصيرة، لهذا يرخى أحد أطراف العمامة إلى صدره، وقد عرفنا أن عبابدة نجع العرب يذهبون للجبال الشرقية كثيرا، وذلك على عكس عبابدة سيالة من الشناطير، الذين أصبح استقرارهم دائما من قديم، بينما ما زال نداء البادية قويا بين عبابدة قرشة والعلاقى، فالكثير من أسمائهم فيها رنين العشائرية والمرغنية؛ مثل سر الختم وفضل المولى والشويري ... إلخ، وهي أسماء لا وجود لها بين جيرانهم من الكنوز.
وحسب اتفاق الحاضرين في المضيفة أنهم قد استقروا في قرشة ونواحيها منذ ستة أجيال؛ أي ربما منذ نحو منتصف القرن 18م. أو أواخره. سلسلة نسب أحد محدثينا تجري على النحو الآتي: «عبد الله حسب الله عبد الخير علي فكاك عمران.»
فهو من العمراناب من العبديناب من الجارلاب من الشافعاب من الديداناب من الرجلاب من الفشيجاب من الفراجاب من العوضلاب من المحمداب؛ أي إن عمران يفصله عن أصوله من المحمداب والعشاباب نحو عشرة أجيال، كلها كانت تعيش حياة البادية منذ نحو القرن الرابع عشر والأغلب قبل ذلك أيضا.
والغالب أن عمران هذا هو الذي بدأ وذريته عملية الاستقرار، ليس فقط في منطقة قرشة، بل في مناطق عديدة في النوبة والسودان، وأولاد عمران هم:
شكيت:
وذريته كثيرة في السودان، وقليل منها في العلاقي.
فكاك:
أكثر ذريته في قرشة، والقليل في العلاقي وماريا، وقد تزوج من بنات عمومته ومن الكنوز في قرشة «جوهراب» ومن كنوز جرف حسين.
عبد السلام:
وذريته منتشرة في جرف حسين وماريا وقرشة.
إدريس:
وذريته متركزة في العلاقي.
وليس لدى عبابدة نجع العرب أراض زراعية، وساقية الدنجراب التي تمتد أمام نجع العرب هي ملك للكنوز، والأغلب أن الزراعة ليست من المهن المحببة للعبابدة، ولا يقتنون أبقارا أو أغناما، بل هم يقتنون الجمال ويقومون بالنقل والتجارة، ولهم وسم خاص يسمون به الجمال يسمونه البدر، وهو على شكل حرف ح اللاتينية ويرسم على الصدغ، ووسم آخر يسمى الجعيبة، ويوجد على الظهر وهو على شكل خط مائل هكذا «/»، وكان في النجع وقت وجودنا أربعة جمال فقط ترعى العشب والنجيل في الصيف، وفي الشتاء تعيش على قش الذرة والكشرنجيج، ولكن في معظم الأوقات يذهب البعض بالجمال ابتداء من شهر أكتوبر إلى داخل الصحراء، حيث ترعى على النباتات الصحراوية في مناطق آبار قريات وأحيمر والقليب، وكلها في أواسط وادي العلاقي، ويؤجرون مساحات صغيرة من أرض الذرة والكشرنجيج؛ للحصول على دريسة جافة للجمال حينما يعودون من الصحراء في فبراير أو مارس، ويبلغ ثمن الجمل الصغير نحو 20 جنيها والكبير بين 25 و30 جنيها.
وليست رحلة الشتاء موظفة فقط للرعي، وإنما يستفاد منها في نقل الفحم النباتي الذي يصنع من أشجار السنط الكثيرة في أودية الصحراء الشرقية - من الذي يقوم بعمل الفحم؟ عبابدة الجبل، أم آخرون؟ - والغالب أنهم ينقلون الفحم إلى سوق أسوان مباشرة مقابل نحو خمسة جنيهات للنقلة الواحدة، ويقوم العبادي بنقلتين خلال الشتاء، تستغرق الرحلة الواحدة نحو شهر من أماكن الفحم البعيدة أو أقل إذا كانت مصادر الفحم قريبة.
وكذلك كانوا يجمعون الحمر من الجبل، وهو غالبا طفلة حمراء كان سكان النوبة يعجنوها مع كسر الفخار المدقوق، ويشكلونها وينعموها بمكاشط من الودع، ثم يحرقونها في الفرن، وكانت سيدة واحدة تجيد صنعة الفخار هذه، لكنها طعنت في العمر وأصبح الناس يشترونها من تجار القوارب الذين يأتون بها من وادي العرب في منطقة العليقات.
وخلال الصيف يؤجر العبابدة جمالهم لنقل سلع مختلفة من الميناء النهري إلى تجار النجوع، أو نقل أحمال من قش المحاصيل إلى بيوت النجوع المختلفة، أو التأجير للسفر في الصحراء - في الشتاء - وفي مثل هذه الأعمال ربما كانت يومية الجمل 50 إلى 70 قرشا، هذا فضلا عن الفائدة المباشرة من لبن الإبل الذي يشرب طازجا أو مغليا، وبيع البعرور مقابل سبعة إلى عشرة جنيهات، أما وبر الجمل فهو لقصره الشديد في هذه البيئة لا يستخدم في النسيج، وهناك أقوال تدور همسا أن العبابدة يقومون بعمليات تهريب سلع من السودان إلى النوبة في رحلاتهم الشتوية الطويلة هم والبشارية، وربما كان في ذلك بعض الصحة؛ ففي الستينيات كانت السودان مفتوحة تجاريا، بينما كان هناك تقييد للاستيراد من الخارج في مصر، وأمر طبيعي أن يحدث مثل هذا الانسياب السلعي بطرق عديدة عبر الحدود، سواء كان بين السودان ومصر أو ليبيا ومصر، وأي حدود سياسية في العالم يختلف على جانبيها قوانين الجمارك وأشكال الإنتاج وأسعار السلع.
وهكذا نرى أن الجمال تستغل إلى حدودها القصوى في بيئتين متجاورتين: الصحراء والوادي الزراعي؛ فهو يلبي احتياجات البداوة واحتياجات الزراعيين معا، ويتعايش عليه مجموعة من ذوي الأصول البادية التصقت بحافة الوادي منذ أمد طويل، وتعايشت مع السكان المحليين في وئام سلمي وصحي معا.
وفي المساء ركبنا القارب عائدين إلى نجع البوستة، وشعرنا برهبة وخوف في الظلام، فالقمر لم يصعد بعد إلى كبد السماء، وهناك ظلال داكنة على صفحة الماء الذي خيل إلينا أنه عال في جهة الغرب، وأنه سيجرفنا تجاه البر الشرقي المليء بالسواقي، لكننا وصلنا بسلام ونمنا جيدا استعدادا لمغادرة قرشة في الصباح، بعد أن قضينا فيها أياما مليئة بالمعلومات والمعرفة عن أحوال جزء جميل من النوبة، وناس غاية في الكرم واللطف ودماثة الخلق.
الفصل الثامن
العلاقي وسيالة والمالكي
في التاسعة والربع صباحا تحرك القارب من نجع البوستة، بعد أن ودعنا على الشاطئ الأستاذ محمود صالحين ومساعديه وعددا من سكان النجع، وقد لاحظنا أن العشب الأخضر قد بدأ في الاصفرار تحت أشعة الشمس القوية، وفي أثناء مرورنا شاهدنا ساقية الشيخ أحمد عباس، ووجدناه في الحقل بتفقده وأشار لنا بالسلامة، وبعد قليل من مرورنا أمام نجع العرب قابلنا صندل محمل بالأبقار متجه إلى أسوان، سأل الريس محمد ريس الصندل عما إذا كان بإمكانهم أن يأخذوا معهم الأستاذ أسعد نديم إلى الشلال، وفعلا درنا بالقارب حول الصندل وقفز أسعد داخله محييا ومتمنيا لنا رحلة طيبة موفقة.
وفي العاشرة والنصف انتهت نجوع قرشة ونجوع جرف حسين المقابلة لها على البر الغربي، والمنظر على البر الغربي أكثر جفافا وأكثر رمالا عن البر الشرقي الجبلي المعالم، ولكثرة الرمال اشتهرت جرف حسين وكشتمنة التي تليها إلى الجنوب بكثرة الثعابين والعقارب، وبعد قليل ظهرت بدايات الدكة على البر الغربي في شكل مجموعة من التلال الرمادية، ثم مجموعات من البيوت والأشجار ذات الخضرة الداكنة، وفي أقصى اليمين - أي إلى الغرب البعيد - ظهرت الرمال العالية ذات اللون الأصفر المشوب بالحمرة، وكان رشاش الأمواج التي يزيحها القارب في سيره تتساقط على وجوهنا وترطبنا بين الفترة والأخرى، وهو شعور جميل في هذا الجو الجاف.
والحقيقة أننا أخذنا نستمتع بهذه الرحلة الممتعة: فهنا قارب «محندق» صغير تحت رغبتنا نتنقل به على النيل العظيم حسبما نريد، ومناظر بانورامية متوافقة الألوان والتضاريس لا مثيل لها شمال أسوان، وناس تسودهم السكينة والسلام في معظم الأماكن، بعيدا عن أحقاد المصالح وتناقضات الغنى والفقر في الصعيد والدلتا.
وعلى البر الغربي لاحظنا قطيعا كبيرا من الماعز الأسود يتفرق على مسافة نحو نصف الكيلومتر، ولون الماعز في النوبة غالبا يميل إلى السواد والألوان الداكنة، وبذلك يسهل تمييزه وهو يرعى العشب الأخضر أو وهو سائر على الرمل الأصفر، ونجوع الدكة تمتد مسافة طويلة جنوب مشروع زراعة الطلمبات الكبير، الذي أقامته الدولة وجذب سكانا دائمين من الكنوز وأهل الصعيد، وأمام الدكة على البر الشرقي منطقة صخرية ذات ارتفاع متوسط معروفة باسم جبل حياتي، وهي معلم من معالم الطرق عند العبابدة، ويليها إلى الجنوب أراض سهلية تمهيدا للدخول في منطقة مصب وادي العلاقي، الذي أقامت فيه الدولة ثاني مشروعات الزراعة بالطلمبات في منطقة الكنوز، وهو أقل نجاحا من مشروع الدكة، وعلى وجه العموم فإن منطقة الدكة-العلاقي تتميز بالخضرة الكثيرة نتيجة وجود المشروعين وكثرة الأشجار.
العلاقي
وصلنا العلاقي حوالي الساعة الثانية عشرة والنصف ظهرا، وأرسينا على البر في استراحة قصيرة للغداء وملء خزانات الوقود، وعاودنا المسير في نحو الثانية في اتجاه سيالة، وكنا قد زرنا العلاقي في يناير 1962 لمدة ثلاثة أيام - أي قبل تسعة أشهر - وخلال فترة بحيرة خزان أسوان.
وللعلاقي أهمية خاصة في النوبة؛ فهي تقع على مصب وادي العلاقي الذي يشكل طريقا طبيعيا عبر الصحراء الشرقية إلى منحدرات جبال منطقة حلايب، ومن ثم إلى البحر الأحمر والحجاز؛ ولهذا فإن طريق العلاقي كان معروفا منذ العصور القديمة يقود إلى مواني البحر الأحمر وبلاد «بونت» - الصومال وعمان وحضرموت حاليا - ويقود إلى مناجم الذهب في العصرين الروماني والعربي، وإلى ميناء عيذاب - قرب حلايب - ميناء الحجيج الأشهر خلال العصور الوسطى، وفي العصر الحديث فإن طريق العلاقي هو أحد الطرق الهامة لتجارة إبل البشارية المشهورة وغيرها من إبل شرق السودان إلى سوق الجمال الكبير في دراو - جنوب مدينة كوم أمبو بقليل - ولهذا فإن علاقة عمدية العلاقي في النوبة بأهل الصحراء الشرقية من عبابدة وبشارية هي علاقة وثيقة وتاريخية، ويقيم في المنطقة نحو 200 من العبابدة في النجوع الشمالية من عمدية العلاقي.
وهناك واد آخر يرفد وادي العلاقي يسير في اتجاه عام من الجنوب نحو الشمال ويسمى وادي جبجبة «قبقبة»، وهو يشكل طريقا مهما بين النوبة وثنية النيل عند بربر وأبو حمد وجزيرة مجرات «مقرات» في شمال السودان، وهناك أيضا طريق مماثل بين شمال السودان والنوبة؛ هو طريق وادي كورسكو الذي يوازي طريق جبجبة وإن كان إلى الغرب منه، وعبر طريق العلاقي-جبجبة انتظمت تجارة القوافل منذ عدة مئات من السنين بواسطة العبابدة بين أسوان ودراو وبين شمال السودان، كمركز تجميع للسلع المدارية من السودان الأوسط والجنوبي، ولا يزال طريق السودان مطروقا حتى الآن برغم انتهاء تجارة القوافل القديمة، والسلع التي تنقل على طريق العلاقي وجبجبة هي نوع من التهريب السلعي لبضائع موجودة بسعر أرخص في مصر أو السودان، أو سلع محرمة كنبات البانجو المخدر الذي يأتي من السودان - أو ربما تجارة أسلحة مهربة غالبا من السودان إلى مصر.
ويصب وادي العلاقي في النيل في صورة خور واسع، تدخل فيه مياه النيل طول العام لمسافة عدد قليل من الكيلومترات، تزيد أثناء موسم التخزين بحيث يكاد عرض الخور يساوي عرض النهر، ويمكن لغير الخبير أن يبحر فيه خطأ على أنه مسار النهر، وفي منطقة مصب الوادي، وعلى الضفة الشمالية، أقامت الدولة 1934 مشروعا للري الشتوي بالطلمبات، وفي 1952 أضافت الدولة طلمبات للري النيلي، تمتد أرض المشروع إلى نحو ثمانية كيلومترات بحذاء ضفة الوادي مع عرض يسير، ولهذا تبلغ المساحة الإجمالية نحو 950 فدانا، ليست كلها مزروعة لوجود أحواض عالية لم تصلها مياه الطلمبات، أو لعدم زراعتها بواسطة ملاكها الغائبين، وكانت أرض المشروع قد قسمت أحواضا للراغبين في الشراء من كنوز العلاقي وما جاورها مثل المحرقة وسيالة وقورتة وكشتمنة، بسعر عشرة جنيهات للفدان عند بداية المشروع - ارتفعت قيمة الفدان إلى نحو خمسة أضعاف ثمنه الأصلي فيما بعد - مثلا كانت مساحة حوض سيالة 148 فدانا، المزروع منها نحو 5٪ فقط، وحوض المحرقة 131 فدانا نصفها مزروع، أما حوض العلاقي فكان غالب مساحته مزروعا - نحو 500 فدان - ومعظم المحاصيل فول سوداني وقمح وبرسيم وترمس، ولكن إنتاجية الفدان ضعيفة؛ تتراوح حول ثلاثة أرادب من القمح.
الذين يقومون بالزراعة الفعلية في مشروع العلاقي هم عائلات من الكلح وحجازة وقوص «محافظة قنا»، ويقيمون في أكواخ وعشش داخل المزارع، ونظام المؤاجرة العام هو ربع قيمة الإنتاج للمالك، والأرباع الثلاثة الأخرى للمزارع الذي يتكفل بكل العمليات الزراعية ومتطلباتها.
سكان عمدية العلاقي - 1066 شخصا - خليط من مجموعات مختلفة مؤسسة على أنشطة اقتصادية مختلفة، لكنها متكاملة ومتداخلة بحيث يصعب فصلها عن بعضها، فهناك أولا الكنوز أصحاب المنطقة من القدم، وهم أصحاب الأراضي الزراعية والعقارات السكنية وبعض التجارة، فضلا عن العمالة التقليدية خارج النوبة، وهم في الغالب يسكنون النجوع حول مصب وادي العلاقي وجنوبه؛ ابتداء من نجع حسين كوليك، حتى نجع جامع كوليك آخر نجوع العلاقي جنوبا، والمجموعة الثانية هم أبناء الصعيد الذين يقومون أساسا بالعمل الزراعي في صورة مؤاجرين من الملاك، وهم أحدث المجموعات السكانية، لكنهم غالبا أكثر سكان العلاقي عددا، ويسكنون أرض المشروع ونجع خور العلاقي الذي توجد به المحطة النهرية، وأخيرا هناك مجموعتا العبابدة والبشارية، وعبابدة العلاقي هم من العشاباب - شافعاب وسيداناب وعبديناب ... إلخ - ويبلغ عددهم نحو مائتي شخص، أما البشارية فهم من عشيرة «ملك» وهم 12 بيتا فقط، وكانوا يسكنون منطقة الدكة على البر الغربي للنيل ، لكنهم انتقلوا إلى العلاقي بعد نزاع مع أهل الدكة، وأغلب العبابدة والبشارية يسكنون النجوع الشمالية من عمدية العلاقي، مثل نجع جبل حياتي ونجع كوبان، وهم يمتلكون أعدادا كبيرة من الجمال - نحو 120 رأسا - ويرتحلون في أشهر الشتاء إلى المراعي الداخلية في أودية وآبار القليب وأحيمر والمرة وأنجات وتلعت عابد والطويل ... إلخ، وبعضهم يتوجه إلى السودان في تلك الفترة.
وتتميز العلاقي بظاهرة تجمع عدد من المزارات لأولياء لهم شهرة في النوبة الوسطى، على رأسهم قبة الشيخ عبد الله أبو يوسف، ومزار الست قباب - هم كانوا خمسا عند زيارتنا - ومزار سيدي شرف، ولهؤلاء موالد سنوية تتجمع وتتوالى من منتصف شهر شعبان حتى نهايته، ويأتي الناس في مراكب شراعية أو صنادل من قرى متعددة في دائرة نصف قطرها نحو 30-40 كيلومترا، ويبيت المحتفون ليلة على الأقل، وترتبط بعض المزارات بقصص عن منشأ إقامة القبر أو القبة، والكثير من هذه القصص - مثل قصة الشيخ يوسف في العلاقي أو الشيخة أم رايد في سيالة - تبدأ مع انتقال المساكن في 1933 بعد التعلية الثانية لسد أسوان، مثلا كانت هناك سنطة قديمة في أرض نجوع العلاقي القديمة قطعت ونقل جزء منها على مركب، وأخذ بعض الناس أجزاء أخرى، لكن المركب غرق والحرائق شبت في بيوت من أخذ جزءا من خشب السنطة، ونظر الناس إلى هذه الحوادث على أنها إشارات خفية لولي من الأولياء، فأخذوا في حفر الأرض حول مكان السنطة، فوجدوا جثمان رجل وجواره جثمان سيدة وطفل، وأخذ الناس جثمان الرجل وبنوا عليه قبرا وقبة، هي قبة الشيخ يوسف التي أصبحت مزارا مهما، وفي قصة أخرى أن هذا كان جثمان الشيخ شرف، وأن جثة الطفل والسيدة تفككت إلى مجموعة عظام بعد أن كشف عنها وتعرضت للهواء، بينما لم يحدث ذلك لجثة الشيخ، وهنا إذا خلط بين الشيخ يوسف والشيخ شرف، والأغلب أن الاسم أطلقه الناس كيفما اتفق، فلم تكن هناك معرفة سابقة به كولي له كرامات، لكنه أصبح كذلك وخاصة عند النساء اللاتي يطلبن الحمل.
وهناك نشاط اقتصادي كبير في موسم الموالد هذه؛ فالكثير يقدمون ذبائح متعددة نذورا أو تبركا، والأكل كثير يوزع على جميع الموجودين، وهناك عطايا مالية تعطى لأمين صندوق النذور تنفق في مصاريف الأكل والذبائح، وهناك تجار متنقلون يحملون معهم سلعا مختلفة من أقمشة وأوان ومصابيح وصحون وألعاب الأطفال وحلوى، وتلقى الخضروات الطازجة من إنتاج أرض المشروع رواجا كبيرا، يشتريه الناس قبل ركوب المركب عائدين إلى قراهم، كذلك يعرض البشارية والعبابدة منتجات الخوص من الأبراش التي تصنع خلال تجوال الشتاء في الجبال من جدائل نباتات صحراوية.
وهكذا تتجمع عدة عوامل معا تأسست عليها أهمية العلاقي: فهناك العوامل الجغرافية الطبيعية المتمثلة في التقاء الوادي بالنيل، وهناك العلاقات المكانية التي تربط العلاقي بالسودان والبحر الأحمر وسكان البادية، وهناك المشروع الزراعي الذي أتى بأبناء الصعيد، وهناك أخيرا دور الأولياء في تجميع مكاني موسمي لسكان النوبة الوسطى مع نشاط اقتصادي مكثف خلال فترة المولد السنوية.
تركنا العلاقي في اتجاه سيالة في الثانية بعد الظهر، وفي خلال هذه المسيرة بدأت فكرة كتابة هذه الرحلة باسم «30 يوم على النيل في النوبة المصرية»، وأخذنا نعدد ما يمكن تدوينه في هذا الكتاب من انطباعات ومشاعر ونوادر؛ مثل قيادة القارب ومباهجها ومتاعبها وأخطارها خلال وقت الفيضان، التحية التقليدية المتبادلة بيننا وبين ما نقابله من صنادل ومراكب على النيل، بيوت النوبة التقليدية واتساعها ومعمارها وكأنها الماضي الحي لتقاليد سوف تندثر تحت مياه بحيرة السد العالي، وتغرق معها هذه البلاد ذات الجمال الطبيعي النادر في وادي النيل، حيث تنسجم ألوان شتى من إطارات الخضرة تفصل أو تصل بين النيل العسجدي والرمال الذهبية والصخور الداكنة البنية، والكل ترصعه نجوع النوبيين البيضاء كالعقد في جيد الحسان، والناس يختلفون بين السكان الأصليين في جلابيبهم وعمائمهم البيض فوق الوجوه السمر، وبين البشاري والعبادي الراعي في سرواله الطويل، يقف على ساق ويستند إلى عصاه التقليدية، ينظر إلى الإبل ترعى ويحدق في لا شيء، بين النظرة الوادعة لكبار السن من النوبة وقد عركتهم الحياة ومنحتهم الحكمة والسكينة، وبين نظرة الراعي الشاب المتوجس المترقب لأي طارئ يداهمه كأنه ما زال في البرية، بين النيل وقت الخزان في اتساع البحيرة ومياهه الساكنة الرائقة شديدة الزرقة، والنيل وقت الفيضان يجري ضيقا في عنف وضراوة في ألوان متعددة بين البياض والحمرة، والمياه وقت الظهيرة تكاد تغلي وتفور، تعكس ومضات من الضوء كأنها آلاف من قطع الزجاج المتكسر! أشياء كثيرة متناقضة في انسجام ووئام هي النوبة التي سنفقدها ...
وانتبهنا من أفكارنا على صوت «سارينة» حادة لصندل قوي مر جوارنا دون أن نأخذ حذرنا، وكان علينا إما أن نتجه إلى البر القريب - وربما نغرس في طين القاع - وإما أن نتقبل الأمواج الشديدة التي أثارها الصندل، وفي الحقيقة لم يكن أمامنا سوى الخيار الثاني لضيق الوقت وشلل المفاجأة، وأخذت «لندا» تصعد وتهبط مع الموج وصوت ارتطامها له في القلب صدى ... لكنها صمدت وتمايلت مع الموج المتباعد إلى أن حفظت توازنها بعد دقائق قليلة خلناها لا تنتهي، وكان ذلك أمام جبل المحرقة في منتصف المسافة بين العلاقي وسيالة، وفي فترات الضعف المصري، وخاصة إبان العصرين البطلمي والروماني، كانت المحرقة هي منطقة الحدود المصرية، بينما كانت المنطقة إلى جنوبها نهبا لصراعات وغزوات قبائل البليمي - أجداد العبابدة والبشارية - ومجموعة النوباتي من قبائل الصحراء الغربية، ودولة مروى المتمصرة في شمال السودان الحالي.
منظر جبل المحرقة جميل، فوق الجبل سماء زرقاء صافية، وعند أقدامه أشجار السنط ذات الرأس مظلية الشكل، ثم شريط رملي أحمر، ثم شريط من الخضرة؛ الحشائش وعيدان الذرة، ثم النيل «نجاشي» اللون - كما وصفه أحمد بك شوقي وغناه محمد عبد الوهاب - كل ذلك في مسافات ذات سمك قليل، وعلى البر الغربي كانت «بربا» المحرقة - المنطقة الأثرية - ومناطق صغيرة متناثرة من الزراعات، ومنطقة المحرقة كانت من أفقر مناطق النوبة، وربما كانت كذلك لمئات السنين.
وثمة ملاحظات؛ منها أولا: أن الأشجار بأنواعها تأخذ في الظهور بكثرة ابتداء من المحرقة، وثانيا: أن الأعمدة تبدأ في الظهور في بناء المضايف جنوب المحرقة بحيث تميزها عن بقية أبنية السكن، فهل لهذا معنى أو تفسير معين؟
سيالة
كنا قبل ثمانية أشهر - يناير-فبراير 1962 - قد أقمنا في سيالة في دراسة سابقة، فقد كنا نعرف المنطقة جيدا، ولكننا في رحلتنا الصيفية لم نتعرف على سيالة من قاربنا الصغير إلا بالسؤال، وقد وصلنا محطة سيالة النهرية حوالي الخامسة إلا ربعا، وهالنا التغير الذي طرأ على المنظر العام بين الشتاء والصيف، فهناك مساحات كبيرة من السهل خضراء شجرية كما لو كنا في متنزه طبيعي «بارك لاند»؛ لكثرة الشجر الذي كان غارقا تحت مياه بحيرة الخزان في الشتاء إلا من أطرافه العليا فقط، كانت هناك حركة كثيرة من الإنسان والحيوان: ماعز وخراف كثيرة ترعى، وسيدة تجر وراءها بقرة ممتلئة نوعا، وبعض رجال يركبون الحمير كان منهم ناظر مدرسة المحرقة عبد المنعم الشنتوري، نزلنا في بيت أحد العساكر - نظير مقابل بسيط - في تلك الليلة، فقد كنا نزمع عدم المكوث في سيالة طويلا لسابق معرفتنا بها هي والعلاقى، ولن نطيل الكلام عن سيالة وكورسكو، فقد نشرنا دراسات خاصة بكل منهما في حوليات علمية، واستفدنا منها في كتابة بعض المعلومات في كتابنا هذا (
انظر
قائمة المصادر العربية والأجنبية في آخر هذا الكتاب).
وخلاصة القول أن سيالة تتشابه مع بعض عمديات الكنوز في وجود مجموعة مستقرة من العبابدة، لكن عبابدة سيالة والمحرقة هم من قبيلة العبودين والشناطير، وعبابدة سيالة هم أكبر مجموعة مستقرة من العبابدة في النوبة، ويشكلون نحو 20٪ من سكان سيالة، ويسكنون النجوع الشمالية منها، وهم مستقرون تماما ولم يعد لديهم إبل يحتفظون بها؛ أي إنهم أصبحوا قلبا وقالبا من سكان النوبة الدائمين ويمارسون الزراعة في سواقي حسن سنجر والغرفة والحسنابية وكلدون. أما بقية سكان سيالة فهم من الكنوز من عشيرة الموسياب؛ نسبة إلى الحاج موسى، ومجموعتين صغيرتين هم البديراب - ربما لهم صلة بقبيلة البديرية في إقليم دنقلة - وأم ملوكة الذين هم هجرة من كنوز عمدية دابود - في أقصى شمال النوبة - منذ زمن بعيد، وكل هؤلاء يمارسون أنشطة النوبيين من زراعة وأعمال مهاجرة خارج النوبة.
وجلس رياض يتحدث مع بعض المعارف الذين التقى بهم في الرحلة السابقة ، بينما ذهبت كوثر عند بعض المعارف من النساء؛ لكي تسجل بعض الأغاني، ويبدو أن أهل سيالة يكنون مشاعر قوية لبلدتهم بحيث تظهر في أغنيتهم «سيالة جنة الدنيا»، لماذا؟!
وفي صباح اليوم التالي، وبعد أن ملأنا خزانات القارب بالبنزين، تحركنا في اتجاه المالكي في نحو الحادية عشرة إلا ربعا، وبعد ساعة من الإبحار انتهت منطقة سيالة وبدأت حافة الجبال الشرقية والغربية في الاقتراب من النهر؛ استعدادا للدخول في منطقة عمدية المضيق؛ آخر بلاد الكنوز وأول بلاد عرب العليقات. وفي الواحدة والنصف رسونا أمام ظل شجرة وارفة في أحد نجوع المضيق، واستمتعنا بالغداء في هذا الظل الظليل مع بعض النسمات الخفيفة والنيل أمامنا ضيق فعلا، لكنه لا يبلغ ضيق بوابة كلابشة بأي حال، لم يحضر إلينا أحد من سكان المضيق، فتحركنا في نحو الثالثة صوب المالكي، كل ما لاحظناه في المضيق أن الذرة أطول وأكثف عما شاهدناها من قبل، كما أن الزراعة الصيفية في كل النوبة تتشابه في تنظيم المحاصيل مكانيا؛ الذرة تحتل الواجهة النهرية دائما؛ ربما لاحتياج النبات للمياه أكثر، ثم غالبا أرض فضاء تنمو فيها الأعشاب، ثم محصول الكشرنجيج واللوبيا، وفي نهاية السهل الفيضي تبدأ البيوت القديمة المهجورة منذ 1933، ثم المرتفعات التي تقع فوق منسوب 121 مترا وعليها بنى الناس مساكنهم.
في نحو الرابعة وصلنا منطقة آثار السبوع حيث كانت مخيمات رجال الآثار والعمال تملأ المكان، وفي هذه المنطقة المرتفعة يوجد معبد السبوع - نسبة إلى تماثيل السباع وأبي الهول على طول ممر طويل يؤدي للمعبد - الذي يرجع إلى رمسيس الثاني، وكان مشيدا لعبادة الإله آمون والإله رع حراختي، وقد نقلت إلى السبوع عدة معابد من النوبة السفلى، أهمها معبدا الدكة والمحرقة اللذان يعودان إلى العصر الروماني.
وبعد نحو نصف ساعة وصلنا عمدية وادي العرب وصخورها داكنة اللون، وقد ظهرت أسوار مساكنها مزخرفة بوحدة بناء متكررة في الجزء الأعلى من السور، كأنها شريط بطول السور من الفتحات المربعة الصغيرة، أعلاها فوق البوابة بناء صغير أشبه بثلاثة مثلثات متشابكة، وهذا النمط المعماري هو غير ما شاهدناه في بلاد الكنوز، حيث يغلب رسم وحدات نباتية وأزهار بألوان عدة على الجدران البيضاء، وقرب الشاطئ كانت بعض النساء تسير وهن يلبسن جلابيب سوداء بدون الشقة التي تلتف بها النوبيات، والمنطقة الغربية كلها تكثر بها الرمال الحمراء متداخلة مع الصخور، سرنا فترة أخرى وسألنا من على الشاطئ أين نحن، فقالوا ما زلنا في وادي العرب، ولا زالت المنطقة موحشة فقيرة مناظرها تكاد لا تتغير، وأمامنا على البر الشرقي ظهرت نجوع كثيرة، بيوتها في لون الصخر غير مطلية بالجير وسقوفها مسطحة.
وأثناء السير غير رياض خزان البنزين الخاص بأحد المحركين، وكان الريس محمد عند عجلة القيادة، ويبدو أنه أخطأ طريقة تشغيل المحرك - أو شيء من هذا القبيل - فاشتعل المحرك بعنف مع دخان كثيف، فأسرع رياض بإغلاق مسار البنزين من الخزان إلى المحرك، وتوقف الاشتعال وهدأت الأدخنة، أسرع محمد بالقارب إلى البر، وجلسنا على البر نهدئ التوتر الذي أصابنا بعض الوقت.
المالكي
تابعنا السير بمحرك واحد حتى وصلنا نجع كرونجو - كرنكو أو كرانجو حسب اختلاف النطق - أحد نجوع المالكي الشمالية، حوالي الثامنة إلا ربعا، الضفة الغربية كلها مزروعة بكثافة كما لو كنا في منطقة ريفية بالصعيد، بينما انعكست أشعة الشمس الغاربة على سلسلة جبلية عالية على البر الشرقي فكستها حمرة ذهبية اللون، وأمام كرونجو كانت جزيرة كرونجو الغنية بالخضرة، وبعد نحو عشر دقائق رسونا عند نجع الحمداب، وهو النجع الأوسط في سلسلة نجوع عمدية المالكي.
نزلنا من القارب وأخذنا نخوض في أرض طينية مبللة وسط حقل من الذرة، والضفادع نقيقها عال تفقز هنا وهناك حول أقدامنا، وبعد أن عبرنا حقل الذرة إلى أرض معشوشبة مكشوفة، رأينا بعض أنوار باهتة على البعد في مساكن النجع، وأخذنا ننادي يا «أستاذ هلالي» حين اقتربنا من أسفل النجع، والأستاذ محمد هلالي هو ناظر مدرسة السنجاري لكنه يقطن المالكي، وكنا على مراسلة معه بحضورنا إلى المالكي، وفي السكون الشامل كان صوتنا يدوي عاليا إلى أن رد علينا مجيب كان هو والد هلالي الذي خرج لنا ومعه فانوس يضيء مساحة محدودة، وقال لنا إن ابنه سوف يحضر بعد قليل من السنجاري، وقادنا الوالد تحت السفح الذي تعلوه البيوت حتى نجع البركة، ووصلنا إلى مجموعة طويلة من السلالم الصاعدة إلى مضيفة واسعة ذات أعمدة بيضاء طويلة، حيث قابلنا الأستاذ عوض أفندي صاحب المضيفة مرحبا، وبدا لنا عوض أفندي في ضوء الفوانيس المحدود كراهب من رهبان الديانة البوذية في سرواله الأبيض وصلعته اللامعة، وفي الفراندة الكبيرة للمضيفة أنعشتنا نسمات حلوة ونحن نتلقي كلمات الحفاوة الكريمة من والد هلالي وعوض أفندي، ونرد التحية بما قدر لنا، ولكنا كنا مبهورين بالمنظر البانورامي الشامل أسفلنا، ففي الظلمة العامة كانت هناك درجات عالية من الدكنة تمثلها ظلال الجبل الشرقي، ودكنة أقل حول دوائر النور الباهتة التي تنبعث من بعض البيوت على طول خط الهضبة، كما لو كانت حافة الكون التي يمثلها نجوم درب التبانة أو الطريق اللبني.
وفي الصباح ذهبنا إلى القارب نقوم ببعض الترتيبات ونعطي للريس محمد إفطارا، ودخلت كوثر بعض البيوت للتعرف والمحادثة ورسم مخططات البيوت، وكان بيت عوض أفندي خلف المضيفة محاطا بسور ضخم من الحجر الأصم، كما لو كان سور قلعة حصينة، ويمتد السور في شكل مربع طول الضلع نحو 30 مترا، وحوش واسع في وسطه بناء للمزيرة، وإلى جانب الأسوار امتدت غرف عديدة للنوم ذات شبابيك طليت باللون الأخضر، ومخازن للعلف الحيواني، والمطبخ، ومكان مظلل يستخدم مضيفة للنساء، وأماكن لربط البقر والماعز والغنم والحمير، وإلى جوار البيت كان هناك دكان التجارة التي يمارسها عوض أفندي بعد أن تقاعد من عمله في حكومة السودان.
وبعد الغداء توجه رياض بالقارب مع الأستاذ محمد هلالي إلى السنجاري عبر النهر وزار دخلانية السنجاري، وكما يدل اسمها فإنها تقع في الداخل عبر خور مائي ضيق يشق الحافة الجبلية لا يكاد يبين إلا لمن يعرف المنطقة، ويلتوي الخور وسط حافات صخرية عالية جرداء من الحجر الرملي النوبي الذي يضرب لونه إلى الاحمرار، تنحدر بزوايا حادة إلى الماء، ثم تنفرج الصخور عن مكان متسع مليء بالنخيل وزراعات الأهالي وأشجار السنط، كما لو كانت واحة مجهولة وسط اللامعمور، وتمتد بيوت النجع على المنحدرات الهينة، وهي أكثر نجوع السنجاري سكانا؛ 242 شخصا من مجموع 475، هم كل سكان السنجاري.
وكان علينا أن نرسل عشاء للريس محمد، فنزلنا من المضيفة في الظلام ومعنا بطاريتان، وتحسسنا طريقنا وسط الحجارة والرمال والأرض الطينية ذات الشقوق الكثيرة، إلى أن بلغنا حقل الذرة إلى ضفة النهر، وننادي على محمد فلا من مجيب، ونعرف أننا أخطأنا فنعود أدراجنا وسط الذرة والضفادع تقفز بين أرجلنا، إلى أن نصل إلى مكان مكشوف فنعاود السير شمالا، ثم نخترق غابة الذرة إلى الضفة وننادي فيرد محمد ونمشي في الطين السميك ونعطيه عشاءه، وفي العودة ضللنا الطريق صعودا ودرنا حول حديقة مسورة وصعدنا هضبة بمشقة إلى أن وجدنا مجموعة السلالم المؤدية للمضيفة، وحين نظرنا إلى المضيفة من أسفل كانت مضيئة كالمعبد الإغريقي بأعمدتها البيضاء.
والمالكي هي أكبر عمديات عرب العليقات، وتشتمل على 17 نجعا كان سكانها 1281 شخصا حسب تعداد 1960، وهي أغنى قرى العليقات؛ لأنها تحتل الضفة الغربية للنيل بعد ثنية كورسكو؛ ومن ثم فهي منطقة إرساب للطمي، بينما النهر ينحت على الجانب الشرقي عند عمديتي السنجاري وشاتورمة؛ لهذا فالسهل الفيضي كبير في المالكي، بل كان يزداد بنمو بعض الجزر الشاطئية كجزيرة كرونجو، أما بقية عمديات العليقات فتقع في مناطق جبلية ذات ضيق في سهولها الفيضية، باستثناء وادي العرب الذي قال عنه الرحالة بوركهارت 1812م إنه «زكى الزرع»، والغالب أن بلاد العليقات هي من أفقر أجزاء النوبة؛ ولهذا سهل على العليقات كبدو رحل الاستقرار الكامل فيها، ويعوض الفقر البيئي للمنطقة أنها كانت تقع على الدروب الصحراوية المتجهة إلى شمال السودان؛ ومن ثم كانت مهنة دلالة القوافل التجارية بين مصر والسودان مصدرا أساسيا لحياة العليقات فترة طويلة من الزمن، مثلهم في ذلك مثل بعض عشائر العبابدة التي سبق ذكرها، ويؤكد العليقات انتسابهم إلى عقيل بن أبي طالب، ولهذا طلبوا من الحكومة تغيير اسمهم إلى العقيلات، وسنعود إلى هذا الموضوع في القسم الثاني من هذا الكتاب.
الفصل التاسع
قراءة الماء
فيما سبق تكلمنا عن بعض المشكلات التي تعرضنا لها أثناء إبحارنا في النيل، وفي بقية الرحلة إلى توشكى والعودة منها إلى كلابشة سوف تصادفنا لحظات حرجة كثيرة، تصل بنا إلى حدود الخوف والفزع، وربما كان هذا هو الوقت المناسب الذي نتكلم فيه عن هذه التجارب غير السارة تحت عنوان «قراءة الماء»؛ لأن تصفح وجه النيل بشكل دقيق هو الطريق الآمن لملاحة سالمة.
بدأت بنا رحلة السفينة «عمدا» من غرب سد أسوان، وأثناء بداية سيرها الوئيد شاهدنا سيدتين من أهل النوبة تجذفان قاربا صغيرا - فلوكة - وحدهما عبر الاتساع الكبير للنيل جنوب السد مباشرة، ودهشنا للحنكة والقوة التي كانت تظهر في تسييرهما القارب في ممرات مائية بين عشرات الجزر الجرانيتية التي تملأ مسار النيل، هذا المنظر الفريد هو قليل الحدوث في معظم بلاد النوبة، باستثناء المنطقة الشمالية وخاصة في منطقة الشلال، وبسبب صعوبة الملاحة بين جزر الشلال وصخوره الظاهرة والغاطسة وممرات الماء المندفعة بين الصخور والدوامات التي تتكون نتيجة سقوط الماء سنتيمترات معدودة؛ أصبح «الشلالية» - سكان منطقة الشلال - وكذلك سكان أمبركاب؛ مشهورين بإتقان فنون الملاحة وقراءة الماء، لا يكاد ينافسهم فيها أحد، لدرجة أن معظم قباطنة السفن في النوبة هم من منطقة الشلال، ومعظم ملاحي مراكب الشراع من أمبركاب.
أشكال الماء ومدلولاتها
وقراءة الماء خبرة تكتسب بكثير من المران على مر الزمن، وقد أعطاني أحد البحارة من منطقة أمبركاب - التي هي منطقة ملاحة وعرة - بعضا من الخبرة في قراءة الماء، مثلا المياه الساكنة قد تبدو لأول وهلة مياها جيدة للملاحة النهرية، لكنها في الحقيقة مياه خطرة؛ لسببين: فإما أنها مياه عميقة تحف بها صخور سفلية فيما يشبه الخندق، وتصبح من مولدات الدوامات في طرفة عين؛ وإما أنها تتكون نتيجة جسر صخري غائر على عمق قليل، وفي هذه الحالة تسحب المياه القارب ببطء، ثم بسرعة شديدة حتى يرتطم بالجسر الصخري العائر، فتقلبه أو تلقي به إلى دوامة كبيرة سريعة تجعل القارب تحت رحمة الماء، وهناك منعرجات كثيرة مليئة بالدوامات الخطرة التي يزيد قطر الواحدة منها عن خمسة أمتار، وتنفتح مراكزها في صورة ماصات - شفاطات - واسعة عميقة لها صوت غير محبوب، والغالب أن هذه الدوامات لا تتكون فرادى، بل في مجموعات تسلمك إحداها للأخرى، بحيث تستطيع أن تخل بتوازن المراكب الصغيرة أو تقلبها!
وفي وقت الفيضان يصبح لون مياه النيل بنية طينية في درجات لونية مختلفة؛ اللون الغامق هو ما كان في الجزء الأوسط من النهر، حيث التيار الجارف قادر على أن يحمل معه ذرات الطمي، بينما يصبح رائقا بعض الشيء قرب الضفاف، وقد تنعكس على صفحته خضرة المزروعات القريبة من الضفة، أو صفرة التلال الرملية، أو دكنة الصخور الجرانيتية، وبعض حمرة صخور التكوينات النوبية. وإلى جانب هذا كله تظهر أشرطة من الماء تبدو بيضاء أو زرقاء باهتة، وهي تعبر عن مياه عميقة خطرة على الملاحة؛ لأنها تولد دوامات في أحيان كثيرة إذا ما صادفت حاجزا طينيا أو صخريا غائرا تحت السطح، والسير ضد تيار الماء الجارف فيه الكثير من المجازفة، ولا يجب عبور النهر في خط عمودي، بل بزاوية يقدرها الملاح حسب قوة دفع التيار المائي، كما أنه ليس مستحبا عبور النهر وقت الظهيرة؛ لأن الماء يبدو وكأنه يفور ويغلي نتيجة التسخين الشديد للماء وتبادل المياه السطحية والعميقة في نحو الفترة بين الثانية والرابعة بعد الظهر، ويؤدي الفوران إلى انعكاسات الضوء المبهر من كل مكان على سطح الماء، والخلاصة أن التيار والفوران يؤديان إلى إبطاء واضح في حركة القوارب؛ مما يستدعي جهدا على المحركات واستهلاكا زائدا للوقود.
وأحسن مياه للإبحار هي المياه الجانبية التي يسميها البحارة «الليان»؛ حيث تقل سرعة الماء نتيجة للاحتكاك بالضفاف والقاع غير البعيد، ولكن هناك خطورة بالنسبة لقوارب المحركات التي تغوص مراوحها أسفل قاع القارب؛ مما يؤدي إلى تعلق المراوح بالطين، أو الاصطدام بأي بروز ناتئ يؤدي إلى توقف المراوح أو التوائها، أما المراكب الشراعية فهي آمنة في الليان، ومع ذلك فإن السير في الليان - مع مراقبة شكل الماء وسبر غوره بين الحين والآخر بالمدراة - أحسن من السير ضد التيار أو مناطق الدوامات.
ونحن كجغرافيين نعرف أن الشواطئ البحرية التي تنحدر بشدة إلى البحر تقابلها مياه عميقة، والشواطئ المنحدرة في يسر تقابلها مياه ساحلية ضحلة، وقد جازفنا باستخدام هذه المعلومة بالنسبة لضفاف النيل، وحاولنا إثبات ذلك للريس محمد، فكنا نقترب بدرجة ما من الضفاف التي تنزل بانحدار كبير إلى مياه النهر، ونبتعد عن الضفاف المتدرجة الانحدار، وكان الريس محمد يقيس عمق المياه في كل حالة بالمدراة إلى أن لاح اقتناعه، ربما ظاهريا، ونرجو ألا يفهم أننا كنا نقترب من الضفاف الصخرية، بل كنا نبعد عنها قدر الاستطاعة؛ لأن قاع النهر المجاور لمثل تلك الضفاف غالبا ما يكون مليئا بمفتتات الصخر بأحجام مختلفة، بل إن تجربتنا كانت مرتبطة بالضفاف الطينية فقط، فبعضها كان في شكل جرف يعلو مترين أو ثلاثة أمتار نتيجة النحت النهري، وبعضها ينحدر هينا إلى الماء، ولا شك أنه من الأفضل أن يصطدم القارب بنتوء طيني في الليان بدلا من الصخور والأحجار، ولسنا نزعم أننا أصبحنا ملمين بقراءة الماء؛ لأن ذلك يقتضي أضعاف الوقت الذي قضيناه على سطح النيل، وإنما أدركنا بعضا من كل.
وقراءة الماء في الحقيقة ليست إلا مرشدا عاما لضمان الملاحة في سلام، وهي بمثابة الأبجدية النافعة في أحيان كثيرة، ويجب أن يضاف إليها معلومات كثيرة عن اتجاه النهر: أين ينحت وأين يرسب، واتجاه الريح مع التيار أو ضده في قطاعات مختلفة من مسار النهر، وتتبع أحداث غرق مراكب أو صنادل، كل هذه وغيرها من معلومات ضرورية للملاح الماهر، إلى جانب قدرته على قراءة الماء.
وقد سبق أن ذكرنا أن الريس محمد علي شاجة قد صحبنا طوال الرحلة ذهابا وإيابا، وفي البداية كنا نظن أنه خبير بالملاحة في كل أجزاء النوبة، لكنه قال لنا، فيما بعد، إنه لم يطرق النوبة جنوب أمبركاب منذ سنوات طويلة، ومع ذلك قادنا بحكمة واقتدار في ضوء القمر في منطقة بالغة الخطورة؛ هي بوابة كلابشة الصخرية، ونتيجة لتقادم العهد بسفره في بقية النوبة، كان علينا أن نسأل باستمرار رؤساء المراكب التي نمر بها: أين نسير، البر الشرقي أم الغربي؟ وهل هناك دوامات أو حجارة أو جسور غاطسة؟ وأين؟ والحقيقة أن وجود الريس محمد معنا كان في غاية الفائدة، فهو من الكنوز، ومعظم المراكبية من الكنوز؛ ولذا كان سهلا التخاطب والحصول على المعلومات على وجه الدقة، وبناء على المعلومات كان ينبهني إلى المسار الصحيح، ولم يقتصر السؤال على المراكبية، بل كان يسأل الناس على البر إذا وجدنا بعضهم، ومن الطرائف التي يمكن تسجيلها أن محمدا سأل فتاة على البر أين نحن واسم النجع التالي، كل ذلك بالماتوكية لغة الكنوز، فلم تجبه الفتاة مباشرة وردت عليه بعد ذلك بالعربية، وللحظة ظن محمد أنها تكلمه بالماتوكية، وحاول أن يفسر ما تقول فلم يستطع، ولاعتيادنا نحن أن هذه كانت مهمة محمد فلم نكن نصغي كثيرا للكلام المتبادل، لكنا لاحظنا حيرة محمد وانتبهنا، فسمعنا الفتاة تتكلم بالعربية، فأدركنا أننا تركنا منطقة الكنوز ودخلنا منطقة عرب العليقات، وكان ذلك في أحد النجوع الجنوبية من عمدية المضيق التي يختلط فيها الكنوز والعرب.
عقبات ملاحية صنع الإنسان
وإلى جانب العقبات الطبيعية سالفة الذكر كانت هناك عقبات أخرى من صنع الإنسان في الماضي؛ هذه هي البيوت القديمة التي هجرها عند إنشاء سد أسوان وتعليته، وكذلك السواقي التي كانت تنتشر في النوبة منذ أكثر من ألف عام، والسواقي بنايات محكمة أكثر من البيوت، باعتبار أن مواقعها من الأرض التي ترويها ثابتة، بينما البيوت يمكن أن تهدم وتقام محلها بيوت أخرى على مر الزمن؛ لهذا فإن مخاطر السواقي أكثر على الملاحة من جدران بيت إنهار سقفه وتآكلت أسسه، والساقية عبارة عن برج متين لتثبيت التروس والعجلات الخشبية وأرضية دائرية لمسار الأبقار مدكوكة بفعل أقدام الحيوان، ويرتفع البرج بقدر يتناسب مع ارتفاع الأرض التي ترويها الساقية بواسطة قناة مبنية فوق حائط مقوى بمداميك، وتنتهي القناة عند أعلى منسوب للحقول ثم تنساب منها المياه في مساق إلى الحقول العليا ثم السفلى، والغالب أن ارتفاع برج الساقية في حدود تتراوح بين ثلاثة وخمسة أمتار فوق مستوى النهر، ويجتهد الناس في إصلاح وتقوية بناء الساقية بصفة مستمرة؛ لأنها مصدر الحياة للأراضي الزراعية في المناطق ذات التضاريس الوعرة المرتفعة، مثل أراضي عمدية قرشة التي اشتهرت من زمن بعيد بسواقيها العديدة ؛ ولهذا يخشى الملاحون من قباطنة بواخر البوستة إلى ملاحي المراكب والصنادل مياه «بحر قرشة» كما يسمونه، والذي يمتد نحو ستة كيلومترات أو أكثر، وليست الخشية طول السنة، بل هي أكثر ما تكون خلال بحيرة الخزان؛ لأن أبنية السواقي تكون غاطسة تحت المياه، بينما تكون ظاهرة خلال أشهر الصيف الثلاثة، حينما تكون مياه الخزان قد أفرغت وهبط منسوب الماء بمقدار نحو 12 مترا؛ ولهذا أمكننا التغلغل في مياه بحر قرشة دون التعرض لمخاطر غير مرئية خلال رحلتنا الصيفية.
وهنا يجب أن نضيف عقبات بشرية أخرى ناجمة عن غرق المراكب والسفن: أين بالضبط، وحجم المركب الغارق وحمولته، وما إذا كان غطس تماما أم شحط على جزر طينية غاطسة، فمثل هذه المراكب سرعان ما يتراكم عليها أرساب الطمي، وتكون عائقا ملاحيا وقت نزول النيل، وأخبار هذه الحوادث تنتقل شفاهة عند حدوثها بسرعة كبيرة إلى أسماع القباطنة، فيدرجون المكان في القائمة السوداء التي في أذهانهم ليتجنبوها.
الرياح العاصفة وأمواج عالية
وأخطر عقبات الملاحة في النوبة هي الرياح الشمالية الشديدة، لكنها لحسن الحظ ليست متكررة الحدوث، وحين تهب تزداد قوتها إذا كانت الحافات الجبلية قريبة من مسار النهر، فتصطدم بتيار النهر الذي يجري في اتجاه شمالي، وتحدث هياجا وأمواجا لا يمكن تصورها على أنها أمواج نهر، ولقد صادفنا مثل هذا الجو العاصف أثناء عودتنا عند الحافة الصخرية في منطقة أبوهور، كانت الأمواج تضرب الزجاج أمام عجلة القيادة ضربا شديدا، وتترك رقائق من الطمي الذي يحجب الرؤية؛ مما دفعنا إلى فتح الزجاج كي نرى أين نسير، وتدفق بعض الماء إلى داخل القارب، وأعطانا رشاش الموج حماما طينيا لا ننساه! وبطبيعة الحال كان القارب يتأرجح بشدة، وتصعد المقدمة عشرات السنتيمترات مع الموجات الثقيلة، ثم يسقط القارب بصوت خلنا معه أن بطن القارب سينشق، وترتفع المؤخرة بما فيها مراوح المحركات لحظات قصيرة نفقد فيها قوة الدفع والتوجيه، ثم هكذا دواليك، وزاد من حدة المشكلة أن النظارة الطبية كانت تغطى بالطين ونحتاج إلى تنظيفها باستمرار، والخلاصة كان القارب أشبه بحصان فقد راكبه، أو كقطعة فلين تائهة وسط خضم هائل، واستمر هذا الحال قرابة نصف ساعة من الخوف والقلق إلى أن نجحنا في العبور من الجانب الشرقي إلى الجانب الغربي، حيث الريح والموج أخف وطأة، ونزلنا البر نريح المحركات الباسلة وأعصابنا المشدودة.
وإذا كانت الرياح الشديدة قد لعبت بقاربنا الصغير ما شاء لها، فإنها تفعل أكثر من ذلك بالنسبة للبواخر الكبيرة، فأخشى ما يخشاه قباطنة البواخر مثل هذه الرياح العاتية والأمواج التي تحدثها؛ ذلك أن هذه البواخر النيلية ليست ذات غاطس عميق، بل إنها ذات قاع مسطح لكيلا تنغرس في الضفاف الطينية حين ترسو في محطاتها العديدة، وقد حدث لنا ما يوضح هذه المخاطر، فبعد أن أتممنا دراستنا في سيالة في يناير-فبراير 1962، حجزنا على البوستة المتجهة إلى الشلال، والتي تقلع من سيالة قادمة من وادي حلفا يوم سبت العاشرة صباحا، وفي مساء الجمعة كنا قد أعددنا حقائبنا وحاجياتنا؛ استعدادا للسفر صباح اليوم التالي، ونصحنا ناصح أن نبقي أغراضنا بالمنزل، وحين تظهر الباخرة يمكن أن نأتي بالأغراض إلى مكان رسوها قبل أن ترسو - يلاحظ أننا كنا في الشتاء، ومنسوب الماء عال، والمسافة قصيرة بين النجوع والمرسى - وفعلا أخذنا نترقب البوستة منذ التاسعة ومعنا جمع من الناس لوداعنا ولأسباب أخرى، ومضت العاشرة ولا أثر للباخرة، واتصل وكيل البريد بمحطة المضيق فلم تكن الباخرة قد وصلتها، واتصل بمحطة وادي العرب فقيل إنها سافرت متأخرة، وفي الثانية عشرة لم تكن الباخرة قد وصلت المضيق، ولما كانت الرياح قد أخذت تشتد منذ ظهر الأمس، فقد فسر لنا الناس التأخير بأن الباخرة لا بد وأنها رست في السبوع - بين وادي العرب والمضيق - لتجنب الجو السيئ، وتساءلت: هل يوقف الريح مسار هذه الباخرة المستندة إلى صندلين كبيرين عن يمين وعن يسار؟ قيل لي: نعم؛ فالقبطان لا يستطيع تحمل مسئولية جنوح السفينة في هذا الهواء، وفي ذلك الحين تعجبت أن يفعل الهواء بمياه النيل المحدودة مثلما يفعل في البحار - ولكننا بعد تجربتنا في منطقة أبوهور أدركنا هذه الحقيقة تماما - ولم تظهر الباخرة طول السبت، ونمنا نوما متقطعا؛ خوفا من مجيئها ليلا ونضطر إلى الإقامة أسبوعا آخر، وفي الثامنة صباح الأحد صاح وكيل البريد أن الباخرة في الطريق، وخلال رحلة العودة تحدثت مع القبطان الذي قال إنه أرسى الباخرة في منطقة رملية قرب السبوع منذ الثانية ظهر الجمعة، وللأسف فإنه لا يوجد تليفون في السبوع يمكن من إبلاغ المحطات الأخرى أين هو. وذكر لي أن قبطانا جازف بالسفر تحت ريح متوسط القوة في منطقة توماس والدر، فانفصل أحد الصندلين وانقلب وفقدت الباخرة توازنها وأوشكت على الغرق، لولا أنها كانت قريبة من توماس، فأسرع بالرسو فيها، ولكن بعد وقوع خسائر وضحايا كثيرة - الصنادل غالبا محملة بالبضائع وركاب الدرجة الثالثة معا.
ولعلنا بهذه الأسطر القليلة قد أوضحنا للقارئ شيئا عن المصاعب التي تواجه الملاحة في النيل النوبي، في موسم الفيضان وموسم ارتفاع منسوب المياه في الشتاء والربيع، وكل ما كتبناه هنا ليس إلا جزءا يسيرا مما يحتفظ به القبطان أو الريس في ذاكرته، فتصبح المعلومات جزءا لا يتجزأ من الملاح نفسه.
ويؤدي هذا إلى أن يتمكن القبطان من السير بباخرته في أحلك ساعات الظلمة وفي أخطر الأماكن دون قلق كثير، فهو يمضي قدما بالباخرة في الدكنة التي لم يتعودها غيره، ويطفئ الأنوار الكاشفة تماما ويحس طريقه دون وجل خلال ظلام، لا أستطيع أنا وأنت أن نميز فيه أين ينتهي النهر وأين يبدأ البر، وربما تظن أن النجوع بأنوار مصابيحها الكيروسينية تحدد مجرى النهر، ولو كان الأمر كذلك لكان المنظر أكثر من أن يكون رائعا، لكن سكان بلاد النوبة قوم ينامون مبكرين، ولا يسرفون في استخدام المصابيح كثيرا، كما أن الشبابيك مصنوعة من ألواح خشبية قطعة واحدة، لا تترك بصيصا من النور يطل على هذا الكون المظلم، الذي لا نرى فيه سوى إشعاعات ماسية ضئيلة من النجوم التي ترصع السماء بكثرة لا نلحظها في المدن، وإشعاعات هذه النجوم ثابتة قليلة التلألؤ؛ لصفاء السماء من أبخرة المدن والغازات التي تغلف جوها. وعلى هذه الأضواء الشاحبة جدا، قد نلمح على البعد أشباح التلال وحافات الهضبة تحف في سكون الأفق الرحيب أمامنا.
والخلاصة أن القباطنة ورؤساء المراكب والصنادل يسافرون وفي أذهانهم «كمبيوتر» مرسوم بالخبرة والتجربة «والباقي على الله»، والعبارة التي يرددونها دائما هي «السفر تساهيل»؛ ردا على استفسار: متى نصل المحطة التالية؟
الفصل العاشر
من المالكي إلى الدر وتوشكى
بعد شاي الصباح في مضيفة عوض أفندي ذهبنا إلى منزل الأستاذ هلالي لأخذ أغراضنا، ثم توجهنا بالقارب إلى نجع البوستة، حيث تزودنا بالوقود وأخذنا صفائح أخرى للاحتياج طوال الطريق، وفي التاسعة تحركنا بعد أن اتفقنا مع الأستاذ هلالي على زيارة السنجاري في طريق العودة، وبعد نحو ساعة ظهرت كورسكو شرق تحت أقدام جبل كورسكو المخروطي، وهو معلم من المعالم الرئيسية في الملاحة النوبية لارتفاعه - 267 مترا فوق سطح البحر و155 مترا فوق منسوب النهر - وترتفع جبال السنجاري وشاترمة إلى 290 مترا، لكنها تمتد في صورة حائط عال، بينما يقف جبل جورسكو منفردا بين جبال السنجاري وأبو حنضل.
ولكن هناك أهمية ملاحية أخرى لجبل كورسكو؛ فهو إشارة إلى بداية انحناء النهر إلى الشمال الغربي، بعد أن كان النهر يسير في اتجاه عام إلى الجنوب، ويستمر النهر في هذا الاتجاه حتى بعد الدر بقليل مسافة نحو 30 كيلومترا، هي مسافة ليست كبيرة، لكنها شديدة البأس على الملاحة، خاصة في موسم الفيضان؛ حيث تتجمع قوة تيار الماء والرياح الشمالية على إعاقة الملاحة الشراعية تماما، وهو ما يؤدي إلى استعانة مراكب الشراع بأسلوب «جر اللبان»؛ أي يجرها الملاحون بالحبال من البر، وهي عملية شاقة جدا، وبطيئة لدرجة لا توصف، وقد قابلنا في الدر مراكب قطعت المسافة من المالكي إلى الدر في ثمانية أيام، بينما قطعناها نحن في أقل من ست ساعات ، وتكون مراكب الشراع محظوظة إذا جرتها الصنادل إلى الدر.
كانت الرياح الشمالية في مواجهتنا وتيار الماء القوي يتسبب في بطء حركة القارب، فضلا عن وجود دوامات كثيرة تدفعنا إلى تغيير مسار القارب في صورة مستمرة لتجنبها، وعبرنا النهر إلى الضفة الشرقية بعد أن تجاوزنا كورسكو شرق بقليل، وبدأت أجمات خضراء تظهر بكثرة ابتداء من أبو حنضل، متكونة من أشجار السنط ونخيل الدوم جميل الشكل ونخيل البلح سامق الطول، وفي الحادية عشرة مررنا بسفينة البوستة أمامنا على البر الغربي، والنيل في هذه المنطقة يبدو ضيقا؛ لوجود جزيرة غاطسة أمام أبو حنضل تهدئ من سرعة التيار، وتجعل المياه في الجزء بين الشاطئ والجزيرة الغارقة ساكنة رائقة كما لو كنا في فترة الخزان الشتوي، تنعكس عليها صورة الجبل وخضار الأشجار، بينما الشاطئ الغربي تنعكس عليه ألوان حمرة الرمال القادمة من آلاف السنين من الصحراء الغربية.
وهنا يجب أن نوضح أن الغرب والشرق في المنطقة من كورسكو حتى الدر هي تسميات محلية ليس لها صلة بالتوجيه الجغرافي، بل هي العكس تماما؛ فمصطلاح غرب وشرق عند أهالي المنطقة هو استكمال لنفس التوجه في بقية النوبة، حيث الشرق شرق والغرب غرب، أما هنا في هذه المنطقة فإن التسمية شرق هي في الحقيقة غرب، والغرب هو في الحقيقة شرق حسب اتجاه البوصلة؛ والسبب في هذا راجع إلى النهر يقلب اتجاهه العام؛ فبدلا من الاتجاه إلى الشمال والشمال الشرقي، يتجه إلى الجنوب والجنوب الشرقي من الدر إلى كورسكو، ولكن بالنسبة للأهالي فإن الضفة اليمنى هي شرق واليسرى هي غرب، بغض النظر عن حقيقة التوجه بالنسبة إلى الجهات الأصلية.
وفي أثناء سيرنا كان الريس محمد جالسا في مؤخرة القارب يدندن بأغان نوبية، ورياض يقود القارب ويتطلع من حين إلى آخر إلى كروكي رسمناه للمنطقة موضح عليه معلومات ملاحية نقلا عن سكان المالكي والسنجاري: علي أي بر نسير في منطقة كذا، وأين تكثر الدوامات والتيارات القوية والعقبات ... إلخ؛ لهذا كثر انتقالنا من الضفة الشرقية إلى الغربية وبالعكس، وفي الحادية عشرة والنصف نزلنا البر الشرقي «الأيمن» لنغير خزانات الوقود، وصادفنا سيدة قالت لنا إننا على الحدود بين أبو حنضل والديوان، ونبهتنا إلى أن النيل على هذا البر خطر وتياره شديد جارف، وحين عبورنا النهر - كما أشارت السيدة - وجدنا فعلا أن المياه الملساء ثقيلة على المحركات، وبعد أن ابتعدنا أخذ القارب يسرع على الماء الذي تظهر على صفحته بعض الحركة والموجات الخفيفة.
منطقة الديوان على البر الشرقي منبسطة في امتداد طويل، لا يفصل بين نجوعها العديدة فواصل طبيعية كالألسنة الجبلية التي تفصل النجوع في معظم بلاد الكنوز والعليقات، والحافة الهضبية في الديوان تظهر بعيدة في الأفق، والسهل الفيضي تغطيه خضرة المزروعات والأشجار الكثيرة، أما البر الغربي فإنه كان قليل السكن، بالرغم من وجود سهل كبير الامتداد، لكنه متأثر بتراكم الرمال، وبعد الظهر بقليل أرسينا على البر الغربي، وتناولنا غداء سريعا مما لدينا من أغذية محفوظة، بالإضافة إلى شمامة أهداها لنا أحد الأشخاص في المالكي، واستأنفنا السير قبيل الواحدة. البر الغربي مقفر موحش في منطقة معبد «عمدا»، بينما البر الشرقي حي بالخضرة والنخيل في زمام النجوع التابعة لعمديتي الديوان والدر اللتين لا يكاد يفصلهما فاصل. وفي نحو الثانية انتقلنا إلى البر الشرقي، وبعد أقل من نصف ساعة رسونا في ميناء الدر، نقول ميناء؛ لأنه أول مرسى نراه مبنيا في صورة رصيف من الحجارة، وخلفه كانت هناك مبان حكومية الشكل، ذلك أن الدر لفترة كانت مركز بلاد النوبة، ربما لنحو خمسة قرون أيام حكم الكشاف والدولة المصرية، منذ محمد علي إلى أوائل القرن الحالي، حين انتقل المركز إلى عنيبة التي تقع جنوب الدر بنحو 35 كيلومترا، ولكن كان ما زال في الدر نقطة للشرطة.
بعد أن أخذنا بعض صور، قابلنا مدرس علوم في مدرسة الدر وعزمنا لحضور فرح قريب له مساء الأحد، ولما كنا ظهر الجمعة، فقد كان هذا يعني إما أن نبقى في الدر إلى الأحد ونغادرها الإثنين، وإما أن نختصر برنامج الجنوب إلى ليلتين: واحدة في عنيبة والثانية بلانة، وذلك لحضور معظم مراسم الفرح، وقررنا اتخاذ الاختيار الثاني، وعلى هذا ملأنا خزانات الوقود، وانشغل الريس محمد في بيع بعض صفائح البنزين الفارغة بعض الوقت، وسألنا عن حالة السفر جنوبا، فأكدوا لنا أن النيل في هذا القطاع هين ومريح على الضفة الغربية بالقياس إلى الرحلة من كورسكو إلى الدر.
تحركنا من الدر حوالي الثالثة والنصف متجهين إلى توماس على البر الغربي، سارت الأمور على ما يرام نحو ربع الساعة ثم أحسسنا هزة وخبطة خفيفة ثم زمجر المحركان بصوت عال لأقل من ثانية ثم صمت تام! وفي ثانية قفز رياض من مقعد القيادة إلى مؤخرة القارب ورفع المراوح هو والريس محمد إلى أعلى بجهد شديد، فإذا هما كتلة مستديرة من الطين العالق، وظل الاثنان ينظفان المراوح قدر الاستطاعة لمدة نحو خمس أو ست دقائق، وفي هذه الفترة كان التيار قد دفع القارب نحو كيلومتر أو أكثر، ولا شك أننا كنا قد بعدنا عن الجزيرة الغاطسة التي اشتبكت المراوح بطينها، ومع ذلك أخذ الريس محمد يقيس العمق بالمدراة حتى تأكدنا من خلو المنطقة التي نحن فيها من الجسور الطينية، فأنزلنا المراوح إلى الماء، وأدرنا المحركات وسرنا بحذر رغم أننا كنا قد تراجعنا مسافة أخرى وقت قياس الأعماق، وصرنا نتسمع أداء المحركات ونقلق لأي صوت غير اعتيادي فترة من الزمن حتى نسينا الأمر.
نسينا الموضوع ليس استخفافا، بل لأننا دخلنا مشكلة أخرى ظلت تقلقنا طوال الأسبوع التالي، ففي الخامسة وعشر دقائق، أثناء سيرنا أمام توماس وعافية، بدت لنا الرحلة لطيفة بعض الشيء، وعند منحنى صغير للنهر ظهرت دوامة صغيرة تجنبناها بسهولة، لكننا وجدنا أنفسنا فجأة داخل دوامة خطيرة لم نعرف اتساعها، ربما كانت أكبر من القارب! وقبل أن يستطيع رياض أن يعدل اتجاه الدفة كان القارب كله قد مال إلى جانب ودار دورة كاملة مع الدوامة، وزاد رياض من سرعة المحركات إلى حدودها العليا مع تشديد قبضته على عجلة القيادة والميل بالدفة قليلا مع اتجاه حركة الدوامة للخروج منها بزاوية قليلة، وربما كان ميل الدفة هو نتيجة لقوة دوران الماء أكثر من قوة التحكم فيها، وأن الخروج من الدوامة كان بقوة دفع المحركات. على أي الأحوال، صار هذا هو التكتيك الذي اتبعناه في معالجة أمر الدوامات الكبيرة التي ندخلها رغم أنفنا، وبعد خروجنا من الدوامة الكبيرة سالمين دخلنا في قطاع من النهر كله تملؤه الدوامات، وأخذنا نسير في خط متعرج نحاول أن نتجنب هذه الدوامة وتلك؛ مرة إلى اليمين ثم بسرعة لليسار وهكذا دواليك لمدة نحو ربع ساعة، خلناها دهرا من الجهد والعرق والخوف، وحين أصبحت مياه النهر هادئة اتجهنا إلى البر؛ خشية على المحركات التي قاومت أطنانا من دفع المياه الدوارة الهادرة، ولكي نتنفس الصعداء.
بعد الدر بنحو ربع ساعة انعكست صورة العمران، فبعد أن كان البر الغربي مهجورا أصبح معمورا بنجوع طويلة لعمدية توماس وعافية، يليها إلى الجنوب - بدون فاصل كبير - عمديات قتة ثم إبريم غرب، وأمام شاطئ توماس كان يرسو أحد مستشفيات النوبة العائمة، وكذلك صندل يغذي بالطاقة محطة للري بالطلمبات، أما البر الشرقي فقد أخذت المرتفعات تقترب منه تاركة مجالات متناقصة للعمران، إلى أن أصبحت حافات إبريم الصخرية تشرف على النهر في صورة رائعة الجمال، وبصورة عامة فإن هذا الجزء من النوبة لم يبد كثير المرتفعات الصخرية التي تميز بلاد الكنوز وبلاد العليقات؛ فالهضبة على طول البر الشرقي متوسطة الارتفاع ومتباعدة عن ضفة النهر إلا في مناطق محدودة كإبريم شرق ومنطقة أرمنا، بينما البر الغربي منبسط لمسافات طويلة، عامر بالناس وأنواع الزرع وأجمات النخيل ذات التمور الممتازة؛ مثل التمر الإبريمي وتمر جنديلة بين توماس وعافية إلى مصمص وتوشكى غرب، وجنوبا حتى بلانة وأدندان والنوبة السودانية، وبيوت المنطقة لا تتسم بجمال بيوت الكنوز من حيث المعمار والطلاء والزينة.
في السادسة وعشر دقائق مررنا أمام محطة قتة «جتة» النهرية، وبعد ثلث ساعة رسونا في إبريم غرب، واعتذرنا بأدب دعوة أحد الأعيان لتناول الشاي؛ لضيق الوقت، ثم تحركنا في اتجاه عنيبة بعد نحو ثلث ساعة أخرى، أما إبريم التاريخية فتقع على البر الشرقي وتسمى قصر إبريم ، ورحل عنها سكانها إلى الغرب بعد 1933، وبيوت إبريم غرب تكاد أن تكون متلاصقة، وكما قلنا فالبيوت هنا أقل وجاهة من بيوت شمال النوبة، وعند مرورنا كانت النساء تملأ المياه في صفائح من النيل، والأطفال ينزلون إلى الشاطئ عند سماعهم صوت الموتور ليحيونا.
وكانت أشجار نخيل الدوم تنتشر بكثرة وخلفها ضوء الغروب الجميل البرتقالي والأحمر والأصفر ثم زرقة السماء، وبين الأشجار وحقول الذرة الطويلة السيقان كان بعض الناس يتحركون راجلين أو راكبين الحمير أو يجرون وراءهم بعض الأبقار، خط الشاطئ واضح بين الماء الميال إلى الزرقة والأرض السوداء، وصادفنا شخصا على البر يجر مركبا شراعيا، والخلاصة أن المنطقة الغربية من الدر إلى حيث كنا نسير جميلة تنبض بالحياة في شكل ريفي تفتقده مناطق النوبة التي عبرناها من قبل، أما الشاطئ الشرقي فكان لا يزال صخريا قليل النجوع أو نادر العمران.
أخذت الشمس طريقها سريعا للغروب ونحن نسير ونجازف، نأمل أن نصل عنيبة في وقت مناسب قبل حلول العتمة الكاملة، قال لنا بعض المراكبية في الدر إنه يمكن لنا رؤية أنوار عنيبة الكهربائية عن بعد لا بأس به، كنا نتطلع إلى الأمام علنا نلمح بصيص نور بعد أن أظلم الليل، لكننا لم نجد شيئا، خاصة وأننا كنا نسير في منطقة لا يوجد فيها عمران بعد أن تركنا نجوع إبريم غرب، لقد كانت هناك ثنيات صغيرة للنهر، وفي كل مرة نعبر ثنية نعتقد أننا سنرى أنوار عنيبة بعدها، لكن دون جدوى، وكانت الساعة قد بلغت الثامنة فقررنا أن نرسو في أي مكان ونبيت في القارب، لكن أي مكان؟ لم يكن معنا سوى بطارية لا ترسل ضوءا كبيرا، واختلطت علينا ألوان الدكنة وظلال الأشجار: أين النهر واليابس؟ وهدأنا سرعة القارب واتجهنا يمينا إلى البر وتوكلنا على الله، وقفز الريس محمد إلى مقدمة القارب استعدادا للنزول إلى البر وتثبيت «هلب» القارب، لكنه جلس ومد ساقيه للأمام لكي يتلقى ضربة اصطدام القارب؛ أي إنه حاول أن يعمل من ساقيه صداما، لكننا صحنا به أن يبعد رجليه حتى لا تنكسر إذا كانت الصدمة قوية، ولحسن الحظ لم يحدث هذا، فحركة الموتور هي إلى الحد الأدنى غير قوية، ويضاف إلى ذلك أن قوة تيار الماء كانت تقلل من هذه السرعة البطيئة وتكبح حركة القارب؛ لذا كان التقاء القارب بالشاطئ الطيني خفيف الوقع، ونزل محمد ورياض وثبتا «مرسيين» - هلبين - لمزيد من الحيطة ألا تجرفنا المياه خلال الليل، وبعد أن استكشفنا المكان الذي رسونا فيه، وجدنا أنه عبارة عن خليج صغير لا يزيد طوله عن نحو ثلاثة أمتار، والشاطئ وحل سميك يرتفع بسرعة إلى نحو ثلاثة أمتار، وحين ارتقى رياض هذا المرتفع الصغير ظهرت أمامه أنوار عنيبة على بعد كيلومتر أو نحو ذلك!
أكلنا بعض الجبن والمربى، وأثناء الطعام مر قارب شراعي كبير في الظلام، يجره ملاحون بحبل من الشاطئ وتفادوا قاربنا بسهولة. نام الريس محمد على الشاطئ بعد أخذ بطانيته، ونمنا على كنبات القارب، وظهر القمر متأخرا، وكنا نسمع السمك يتقلب في المياه وبعضها يقفز خارج المياه قليلا، كما كنا نسمع ارتطام التيار بالضفة بصوت خفيف، وفي الحقيقة قضينا ليلة جميلة في العراء، لولا أن برد الجو نسبيا في الفجر.
وفي الصباح حسبنا ما قطعناه بالأمس فكان 65 كيلومترا من المالكي إلى عنيبة في نحو 12 ساعة؛ مع الاستراحات المتعددة للغداء، وتغير الوقود والكفاح ضد الدوامات الخطيرة. شربنا الشاي وملأنا خزانات المحركات وتحركنا في الثامنة إلا ربعا، وبعد عشر دقائق رسونا على رصيف ميناء عنيبة كان هناك شارع عريض على جانبيه بيوت جيدة من طابقين، وأكشاك كثيرة وأشجار الدوم بكثرة. ذهب محمد ليملأ لنا مياه الشرب وبقينا بضع دقائق ننظر ونصور البر الشرقي، الذي كانت تشرف عليه الحافات الصخرية لقصر إبريم في بانوراما ذات وقع شديد، وتحركنا حوالي الثامنة والنصف في اتجاه توشكى. البر الشرقي والغربي أصبح رمليا تتخلله الأعشاب البرية وشجر السنط، وتناثرت أشجار الدوم والنخيل على أبعاد مختلفة. في التاسعة رسونا ليتأكد رياض من سلامة المحركات التي لم يكن مستريحا لصوتها، وقررنا العودة إلى عنيبة ليكشف أحد المختصين عليها ، وفي تلك الأثناء تجولنا في سوق عنيبة، حيث يوجد مخبز ومقهى، ومطاعم وخاصة للفول والطعمية، ومحلات بقالة وقماش وترزية ... إلخ، اشترينا بعض الأغذية وسندوتشات فول وطعمية؛ اشتقنا إليها.
بعد الاطمئنان على المحركات تحركنا في نحو الواحدة ظهرا، وبعد ساعة انتهى الشريط الرملي وأحاط بالنيل زراعات الذرة والكشرنجيج والنخيل والدوم على البر الغربي، بينما استمرت التلال على البر الشرقي، وإن كانت قد أخذت في التباعد عن النهر، ويحل محلها أنواع من الخضرة تدريجيا، غيرنا البنزين في مصمص حوالي الثانية والنصف، وقابلنا جماعة من النوبيين يجمعون البلح، وجماعة من أبناء الصعيد يعملون الفحم النباتي من خشب السنط، وأعطتنا بعض السيدات بعض التمر الجونديلي وأعطيناها علبة سردين، وتحركنا في الثالثة ومررنا بساقية تختلف كثيرا عن سواقي قرشة. سرعة القارب كانت ضئيلة؛ لأن تيار الماء قوي والمياه ثقيلة، ونمر أحيانا بأشجار السنط متكاثفة في صورة أقرب ما تكون إلى الغابات، وقبل وصولنا إلى توشكى بقليل زاد تكاثف حقول الذرة والنخيل، وفي الرابعة وصلنا توشكى غرب.
توشكى غرب
ذهب رياض إلى وكيل البريد من أجل البنزين، بينما كان على الشاطئ أطفال يلعبون بمركب شراعي - لعبة - وأعطانا أحدهم بطيختين صغيرتين هدية، كانت على الشاطئ أيضا مجموعة من النساء ينقرن الأرض اللزجة بالفأس ويبذرن الحب، ثم يغطين الحفر بالطين يكومنه بأيدهن، وعلى مبعدة يسيرة من الشاطئ ثبت الأهالي بوصتين من القصب الكبير الذي ينمو طبيعيا مع الحشائش، وبين البوصتين ثبت حبل تتدلى منه خيوط السنانير لصيد السمك ليلا، وقد طلب منا بعض الأطفال البحث عن عمل في القاهرة.
علمنا أنه يوجد عرس وحفل زار فقررنا المبيت في توشكى. سرنا مع دليل من أهل المكان حوالي نصف ساعة إلى أن وصلنا النجع، مارين بحقول الذرة والكشرنجيج والنخيل ومنطقة حشائش واسعة، ثم منطقة رملية بنى عليها نجع أباشاب، وفي أحد المضايف كان يوجد جمع من الرجال يتحادثون، وأخبرهم الدليل عنا وسبب زيارتنا، فتشاوروا قليلا ثم أبدوا استعدادهم للتبكير بالحفل الراقص من احتفالات الزواج التي تستمر نحو أسبوع.
وبعد فترة طويلة - ربما ساعة أو أكثر - كنا وسط حلبة الرقص التي انتظمت حول المغني الذي جذب صوته فتيات وفتيانا آخرين، الفتيات والسيدات يلبسن الرداء الأسود الشفاف فوق الملابس الملونة، ويتحلين بزينتهن الذهبية، ويقفن صفا واحدا تشابكت أيديهن في بعض الخطوات، وأمامهن المغني مبارك ذو اللون الأبنوسي وضاربو الدفوف، ووراءهم صف الرجال والفتيان في مواجهة صف النساء المشاركات في الحفل، يبدأ مبارك «زغرودة» طويلة حادة، وترد عليه النساء بمثلها، ثم يسترسل في الغناء يمدح العروسين والحاضرين، وللرجال حركة معينة في الرقص ويشبكون أيديهم وينحنون قليلا للأمام مع خبط القدم في الأرض، ثم يصفقون، ثم تدخل إلى وسط الحلبة فتاة أو فتاتان تمسكان طرف الثوب وتتحركان بخطوات صغيرة إلى الوسط نحو الرجال، ثم يتراجعن إلى صف النساء في خفة ورقة، وجوههن إلى أسفل في شيء كبير من الأدب والخشوع، والرجال يصفقون ويدبون الأرض في مرح وانسجام.
قضينا الليلة في القارب وفي الصباح عدنا إلى النجع، حيث قابلنا الشيخ مختار حسن هاشم في دكانه الذي يحتوي على سلع مختلفة من الأقمشة وأصناف البقالة والسكر والسجائر، والشيخ مختار من سلالة الكشاف من عشيرة أو عائلة الكيخياب - ينطقون الخاء قريبة من الهاء فتصبح الكيهياب - في الطريق كان المنظر العام ريفيا؛ لاتساع الحقول وكثافة النبات في الجزء القريب من النهر، ثم مساحات تنمو فيها الحشائش طبيعيا تستخدم كمرعى للحيوانات، أما منظر الضفة الشرقية فكان غاية في الجمال: فهناك التلال العديدة الأشكال والألوان التي تنمو عند أقدامها أشجار مختلفة الخضرة، ويقول بعض السكان إن المناظر هنا مثل سويسرا؛ فالجبال الشرقية عليها بعض مسطحات من الرمال كأنها الثلوج على جبال الألب، ثم النيل الهادئ كأنه إحدى بحيرات سويسرا، ثم الخضرة الزاهية، ويبدو أن من شبه توشكى بسويسرا قد عمل فترة في سويسرا، ربما في السفارة المصرية.
عمدية توشكى هي إحدى كبريات النواحي النوبية، فقد كان سكان توشكى شرق وغرب 3139 شخصا عام 1960، نحو الثلث في الجانب الشرقي، أما توشكى غرب فكانت أوسع سهولا وامتدادا مع النيل يبلغ نحو 15كم، وامتداد إلى الداخل غربا، حيث الأرض سهلية لمسافة كبيرة؛ نتيجة لتباعد خط مناسيب 200 متر كثيرا إلى الغرب، مكونا شكلا هو أقرب ما يكون إلى الوادي الضحل الواسع - الذي شاعت تسميته الآن خور توشكى - وتتكون توشكى غرب من 25 نجعا، منها سبعة نجوع أنشأها في شمال توشكى مهاجرون من الكنوز عند التعلية الأولى لسد أسوان 1912، وقد اتخذ هؤلاء المهاجرون أسماء قراهم القديمة أسماء لنجوعهم الجديدة في توشكى - نجوع أمبركاب وكلابشة ومرواو وأبوهور وأمبركاب قبلي ... إلخ - ولهذا يقول البعض إن نحو خمسي سكان توشكى غرب هم من الكنوز.
أما سكان توشكى فهم نوبيون مختلطون بأنساب من الكشاف، حكام النوبة القدماء، وكان الكشاف - الذين هم من أصول مختلطة من الأتراك والأكراد والبشناق والمجر - يتزاوجون مع النوبيات ويتركونهن وأولادهم في قراهم مع الأخوال والأراضي التي يرثونها؛ لهذا فإن أنساب الكشاف منتشرة في أرجاء النوبة دون تركيز في مناطق محددة، وتظهر أسماء بعض النجوع مؤثرات الكشاف؛ مثل نجع أباشاب، كرباشية، أزجرجة - أحيانا أزمرجة - كيخياب. وبالرغم من اختلاف بعض سلالة الكشاف عن بقية النوبيين في ضخامة الجسد والرأس بالقياس إلى النوبيين ولون البشرة الأفتح قليلا - يقول بعض رحالة القرن الماضي إن بعضهم شقر البشرة زرق العيون - إلا أنهم يعيشون ويتعاملون مع جيرانهم تعامل الند للند دون تأثر بالأصول السلالية، ويقومون بنفس الأعمال من زراعة أو تجارة أو عمل خارج النوبة.
تجولنا في النجع وأول ملاحظة أن هناك زريبة جماعية في أول النجع، وذلك هو عكس بيوت العليقات والكنوز التي تشتمل على مكان للحيوان داخل الحوش مما يقتضي غالبا بابا خاصا لدخول الحيوانات، وربما يرجع ذلك إلى كثرة أعداد الحيوانات في الجنوب عن الشمال؛ وذلك لتوفر المساحات الرعوية والزراعية، ولا شك أن وجود الزريبة خارج البلدة يقتضي حراسة خاصة، ولو أن الأمن مستتب والأمانة مستقرة في النفوس كجزء متمم للشخصية النوبية.
والملاحظة الثانية أن البيوت غالبها مبني على نسق معماري متشابه، غالبا ملتصقة بعضها بالبعض الآخر في صفوف متوازية تترك طرقا واسعة بين الصف والآخر (انظر الجزء الخاص بالصور عن
شكل النجوع في الجنوب والشمال )، ومعنى هذا أنه يمكن تصور خطة للنجع مكونة من طرق متوازية تنتهي إلى ساحة رئيسية فيها الجامع والدكاكين - يوجد بنجع أباشاب خمسة دكاكين - والمضيفة العامة ومزيرة الماء، ثم الزريبة الجماعية التي توجد على جانب من الساحة في مواجهة الحقول، مثل هذه الخطة العمرانية تكاد تنعدم في بلاد الكنوز والعليقات لوجود العقبات التضاريسية والأودية التي تقطع تتابع استواء الأرض؛ مما يؤدي في الغالب إلى أبنية على مستويات متعددة، أما في بلاد النوبيين الرئيسية فإن استواء السطح هو السمة الغالبة، مثل توماس وعافية وجتة وتوشكى غرب - وربما أيضا بلانة وأدندان وهما من القرى التي لم نتمكن من زيارتها.
واستمر تجوالنا غربا حتى انتهينا إلى المقبرة، وهي شاسعة، وربما لم تكن مخصصة لنجع أباشاب فقط، ومقابر النوبة عبارة عن لحد يكوم فوقه بعض الرمال وتوضع حجرتان عند طرفي اللحد ليصبح اللحد ظاهرا، والغالب أن الحجارة لا يكتب عليها شيء، وإن وجدنا بعضها مكتوبا عليه البسملة واسم المتوفى، وغير ذلك من الدعوة للرحمة، ورأينا قبرا واحدا عليه بناية مرتفعة وشاهدان على نسق قبور القاهرة، والملاحظة العامة أن الناس تضع زبدية - صحنا فخاريا - عند حجر رأس اللحد، يشطفون جزءا من حافتها قليلا، وفي اليوم الأول للدفن توضع بعض حبات الذرة تحت الزبدية، بينما يوضع قليل من الماء في الزبدية يوميا لمدة أسبوع بعد الدفن، ربما كان شطف الزبدية رمزا لانتهاء عمل هذا الوعاء كما انتهت حياة صاحبه - أو لمنع إعادة استخدامها؛ فالشطفة تعني أنها كانت في المقبرة، ومن ثم يهاب الناس استخدامها.
وعلى مبعدة قليلة شاهدنا نصبا تذكاريا لمعركة توشكى، التي خاضها الجيش المصري عام 1889 ضد قوات المهدية بقيادة ود النجومي، الذي قتل في المعركة، كما قتل عدد كبير من جيش المهدية، وبذلك انتهت فكرة غزو مصر من الجنوب.
دخلنا بعض البيوت ووجدنا أن الحوش السماوي ما زال هو السمة الرئيسية في كل النوبة، لكنه هنا أصغر من أحواش الشمال؛ لأن مساحة البيوت أصغر بصفة عامة، الغرف تدور حول الحوش، فهناك مجلس للرجال يطل على الشارع، ودهليز - مجلس - للنساء في الداخل، وغرف النوم والمطبخ والمخزن وركن في الحوش للدواجن، ومرحاضان للنساء والرجال كل على حدة، أحد البيوت منزل لعريس جديد، وكان عبقا برائحة البخور الذكية مع نظافة فائقة للحجرات وكوبات الشراب.
تحركنا بالقارب في الثالثة بعد الظهر في اتجاه أبو سمبل وبلانة، وكان أهل النجع قد عزمونا على غداء شهي من اللحم والبطاطس والأرز وكبد وكلاوي وكوسة وسلاطة وبطيخ، وأرسلوا أيضا للمراكبي الريس محمد غداء مماثلا، وجاء جمع يودعوننا مع التوصية بالتزام الجانب الغربي إلى أن نبلغ فرقندي، ثم نعبر النهر إلى الجانب الشرقي حتى أبو سمبل.
سرنا بالقارب حتى اختفت توشكى واستمر الحال على ما يرام، وجو من المرح يلفنا؛ فقد اشتقنا إلى رؤية أبو سمبل والمكوث حول المعبدين كل الوقت الذي نريده؛ لأننا نملك وسيلة انتقالنا، ففي زيارات سابقة - ولاحقة - كنا مضطرين إلى مغادرة منطقة المعابد العظيمة في الموعد الذي تحدده السفينة التي نستقلها - أو الطائرة فيما بعد. المسافة إلى أبي سمبل من توشكى كانت نحو 35 كيلومترا، منها 15كم إلى أرمنا و20كم من أرمنا إلى أبي سمبل، وبعد نحو ساعتين لاحت محطة طلمبات أرمنا على البر الشرقي، واستمر سيرنا بدون عائق يذكر حتى اختفت طلمبات أرمنا عن ناظرينا، وفجأة أحس رياض بصوت غير منتظم في ضربات المحركات وطلب منا أن نتسمع، فأكدنا أن كل شيء على ما يرام، رغم أننا كنا نبحر في منطقة دوامات، وسار القارب وعندنا إحساس بأنه حينما يدخل الدوامة كأنه يرتفع إلى أعلى، ثم نحس أن القارب يهبط حين الخروج من الدوامة، وقال رياض لنفسه: إن الجهد الذي يبذله المحرك في الصعود - دخول الدوامة - يعدله طاقة مكتسبة عند الهبوط - الخروج من الدوامة. وبعد فترة قصيرة دخلنا دوامة كبيرة و«زمجر» أحد المحركات لحظة قصيرة جدا، وعاود العمل خلال فترة خروجنا من قبضة الدوامة الخطرة، ولم تمض لحظات حتى وجدنا الدوامات الكبار تتسلم القارب المسكين واحدة تلو أخرى، والماكينات «تزمجر» وتسكت وتعمل في ثوان متتالية، وفي إحدى هذه المرات لم يزمجر المحرك فقط، بل أتبعه بقرقعة كما لو كان اصطدم بمعدن آخر وتوقف! وبطبيعة الحال ضعفت قوة الدفع ووضح أن محركا واحدا غير كاف للاستمرار، فاتجهنا إلى الشاطئ لنفحص المراوح ونريح المحركات ونقلل اضطرابنا، وحين رفعنا المراوح إلى أعلى لم نجد بهما عيبا، وبعد فترة راحة قصيرة رفعنا المرساة لنجرب، فدار محرك وقرقع الآخر وعدنا إلى الشاطئ.
تداولنا الأمر فيما بيننا، هل نستطيع العبور إلى محطة طلمبات أرمنا ليستطلع أحد الميكانيكية الخبر، أم نعود إلى توشكى ليكشف أحد الفنيين في محطة الطلمبات على المحرك. صحيح أن المسافة إلى أرمنا أقصر بكثير من المسافة إلى توشكى، لكن عبور النهر بمحرك واحد لم يرق لنا، فماذا لو توقف هو الآخر ونحن وسط النهر؟ وقد أغرانا بالعودة إلى توشكى أننا سنحضر ليلة أخرى من ليالي الطرب والغناء في حفل زواج نوبي كبير.
وقد عرفنا فيما بعد من الفني الذي فحص الموتورات في توشكى أن مرور المراوح في «عين» الدوامة كان يقبض حركتها تماما لفترة جد قصيرة ثم تعاود الدوران بعد عبور العين، أما قرقعة المحرك فلم نعرف له سببا؛ لأنه لم يقرقع عندما وصلنا توشكى ولا بعد ذلك إطلاقا. إن الآلات تمر بأحداث لا نعرف عنها الكثير.
في المساء توجهنا إلى حيث تقام ليلة الفرح وحاولت كوثر أن تتعلم الرقص النوبي لهذه المناسبة، فارتدت الجرجار فوق ملابسها وطرحة مشغولة الأطراف من القماش الشفاف هي والجرجار بحيث يظهر الملابس والمصوغات الذهبية، ودخلت صف النساء وتشابكت يداها في أيديهن، وأخذت تتقدم وتتأخر مع الجميع خطوة بجوار خطوة مع دقة خفيفة على الأرض مصاحبة لدقات الطبول، والأذرع تنحدر في انسياب إلى الأمام والخلف، أما الرجال فيصفقون عدة مرات وينحنون انحناءة بسيطة مع وضع اليدين مشبوكتين على البطن، ثم يدقون بالقدم اليمنى دقات قوية ويتكرر التصفيق ... إلخ، وبين الفينة والأخرى تدخل فتاتان الحلبة سويا وقد لفت كل منهما شالا أحمر حول رقبتها، ويرقصن الرقصة التقليدية بين صفي النساء والرجال أمام المغني وضاربي الدفوف، ثم ينسحبن. ومن وقت لآخر تقول النساء: «صل على محمد»، ويطلقن زغاريد طويلة وممدودة.
وغنى مبارك وغيره من الكنوز الحاضرين أغاني كثيرة، كلها عن الغزل والبنت الحلوة، مثل: يا سمرة يا بنت يا حلوة الحب تاعبني، ويا سلام يا وز يا طاير - الوز رمز للبنات، ويا سلام يا اللونة ونسك - أنسك - كويس وحرسك كتير وأجيلك إزاي ... وتنتهي هذه الأغنية بتذييل سياسي من مواقف ذلك الوقت، حيث يخاطب الزعماء فيقول: يا جمال يا ناصر، عبد الحكيم يا عامر، عبد اللطيف بغدادي، نويتم تبنوا السد، الكريم يسهل عليكم. وأغنية سياسية أخرى يتساءل فيها المغني أين يجد مثل بلاد النوبة من جبل ونهر ونخيل وما هو المصير في كوم أمبو، ثم أغاني العاطفة والحب، والحاضرون يأخذهم الحماس وينفعلون بالأغاني ويرفعون أصواتهم يغنون مع المطرب الذي يشعل الجو بالصوت والإيقاع والحركة - تماما كما نرى اليوم من أغاني ال «بوب» حيث يشعل المغني وعازف الجيتار حماس الجمهور الواقف فيهتزون ويغنون ويثملون بشكل من أشكال الحياة الجماعية - وبين الحين والآخر توقد نار يشد عليها العازفون جلود التار والطبلة، وينتشي أحدهم ويطلق أعيرة نارية في الهواء ابتهاجا بالفرح، وتشير الساعة إلى منتصف الليل، لكن الفرح مستمر حامي الوطيس بين المغني والراقصين والراقصات والحضور.
والحقيقة أن الأفراح هي مناسبة جماعية لإطلاق مشاعر السرور والغبطة المكبوتة أحيانا تحت ضغط تكاليف الحياة وضغوط القوالب السلوكية، التي يفترض أن يتصرف في أطرها الناس حسب أعمارهم ومكانتهم، فالأفراح إذن هي متنفس للتلقائية والعفوية السلوكية بين الموسم والآخر من مواسم الأفراح التي غالبا ما تكون خلال فصل الصيف.
بتنا ما تبقى من الليل في القارب، وفي الصباح غير الباكر تمشينا في الحقول نشاهد كد المرأة والأطفال في جمع المحصول أو العشب والعناية بالبقر والغنم، ثم ذهبنا إلى مضيفة النجع.
وبناء على ما صادفناه في رحلتنا من متاعب أعادتنا إلى توشكى، رأى أهل النجع أننا نحتاج إلى عمل «كرامة» لصرف الحظ السيئ، ورأيناها فكرة تستحق التنفيذ؛ لنلاحظ عمليا تنفيذ مثل هذه الممارسات المعتقدية، وقد بلغت تكلفة الكرامة سبعة جنيهات ونصف دفعناها لخروف كبير وتكلفة باقي الأكل من خضار وطهي، وقدمت لنا الكبدة والرأس وفخذة مع بطاطس ورجلة وأرز على طاولة جلسنا إليها مع العمدة وكبار القوم، وجلس بقية الرجال في صفين متقابلين على أبراش على الأرض، ومر عليهم إبريق ماء وطشت صغير ليغسلوا أيديهم، ثم قدمت لهم أطباق خوص كبيرة بها فتة ولحم مسلوق وخضار من الرجلة والبطاطس، وقدم بطيخ كثير بعد الأكل لكل الموجودين، أما الشيخ مختار فكان يخدم على الكل.
وبعد ذلك بدأ أحد الرجال ينشد بردة البوصيري والكل يرد وراءه: «صلى الله عليه وسلم»، وما أن انتهى من الإنشاد حتى بدأ في الدعاء لنا بالطيب والخير والجميع يرد: آمين. ثم ختم بقراءة ما تيسر له من آيات القرآن الكريم، والدعاء لنا أن نعود سالمين إلى أهلنا، وأخيرا قرأنا الفاتحة على رجاء قبول الكرامة.
بعد الكرامة تناولنا الشاي في منزل السيد علاء الدين حمزة، الذي كان يعمل بالسفارة السويسرية بالقاهرة، وهو بيت كبير له مضيفة خارجية، جزء منها سقيفة مع أعمدة مربعة، والجزء الآخر غرفة بالداخل، ثم زرنا بيت العمدة السيد فتحي سيف الدين للتحية، وهو بيت كبير مبني على ما يشبه ربوة غير عالية، قدم لنا الشاي في أقداح روزنتال - صيني فاخر صناعة ألمانية - وبسكويتا أيضا في أطباق روزنتال، وعجوة وأنواعا من البلح، وأثناء الجلسة أخذ السيد عبد الرحيم يحكي نوادره أيام كان يعمل على تاكسي بالقاهرة، وتطرق الحاضرون إلى الحديث عن العمل في القاهرة والإسكندرية عند الأثرياء من المصريين، وعند الأجانب، وأجمعوا أن العمل عند الإنجليز هو الأحسن، وأسوؤهم السويسريون لبخلهم الشديد، أما أغنياء الجريك - اليونانيين - فهم مريحون في العمل بصفة عامة.
وأصر العمدة على تقديم عشاء نوبي خفيف يسمى «الحلو مر»؛ عبارة عن خبز الدوكة مقطع في طاجن وعليه لبن زبادي محلى بالسكر، ثم يسكب عليه بعض الزبد، وهو لذيذ الطعم، ويقال إنه ملطف ضد الحر، والحقيقة أن الخبز الخمريت ملطف فعلا فضلا عن أنه دائما طازج لذيذ، كذلك أصر العمدة أن نبيت عنده بدلا من البيات في القارب، وأعطونا مندرة جميلة الصنع سقفها مكون من طبقتين: إحداهما من الجريد وفلق النخل، والثانية ألواح خشبية؛ وذلك لتكييف جو المندرة بتقليل حرارة السقف، ومن اللطائف أنه كان بأحد جدران المندرة حنفية ماء، وخلفها ارتداد في الجدار بمثابة حمام به دش مياه، وخارج المندرة حوش به مرحاض مبني على ارتفاع بضع درجات، وبطبيعة الحال فإن هذه الاستحداثات لا توجد في كل مكان، والغالب أن العمدة كان من القادرين المحبين للراحة ومباهج الحياة.
ويذكر النوبيون أنهم يطبقون الاشتراكية منذ القدم، فكل شيء يتم تعاونيا؛ كالأفراح والمناسبات الدينية والوفاة واستضافة الغرباء ... إلخ، وعندهم فراسة وحكمة التصرف في المواقف المختلفة، ربما نتيجة تعاملهم لفترات طويلة مع غيرهم من المصريين والأجانب في البيوت والقصور والفنادق.
الفصل الحادي عشر
رحلة العودة
صبيحة اليوم التالي كان الثلاثاء 25 سبتمبر 1962، لم يعد عندنا وقت للإبحار جنوبا، وذلك وفاء منا بأن نعيد القارب إلى مرساه في نجع قناوي قبل أول أكتوبر، كذلك كنا نعرف أن آخر حجر من أحجار معبد كلابشة سوف ينقل يوم 29 سبتمبر إلى موقع المعبد الجديد غرب أسوان، وكان علينا أن نستقل الصندل الذي ينقل الحجر لنؤمن وسيلة انتقال إلى أسوان بدلا من الذهاب إلى نجع قناوي أو دهميت والبحث عن طريقة للعودة إلى أسوان. اتخذنا قرار العودة ونحن آسفين أننا لم نتمكن من إتمام الرحلة جنوبا حتى بلانة وأدندان.
كانت هناك مركب شراعي كبير متجه من توشكى إلى عنيبة، فاتفقنا أن نربط القارب إلى المركب في جزء من الرحلة لنستمتع بالسفر، ولو قليلا، بالمراكب الشراعية. وفي نحو التاسعة والنصف صباحا ودعنا بعض أهالي توشكى للمرة الثانية، وانساب المركب الشراعي شمالا في هدوء تام مع التيار وبعض الريح عكس ضجيج موتورات قاربنا «لندا»، وفي هذا الهدوء أخذ المراكبي يدندن ويغني بصوت خفيض أغاني النوبة المعروفة، وبين كل كوبليه وآخر يطلق ما يمكن أن نسميه «آهة» نوبية؛ هي «يا سلام» مطولة مرسلة بلا نهاية كأنها «يا ليل» في أغاني التخت الشرقي، كل ذلك بمصاحبة دق خفيف على صفيحة خالية، وكورس صغير من مساعد المراكبي والريس محمد علي شاجة.
وطوال هذه الرحلة الهادئة كان يمكننا مشاهدة قطاع من النوبة على مهل ونصور دون اهتزاز كالذي نحس به أحيانا على متن «لندا»، وكان دخان حريق خشب السنط لعمل الفحم النباتي الذي يقوم به أبناء الصعيد، يتصاعد في مناطق مختلفة إلى عنان السماء ويتلاشى معطيا عنصرا جديدا للصورة البانورامية في شمال توشكى ومنطقة مصمص، وعلى البر الشرقي كانت هناك جمال العبابدة ترعى تحت أشعة شمس ما قبل الظهيرة.
وبعد ثلاث ساعات أصابنا الملل من تكرار المناظر والبطء والسكون الشامل الذي تقطعه دندنة الملاح في أحيان، وكانت عنيبة قد بدأت تظهر في الأفق، فركبنا «لندا» وفككنا أسرها، وبعد ربع ساعة كنا على رصيف عنيبة، وبعد نصف ساعة وصل المركب الشراعي الذي كنا نستقله، جلسنا عند استراحة مصلحة المساحة وتغدينا، ثم تحركنا في الثانية والنصف في اتجاه الدر، وفي الطريق قابلنا البوستة متجهة إلى عنيبة، وأخذت كوثر عدة صور لحافة إبريم الصخرية المشرفة على النهر، وفضلا عن أهمية إبريم أيام حكم الكشاف والأغوات في النوبة، فإن الفراعنة قد بنوا في صخرة إبريم ثلاثة معابد منحوتة في الجبل على ارتفاع نحو عشرة أمتار من منسوب الأرض المحيطة، وقد بني أقدم هذه المعابد أيام حتشبسوت، والثاني أيام تحتمس الثالث الفرعون المحارب، والثالث أيام رمسيس الثاني الذي ملأ النوبة بمعابده وأشهرها أبو سمبل.
وصلنا جتة «قتة» ورسونا لفترة قصيرة على البر تجنبا لأمواج الأكسبريس - الباخرة النيلية الفاخرة السريعة التي لا تتوقف بين شلال أسوان وحلفا، عكس البوستة الأسبوعية التي تقف في كل ناحية وتخدم بذلك كل النوبة المصرية.
تابعنا السير شمالا بين مناظر مختلفة: البر الشرقي جبلي تتخلله بعض الخضرة ونجوع قليلة، والبر الغربي سهلي مكشوف مليء بخضرة المحاصيل وخضرة الأشجار والنجوع الكثيرة، وفي منطقة توماس شاهدنا صندلا يجر إلى جانبه مركبين شراعيين يساعدهما وهم متجهون جنوبا ضد التيار، وأمام توماس كانت ترسو سفينة المستشفى التابعة لوزارة الصحة، وقد سبق القول أن هذه السفن تتنقل كل فترة في دائرة معلومة لتخدم مجموعة من النواحي، ثم غيرها وهكذا دواليك.
وفي الرابعة والنصف وصلنا الدر؛ أي إن رحلة العودة استغرقت نحو ساعتين فقط من عنيبة إلى الدر، بينما استغرقتنا رحلة الذهاب من الدر إلى قرب عنيبة نحو خمس ساعات، وبعبارة أخرى فإن السفر مع تيار النهر هو على الأقل أسرع مرتين من السفر ضد التيار.
على أية حال فقد كان منظر الدر بديعا ونحن نقترب منها: البيوت البيضاء على مرتفع متوسط وتحت أقدامه السهل الزراعي وأشجار النخيل الشامخة، وعلى البر كثير من المراكب الشراعية بأشرعتها الملفوفة وصواريها السامقة تطاول السماء، قابلنا الأستاذ حسين المدرس بالمدرسة الإعدادية الذي كان بصدد العمل مع د. آن هوهنفارت
Ann Hohenwart-Gerlachstein
التي كانت تقوم ببحوث اللغة وتسجل الشعر النوبي وتترجمه بواسطة بعض المدرسين - حسين عبد الجليل مدرس الفيزياء في الديوان، وعزيز عبد الوهاب مدرس اللغة الإنجليزية في دفنكالو ضاحية الدر - وقد نشرت دراستها في فيينا 1979 باسم «بحوث نوبية»
Nubien Forschungen ، وقمنا بجولة في داخل الدر، ثم زيارة للمدرسة، ومبنى الداخلية الذي يسكنه التلاميذ، والمطعم وحجرة المشرف، وكلها مجهزة بطريقة لا بأس بها.
ذهبنا إلى بيت العمدة للتحية وقدم لنا ليمونادة مرطبة فعلا في الجو القائظ، وأعطونا حجرة في الاستراحة المكونة من حجرتين وصالة وحمام ومطبخ وحجرة فراش. انتهزنا الفرصة فأخذنا حماما أزال الجهد، والمكان كله نظيف ومعتنى به، فهو بمثابة «بنسيون» للزوار، وخاصة الأجانب الذين يزورون الدر شتاء لمشاهدة معبد الدر المنحوت في الجبل أيام رمسيس الثاني، ويوجد عند مدخل خور الدر، وقد غاصت معابد إبريم والدر تحت مياه السد العالي فلم يمكن نشر الجبل إلا بتكلفة عالية، كما أن الكثير مما كانت تحتويه هذه المعابد من كتابات وصور ومنحوتات قد طمست أو قطعت بواسطة الطامعين، وخاصة من الأجانب.
وبعد العشاء نظم المدرسون حفلا غنى فيه الطلبة، ولأول مرة نجد «الأكورديون» مع العازفين التقليديين في فرقة نوبية؛ لعل ذلك استعارة حضارية من السودان، حيث يلعب الأكورديون دورا مهما في الغناء السوداني - في الخمسينيات والستينيات، وربما بعد ذلك أيضا - وتخللت المقطوعات الغنائية وصلات صغيرة من النكات أضحكت زملاءهم كثيرا، وكنا في حاجة لمترجم، لكن النكتة تصبح باردة عند الترجمة، وقد نظم المدرسون الحفل تنظيما جميلا في وقت محدود، وكان الطلبة غاية في الأدب والانضباط.
في الصباح مررنا بالمدرسة وتبرعنا بمبلغ ثلاثة جنيهات لمجلس الآباء، وبقشيش سخي للفراشين - وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت - وتحركنا من الدر حوالي الثامنة صباحا في اتجاه المالكي، وصاحبنا في الرحلة إليها السيد/حسن عوض عبد الهادي، أحد تجار المالكي، توجد أمام الدر جزيرة يقع المجرى الملاحي غربها، بينما شرقها ضحل طيني، وكان أمامنا على البر الغربي معبد «عمدا»، هو معلم مهم في برية تكاد أن تكون غير مأهولة، أما البر الشرقي فكانت تمتد بطوله نجوع عمدية الديوان بمنازلها البيضاء، وأمامها شريط طويل من الأرض الزراعية وأشجار النخيل والدوم ومجموعات متناثرة من الماعز الذي يغلب عليه اللون الأسود، وفي الخلف تبدأ الجبال الشرقية في الظهور والاقتراب من ضفة النهر قرب أبو حنضل، ثم تشرف على النهر من كورسكو إلى وادي العرب والسبوع مسافة تبلغ أكثر من 35 كيلومترا.
قال لنا حسن عوض إن جزيرة الدر أصلها صندل محمل بالسكر كان في طريقه إلى السودان ثم غرق قبالة الدر، وتكونت فوقه الجزيرة بإرسابات الطمي السنوية، وأثناء سيرنا أمام الديوان كانت تظهر مناطق من الدوامات المتتالية، ثم تنتهي لتعود بعد مسافة إلى الظهور مرة أخرى، وحين كنا نمر قرب أبو حنضل شاهدنا سحابات بيضاء قليلة عالية، وهي أول مرة نشاهد فيها السحاب طوال رحلتنا.
يذكر حسن عوض - تأكيدا على بعض الكتب التاريخية - أن سكان أبو حنضل كانوا من رقيق الكشاف الذين كانوا يسكنون المناطق الأحسن في الديوان والدر، تاركين أبو حنضل الفقيرة لأتباعهم؛ ولهذا فإن نحو ثلاثة أرباع سكان أبو حنضل تظهر فيهم الملامح الزنجية بكثرة، ويستطرد حسن عوض أن الكثير من العليقات يعيشون في السودان، وخاصة إقليم طوكر حيث لهم أراض زراعية واسعة للقطن والعدس ولهم مطاحن كثيرة، ويقول إن هناك عائلات بأكملها من المالكي تعيش وتتزاوج في السودان، وإن شقيقه يعمل محاميا، وأولاد عمومته يعيشون في عطبرة والخرطوم وهاجروا بعد أن أتموا تعليمهم في مصر، أما عليقات السنجاري فهم كثيرون في منطقة ود مدني في أرض الجزيرة، أما غالب مهاجري وادي العرب فهو إلى مصر والقليل في حلفا، وكذلك الحال مع أهل عمدية السبوع وكورسكو الذين يعملون في القاهرة والإسكندرية.
والمعروف أن عرب العليقات كانوا يعملون أدلاء في تجارة السودان عبر صحراء العتمور منذ قرون، وكان ينافسهم في ذلك العبابدة، وفي عصر محمد علي باشا قسم الأخطاط بين العبابدة والعليقات في تجارة القوافل السودانية، وعلى أثر استيلاء الحركة المهدية على السودان اتخذت مصر كورسكو قاعدة عسكرية للعمليات ضد الخليفة التعايشي، وكان العليقات يقومون بدور أدلاء الصحراء، بينما كان العبابدة هم الجمالة للجيش المصري. وما زالت على قمة جبل كورسكو طابية صغيرة كان يستعملها الجيش المصري كمرقب؛ تحسبا لأية تحركات معادية، ومن هذه الطابية ينكشف في اتجاه الشمال منظر هائل لثنية النيل حتى الديوان من ناحية، ومسار وادي كورسكو والأودية الأخرى والهضبات والجبال لمسافة طويلة جنوبا، وبعض صور هذه المنطقة أخذها رياض من الطابية.
ونتيجة لاستقرار العليقات على ضفتي النيل في الجزء الأوسط من النوبة، فقد مارسوا الزراعة منذ فترة طويلة، أصبحت لهم ديار يحنون إليها؛ ولهذا فإن الكثير من العليقات في السودان يعودون بعد فترة طالت أو قصرت إلى بلادهم، أما العبابدة فأغلبهم بدو رحل، وأي مكان يتيح لهم حياة مقبولة هو المكان الذي يرتبطون به، سواء كان داخل مصر أو السودان؛ وبطبيعة الحال فإنه لا تتكون عاطفة مكانية لمنطقة المنشأ، وهذا هو حال كل البدو، وإلا لما انتشرت القبائل العربية خارج شبه الجزيرة العربية إلى كافة أرجاء العالم الذي فتحه الإسلام.
سطح النهر كالحصيرة الملساء تنعكس عليه ألوان السماء الزرقاء بما فيها من نتف من السحب البيضاء، كما تنعكس ألوان الصخور والرمال وخضرة الأشجار، عند مصب وادي كورسكو عبرنا النهر إلى الجانب الشرقي تجنبا لبعض الصخور الناتئة على الجانب الغربي، وقد لاحظنا أن الكثير من محصول الذرة قد قطع وكوم في كومات تمهيدا لحزمه بعد أن يجف، وقرب العاشرة كانت أمامنا على ثنية النيل مدرسة السنجاري بلونها الأبيض وامتدادها الكبير، تحتل موقعا مميزا وسط الصخور الداكنة وعلى ارتفاع نحو 18 مترا من سطح النهر، جلسنا فترة مع الأستاذ هلالي ناظر المدرسة، ودخلنا عدة فصول، ثم استمتعنا بالشاي مع المنظر الرائع الذي تطل عليه المدرسة.
عبرنا النيل مرة ثانية متجهين إلى نجع البوستة في المالكي، حيث أخذنا صفائح البنزين وملأنا الخزانات، كان الشاطئ طينيا لزجا وكانت عملية نقل الصفائح قاسية ومرهقة للريس محمد، ثم انتقلنا إلى نجع الحمداب لنأخذ سلة الخزين وبعض ما تركناه من ملابس وصفائح زيت الموتور المتبقية. ودعنا رفيق الرحلة من الدر السيد/حسن عوض، وأعدنا الأستاذ هلالي إلى السنجاري ووعدناه بإرسال الكثير مما تحتاجه المدرسة من أدوية وإسعافات أولية - وأظننا فعلنا ذلك في حينه - وبدأنا سفرتنا إلى سيالة قبيل الواحدة ظهرا، وأخذنا نفكر بصوت مسموع معجبين بأخلاق النوبيين وجديتهم في العمل، سواء كانوا تلاميذ أو مدرسين أو موظفين، ونحسدهم بعض الشيء على حياتهم الهادئة والتكيف مع البيئة القاسية ملتزمين بتقاليد موروثة غالبها مفيد، فماذا عن مؤثرات حياة المدينة على التراث الحضاري النوبي، وبخاصة بعد الانتقال إلى كوم أمبو وانحسار العزلة الجغرافية؟
الضفة الشرقية عبارة عن حائط جبلي مستمر مع قليل من الانفراجات تحتلها نجوع شاتورمة ثم وادي العرب، هبت رياح ساخنة جافة كهبو اللهيب على وجوهنا، والقارب يتأرجح خفيفا، وأحيانا كثيرا لاستمرار هبوب الرياح منذ أن تركنا السنجاري، وعبرنا شاتورمة ثم وادي العرب في نحو الثانية إلا ربعا، فأرسينا «لندا» إلى البر لراحة الموتورات، فالجو شديد الحرارة التي تكاد تشوي الوجوه! أخذنا غداء خفيفا وشربنا ماء كثيرا، ووضعنا طبقة سميكة من كريم البشرة على وجوهنا للحماية من التشقق، وكذلك على الأذرع العارية. الكاميرات لا تعمل لشدة الحر - وغير منصوح التصوير في هذه الحرارة العالية؛ لأن الفيلم لا يستجيب للضوء المبهر مع الحرارة التي تؤثر على طبقة الفيلم الحساسة - وكذلك جهاز التسجيل، وقد أخفينا هذه الآلات وسط أكوام من الملابس والأقمشة للحماية من الحرارة.
في نحو الثالثة مررنا أمام رمال وادي السبوع على البر الغربي ذات الألوان الحمراء والذهبية في صورة كثبان عالية تصل إلى حافة النهر ، وبعد قليل ظهرت خيام العاملين في معبد السبوع، أما الضفة الشرقية فكانت تلالا حجرية، ولم تمض فترة طويلة حتى بدأت صخور المضيق تقترب من ضفتي النهر، ومع هذا الضيق اشتد الهواء وارتفع الموج، وبعد اجتياز المضيق تراجعت التلال الغربية وحل محلها سهل واسع نسبيا، بينما ظلت التلال قريبة من الضفة الشرقية، اخترنا شجرة سنط ضخمة الفروع تلقي مساحة من الظل على البر الغربي، فرسونا عندها لتغيير خزانات البنزين، وفي الرابعة والنصف كانت التلال الشرقية قد تراجعت فجأة ولم تعد ظاهرة مرئية، وحل محلها بدايات سهل سيالة الواسع، وبعد الخامسة بقليل وصلنا نجع البوستة في سيالة.
قضينا الليلة في سيالة، وقد لاحظنا أن المنظر العام للسهل قد اختلف في مدة نحو ثمانية أيام؛ فالكثير من العشب انتهى باجتزازه أو بواسطة الحيوانات التي كانت مطلقة ترعاه، كذلك محصول الذرة كان قد جمع، والكثير من الكشرنجيج واللوبيا، وبذلك بدا السهل الفيضي أجرد فيه بقايا خضرة محترقة بعد أن كان مزهوا بخضرة يانعة!
عادت كوثر إلى البنات والسيدات في المساء تتحدث وتسجل أغاني معظمها معاد، باستثناء أغنية جديدة أخذت منحى أوبرالي تلقائيا؛ فهناك الفتيات والشابات يتغنين بمحاسن الانتقال إلى كوم أمبو، حيث يكن قريبات من المدن التي يعمل فيها أزواجهن بدلا من عزلتهن، وحيث لا يربطهن بالحياة الخارجية سوى البوستة الأسبوعية، وترد عليهن السيدات من كبار السن في صوت مخالف متخوف من الانتقال إلى مكان جديد ليس فيه الأمان والحرية التي اعتدنها وإمكانية تغير السلوكيات والخلقيات، وتدور المساجلة بين آمال الصغار وتقاليد الكبار على دق الدف وقطع معدنية أخرى، وهي بذلك تحكي مشاعر القوم إزاء موضوع خطير هو هجرة الوطن إلى المجهول!
وصباح الجمعة 28 سبتمبر تركنا سيالة على أمل الوصول في نفس اليوم إلى عائمات الألمان في كلابشة، وفي الثامنة إلا ربعا مررنا أمام المحرقة؛ الهواء شديد والموج كبير عن الأمس، يرتطم بجوانب اللنش وله رشاش عال أعطى رياض دشا جميلا وهو أمام عجلة القيادة. أسرع رياض باللنش إلى الجانب الغربي حيث الموج أقل قوة من الجانب الشرقي، وربما كان السبب أن جبل المحرقة يصد الرياح الشمالية فيرتد قويا على سطح النهر ويثير أمواجا قوية، أما الشاطئ الغربي فهو سهلي لا تزال حقول الذرة قائمة لم تحصد بعد، والأغنام والماعز السود تنتشر قرب ضفة النهر، والغالب أن النوبة كانت منذ يومين تحت تأثير منخفض جوي يتحرك ببطء، ويثير رياحا جنوبية ساخنة أو شمالية باردة حسب دورة الإعصار وحركته.
وفي هذه المنطقة بين محرقة غرب وقورتة، لاحظنا تجمع مجموعات كثيرة من طيور الماء: بجع أبيض، وفلامنجو ملون قرمزي الرأس والمنقار، وبط يضرب إلى لون البيج، وأبو قردان والطيور الصيادة للأسماك، وكلها بكميات كبيرة وأحجام مختلفة لم نشاهد لها مثيلا في شمال أو جنوب النوبة.
وفي سهل قورتة شاهدنا نحو ثلاثين بقرة ترعى معا، وهو أيضا أكبر رقم لتجمع الأبقار شاهدناه في كل النوبة، في التاسعة كانت الدكة على يسارنا بعد أن تركنا العلاقي على يميننا.
النهر والجو اليوم هو نقيض الأمس؛ حين كان سطح الماء شبه أملس، والهواء حارا جافا لدرجة لا تطاق. أما اليوم فالهواء شمالي بارد شديد، والنهر موجه عال سريع؛ مما اضطرنا إلى الاحتماء بالبر عند الدكة، وتناولنا إفطارا خفيفا، وتحركنا مرة أخرى في نحو العاشرة، فسواء كان الجو مناسبا أو غير مناسب، فإنه كان علينا أن نصل إلى كلابشة اليوم؛ لهذا قررنا أن نسير ببطء مع كثير من الحيطة كي نصل إلى هدفنا ولو متأخرا عن الغروب. المنظر العام منبسط على كلا جانبي النيل، ولكن الهواء العنيف يدفع أمواجا عالية ترسل رشاشا قويا علينا داخل اللنش. مررنا بكشتمنة وبعد قليل بدأت نجوع قرشة التلية في الظهور وفيما بينها أودية فاصلة، والسهل الفيضي العريض ممتلئ بالمسطحات المائية، والسواقي تنتشر على الضفة بمعدل تقريبي ساقية كل مائة متر، وعلى الضفة الغربية نجوع جرف حسين البيضاء المرتفعة على الحافة الهضبية المستمرة دون انقطاع مسافة عدة كيلومترات. هدأت الرياح قليلا وانتقلنا إلى البر الشرقي حتى وصلنا نجع البوستة الحادية عشرة والنصف. توجهنا إلى وكيل البوستة الأستاذ صالحين. شربنا الشاي وقدموا لنا دوكة طازجة للغداء، وطلب أهالي معارفنا أن نخبر عيسى وخضري ومرسي أن يزوروا النوبة في فرصة قريبة، وأن يكتبوا لأهاليهم عن أحوالهم.
تزودنا بالبنزين، وفي الواحدة والنصف تركنا قرشة وأصبح الهواء والموج أهدأ عن ذي قبل. مررنا بنجوع ماريا بمنازلها ذات الزخرف المعماري والأسقف القبابية، وفي الثانية والنصف مررنا بمعبد دندور أمام مرواو. رسونا إلى البر وتغدينا داخل اللنش، وبعد 40 دقيقة عدنا للتحرك نقصد الإفادة من الهدوء النسبي للرياح والأمواج.
قبل الرابعة بقليل وصلنا إلى نجوع عمدية أبوهور؛ النيل يضيق كثيرا، والهضبة الشرقية عالية ومستمرة لكيلومترات، والضفة الغربية أقل ارتفاعا واستمرارية وتتكون من مجموعات من التلال غير متصلة، وعندما دخلنا المنطقة هبت علينا رياح ساخنة قوية، وكان علينا أن ننتقل إلى الجانب الغربي الذي التجأت إليه المراكب المختلف. أثناء العبور عانينا الكثير من الأمواج العالية ورشاش الماء الطيني المستمر على نحو ما سبق ذكره - فصل
قراءة الماء - وقد استغرق عبور النهر نحو نصف ساعة؛ لأننا قطعنا النهر بزاوية ميل واسعة خوفا من تعرض جانب القارب لضربات الموج العنيفة والعالية.
استرحنا قليلا على الضفة الغربية وشاهدنا الكثير من السمك الطيار؛ أي الذي يقفز خارج الماء مسافة لا بأس بها. تحركنا مرة أخرى، وبعد فترة قليلة ظهرت خور رحمة، وهي نهاية أبوهور، وفي نحو الخامسة وصلنا إلى عوامات هوختيف أمام معبد كلابشة.
ودعنا الريس محمد بعد أن نفحناه «أجرة وبقشيشا» ما أثلج فؤاده، وودعنا «لندا» ذلك القارب العزيز، وأدار الريس محمد المحركات وانطلق عبر بوابة كلابشة، متجها إلى أهله في نجع قناوي حاملا معه كل ما تبقى من المأكولات، وكانت كثيرة؛ لأن الكرم النوبي في جهات عديدة قد وفر لنا من المأكولات التي اشتريناها الشيء الكثير. وبعد الاستقبال الطيب من قبل الألمان على ظهر العائمة، كان أول ما عملناه هو شرب الماء البارد والليمونادة المثلجة، وأخذنا حماما يزيل العرق وطبقة الطين الرقيقة، ويزيل كل الجهد والعناء طيلة الأسابيع التي قضيناها في النوبة، واستمتعنا فيها بكل شيء من المخاطر إلى المسرات.
في الصباح التالي ركبنا الصندل الكبير الذي يحمل آخر حجر من حجارة معبد كلابشة متجها به إلى الموقع الجديد للمعبد غرب أسوان، وقد سبق لنا أن وصفنا نقل الحجر والدعاء عند حجر السلامة في البداية الجنوبية من بوابة كلابشة - انظر فصل
بوابة كلابشة - وأثناء مرورنا في أمبركاب شاهدنا «لندا» والريس محمد على الضفة الغربية، حيث كان يزور بعض أقاربه. أطلق ريس الصندل صفارة تحية للريس محمد، ورد علينا محمد بالتلويح بعمامته.
اليوم الهواء أقوى شمالي وبارد، ولكن ماذا يهمنا الآن ونحن على ظهر صندل ضخم لا يكاد يتأثر بأمواج النيل التي كثيرا ما عرقلت «لندا» الصغيرة، وها نحن الآن متجهين إلى نهاية رحلتنا النوبية، استمتعنا بكل لحظاتها، وسوف نستعيد هذه المشاعر حينما تأتي إلينا الصور بعد تحميضها، وحين نرتب أوراقنا الكثيرة التي كتبناها أثناء الرحلة؛ لعلنا ننجح في نشر كتاب يحكي قصة جزء عزيز من أرض وشعب مصر الخالدة.
القسم الثاني
الدراسة العلمية للنوبة القديمة
الجغرافيا والتاريخ والسكان والاقتصاد وبعض أشكال الحياة الاجتماعية
تقديم
بلاد النوبة إقليم من أقاليم حوض النيل، تمتد لصق النهر التصاقا شديدا لمسافة نحو ألف كيلومتر، وهذا الالتصاق شبيه بما هو عليه الحال في مصر النيلية، لكنه أشد في النوبة عنه في مصر لرحابة الوادي شمال أسوان وضيقه الشديد في كل أرجاء النيل النوبي، عدا اتساع نسبي في وادي دنقلة، ولهذا فإن سكان النوبة كانوا حقا ناس النهر أكثر من غيرهم في الشمال أو الجنوب، وحقا يمكن أن نلخص أوضاع النوبة في العبارات المحدودة الآتية:
هي بلاد الجفاف والصخور السوداء والرمال الذهبية اللانهائية والحرارة العالية.
وهي بلاد التاريخ الطويل يشهد عليه عشرات القلاع ومئات المعابد.
وهي بلاد المياه الدافقة وسط صحار قفار بائسة.
هي دائما بوابة مصر تجاه الجنوب.
وأخيرا كانت بلاد الأمان التي ضحى أهلها بمواطنهم من أجل بقية مواطنيهم.
النيل النوبي من الخرطوم حتى أسوان يتخذ في مساره اتجاهات متعددة لأسباب يعرفها أخصائيو العلوم الأرضية، أو هم بسبيل معرفة حقائقها بمزيد من البحث والدرس، بالاشتراك مع دراسات الظروف المناخية القديمة في عصر البليوسين وما بعده.
يسير النيل النوبي في مصر نحو 350 كيلومترا، في حنيات وثنيات صغيرة متعددة، أكبرها ثنية النيل في منطقة كورسكو، وحسب الخريطة المصرية «أسوان» - لوحة 11 مقياس نصف مليون طبعة 1944، المساحة المصرية - فإنه يبدو أن التضاريس والفوالق الجيولوجية كانت سببا ظاهرا في تعرجات النهر وحنياته المتكررة، فالمتتبع لخط المناسيب 200 متر يلاحظ أن اقتراب هذه المناسيب من جانبي مجرى النهر مسئولة عن ظهور بوبات كلابشة والمضيق وأبو سنبل، ومسئولة عن حنية كورسكو من الدر حتى وادي السبوع، وأن اقتراب المناسيب العالية من جانب واحد هي الأخرى مسئولة عن توجيه النهر مثل منطقة أبوهور (خريطة 1).
ويتباعد منسوب 200 متر في الغرب من شمال الدكة حتى بوابة كلابشة، لكن ظاهرة الجبال المفردة «إنسلبرج» مثل جبال رو رو وأليسة وأبو ستيت، تملأ هذه المنطقة المتدرجة في انبساط واضح، وربما كانت هذه الظاهرة مسئولة عن انحراف النهر في قوس ضحل شمال مصب وادي العلاقي.
فهل هذه الجبال المفردة كانت فيما مضى تمثل في الماضي امتدادا للمناسيب العالية التي تراجعت بعيدا إلى الغرب بفعل التعرية الناجمة عن الرياح المحملة بالرمال، خاصة وأن الضفة الغربية للنيل من دهميت إلى الشلال الثالث
1
تسيطر عليها الرمال في ارتفاع عشرات أمتار عديدة إلا في المناطق الصخرية أو مسارات الأودية ومصباتها، وفي أحيان كثيرة تصل الرمال إلى مسار الماء في النيل، وهذه ظاهرة جعل المرتحل في النوبة يصفها تعميما بأنها صفراء ذهبية على البر الغربي، سوداء صخرية على طول البر الشرقي.
موجز الأحداث الحضارية والعمرانية والسياسية في النوبة. (1) التربة مرتبطة بمصر سياسيا واقتصاديا. (2) اقتسام النوبة بين السلطة في مصر ودولة مروى. (3) ممالك النوبة المسيحية المستقلة.
وبما أن التجوية عامل فعال في المنطقة منذ عدة آلاف السنين، فلا بد لنا من أن نضيف عوامل أخرى تكتونية كان لها أثر في توجيه مسار النيل في شكله الحالي، خاصة وأن المنطقة مليئة بالانكسارات والفوالق في أرجاء الصحراء الشرقية والغربية، وتكفينا دراسة الوادي الجاف شرقي مسار النيل في منطقة الشلال الأول؛ لنعرف أن النيل ربما غير مجراه في الماضي عدة مرات، ولا يفوتنا في هذا المجال الإشارة إلى الطمي السبيلي الذي يشير إلى نيل غير الذي نعرفه الآن،
2
وكذلك لا يفوتنا أن نذكر أن منسوب النيل كان أكثر ارتفاعا عن منسوبه الحالي عند منطقة سمنة وقمة في النوبة السودانية بمقدار سبعة أمتار ونصف المتر، ومعنى ذلك أن النهر كان خلال عصر الدولة الوسطى في مصر «2000 إلى 1788ق.م حسب برستيد» على هذا المنسوب العالي، بحيث أقام ملوك الدولة الوسطى حصونهم في المنطقة الصخرية المتحكمة في الملاحة النهرية.
3
فإذا كان منسوب النهر في تلك الفترة مرتفعا، فإنه يعني أن الكثير من العوائق الملاحية التي يشكلها الشلال الثالث والثاني لم تكن موجودة بل غاطسة، وأن الملاحة كانت بذلك أيسر مما صار إليه الحال في عهد الدولة الحديثة وما بعدها.
ومن ثم نفهم دور النوبة كطريق مائي وبري مهم لتجارة مصر من الأقاليم المدارية
4
خلال فترة طويلة من التاريخ منذ عصر الأسرات إلى مصر البطلمية والرومانية، وقد ظلت التجارة الآتية من الجنوب تشمل العاج وريش النعام والتوابل والأبنوس وغيره من الأخشاب النبيلة والصمغ والماشية والأسرى، فضلا عن الذهب الذي كان يعدن من الأودية الشرقية، وربما ذلك الذي يأتي من أعالي النيل أيضا، وفي مقابل ذلك كانت أهم السلع المصرية المتجهة إلى الجنوب هي المنسوجات والخرز الملون والعطور.
الأسماء التي كانت تطلق على بلاد النوبة وأقسامها وسكانها
الذهب في اللغة المصرية هو الكلمة «نب»، ومن ثم كانت هناك محاولات لربط اسم النوبة بمعدن الذهب.
ملاحظة:
في فترة فراعنة الدولة القديمة كانت شبه الصحراء تمتد جنوبا نحو الخرطوم الحالية، وبذلك كانت رحلات وبعثات حكام أسوان ميسورة بقوافل الحمير في اتجاه السودان الأوسط «منطقة الخرطوم وكردفان» والسودان الغربي «دارفور»، ثم حل الجفاف تدريجيا وزحفت الصحراء جنوبا إلى أن وصلنا إلى الوضع الحالي منذ الألف الثانية ق.م. حدود شبه الصحراء والصحراء منقولة عن «أندرو جودي» في كتابه «التغيرات البيئية» الترجمة العربية لمحمود عاشور، إصدار المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 1996 ص155.
خريطة (3): شبه الصحراء في حوض النيل قديما وحديثا.
ولكننا نجد أن أقدم الإشارات إلى بلاد الجنوب كانت باسم «تا-ستي
Ta-Sti »؛ بمعنى أرض القوس «النشاب»، وكان هذا الاسم يطلق على المنطقة الممتدة من إدفو جنوبا إلى ما بعد الشلال الأول، ولكن فيما بعد ظهر اسم «واوات» على شمال النوبة، وكذلك «كيش» أو «كياس» - عصر سيزوستريس - و«كاشا» و«كاشو» و«كاسو» - ألواح تل العمارنة - على القسم جنوب الشلال الثاني، ثم تحول الاسم إلى «كي»، بينما أطلق اسم «شات» على منطقة الشلال الثالث، وأخيرا أصبحت «كوش» التسمية العامة للنوبة الجنوبية، أما واوات فقد تحولت، ربما مبكرا، إلى «تا-كنز»؛ حيث «تا» بمعنى بلاد، و«كنز» بمعنى رمح - في المصرية القديمة
5 - ومنذ العصر الفاطمي أصبحت النوبة الشمالية في مصر تعرف ببلاد الكنوز، فهل هناك صلة بالاسم القديم، أم الصلة مرتبطة بجماعة كنز الدولة زعيم قبيلة ربيعة الذي حكم المنطقة فترة ما في عصر الفاطميين - خلع عليه الحاكم بأمر الله لقب كنز الدولة؟ وإلى الجنوب من كوش كانت بلاد عرفها المصريون باسم المازوي الذين ربما كانوا سكان النوبة الجنوبية، ويقول برستيد إن الكثير من المازوي عملوا في الجيش المصري بكثرة، لدرجة أن كلمة «ماتوي» أصبحت تعني جندي في اللغة المصرية القديمة.
وفي هذا المجال يجدر أن نذكر أن حكام الجنوب منذ الأسرة السادسة كانوا يسكنون جزيرة «آبو»، التي تعني في اللغة المصرية «العاج»، وترجمها الإغريق إلى «إلفنتين»؛ بمعنى الفيل، ومنها اشتق الاسم العربي: جزيرة فيلة،
6
ولم يكن أمراء الجنوب مسئولين فقط عن تأمين حدود مصر الجنوبية ووقف هجرة الزنوج شمالا، وتأمين التجارة المدارية، بل كانت مسئوليتهم تتعدى ذلك إلى تأمين طرق الصحراء الشرقية ضد «السائرين على الرمل»؛ أي سكان الصحراء كما كانت تسميهم السجلات المصرية، وحفر الآبار لتوفير الماء للمتجهين إلى المناجم وإلى البحر الأحمر، ومن ثم التجارة البحرية مع بلاد «بنت»، وأشهر أمراء الجنوب أسرة «حر خوف»، الذي قام ابنه بأربع رحلات إلى البلاد الغريبة في الجنوب، واستغرقت رحلته الثانية بطريق البر ثمانية أشهر، وعاد في رحلته الرابعة بقزم من بلاد يام، التي ربما تكون بلاد دارفور وما جاورها (خريطة 3).
وكذلك نجد على قبر أحد قواد «إلفنتين» نقش أنه قام بإحدى عشرة رحلة إلى بلاد بنت، وكان ذلك في عصر الأسرة السادسة التي حكمت بين 2625 و2475ق.م.
وعلى الأغلب فإن اسم النوبة قد اشتق من اسم قبيلة النوباتي
Nobadae
7
الذين استقدمهم الرومان في القرن الثالث الميلادي من مواطنهم في الصحراء بين الواحة الكبرى والنيل النوبي، وأسكنوهم النوبة المصرية ليكونوا بمثابة إمارة حاجزة ضد غارات قبائل البليمي
Blemmyes
الذين هم على الأغلب أجداد قبائل البجة الحالية في الصحراء شرقي النيل النوبي، وأيا كانت صحة هذه الرواية التاريخية، فإن اسم النوبة أصبح الاسم العام لكل الإقليم؛ من الشلال الأول عند أسوان، إلى الدبة في أقصى جنوب بلاد الدناقلة. وفي النوبة المصرية صار الاسم لصيقا ببلاد الفديجة، التي كانت تسكن الجزء الجنوبي من النوبة المصرية حتى وقت التهجير الذي صاحب بناء السد العالي؛ تمييزا لهم عن بلاد الكنوز ووادي العرب الذي تسكنه جماعة عرب العليقات.
الفصل الأول
موجز التاريخ الحضاري للنوبة
ظل تاريخ النوبة غامضا إلا من الإشارات التي ترد في السجلات والكتابات التاريخية الفرعونية والبطلمية الرومانية والعربية، ولكن إنشاء سد أسوان وتعليته مرتين، ثم إنشاء السد العالي كان حافزا - في كل مرة يبدأ فيها عمل من تلك الأعمال الهندسية الكبرى - للعلماء أن يقوموا بدراسات أركيولوجية للآثار المهددة بالغرق، وهكذا تجمعت معلومات خلال نحو قرن عن تاريخ النوبة في مصر والسودان، ومن الأسماء المهمة في كتابة تاريخ النوبة «إمري
Emery » و«كيروان
Kirwan » اللذان قاما بحفائر عديدة في المناسيب بين 116 و122 مترا، ودرس يونكر
Junker
حفريات في أرمنا، وجريفيث
Griffith
في منطقة فرس، و«وولي
Wooley » في الكرنوج، ورايزنر
Reisner
في عدة أماكن في النوبة السودانية، ودي فيلارد
Monneret de Villard
الذي قام بدراسة شاملة للآثار المسيحية في النوبة.
وقبل إنشاء السد العالي كانت النوبة خلية نحل لمختلف البعثات العلمية من ألمانيا وهولندا والنمسا وسويسرا وفرنسا والولايات المتحدة، فضلا عن الباحثين من مصلحة الآثار المصرية. ولأن الموضوع كان يقتضي نقل كل النوبيين، فإن الجامعة الأمريكية بالقاهرة، بمنحة من مؤسسة فورد، قامت بتنظيم دراسات عديدة عن السكان وحضارة وثقافة النوبيين قبل انتقالهم وتعرضهم للتغيير الحضاري في مواطنهم الجديدة.
1
والخلاصة أن تاريخ النوبة بدأت معالمه الرئيسة في الظهور، كما أخذت أشكال المجتمع النوبي من الدرس ما جعلها تبين كيف صنع النوبيون لأنفسهم طريقة للحياة
Modus Vivande
في ظل ظروف وموارد جد محدودة لقرون طويلة.
جدول 1-1: موجز تأريخي لإقليم النوبة.
مصر
المجموعة الحضارية في النوبة
ملاحظات
قبل الميلاد
3200
الأسر 1-3 (أ)
A
ما سبق ربما كان مرتبطا بحضارة مصرية
2800
الأسر 3-5 (ب)
B «عمرة وجرزا والسمانية» أما ما سبق «بدارى وتاسا» فلم يعثر لهما على أثر
2400
الأسر 6-13 (ج) المبكرة
C
حضارة كرما في النوبة العليا
1800
الأسر 14-18 (ج) المتأخرة
C
قبور دائرية
1565
الأسر 18-20 (د)
D
1090
الأسر 21-24
النوبة مهجورة
حضارة ناباتا المبكرة والأسرة 25
663
وحضارة ناباتا المتأخرة
300
البطالمة
النوبة مهجورة
نشأة دولة مروى
30
الرومان (س)
X
بدايات ظهور البليمي والنوباتي
بعد الميلاد
450
الرومان والمسيحية (س)
X
نهايات مشكلة البليمي واستقرار النوباتي
550
الرومان
بدايات المسيحية في النوبة
640
العرب والإسلام
المسيحية في النوبة
معاهدة البقط بين المملكة المسيحية والعرب
1315
المماليك
الإسلام ونهاية المسيحية تماما في النوبة
وقد تحددت المجموعات الحضارية النوبية من (أ) إلى (س) بناء على الحفائر التي قام بها علماء الآثار، ودراسة أنواع الفخار واللقى الأثرية التي وجدت في المقابر ومقارنتها بالمنتجات المادية المصرية وتلك التي تعود إلى حضارة نباتا ومروى.
فترة الحضارة (أ) (A) :
يبدو أن النوبة كانت منقسمة إلى تجمعات متعددة، قليلة العدد، ويرأس كلا منها زعيم منذ حضارة جرزا، ويبدو أيضا أن النوبة تعرضت لغزو من الشمال في وقت الحضارة السمانية، لكن الأمور عادت إلى التفرق جماعات منفصلة فيما بعد. وبوجه عام، فإن السكان كانوا متشابهين حضاريا وسلاليا مع السكان الذين كانوا يعمرون بقية الوادي في مصر من أسوان حتى إدفو أو أرمنت، ولم يكن سكان النوبة آنذاك ممنوعين من دخول مصر، بل ربما كان بعضهم يتولى وظائف مرموقة في مصر، وهناك بعض الفروق بين النوبة ومصر في شكل المقابر التي كانت مستديرة وبيضاوية في النوبة، وفي شكل منتجات الفخار، ولم تصل الكتابة إلى النوبة في تلك الفترة باستثناء رسم بعض الرموز السحرية على الفخار، وبخاصة صقر حورس.
الحقبة الحضارية (ب) (B) :
بدأ تسرب الزنوج في النوبة تدريجيا، والحضارة عامة أفقر من حضارة (أ)، وتختلف في طريقة الدفن وشكل المقبرة التي كان يستعمل فيها ألواح حجرية على الجانبين، وكان الميت يدفن ورأسه إلى الشمال أو الغرب ملفوفا في جدائل من الحصير أو الجلود. الفخار قليل الظهور وهو من نوع سميك أحمر رديء الصنع، ويبدو أن النوبة في تلك الفترة كانت تقع بين شد الشمال المتقدم تقنيا - زراعة وكتابة وديانة عليا - وبين الشعوب الجنوبية المتأخرة حضارة واقتصادا، وفي خلال الحقبتين (أ) و(ب) كانت الحياة الاقتصادية تقوم على رعي الحيوان على النباتات النامية على ضفاف النهر وسهله الفيضي، وصيد الأسماك، ومن ثم لم تكن أعداد السكان المتناثرين في أرجاء النوبة كثيرة؛ إذ تدل الجبانات التي تعود لتلك الفترة على هذه القلة السكانية، فالهياكل البشرية الموجودة في الجبانة الواحدة لا تزيد عن نحو مائة هيكل في طبقات تاريخية متعاقبة، مما قد يستدل منه على استمرار السكن في نفس المكان لعدة أجيال.
ويرى بعض الباحثين أن التجارة كانت قائمة مع أمراء دويلات الصعيد في تلك الفترة، وخاصة نحاس بوهن - قرب حلفا - ومنتجات مدارية من عاج وأخشاب، مما ساعد على قيام مراكز تجارية نوبية، وظهور طبقة من الحكام النوبيين نتيجة الثروة الناجمة عن التجارة مع مصر الموحدة. وقد وجد في مقبرة زعيم في سيالة عصي الحكم المصرية مطعمة بالذهب، ربما كانت هدية مقابل خدمات أداها هذا الحاكم المحلي لمصر، كما وجدت بيوت من الحجر حسنة البناء في قرية عافية، ربما كانت سكنا لأحد هؤلاء الزعماء في تلك الفترة، ولا شك في أن عدد السكان قد زاد، بحيث إن حملة الملك زوسر قد عادت وهي تحمل معها بضعة آلاف من سكان النوبة إلى مصر؛ لتقليل الثورات وإقرار الأمن، ولكن ربما كان في ذلك أثر سيئ على الأنشطة الاقتصادية في النوبة كما يقول بعض الباحثين.
حضارة المجموعة (ج) (C) :
على الأغلب ظهرت بعد انهيار الدولة القديمة في مصر، وهناك آراء أنها ظهرت بعد الأسرة السادسة نتيجة استقرار تدريجي لسكان الصحاري المجاورة التي بدأت تأخذ في الجفاف. وعلى أية حال، فإن هذه الحضارة تحتوي على عناصر يمكن إرجاعها إلى مؤثرات ليبية من قبائل الصحراء الغربية، وكانت الصحراء قليلة السكان في نهاية العصر الحجري القديم، ثم سكنت بأعداد معقولة خلال العصر النيوليتي - الحجري الحديث - لتحسن الظروف المناخية بعض الشيء، ولكن المناخ تدهور حوالي 2200ق.م؛ مما أدى إلى الهجرة صوب وادي النيل والواحات المصرية، وبقايا هذه الحضارة منتشرة بكثرة في النوبة السفلى واستمرت خلال عهد الدولة الوسطى المصرية، وتنتمي حضارة كرما - في النوبة السودانية الآن - إلى مجموعة (ج) وقد عمل فيها الأستاذ رايزنر حفائر كثيرة، لكن المعلومات ناقصة ومبهمة. ونتيجة لانتشار الأمان والسلام الذي أسفرت عنه الحملات المصرية، وإقامة قلاع وحصون في فيلة وبيجة وكوبان والدكة ومعام (عنيبة) وفرس وبوهن (قرب وادي حلفا) وسمنة شرق وغرب وأورونارتي وكرما (التي أسميت حائط امنمحعت العادل)؛ فإن المجتمع النوبي زادت أعداد سكانه وازدهرت حياته. ويدل على ذلك وجود جبانات كثيرة ومصنوعات معدنية مصرية، وكذلك تنوع أشكال الفخار وأحجامه وألوانه وكثرة وجوده؛ مما يدل على وجود مجتمع مستقر كبير العدد نسبيا.
والأغلب أن الزراعة كانت تمارس، وبخاصة أعلاف الحيوان الذي كان ركنا أساسيا في الإنتاج النوبي، واستمر لفترات طويلة كذلك، وكانت الحصون المصرية عبارة عن أسوار عالية - نحو تسعة أمتار - وخندق حولها، وثكنة عسكرية ومساكن للضباط والجنود وموظفي الضرائب والإدارة وأسرهم، فضلا عن مساكن لإيواء التجار المقيمين والمسافرين، وبالقرب من السور الخارجي كانت توجد حلة للأهالي الذين يتعاملون مع أهل الحصن ومع التجار، وجبانة لدفن الموتى، وباختصار كانت تلك القلاع مراكز عسكرية تجارية إدارية ومصادر إشعاع حضاري، وتوضح مدى تقدم الفنون الحربية المصرية،
2
ولم تكن مهمة هذه الحصون تأمين الحياة والملاحة فقط، بل تأمين الطرق البرية الممتدة بحذاء النهر، أو تخرج منه في اتجاه الدروب الصحراوية في الغرب والشرق.
الحضارة (د) (D) :
ظهرت مصاحبة للدولة الحديثة في مصر، وكانت النوبة وقتها قد تمصرت تماما، وكانت هناك حالة من الازدهار، فبالرغم من أنه يبدو أن منسوب النيل قد انخفض إلى نحو منسوبه الذي كان عليه حتى آخر القرن 19م، إلا أن إدخال الشادوف إلى النوبة في ذلك العصر قد أدى إلى استزراع أراض كثيرة كانت قد أصبحت عالية بالنسبة لمنسوب النهر، كذلك اتبع ملوك الدولة الحديثة سياسة حكم مزدوج أو ذاتي بمقتضاه لم تطح مصر بالحكام النوبيين، بل حكمت من خلالهم وأرسلت أبناءهم للتعلم في مصر، وبذلك أصبحت النوبة مصرية دون حملات عسكرية، واتبع النوبيون نظام ملكية الأرض المصري من حيث تبعيتها للحكام ومساعديه والمعابد، وهنا يمكن أن نقول إن النوبيين تحولوا تماما من نظام تربية الحيوان أساسا إلى نمط ما من أنواع الزراعة الكثيفة: حبوب ونخيل ومناحل ومعاصر للأعناب، وربما وصل عدد السكان في تلك الفترة إلى نحو 20 ألفا أو يزيد.
العصر البطلمي:
لم توجد آثار تشير إلى سكن دائم في النوبة؛ مما دعا إلى وصفها بأنها كانت مهجورة أو ما يشبه ذلك، برغم أن حدود مصر الجنوبية كانت عند المحرقة - جنوب مصب وادي العلاقي بقليل - وأن ما بعد ذلك جنوبا كان داخلا في نفوذ دولة مروى، ولعل سبب قلة السكن في النوبة - أو هجرها - راجع إلى ما يلي: الدولة البطلمية أساسا دولة تشغلها مشاكل البحر المتوسط، وعاصمتها الإسكندرية بعيدة عن النوبة بالقياس إلى موقع العاصمة القديمة في طيبة. ودولة مروى تشغلها مشاكل السودان الأوسط، وعاصمتها تقع على بوابة الإقليم المداري جنوب الصحراء، وذلك على عكس موقع ناباتها المتاخم للنوبة مباشرة، ومن ثم فإن مراكز الثقل في الدولتين انزاحت شمالا وجنوبا، وأصبحت النوبة بلاد تخوم هامشية لا تجذب السكان إليها، لكن ذلك لا ينفي دور النوبة كممر للتجارة بين الدولتين، وإن كنا لا نستبعد بداية طرق القوافل عبر الصحراء الشرقية «بربر-كورسكو»، والصحراء الغربية - درب الأربعين والدروب التي تلحقه قادمة من بلاد كوش، إقليم دنقلة الذي يتصل مباشرة بكردفان ودارفور عبر طريق وادي المك - ولعله في تلك الفترة أيضا بدأ دخول الجمل إلى مصر؛ مما يسهل قطع مسافات صحراوية طويلة، بدلا من قوافل الحمير التي كانت شائعة طوال العصور السابقة.
حضارة (س) (X) :
ظهرت خلال العصر الروماني، وهناك غموض كثير يحيط بالنوبة في تلك الفترة، وقد درس الأستاذ إمري مخلفات هذه الفترة في جبانات بلانة وقسطل، وهناك أيضا آثار لها في منطقة طافا أو تيفة - قرب كلابشة - ويختلف الرأي حول نسبة هذه المجموعة إلى البليمي أو إلى النوباتي، خاصة وأن الرومان أسكنوا النوباتي في شمال النوبة المصرية في نحو القرن الثالث الميلادي، لصد هجمات البليمي المتكررة على النوبة وجنوب مصر، لكن النوباتي انتشروا وسكنوا جنوب النوبة المصرية، وفي البداية كان البليمي خاضعين لدولة مروى، ولكن سقوط مروى في نحو 300 ميلادية، قد أدى إلى انطلاق البليمي كبدو راكبي الإبل يستعملون أساليب الكر والفر، ومن ثم صعب كبح جماحهم، وفي تلك الفترة أيضا كانت الدولة الرومانية تعاني انقسامات حادة، فضلا عن بداية انتشار المسيحية في أرجاء مصر وبيزنطة في حوالي القرن الخامس الميلادي، وكل هذا أدى إلى انشغال الرومان عن حماية مصر الجنوبية، فحاولوا إقامة جماعة أو إمارة حاجزة تتولى صد هجمات البليمي، وعلى أي الحالات فإن الأمور مختلطة بشدة عن سكان مجموعة (س): هل هم البليمي، أم النوباتي، أم حدث اختلاط بين هؤلاء الذين استقروا من المجموعتين في النوبة وكونوا إمارة مستقلة؟
وقد وضح من الدراسات التي تمت أن البليمي والنوباتي في النوبة كانوا يدينون بعبادات مصرية مروية قديمة، وخاصة عبادة إيزيس، ويأخذون تمثالها الموجود في جزيرة فيلة يطوفون به بلادهم من أجل الخصب والوفرة، وكان ذلك يتم بموافقة الرومان، فلما انتقل الرومان البيزنطيون والمصريون إلى المسيحية في القرن الخامس الميلادي، أغلقت المعابد القديمة؛ مما أثار عليهم النوباتي، فغزوا جنوب مصر حتى أرمنت والواحة الخارجة في عام 429م، وقد هزمهم الرومان في 452م، لكنهم أعادوا فتح المعابد وسمحوا للنوباتي والبليمي بإقامة شعائرهم القديمة، ثم تنصر النوباتي تدريجيا وأصبح هناك سلام على الحدود المصرية الجنوبية، خاصة بعد أن انتصر «سيلكو» ملك النوباتي عام 530م، على البليمي، فلم نعد نسمع عنهم بعد ذلك (انظر خريطة 4).
وقد وجد في جبانات بلانة وقسطل الملكية أدلة على أنهم كانوا يتبعون عادة الأضاحي البشرية تصاحب وفاة الزعماء، وهو ما يدل على وصول مؤثرات بربرية من الجنوب، ولكن باستثناء ذلك فإن هناك مؤثرات مصرية قوية رصدها الأركيولوجيون، كالتيجان الفضية التي تحمل ريشة «آتف
Atef »
3
ورأس آمون رع مزدانة بأحجار شبه كريمة، كما كانت الأسلحة متطورة بحكم أنهم كانوا شعبا من المحاربين: فهناك السيوف القصيرة، والرماح الكبيرة ذات الرءوس الحديدية الثقيلة، والقسي والسهام، كذلك وجدت سروج الخيل المطعمة بالفضة، ولجام الجمال مع أجراس، وموائد مطوية، ومقاعد ومصابيح برونزية، وكئوس فضية وبرونزية، وكانت الكتابات التي وجدت مكتوبة بالخط الهيروغليفي المروي، لكنها تغيرت إلى الخط الإغريقي بعد التحول إلى المسيحية.
هذا الشكل من التقدم النسبي في النوبة ارتبط أساسا بدخول الساقية خلال فترة العصر الروماني،
4
وقد ساعدت الساقية على اتساع الأراضي الزراعية بصورة مضاعفة، بالقياس إلى الري بالشادوف المصري الذي دخل قبل ذلك بنحو ألفي عام، ومع انتشار نمط الري بالسواقي زاد السكن الريفي في أماكن لم تكن مأهولة من قبل، وبدأ التخلي عن نمط السكن السابق المرتبط بنقاط ومدن حصينة، ومع تزايد المساحات الزراعية والإنتاج المحصولي والرخاء العام؛ زاد سكان النوبة - ربما تقديرا - إلى نحو 50 ألفا، معتمدين على موارد زراعية محلية دائمة إلى جانب الموارد الخارجية الناجمة عن الدور التجاري التقليدي للنوبة، وسوف يترسخ هذا النشاط الزراعي بصورة أعم وأشمل في العصر المسيحي النوبي، حينما حل سلام نسبي بسقوط دولة مروى، واتجاه مصر إلى سياسات العالم الإسلامي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
أما المحراث فإن دخوله إلى النوبة يبدو متأخرا جدا، فلم يذكر أحد من الرحالة المحدثين وجوده، بل إن بوركهارت لم يره في أي مكان في النوبة عام 1813، ويذكر أن النوبيين لا يحرثون الحقول كما يفعل المصريون، وحسب معلوماتنا الحالية أن حسين باشا خليفة مدير دنقلة وبربر للفترة 1869-1873، هو الذي حث النوبيين على تعلم استخدام المحراث، فالغالب إذن أن أهل النوبة استمروا في استخدام الفأس بأنواعه طوال آلاف السنين من الزراعة، رغم وجود المحراث إلى جوارهم في بقية مصر طوال العصور الفرعونية وما تلاها إلى القرن الماضي، وهذا الموقف يشكل تساؤلا محيرا قد لا نجد إجابة عليه، إلا من خلال دراسات أنثروبولوجية عديدة في أماكن مختلفة من العالم، توضح أن الاستعارات الحضارية لا تأخذ بالضرورة كل تكنولوجيات الإنتاج، إنما تختار منها ما هو مناسب لسبب دفين في تاريخ أو معتقد أو النظم البيئية للمجتمع المتلقي.
العصر المسيحي
اختلفت المنتجات الفخارية وطرق الزراعة، خاصة بعد هجرة بعض أقباط مصر إلى النوبة بعد دخول الإسلام مصر، والأغلب أن المسيحية بدأت تتسرب إلى النوبة في أواسط القرن السادس الميلادي، لكن قمة المسيحية النوبية شغلت الفترة بين أواسط القرن التاسع إلى نحو 1100م، وفي نحو القرن التاسع أصبحت كل بلاد النوبة المصرية والسودانية مملكة مسيحية تعرف باسم «مقرة» وعاصمتها دنقلة العجوز، حدث عهد من الازدهار فتحسنت الأحوال الاقتصادية وخاصة التجارة مع مصر؛ زاد عدد السكان وانتشر نمط الأسرة الزواجية الأحادية، ونمت المدن عبر أسوارها القديمة، وانتظم المجتمع في أبروشيات تابعة لثلاث كاتدرائيات كبرى في النوبة المصرية: هي الدكة وإبريم وفرس، وهو ما يشير إلى أهمية هذه المدن الثلاث خلال معظم العصور.
خريطة (4): النوبة في عصور مختلفة حتى القرن الخامس عشر.
وفي خلال فترة المسيحية الأولى في النوبة، حدثت ثورة هددت جنوب مصر الإسلامية؛ مما اقتضى عبد الله بن سعد إلى غزو النوبة في 651م، ووصل إلى دنقلة وهدم كنيستها، وعقد مع ملك النوبة معاهدة شهيرة عرفت باسم «البقط» - ربما تحريف للمصطلح اللاتيني بمعنى معاهدة
- والتي نصت على إرسال جزية سنوية من الرقيق إلى مصر، والسماح بارتحال المسلمين إلى النوبة وارتحال النوبيين إلى مصر، على ألا يكون ذلك بغرض الإقامة الدائمة، مع عدم التعرض للديانة المسيحية في النوبة، وفي سنة 1171 غزا شقيق صلاح الدين الأيوبي النوبة المصرية وحول كنيسة إبريم إلى مسجد إسلامي، وكذلك غزا المماليك النوبة في 1272، وكان آخر العهد بالمسيحية في النوبة عام 1315 حين أخذ آخر الملوك المسيحيين أسيرا إلى القاهرة.
5
الإسلام في النوبة
تسرب الإسلام إلى النوبة خلال العصر الفاطمي نتيجة ضغوط هجرة قبائل بني هلال وسليم إلى مصر؛ فزاحموا القبائل العربية القديمة واضطروهم إلى النزوح جنوبا، وأخذ بعض المسلمين يشترون أراضي ويقيمون فيها في النوبة جنوب الشلال الأول منذ القرن العاشر، وزاد هذا التضاغط للقبائل العربية جنوبا في العصور التالية؛ نتيجة قوة العناصر التركية والشركسية في مصر، خلال العصر المملوكي ثم العثماني بصفة خاصة. وقد تجمعت قبائل ربيعة وجهينة وقبائل مغربية في منطقة أسوان في القرون من العاشر إلى الثاني عشر، وتداخلوا مع النوبة ثم اندفعوا جنوبا إلى السودان الشمالي في القرنين 14 و15 مطوقين بقايا النوبة المسيحية،
6
وفي القرن السادس عشر نشأت مملكة الفنج الإسلامية في السودان الأوسط، بعد أن قضت على مملكة سوبا المسيحية - كان مركزها قرب الخرطوم الحالية - وبذلك لم يعد للمسيحية مكان في شمال شرق أفريقيا إلا في بلاد الحبشة، بعد أن كانت هي الديانة الغالبة من مصر إلى النوبة والسودان الأوسط والحبشة.
وفيما بين القرنين 14 و16 كان هناك ملوك مسلمون في النوبة متناحرين فيما بينهم، ثم جاء العثمانيون في مصر سنة 1517، وأقاموا في النوبة قلاعا وحاميات من الجند، غالبيتهم من رعايا الدولة العثمانية في الأناضول والبلقان، وخاصة من الأكراد والألبان والبشناق - البوسنة - والمجر، وكانت الحاميات الكبرى توجد في أسوان وإبريم وجزيرة صاي، وقد تركت هذه الحاميات لفترة طويلة شبه منسية؛ مما أدى إلى اختلاطهم بالسكان الأصليين وأصبحوا حكاما لبلاد النوبة باسم السلطان العثماني، وعرفوا باسم الكشاف، إلى أن أنهى محمد علي حكمهم في أواسط القرن التاسع عشر، ودخلت النوبة عصرا من السلام والأمان، لم يعكره إلا غزوة دراويش المهدية الذين هزموا في معركة توشكى سنة 1889.
موضوع الكشاف
يحتاج هذا الموضوع إلى بعض التوضيح؛ هل شكلوا حكما مستقلا أم إدارة ذاتية تحت النفوذ الاسمي للولاة في القاهرة مقابل ضريبة سنوية؟ وما هي مناطق نفوذهم في أي من الحالتين؟ وكيف استمر هذا النظام نحو ثلاثة قرون؟ الأغلب أن «الكاشف» كان نظاما متمما للحكم في مصر في صورة التزام، مقابل استقرار الأمور واستمرار التجارة، وبعبارة أخرى كانت النوبة تحت إدارة الكشاف دويلة ذاتية عميلة لمصر، في مواجهة سلطنة الفنج التي امتد نفوذها في فترات قوتها إلى دنقلة.
هل صحيح أن الدولة نسيت هذه الحاميات العسكرية كما ذكر كل الذين كتبوا عنهم؟ ربما سقطت رواتبهم ولكنهم كانوا موجودين ومعروفين لدى القاهرة، على الأقل نتيجة إرسالهم الضريبة السنوية، وحاكم إسنا أو أسوان له صلة ومراسلات بهم، ويكتب خطابات توصية لأشخاص يمرون بالنوبة يأخذها الكشاف على محمل الجد ولا يخالفونها إلا بدهاء يجعلهم غير مسئولين عما وقع خلافا للتوصية، إذن الدولة في مصر لم تنس الكشاف، وإنما أغلب الأمر أنها تركتهم يدبرون أمورهم داخل النوبة وبمواردها المحلية، وربما أمدتهم بالسلاح أو سهلت لهم الحصول عليه من السوق المصرية للإبقاء على فاعليتهم العسكرية ضمانا للحدود الجنوبية.
أما كيف استمروا في الوجود، فيرجع ذلك إلى سياسة تزاوجهم مع بنات وجهاء النوبيين وأغنيائهم، وتزويج أبنائهم على هذا النحو. لهذا تقول بعض المصادر إن الكاشف كان له زوجات عديدات لم يجمعهن في حريم داخل قصر، وإنما يبقيهن في قراهن، وبذلك يشرف هو وأبناؤه على ممتلكات الأمهات في نواح عديدة من النوبة، لهذا تكاثر الكشاف بحكم النسب الأبوي، وأصبحوا قوة عصبية داخل جسم النوبيين الذين هم أنسبائهم وأخوالهم على مر الأجيال، ولا شك أن الأبناء يتلقون تعليما عسكريا يسمح لهم باستمرار النفوذ ومساعدة الكاشف الكبير الذي يسكن الدر، وهذا الأخير يندب أخا أو ابنا لممارسة جمع الضرائب من الأهالي في مناطق معينة من النوبة؛ مما خلق نسيجا متشابكا من الحكم يمتد إلى ما تصل إليه قوة الكشاف.
وقد أدى التعسف في جمع الضرائب إلى هجرات سكان نجوع بأكملها في أحيان،
7
مما يعطي الفرصة للكاشف تمليك الأرض التي هجرها أصحابها إلى بعض القادرين على الوفاء بالضريبة المفروضة عليها، أو تمليكها لأبنائه وأقاربه، خاصة أراضي «الجرف»؛ أي التي تحاذي ضفة النهر مباشرة ، وهي أسهل في ريها وأغناها محصولا، وهذه التصرفات كانت تعني تغير أشكال الملكية وتغير الملاك، بل وتغير بعض السكان في النجوع والقرى من حين لآخر طوال حكم الكشاف للنوبة، ولكن الأمور استقرت بعد أن أصدرت الحكومة المصرية قرارا في 1902 بتثبيت ملكية الأرض لمن يزرعها، وبالتالي فإن الكثير من ادعاءات ذرية الكشاف على أراض كثيرة انتهت، وانتهت معها سطوة كانت تمثل زاوية باقية من زوايا النفوذ القديم للكشاف، ولم يبق لهم إلا الأراضي التي آلت إليهم بالميراث، شأنهم في ذلك شأن بقية النوبيين، ويجب أن نلاحظ أن ذلك قد مس أراضي جنوب النوبة من كورسكو إلى أدندان، حيث كان الكشاف وأتباعهم يتركزون في الأراضي الغنية، بينما لا نلحظ ذلك في وسط وشمال النوبة؛ لأن نفوذهم في تلك المناطق كان غالبا ما يقتصر على فرض الضرائب.
حكم الكشاف كان يمتد من بلاد الكنوز إلى بلاد المحس، لكن مركز الحكم كان هو إقليم النوبيين في مصر إلى بلاد السكوت؛ أي يمتد من نحو كورسكو إلى جنوب الشلال الثاني، وهذه هي أخصب بلاد النوبة بإطلاق فيما عدا السهل الغني في إقليم دنقلة، وكانت قرى الكنوز الشمالية تقف أحيانا في وجه الكشاف، وبخاصة ابتداء من قرشة، فلا تدفع الخراج المطلوب أو تدفع أقل منه، وربما كان ذلك ناجما عن اقتراب هذه المناطق من مركز الحكم المصري في أسوان، كذلك كان عرب العليقات يدفعون ضريبة، لكن الكشاف لم يكونوا يعاملونهم بنفس أسلوب معاملة الكنوز؛ لقوة العليقات التجارية وحسن تسليحهم. وفي داخل مركز الكشاف كانت هناك قوى أخرى هي في أحيان مناوئة، متمثلة في أغا إبريم الذي يمتد نفوذه غير بعيد من جنوب الدر حتى توشكى، وأغا جزيرة صاي في شمال بلاد المحس. وأغلب الكشاف يعودون بأصولهم الأولى إلى البشناق والمجر وغيرهم من بلاد البلقان العثمانية، أما حكام جزيرة صاي فكانوا من الأكراد، وكلهم كانوا يتكلمون التركية العثمانلية، ولا تزال بعض الأسماء تشير إلى ذلك الأصل البعيد مثل مجموعة المجراب التي كانت منتشرة في منطقة حلفا، أو أسماء بعض الأماكن والقرى مثل الكارانوج؛ حيث «كارا» أو «قرة» كلمة تركية بمعنى أسود، و«نوج» مصطلح نوبي بمعنى بيت أو مجتمع نسبي.
وعلى الرغم من قوة الكشاف، إلا أنهم لم يكونوا ندا للمماليك الهاربين من وجه محمد علي، فبرغم هزيمة المماليك أمام إبراهيم باشا في كشتمنة - في النوبة الشمالية - عام 1811، إلا أنهم زحفوا جنوبا إلى الدر وإبريم واستولوا على قلعتها في العام التالي، واستولوا على 1200 بقرة وأغنام كثيرة وأموال فدية الأغا والسكان، وحاصروا بعض القوات المصرية التي كانت تطاردهم، ثم زحفوا جنوبا إلى المحس واستقروا في دنقلة
8
مكونين دولة مملوكية لم تعمر سوى تسع سنوات من التنظيم والإدارة، انتهت بدخول كل السودان في حوزة مصر.
الفصل الثاني
مشكلة اللغات النوبية
إذا كان تاريخ بلاد النوبة معقد مليء بالثغرات، فإن خطوطه العريضة قد رسمها العلماء بصورة مرضية، أما اللغات النوبية فهي مشكلة المشاكل بحق؛ فالتتابع الجغرافي للغات واللهجات النوبية متقاطع ومتداخل، وهي من الشمال إلى الجنوب على النحو التالي: الكنزية من أسوان إلى المضيق، العربية من المضيق حتى كورسكو، الفديجة أو النوبية من كورسكو إلى حلفا، السكوت من حلفا إلى الشلال الثالث، المحس حول ثنية دلجو، وأخيرا الدنقلاوية حتى الدبة. وباستثناء العربية فإن المختصين قسموا اللغات النوبية إلى مجموعتين هما:
المجموعة الكنزية الدنقلاوية، وتشمل سكان النوبة في أقصى الشمال والجنوب.
مجموعة المحس التي يتكلم بها المحس والسكوت والفديجة «النوبية» في لهجات متقاربة، ويحتلون الجزء الأوسط من إقليم النوبة الجغرافي.
والسؤال هو هل كانت المجموعة الأولى هي لغة كل سكان النوبة، ثم انفصلت بدخول جماعة اللغة المحسية، أم أن الأمر هو العكس ؟ أي إن لهجات المحسية كانت لغة بلاد النوبة من شمال أسوان إلى الجنوب، ثم وفدت الكنزية-الدنقلاوية من كردفان.
1
ولقد عالج موضوع اللغات النوبية وتصنيفها وأصولها عدد كبير من العلماء والباحثين ابتداء من ريتشارد لبسيوس
R. Lepsius (1852 و1880)، ثم ليو راينش
Leo Reinisch
في كتابه «لغة النوبة» 1879، الذي رأى أنها إحدى اللغات الحامية دخلتها مؤثرات خارجية كثيرة، وتتالت الدراسات بعد ذلك: ديتريش فسترمان
D. Westermann ، الذي تابع النشر منذ 1911 حتى 1952 عن اللغات السودانية، وخاصة بحثه في 1913 عن لغة نوبية مجهولة في دارفور، وهرمان ألمكفست
H. almkvist
في دراسته عن النوبية في السودان 1911، وكارل ماينهوف
C. Meinhof
عن اللغات الحامية 1912 الذي تابع بحوثه حتى 1943، وإرنست تسيلارتز
E. Zyhlarz
الذي ركز معظم أبحاثه العديدة عن اللغة وقواعد اللغة النوبية في العصر المسيحي 1928، والبقايا اللغوية للنوبة السفلى في العصور المصرية القديمة 1935، والصوتيات في النوبية 1949، ج. و. مري
g. w. murray
بحثا قيما عن اللغة النوبية 1920، وأتبعه بقاموس إنجليزي نوبي مقارن 1923، ويحث س. هيللسن
S. Hillelson
عن أصول النوبية 1930، وجوزف جرينبرج
J. Greenberg
عن تصنيف اللغات الأفريقية 1950، وعن العلاقة بين لغات النيل-الصحراء ولغة مروى 1971، بروس تريجر
B. Trigger
عن العلاقة اللغوية بين لغة مروى ولغات السودان الشرقية 1964، وهناك كثير من الباحثين غيرهم.
2
وتتفاوت الآراء بين إعطاء أصول حامية للنوبية دخلتها مؤثرات لغوية سودانية (راينش ومحمد عوض)، أو أنها لغة سابقة للحامية تأثرت باللغات السودانية آلاف السنين (ماينهوف)، أو أنها لغة سودانية (فسترمان وتسيلارتز وهيللسن وجرينبرج) أو أنها لغة نيلوتية حامية (مري وفيلهلم شميت)، أو أخيرا أنها لغة معزولة تماما (ألمكفست)، هكذا نخرج بلا اتفاق أو ما يشبه ذلك على أصول النوبية، لكن الموقف ليس ميئسا؛ فبعض الأبحاث الجديدة التي نشرها رولف هرتزوج
R. Herzog
1957
3
ونيكولاس ميليت
N. B. Millet
1964
4
تلقي أضواء على اللغة وتاريخ الاستيطان معا، وهما ينتقدان فكرة تسيلارتز التي ترجح وطنا أصليا للنوبيين في كردفان، ومنه انتقلوا في هجرتين: إحداهما إلى شمال كردفان ثم وادي النيل في إقليم النوبة، والثانية إلى جبال النوبا في جنوب كردفان الأقصى، وكذلك يرى الكاتبان أن علاقة الكنوز والدناقلة كانت لفترة محدودة؛ مما يصعب معه تفسير التقارب اللغوي بينهما. ويرى كل منهما أن سكان كل النوبة كانوا في فترة تاريخية ما، يتكلمون لغة واحدة؛ هي الأصول التي اشتقت منها اللهجتان الكنزية والدنقلاوية.
وذلك على عكس رأي جرينبرح 1971، الذي يرى أن اللغة النوبية القديمة هي شكل سابق للهجة المحس-الفديجة؛ بمعنى أن الكنزية والدنقلاوية أحدث من المحسية.
ويفترض ميليت لتفسير ذلك وجود جماعات «نوبية» اللغة، تسكن الصحراء الغربية قرب إقليم دنقلة، تأثرت إلى حد ما باللغة المنطوقة في مملكة مروى حينما نزحوا إلى وادي النيل في القرن الثاني أو الثالث ق.م، وأخذت هذه الجماعات الجديدة في الضغط شمالا حتى النوبة السفلى التي كانت شبه خالية من السكان آنذاك - عهد البطالمة؟ انظر الجدول (
1-1 ) التأريخي - ويستطرد ميليت أن النوباتي الذين دخلوا النوبة في نحو القرن الثالث الميلادي انتشروا أولا في شمال النوبة المصرية، لكنهم لم يلبثوا أن استوطنوا وسط النوبة، وهو الإقليم الأكثر غنى؛ أي إنهم أزاحوا السكان الأصليين أو استرقوا من بقي منهم، وبذلك انفصل الكنوز عن الدناقلة، وهؤلاء النوباتي كانوا يحملون معهم مؤثرات من بربر الصحراء الغربية، وإنهم كونوا أصول مجموعة المحس اللغوية.
أما متى تم انفصال اللغتين الكنزية والمحسية، فإن بروس تريجر يقترح زمنا لذلك في نحو منتصف القرن التاسع الميلادي بزيادة أو نقص قرنين من الزمان؛ أي في نحو 650م أو أوائل القرن الحادي عشر الميلادي.
5
أما هرتزوج فيرى أن سكان النوبة منذ عصر مجموعة (ج) الحضارية؛ أي تقريبا منذ عهد الدولة الوسطى في مصر، قد أصبحوا شعبا خليطا نتيجة ضغط المجموعات الزنجية المستمر - الذي توجد له إشارات في السجلات المصرية منذ الدولة الوسطى - وأنهم كانوا يتكلمون أصول اللغة النوبية؛ بدليل وجود كلمات مصرية قديمة في اللغة النوبية، وأن النوبية قد تأصلت بدخول المسيحية التي استمدت الكثير من مركبها الحضاري من مصر، وخاصة نتيجة لكتابة لغة الكنيسة، وفي القرن العاشر بدأ تداخل القبائل العربية، وخاصة ربيعة والعليقات الذين استقروا في منطقة وادي العرب خالصة لهم، وكذلك كان التداخل نتيجة لزواج العرب من النوبيين الذين كانوا يمارسون شكلا من نظام حق الأم - نظام الوراثة في خط الرحم - مما ساعد على تسرب الدماء العربية واعتداد النسل الجديد الناجم عن هذا الزواج بأصله العربي بحكم نظام النسب الأبوي العربي، ولكن ذلك لم يقض على اللغة الأم بحكم نشأة الأطفال مع أمهاتهم.
وفي القرن 16 نشأت مملكة الفنج العربية في السودان الأوسط، وبسطت نفوذها على إقليم دنقلة فزاد استعرابه، وظل باقي النوبة من أسوان إلى بلاد المحس تابعة لمصر العثمانية، ونجم عن إنشاء الحاميات العثمانية وتزاوج جنودها بالنوبيات تأثير لغوي، أدى إلى تكوين مجموعة المحس اللغوية من بلاد المحس جنوبا حتى كورسكو شمالا؛ وبذلك انفصلت الكنزية عن الدنقلاوية، وكلتاهما وقعتا أيضا تحت تأثير لغوي عربي، بداية من القرن العاشر «الكنوز» والقرن 14 «الدناقلة».
ولكل من الرأيين وجاهته، ويشتركان معا في أن المجموعة اللغوية الكنزية الدنقلاوية هي الأقدم، بينما تشكلت المجموعة المحسية فيما بعد فاصلة - هي وعرب العليقات - بين الكنوز والدناقلة. •••
وقد ثار جدل كثير حول اسم «الفديجة»: هل هم مجموعة لغوية أم جزء من اللغة المحسية. وأول من ذكر مصطلح «فديجة» هو ليو راينش، ولم يذكره أحد غيره، وقد انتقد لبسيوس بعنف رأي راينش في هذا الموضوع، وقد حاول البعض إيجاد تفسير للمصطلح وكيفية نشأته، بالاستناد إلى تفسيرات عديدة من السكوت على أنه لغويا بمعنى «سنهلك». ويرى الأستاذ محمد عوض أنه مصطلح أطلق على جماعة من المحس والسكوت هاجروا إلى جنوب النوبة المصرية هربا من حكم المهدية، والرأي الذي يلقى قبولا من الباحثين أنه «كنية» أو اسم للتشهير بمن يطلق عليهم، والاسم ليس شائعا بين السكان المشار إليهم به، بل هم يستخدمون اسم «النوبيين» لشعبهم، مقابل اسم الكنوز لسكان شمال النوبة. •••
والحقيقة أن هناك مصطلحات متداولة في النوبة بدون دلالات واضحة؛ مثل «ماتوكي» بمعنى الكنوز أو الشرقيين، و«تنوكي» بمعنى غربي أو غربياب، ويخصص به أحيانا سكان منطقة توماس وعافية غرب الدر، وهؤلاء يرون أن لهم وضعا خاصا، وربما يربطون نسبهم إلى الجعافرة الحسنية - نسبة إلى الحسن ابن سيدنا علي بن عبد المطلب.
6
وهناك مصطلح آخر «صعيدوكي» يطلقها الكنوز أحيانا على النوبيين، على نحو ما هو دارج في بقية مصر من تسمية جنوب الوادي باسم الصعيد.
والملاحظة الأخيرة في موضوع اللغة أن العزلة النسبية بين القرى والمحلات السكنية في النوبة بإطلاق، بالإضافة إلى تنوع الاتصال بجماعات عديدة مختلفة اللغة - العرب والبجة والعثمانلية والغز والزنوج المسترقين - قد أدت إلى تنوع استخدام كلمات ومصطلحات حتى بين القرية والأخرى في بلاد الكنوز وبلاد النوبيين؛ نتيجة كثافة الصلة مع العرب أو العثمانلية أو أنواع الرقيق الزنوج، وذلك على نحو الاختلاف بين سكان الشرقية وسكان البحيرة أو الفيوم ومحافظات صعيدية أخرى، وربما كان هذا هو السبب في اختلاف العلماء حول لغات النوبة، التي هي لا شك في انتمائها إلى مجموعتين هما: الكنزي-الدنقلاوي من ناحية، والمحسي بتفريعات لهجاته من ناحية ثانية. •••
وبعد انتقال النوبيين إلى منطقة كوم أمبو سوف تتأثر اللغات واللهجات النوبية بوجودها في محيط عربي اللسان.
فلقد كانت العزلة السابقة في بلاد النوبة قبل السد العالي أحد العوامل لبقاء اللغة حية؛ نتيجة لبقاء معظم النساء في ديارهم.
أما الآن فإن الرجال والنساء على حد سواء قد يفقدون اللغة الأصلية تدريجيا نتيجة المعاملات مع جيرانهم في المواطن الجديدة، ونتيجة سهولة الحركة إلى المدن المصرية، وأخيرا نتيجة لوسائل الإعلام المختلفة وبوجه خاص الوسائل المرئية منها.
الفصل الثالث
طبوغرافية النوبة المصرية
خلال القرن 19 وحتى بناء السد العالي
نهر النيل والوادي الفيضي هما الظاهرة الطبوغرافية الأولى في النوبة، وقد سبق أن ذكرنا أن الكثير من الآراء تتفق على أن النيل قد انخفض منسوبه منذ عصر الدولة الحديثة؛ أي منذ نحو أربعة آلاف سنة، وأنه صار يجري في منسوب مشابه لما كان عليه الحال قبل بناء السدود الكبرى في منطقة الجندل الأول.
يتسع عرض الوادي ويضيق نتيجة اقتراب الحافات الهضبية أو تباعدها، فالوادي ضيق في الشمال بين دابود ودهميت لمسافة نحو 25كم، كثير الأخوار الصغيرة التي تقطع الحافتين، وبخاصة الغربية منهما، ثم يتسع الوادي في المسافة بين دهميت وطافا، ويضيق بدءا من باب كلابشة (شمال معبد كلابشة بنحو 8كم) حتى مارية (نحو 35كم)، وترتفع الحافة الشرقية في صورة حوائط عالية (100-140 مترا) تشرف على النهر مباشرة في منطقة أبوهور، تاركة جيوبا سهلية صغيرة في أحيان قليلة، أما الضفة الغربية فسهلية لمسافات طويلة عليها غطاءات رملية في أكثر جهاتها، وعندما تهب الرياح الشمالية الغربية تزداد قوتها باصطدامها بحافات أبوهور العالية؛ مما يؤدي إلى دوامات هوائية ومائية وأمواج عالية ترتفع إلى ما بين نصف المتر وثلاثة أرباع المتر، ويجعل عبور النيل أمرا شاقا فتلجأ القوارب إلى ليان الشاطئ الغربي في مثل هذه المناسبات، وتمتلئ هذه المنطقة بأخوار كبيرة مثل خور رحمة وخور مارية وخور الأبيض في الشرق، ووادي كلابشة الذي يصب في خور أبو سنة العريض في الغرب، وفي المنطقة من أبوهور إلى مصب وادي العلاقي يسير النيل في قوس ضحل يبدأ في اتجاه شمالي من مصب العلاقي، لكنه ينحرف شرقا بتأثير حافة جرف حسين متوسطة الارتفاع، ثم يتقوس شمالا بتأثير الحافات القريبة في قرشة ومارية وأبوهور، وعند قرشة التي يوجد أمامها سهل صغير - بعرض نحو 300 متر - تكتنفه أخوار كثيرة صغيرة، أقام عليها السكان سواق كثيرة تغمرها مياه خزان أسوان، وتصبح الملاحة فيها مخاطر محسوبة لمن يعرف «بحر قرشة» كما يسمونه.
ويصبح مسار النهر عريضا عند مصب وادي العلاقي، ويلتزم الجانب الشرقي من الوادي تاركا في الغرب سهلا عريضا، يمتد من كشتمنة غرب إلى الدكة وينتهي عند نهاية نجوع قورتة، ويبلغ أقصى اتساع لهذا السهل نحو 1,5كم عند الدكة، ويضيق كثيرا في اتجاه الشمال والجنوب، ولعل إرسابات وادي العلاقي قد ساعدت، في عصور قديمة، على بناء هذا السهل الذي يمتد بطول نحو 20كم، وفي الثلاثينيات أقيمت محطة طلمبات في الدكة تروي مساحة صغيرة منه - 3,5كم في نحو 750 مترا - وهناك أيضا محطات طلمبات على الجانب الأيمن من منطقة مصب العلاقي تزرع فيها مساحة أصغر من مساحة مشروع الدكة، وقد غطت مياه بحيرة ناصر أراضي هذه المشروعات وما هو أبعد منها.
وإلى الجنوب من مصب العلاقي يأخذ الوادي في الضيق تدريجيا حتى نجوع المضيق التي هي آخر بلاد الكنوز، وهي مسافة تبلغ نحو 40كم، وعند منطقة المضيق ترتفع الحافتان بالقرب من النهر، لكن الحافة الغربية تتباعد تدريجيا لمسافات صغيرة في منطقة وادي السبوع ويخترقها في الشمال خور أم سمبل، ثم تبعد لتترك في المالكي سهلا فيضيا متوسط الاتساع، أما الحافة الشرقية فتستمر في محاذاة النهر، وتزداد ارتفاعا وتضرسا أمام وادي السبوع ووادي العرب، وتبلغ أقصاها في صورة حوائط عالية عند شاترمة، ثم تلتحم بمنطقة جبل كورسكو - نحو 270 مترا - وتبدأ في التباعد التدريجي بعد مصب وادي كورسكو إلى أبو حنضل، وتقطع هذه الكتلة الجبلية المعقدة أخوار متعمقة في الداخل، تكاد فتحاتها تختفي عن ناظري راكب النيل - مثل خور دخلانية السنجاري - بحيث يحس الداخل إليها كأنه وصل واحة خضراء وسط الشواهق من الصخور الحمراء الداكنة - 290 مترا - أما وادي كورسكو فيصب في خور فم العطمور العريض والواضح للرائي، فهو مصب واد كبير متشعب المآخذ.
خريطة (5): المكونات البشرية لبلاد النوبة.
هذه الكتلة الجبلية الطابع المليئة بالفوالق والانكسارات، هي على الأغلب سبب الثنية الكبيرة التي يتخذها مسار النيل، فالنيل ينحني فجأة ابتداء من منطقة الدر وعمدا إلى الجنوب الشرقي، بعد أن كان مساره من حلفا حتى الدر إلى الشمال الشرقي، وعند مصب وادي كورسكو يأخذ النهر قوسا كبيرا إلى الشرق ثم الشمال الشرقي حتى وادي السبوع، ثم شمالا إلى المضيق، وتشكل ثنية كورسكو عقبة أمام الملاحة، خاصة للصاعد في النهر من كورسكو حتى الدر، فالمراكب الشراعية تواجه الرياح الشمالية، مما يضطر معها إلى جر الليان خلال السنة، وتزيد متاعبها وقت الفيضان نتيجة سرعة التيار وكثرة الدوامات، والوادي في كل هذه المنطقة يتميز بالضيق الشديد، بحيث لا يزيد عرضه عن بضع عشرات من الأمتار باستثناء منطقة المالكي ومنطقة كورسكو شرق، والاتساع النسبي الصغير الامتداد في كورسكو غالبا ما يعود إلى إرسابات النهر ووادي كورسكو معا، ويلتزم النهر الجانب الأيسر من الوادي في المنطقة الممتدة من الدر إلى كورسكو؛ مما يؤدي إلى ضفاف رملية قليلة العمران في كورسكو غرب والريجة «الريقة» وعمدا على الجانب الأيسر، في حين يمتد سهل فيضي متوسط الاتساع على الجانب الأيمن عند أبو حنضل و«الديوان»، ويزيد اتساعه عند الدر وتنقالة، وفي هذا السهل كانت أحراج النخيل تمتد بلا انقطاع يذكر، وكان هذا مؤشرا يؤذن ببداية الدخول إلى منطقة النوبة الغنية.
أما الوادي بين الدر وحلفا فهو في معظمه عريض باستثناء منطقة حافة إبريم الشهيرة (200 متر)، ومنطقة أبو سمبل، والنهر يتخذ مسارا إلى الشمال الشرقي بصفة عامة، وتحده مناطق سهلية مستمرة من التكوينات الفيضية خاصة عند توماس وعافية في الشمال (بعرض نحو 500 متر)، وإبريم (نحو 800 متر) وسهل عنيبة الذي يمتد حتى توشكى غرب في الوسط (عرض يتراوح بين كيلومتر في عنيبة إلى كيلومتر ونصف الكيلو في توشكى)، وأخيرا منطقة بلانة-أدندان جنوب أبو سمبل، أما المنطقة السهلية جنوب توشكى وأرمنا حتى أبو سمبل فتغطيها تكوينات رملية كثيفة وبلا انقطاع؛ مما أدى إلى تكوين منطقة عازلة بين سهل بلانة في الجنوب وسهل عنيبة-توشكى في الشمال، في أغلب الأزمنة.
ويتميز النهر في هذا القطاع بكثرة الجزر الكبيرة العامرة ذات التربات الجيدة مثل جزر إبريم وبلانة وأدندان، وهذه الظاهرة تكاد تخلو منها بقية النوبة المصرية، ولكنها كثيرة الظهور في النوبة السودانية، وهذه ملاحظة جديرة بالدراسة فيما تبقى من النوبة السودانية ولم تغمره مياه السد العالي. الملاحة في هذا القطاع من النهر شاقة لكثرة الشطوط الرملية والجزر الغارقة في الشتاء والصيف على التوالي، لكن الملاح المدرب على «قراءة الماء» يمكنه أن يسير مركبه آمنا معظم الوقت.
مناطق الغنى والفقر
وبعد هذا الوصف الإجمالي يمكن أن نرى مجموعة من العناصر المتداخلة، تفاعلت في خلق مقومات البيئة العمرانية في النوبة قبل السد العالي، وهذه العناصر هي: (1)
النهر وتغير منسوب المياه بين الفيضان والتحاريق. (2)
بروز الحافات الهضبية في صورة ألسنة وعرة إلى قرب مسار النهر وطغيان الرمال في أجزاء كثيرة من البر الغربي. (3)
السهل الفيضي، امتداده أو تقطعه في جيوب صغيرة. (4)
وأخيرا مصبات الأودية والأخوار.
وقد أدت العمليات التفاعلية لهذه العناصر معا إلى نشأة مناطق يمكن للإنسان إعمارها وأخرى صعبة المنال، لهذا فإن العمران النوبي اتصف بالتركز في نطاقات معينة، وبنحافة عمرانية تصل إلى حد التلاشي في مناطق أخرى (انظر خريطة 6).
أما المناطق كثيرة العمران، فهي تلك التي تظهر فيها التربة الفيضية على منسوب يمكن من زراعتها، سواء بعد الفيضان أو باستخدام أدوات الري بالرفع - العود أو الشادوف والساقية أو الطلمبات - وتتراوح هذه المناطق بين جيوب فيضية صغيرة المساحة أو سهول ذات امتداد معقول، ففي المنطقة الشمالية من النوبة من دابود إلى كلابشة، والمنطقة الوسطى من المضيق إلى كورسكو، تظهر جيوب صغيرة - غالبا عند مصبات الأودية والأخوار - هذه الجيوب تزرع بعد الفيضان، وتزرع مساحات قزمية من أراضيها العالية بالري خلال موسم انخفاض المياه، أما المناطق السهلية الغنية فتتركز في ثلاث مناطق؛ الصغرى منها في المنطقة حول مصب وادي العلاقي وسهل الدكة أمام هذا المصب، أما المنطقة الكبرى فهي تلك الممتدة من الدر إلى عنيبة وتوشكى على الضفتين، وأخيرا منطقة بلانة-أدندان في أقصى الجنوب، وهذه كانت تزرع بالسواقي والترع القصيرة الممتدة من ضفة النيل شرقا أو غربا، فضلا عن محطات الطلمبات في العلاقي والدكة وعنيبة وبلانة وغيرها، التي أقامتها الحكومة بعد الثلاثينيات من القرن الحالي.
والمناطق الفقيرة هي قليلة العمران، أو تكاد أن تكون منعدمة العمران، وتتركز في نطاقين أساسيين؛ أولهما: المنطقة من المحرقة إلى كورسكو؛ حيث تشتد الوعورة واقتراب الحافة الهضبية. وثانيهما: المنطقة من أرمنا إلى أبو سمبل على كلتا الضفتين؛ حيث تتراكم غطاءات الرمال بكثافة من جنوب توشكى شرق وغرب إلى أبو سمبل، وهناك منطقة ثالثة صغيرة تمتد جنوب بوابة كلابشة إلى جرف حسين تشمل التلاع الصخرية في أبوهور وقرشة.
وإذا كان الكنوز والنوبيون قد تركزوا في المناطق الغنية في الجيوب السهلية الشمالية وفي السهول الجنوبية على التوالي، فإن المناطق الفقيرة قد تداخلت فيها مجموعات من غير الكنوز والنوبيين، وأصبحوا يعدون من سكان إقليم النوبة، وأكثر الجماعات المتداخلة هم عرب العليقات الذين عرفت أوطانهم باسم وادي العرب الذين احتلوا المنطقة الوسطى كلها فاصلين الكنوز عن النوبيين.
1
والغالب أنهم استقروا هناك في نحو أواسط القرن السابع عشر كجماعات بدوية تشارك في خفارة الطريق التجاري بين مصر والسودان عبر أودية كورسكو وجبجبة، ثم استقر بعضهم في الجيوب الصغيرة على النيل يمارسون الزراعة وتنظيم القوافل معا.
خريطة (6): مناطق الغنى والفقر في النوبة.
ولم يكن العليقات وحدهم في هذه التجارة عبر الصحراء، بل ربما سبقهم إلى ذلك بعض عشائر العبابدة الذين استقروا في دراو وأقليت شمال أسوان، وفي سيالة وكورسكو ومناطق عديدة من النوبة الشمالية، وتمثل دراو نهاية الطريق الصحراوي ومنطلقه، بينما كانت سيالة نقطة انطلاق أخرى عبر وادي العلاقي وكورسكو عبر واديها الشهير، وفي بربر نهاية الطريق الصحراوي الجنوبية، استقر عدد آخر من العبابدة يحكمون القبضة على الطرق من أولها إلى آخرها.
وكانت عشائر العشاباب العبادية تقوم بدلالة القوافل وحراستها، وهم أكثر العبابدة ارتباطا بالصحراء الجنوبية الشرقية المصرية، وهم بحق جوالو الصحراء، وتخشاهم البشارية المتناثرة في جنوب هذه المنطقة، وتزور جماعات عشابية وبشارية مناطق الكنوز في أبوهور ومارية وقرشة بصفة شبه دائمة خلال الصيف؛ لسقاية حيواناتهم ورعيها على بقايا المحاصيل بعد الحصاد، ثم يمرون داخل الصحراء في الخريف والشتاء؛ حيث يمكن توفر الماء والمرعى في مناطق الأودية والآبار حيازتهم.
أما المنطقة الفقيرة الممتدة من المحرقة إلى المضيق، فهي منطقة شبه خربة باستثناء جيب سيالة والمضيق، وكانت خلال العصر البطلمي والروماني حدود مصر الجنوبية، فلا مطمع للدول القديمة فيها أو في المنطقة الوعرة التي تليها جنوبا، وبذلك شكلت كل المنطقة من المحرقة إلى نحو كورسكو تخوما طبيعية بين مصر ودولة مروى في فترات الضعف المصري، بينما كانت الحدود في عصور القوة تمتد إلى منطقة تخوم طبيعية أخرى، هي مناطق الجنادل الكبرى التي توجد في بطن الحجر جنوب وادي حلفا.
وأخيرا فإن منطقة الرمال التي تشغل ما بين جنوب توشكى إلى أبو سمبل، فقد سكنت بعض أجزائها وجزرها قبيلة بدوية هي الجراريش، التي امتدت أيضا داخل بلاد السكوت فيما يعرف باسم بطن الحجر - الاسم النوبي هو «كولو ن تو
Kulu-n-tu » - وكان قوام حياة الجراريش الأساسي دلالة الطريق - كان دليل بوركهارت في رحلته من الدر إلى بلاد المحس واحدا من الجراريش عام 1813 - والقيام بجمع السنامكي ونباتات طبية أخرى من الجبل شرقي النيل، والقيام برحلات جماعية إلى المنخفضات الصغيرة على درب الأربعين للحصول على النطرون وبيعه في الدر، وكان ينافسهم في ذلك سكان منطقة الكوبانية - على الضفة الغربية شمال أسوان - وفي أحيان يحدث قتال دام بين المجموعتين إذا تصادف التقاؤهما معا في أماكن جمع النطرون.
شكل 3-1: عدد سكان النوبة ونسبتهم حسب المجموعات اللغوية.
الفصل الرابع
سكان النوبة
أعداد المقيمين والمهاجرين وأنواع القرى والسكن
يبدو أن القدرة العليا لموارد النوبة المحلية بالإضافة إلى الموارد التي تأتي من الخارج غير قادرة على إعالة أكثر من خمسين ألفا، وقد اجتهد الباحثون في تقدير أعداد سكان النوبة، ويتفقون على أن النوبيين لم يزيدوا عن بضعة آلاف في العهود السحيقة، لكنهم ربما بلغوا 20 ألفا في عهد الدولة الحديثة بعد دخول الشادوف إلى النوبة، وربما تضاعف العدد أو وصل إلى نحو 50 ألفا بعد دخول الساقية خلال العهد الروماني.
وبعبارة أخرى أن عدد السكان تناسب إيجابا مع التغير إلى الزراعة بصفة أساسية، وزيادة الأرض الزراعية باستخدام تقنيات رفع المياه إلى الأراضي البعيدة عن منسوب مياه الفيضان السنوي للنيل (شكل
4-2 )، وفي هذا المجال لا يجب أن ننسى الموارد الإضافية الناجمة عن مساهمة النوبة في التجارة المصرية من الأقاليم المدارية التي استمرت آلاف السنين.
وقد بلغ عدد النوبيين في حصر السكان عام 1963
1
قبيل عملية التهجير الكبرى إلى منطقة كوم أمبو 98609 شخص مقسمين إلى الفئات الآتية:
سكان مقيمون بالكامل
48028 شخصا
سكان مهاجرون جزئيا
26637 شخصا
سكان مهاجرون بصفة دائمة
26756 شخصا
ويوضح الجدول (
4-1 ) والشكل (
3-1 ) توزيع هذه الفئات على المجموعات اللغوية لسكان النوبة آنذاك.
شكل 4-1: سكان النوبة المقيمون والمهاجرون حسب الجنس (الأرقام بآلاف الأشخاص).
شكل 4-2: تناسب السكان مع التقنيات في النوبة.
جدول 4-1: توزيع السكان حسب اللغة.
المجموعة اللغوية
المقيمون
المهاجرون جزئيا
المهاجرون بصفة دائمة
سنة 1960 *
سنة 1963
سنة 1963
سنة 1963
الكنوز
17231
20046
13572
العليقات
5169
5846
2979
النوبيون
25636
22242
7086
الجملة
48036
48232
23637
26756 *
مصلحة الإحصاء والتعداد: «التعداد العام للسكان 1960» ملحق توابع محافظة أسوان، القاهرة.
والملاحظة الأولى هي أنه كانت هناك تغيرات في أعداد السكان المقيمين في خلال الفترة الصغيرة بين 1960 و1963، فقد ارتفع عدد الكنوز بنسبة 16٪ وعدد العليقات بنسبة 12٪، بينما انخفض عدد النوبيين بنسبة 14٪، وقد يمكن تفسير الزيادة بقدوم عدد من مهاجري العمل إلى قراهم لتسوية حالاتهم عند التهجير، أما انخفاض العدد عند النوبيين، فقد يرجع إلى أن أعدادهم في سنة 1960 كانت قد تضمنت أشخاصا من غير النوبيين الذين كانوا موظفين في الهيئات الحكومية، مثل الإدارة والتعليم والصحة والري، فضلا عن قوة العمل من أهل الصعيد الذين كانوا يساعدون في الأعمال الزراعية والسماكة وغير ذلك من الأنشطة.
وقد يؤكد ذلك أن سكان عنيبة - مدينة الإدارة في النوبة - قد انخفض عدد سكانه من 2621 عام 1960 إلى 373 شخصا عام 1963، بينما كانت هناك زيادات طفيفة في سكان بعض القرى مثل بلانة التي زادت بنحو مائة شخص، وبذلك يمكن القول إن منطقة النوبيين قد شاركت بقية النوبة في عودة بعض المغتربين لتسوية موقفهم من التعويضات والسكن الجديد.
والملاحظة الثانية هي كبر حجم هجرة العمل بين الكنوز بالقياس إلى بقية سكان النوبة، فهم يكونون 57,5٪ من مجموع المهاجرين جزئيا، وهذا في حد ذاته دلالة على فقر بلاد الكنوز، ويؤكد ما سبق الإشارة إليه من غنى عام لمنطقة الجنوب من النوبة المصرية.
جدول 4-2: السكان حسب النوع ومحل الإقامة.
الفئة
ذكور ٪
إناث ٪
الجملة ٪
سكان مقيمون
10300
44
13142
56
32442
23,7
أسر بها مهاجرون:
المقيمون منهم
7300
29
17286
71
24586
24,9
المهاجرون
16800
70
7025
30
24586
24,1
أسر مهاجرة بالكامل
15600
58
11156
42
26756
27,1
المجموع
50000
51
48609
49
98609
100
أولا:
إذا صح هذا الحصر (1963) فإننا نجد أن مجموع سكان النوبة - مقيمين ومهاجرين - يتشابه مع بقية سكان مصر في التناسب العام بين الذكور والإناث.
ثانيا:
أثرت هجرة العمل التي يقوم بها الرجال على التركيب النوعي للسكان؛ المقيمين منهم والمهاجرين بأنواعهم؛ هجرة عمل مؤقتة أو دائمة، وترتب على ذلك انخفاض نسبة الذكور بين المقيمين، وارتفاع نسبتهم بين المهاجرين.
ثالثا:
الارتفاع النسبي للذكور بين المقيمين بصفة دائمة - 44٪ من المجتمع - مرده إلى وجود الأطفال بنوعيهما مع أمهاتهم من ناحية، وعودة كبار السن من الرجال إلى قراهم بعد أن تجاوزوا سن العمل من ناحية أخرى.
رابعا:
إذا أضفنا الذكور العاملين في الخارج والذين كانوا وقت الحصر السكاني مقيمين في بلادهم، فإن نسبة الذكور إلى الإناث في مجتمع النوبة المقيم تنخفض كثيرا إلى 36,6٪، وهذه هي الصفة الأساسية التي كان مجتمع النوبة يتصف به، فهو مجتمع يجلب الجزء الأكبر من موارده من عمل الرجال خارج بلاده.
شكل 4-3: النسبة المئوية للذكور المقيمين في القرى النوبية (أرقام 1960).
ويوضح الشكل (
4-3 )، المنبني على التعداد السكاني لسنة 1960، كيف أن نسبة الذكور تزيد أو تنخفض عن متوسط 38٪ للمجتمع النوبي المقيم حسب أقاليم اللغات الثلاثة، فمجتمع الكنوز يتصف بانخفاض كبير لعدد الذكور المقيمين إلى ما بين 23٪ (المحرقة) و26٪ (أبوهور) إلى نحو الثلاثين بالمائة في معظم قرى الكنوز، ويستثنى من ذلك منطقة الدكة-العلاقي؛ حيث ترتفع نسبة الذكور في المجتمع إلى 44٪ و37٪ على التوالي، وهذا التوزيع يتفق تماما مع توزيع مناطق الفقر والغنى في النوبة (انظر خريطة 6)، فالمحرقة - كما نذكر من التاريخ - كانت آخر حدود مصر البطلمية - وربما الرومانية أيضا - لأنها كانت منطقة فقر لا مطمع لأحد فيها، وهي كانت كذلك حتى إنشاء السد العالي؛ سهلها الفيضي ضئيل وعدد نجوعها ستة وسكانها 360 فردا، ومنطقة جرف حسين إلى أبوهور منطقة فقر أخرى تنعكس صورته في انخفاض نسبة الذكور إلى العشرينيات بالمائة، وعلى عكس ذلك أهلت سهول الدكة والعلاقي وما جاورها إلى غنى طبيعي زاده مشروعات الزراعة على الطلمبات، ومن هنا ارتفع عدد الذكور العاملين في هذه الموارد المحلية.
أما منطقة النوبيين فهي طرف النقيض لمنطقة الكنوز، فنرى أن منحنى تواجد الذكور في القرى النوبية هو فوق المتوسط بصفة دائمة عدا الديوان وأبو حنضل؛ حيث تتشابهان مع منطقة العليقات التي تكاد تمثل المتوسط العام للنوبة، وأعلى نسبة لتواجد الذكور هي تلك التي نجدها في المناطق الزراعية الغنية في بلانة وأدندان وتوشكى وإبريم والدر.
نمط العمران السكني
تتشكل المساكن النوبية من تجمع عدة نجوع يطلق عليها اسم جماعي واحد مثل دابود أو الدر أو المالكي، ومن الناحية العلمية آثرنا تسمية مثل هذه التجمعات «قرى»، بالرغم من عدم انطباق مصطلح القرية بصورة مرضية، ولكن لأن أساس قيام السكن كان هو الزراعة في الماضي الطويل، وحتى بعد إنشاء سد أسوان؛ فهي قرى ونجوعها نواح أو محلات، ونتيجة لانتشار النجوع على مسافات متباعدة فإنها قرى منتشرة أو مبعثرة
dispersed settlements ، مثلها في ذلك مثل نمط السكن في الوديان الجبلية، أو القرى الطولية التي تمتد بحذاء الطريق الرئيسي، والنيل هنا هو الطريق الرئيسي الذي يلم شتات النجوع والقرى، وسوف نستعمل المصطلح الإداري «عمدية» - نسبة إلى عمدة - بدلا من قرية؛ لأنها التسمية المتعارف عليها بين السكان.
والغالب أن مركز الثقل في العمديات النوبية كان المسجد الكبير والنجع الذي تسكنه أقوى العشائر أو مجموعات النسب، وبالتالي عمدة القرية أو أكبر شيوخها، وقد أضيف إلى المنطقة المركزية تواجد مكتب البريد ومحطة الباخرة النيلية الأسبوعية منذ أوائل هذا القرن - وسوف نشير إلى هذه الباخرة فيما بعد باسم «البوستة»؛ تمشيا مع الاسم الذي يطلقه السكان عليها - وارتبط بالمحطة النهرية الدكان أو الدكاكين الرئيسة في القرية.
وبعض العمديات تتكون من نجوع قليلة العدد، مثل معظم عمديات العليقات (شاترمة والسنجاري وكورسكو لكل ستة نجوع)، وبعض قرى النوبيين (أبو حنضل خمسة نجوع، ولكل من الدر وقتة وأرمنا وقسطل سبعة نجوع)، وعمديات أخرى تتصف بعدد كبير من النجوع: ففي إقليم النوبيين نجد أعلى عدد هو في بلانة وتوشكى غرب (27 و25 نجعا على التوالي)، وفي إقليم الكنوز تتكون أمبركاب من 39 نجعا ودابود 26 وكلابشة 22 وقرشة 20، بينما تتشكل المالكي من 18 نجعا، وهو أعلى رقم في منطقة العليقات.
وفي الأغلب أن كثرة النجوع تساوي امتدادا كبيرا للعمدية على ضفة النهر أو ضفتيه، وأطول القرى هي أمبركاب التي تمتد نحو 19 كيلومترا على ضفتي النيل، ولكن بلانة لا تمتد كثيرا بحذاء النهر برغم عدد نجوعها الكبير، وربما كان السبب الأساسي في ذلك أن قرى الكنوز تحتل مناطق تتداخل فيها ألسنة من المرتفعات والأرض الوعرة مع كثرة الخيران؛ مما يؤدي إلى فواصل كبيرة بين النجع والآخر قد تصل إلى مئات الأمتار، أما في بلاد النوبيين، فإن الفواصل بين النجوع صغيرة قد لا تزيد عن بضع عشرات الأمتار؛ لأن معظم الأراضي سهلية، وربما تتضح هذه الحالة أيضا من أن عمدية سيالة تحتوي على 16 نجعا تحتل مسافة نحو 12 كيلومترا على الضفتين، وبين بعض النجوع 150 مترا، وأخرى 500 متر، وتبلغ أقصاها خمسة كيلومترات بين نجعي الشيمة وأم غيلان على البر الغربي، أما في كورسكو شرق فإن ظروف الوعورة لم تترك مكانا كبيرا لتبعثر النجوع بحيث يلتصق نجعا العشيراب والفلياب في مسافة 600 متر معا، ثم يفصلهما خور فم العطمور عن نجعي الطابية والعدوة، بينما أدت الأرض السهلية في كورسكو غرب إلى تلاصق نجعي الدريجاب والعرناناب، ومثل هذا نجده في المالكي وتوشكى غرب وغيرهما في جنوب النوبة المصرية، والصورة القصوى من التلاصق السكني تتمثل في امتداد النجوع بلا انقطاع يذكر لعمديات توماس وعافية وقتة وإبريم غرب، لمسافة تزيد عن عشرين كيلومترا، فيما لا يدانيه شكل آخر من التكاثف السكني في النوبة المصرية.
ولعلنا إذن نرى أن القاعدة التي يرتكز عليها تبعثر أو تركز النجوع مرتبط بالوعورة وقلة الأراضي السهلية وتبعثرها في معظم مناطق الكنوز، بينما تتركز النجوع في المناطق الغنية من أجل الحفاظ على الأرض الزراعية، أو نتيجة للضيق الشديد للأراضي نتيجة التضرس الشديد، كما هو الحال في الكثير من قرى العليقات.
وليست المسألة تبعثر النجوع وتباعدها عن بعضها فقط، بل إن المساحات الكثيرة غير الصالحة للاستخدام الاقتصادي لدى الكنوز قد أدى إلى تباعد البيوت عن بعضها بمسافة عدة أمتار، فضلا عن كبر مساحات البيوت - متوسط 300 إلى 500 متر مربع - التي تتكون من سور يضم فناء كبيرا وعددا قليلا من الغرف المضيفة والمخازن لصق الجدار، أما في العمديات النوبية فإننا نجد في أحيان صفوفا من البيوت لصق بعضها، والكثير من هذه البيوت ليست كبيرة الحجم، وربما كان هذا سببا في بروز موضوع الخصوصية بين الكنوز، حيث لا تظهر النساء والرجال في طقوس وأهازيج الزواج معا، عكس ما رأيناه في مثل هذه المناسبة في توشكى أو كورسكو.
خريطة (7): النسبة المئوية لأعداد السكان موزعة على مجموعات القرى (قبل 1960).
وترتب على امتداد النجوع طوليا بموازاة النهر أن النجوع في النوبة على وجه عام ليست ذات عرض كبير، بل قد تكون على الأغلب بعرض بيتين إلى أربعة بيوت على الأكثر، وبذلك زادت أعداد النجوع في العمدية الواحدة بحكم صغر أعداد البيوت في النجع الواحد، فضلا عن العقبات الناجمة عن وعورة سطح الأرض، مما لا يسمح باتساع النجع أو تلاصق البيوت، عكس ما كان عليه الحال حينما كانت البيوت تبنى على مسطح منبسط قرب نهاية السهل الفيضي قبل التعلية الثانية لسد أسوان عام 1933.
والاقتراب من النهر ومشاهدته يوميا أمر هام بالنسبة لسكان النوبة بصفة عامة، حيث يلعب النهر طقوسا ممارسة في بعض القيم الاجتماعية، وخاصة في طقوس الزواج حين يخرج العروسان إلى النهر صبيحة القران، وقد يبلل الواحد منهما الآخر برشة من ماء.
وفيما قبل إنشاء سد أسوان وتعليته لم تكن العمديات النوبية ولا بيوتها على هذا النحو من الامتداد والاتساع، فقد شابهت قرى النوبة غيرها من قرى مراكز أسوان وإدفو من حيث مواقعها داخل السهل الفيضي وبنيانها من اللبن وأحجامها الصغيرة، بينما حين هاجرت تلك القرى إلى المناسيب الأعلى بعد 1933 بصفة خاصة، أصبحت المساحات في الأراضي غير القابلة للاستثمار واسعة وخامة البناء الحجرية في متناول اليد، ومن ثم أصبحت البيوت واسعة والنجوع متفرقة.
وإذا كانت الأمور السكانية والسكنية على نحو ما أسلفنا، فإنه ليس متوقعا وجود مدن نوبية، وهذا هو الحاصل حتى لو كانت هناك مراكز إدارية، فعنيبة مقر المركز الإداري لم يتعد سكانها 2621 فردا عام 1960.
ومن الأمور التي يجب تسجيلها أن بيوت النوبة بصفة عامة تتميز بالاهتمام الشديد بالتزيين، وخاصة الديوان أو حجرة الضيوف، فهناك أنواع من الحصير أو المنسوجات الملونة تنسدل على الحوائط مع كثير من المرايا والصور، بينما تتدلى من السقف الشعاليب، وهي أنواع من الحبال المجدولة المعلقة في السقف، وتنتهي بأنواع عديدة من الصحون المصنوعة من الصيني أو الفخار الملون تحفظ فيها أنواع من الحلوى والطعام، وكلها ذات ألوان قوية مختلفة؛ مما يزيد بهجة المكان.
وتتميز بيوت الكنوز بصفة خاصة بالطلاء الأبيض المزين برسوم عديدة من ابتكار الفنان الذي هو في الأغلب سيدة البيت، وغالبية بوابات البيوت تعلوها من الخارج أطباق من الصيني الأزرق - عادة خسمة أطباق أو ثلاثة مرتبة في صورة هرمية - والتفسير الحالي هو أنها تصد عين الحسود، وبعض جدران هذه البيوت تبلغ درجة عليا من الفن التلقائي ، التي وصفها المعماري حسن فتحي بأنها كما لو كانت عالما جديدا حلوا ومتناسقا خارجا من أرض الأحلام.
الفصل الخامس
أوجه النشاط الاقتصادي النوبي
من الأمور المعروفة أن الأقاليم التي تتسم بفقر الموارد الطبيعية يقل فيها التخصص في شكل رئيسي من أشكال الإنتاج، وتزداد عدد الحرف وتتنوع من أجل تعويض الفقر في الموارد الطبيعية والبشرية، وكان هذا هو الوضع بالنسبة لكثير من البيئات فقيرة الموارد مثل الصحاري أو إقليم النوبة الذي نحن بصدده في هذا المجال. (1) مجمل المتغيرات في النشاط الاقتصادي
في إقليم النوبة كنا نرى الأنشطة الآتية: الزراعة مع بعض تربية الحيوان، السماكة والنقل النهري، صناعة الفحم النباتي، خدمات التجارة الداخلية، تصدير بعض المنتجات المحلية إلى خارج النوبة، وخاصة التمور والأعشاب البرية ذات الفوائد العلاجية، وساطة النقل السلعي من السودان الأوسط إلى بقية مصر عبر الدروب الصحراوية، وخاصة وادي كورسكو والعلاقي، هذه الأنشطة كانت سائدة حتى أوائل القرن الحالي، وبعضها اندثر بعد إنشاء سد أسوان وتعليته عام 1933، وخاصة إنتاج وتجارة التمور والأعشاب البرية والنقل التجاري عبر أودية الصحراء، وحل محلها هجرة العمل النوبي إلى مدن مصر والسودان بصورة مكثفة عن ذي قبل.
شكل 5-1: نظام المياه في النوبة قبل وبعد إنشاء سد أسوان وتعليته إلى عام 1933.
شكل 5-2: استخدام البيئة النوبية قبل وبعد 1933.
شكل 5-3: قطاع عرضي في شمال سيالة، النوبة المصرية.
وأول وأهم الملاحظات أنه قد حدث تغير في مواسم النشاط الاقتصادي في النوبة بعد إنشاء سد أسوان، ففيما قبل السد كان موسم النشاط ممتدا طول العام مع تركيز واضح على الشتاء والربيع، فانقلب الموسم النشط إلى الصيف وأوائل الخريف بعد إنشاء وتعلية سد أسوان (انظر الأشكال
5-1
و
5-2
و
5-3 )، وهذا الانقلاب متماثل مع ما حدث لمائية النهر، ففي الماضي كان النهر يرتفع إلى المناسيب العالية صيفا أثناء الفيضان، وتنخفض المياه شتاء تاركة سهلا فيضيا أشبع بالرطوبة على الضفاف، وأحواضا ملأتها المياه خلال الفيضان، وبذلك كان النشاط الزراعي يبدأ في أواسط الخريف أو نهاياته حسب اختلاف قوة الفيضان من سنة لأخرى، ومن ثم كانت هناك محاصيل شتوية معظمها بقوليات، ومحاصيل صيفية على رأسها ذرة والدخن والشعير، وكانت المساحات المزروعة محدودة بالقدرة على رفع الماء بالعود «الشادوف» أو الساقية، وفي أحيان نادرة كان هناك محصول نيلي في مناطق مؤهلة لذلك وبخاصة أراضي الجزر، أو بواسطة إقامة ساقيتين أو عودين وراء بعضهما وعلى منسوبين مختلفين، بحيث تأخذ الساقية العليا من حوض تملؤه قناة تستمد مياهها من الساقية السفلى، وكان هذا النظام من الري موجودا بصفة أساسية في القسم الجنوبي من النوبة المصرية؛ حيث الأراضي الجيدة واسعة نسبيا.
وإلى جانب النشاط الزراعي بما يحتويه من إعداد الأرض والبذر والعناية بالحصاد والتخزين مما يشغل النوبيين وقتا طويلا، كانت هناك أنشطة أخرى بعضها مرتبط بإنتاج الأعلاف النوبية المعروفة وتربية الماشية وبيعها لتجار أسوان، والبعض الآخر مرتبط بالنقل والسماكة والتجارة المحلية وصناعة الفحم النباتي، وتبادل المنفعة مع بادية الصحراء من العبابدة والبشارية.
وبعد إنشاء سد أسوان حدث انقلاب بمقتضاه أصبح موسم المياه المنخفضة هو موسم الفيضان في الفترة بين يونيو وأكتوبر، بينما تركب مياه الخزان الأراضي بقية السنة (شكل
5-2 )، ومعنى هذا أن معظم الأراضي التي كان يزرعها سكان النوبة في الماضي تظل تحت الماء كل السنة، وكان عليهم إقامة نشاطهم الزراعي على الأرض التي تنكشف بعد تفريغ مياه الخزان، وهذه الأراضي الجديدة لم تكن مستغلة في الماضي؛ لأنها كانت تشكل أرضا مرتفعة عن أعلى منسوب للفيضان بنحو ستة أمتار في الجنوب إلى نحو اثني عشر مترا في شمال النوبة أو تزيد، فإذا أخذنا حالة قرية سيالة التي تقع في وسط النوبة تقريبا (انظر شكل
5-3 ) سوف نجد منسوب مياه الفيضان في حدود 110 أمتار، بينما منسوب مياه الخزان هو 121 مترا، وفي الماضي كانت مناطق سيالة الزراعية بصفة عامة توجد في مناسيب أقل من 110 أمتار بعد أن تنحسر مياه الفيضان، بينما أصبحت الحقول بعد سد أسوان هي أجزاء من الأراضي التي تقع بين مناسيب 110 و120 مترا، ولقد اجتهد النوبيون في استزراع الأراضي الجديدة بالري بواسطة السواقي، تقام على آبار أو فم قنوات صغيرة تصل إلى مناسيب مياه الفيضان لجلب المياه إلى الداخل؛ من أجل زراعة محاصيل الصيف. (2) الحياة في النوبة كما صورتها كتابات القرن التاسع عشر
في أوائل القرن التاسع عشر ارتحل إلى النوبة، أو مر عبرها، عدد كبير من الرحالة والمغامرين الأوربيين، نذكر منهم السويسري جون لويس بوركهارت
J. L. Burckhardt
الذي ارتحل في النوبة عام 1813، والبولندي جوزف فون سنكوفسكي
J. Von Senkowesky (1819)، والألماني إدوارد روبل
E. Rueppell (1823)، والنمساوي أنتون فون بروكش-أوستن الذي كان مبعوث إمبراطورية النمسا إلى مصر في الفترة 1826-1833
A. Von
، والأمير الروسي هرمان لودفيج بيكلر-موسكاو
H. L. Pueckler-Muskau (1837)، والجيولوجي النمساوي يوسف فون روسيجر الذي كان يعمل لحساب مصر 1846-1849
J. Von Russegger ، والروسي رافالوفيتش Rafalowitsch (1847)، وأمليا إدواردز الإنجليزية
B. Amelia Edwards (1877) وغيرهم.
وقد كان لكل من الرحالة وجهة نظر للموضوع بعضها شخصي
1
وبعضها موضوعي، لكن ربما كان أكثر الكتابات موضوعية هي كتابات بوركهارت وروبل وبروكش-أوستن والأمير بيكلر موسكاو، وربما استقينا بعضا من هذه الكتابات لتوضيح أوضاع النوبة الاقتصادية في أوائل القرن الماضي، قبل وبعد الانضمام الكامل في النسيج المصري.
يركز بوركهارت،
2
الذي استغرقت رحلته 35 يوما من أسوان إلى شمال بلاد المحس والعودة إلى أسوان، على الأوضاع السياسية في أواخر أيام حكم الكشاف لبلاد النوبة، وما تعرضت له من دمار إثر هجمة المماليك الفارين من حكم محمد علي، والظلم الذي كان يقع على النوبيين من جراء الضرائب الباهظة التي كان الكشاف يفرضونها عليهم، ويخلص إلى أن هذا الجور سبب الفقر العام في النوبة.
لكن بوركهارت كان موضوعيا في وصف النوبة كما رآها مسرع الخطى، يقول: إن الضفة الشرقية في النوبة من أسوان إلى كورسكو أوسع وأصلح للزراعة؛ فهي مكسوة بطبقة من الطمي، في حين أن الضفة الغربية معرضة لسفي الرمال من الصحراء الغربية إلا في ظل بعض الجروف والجبال. وحيث إن رحلته كانت في فبراير ومارس، فهو يرى النهر ضيقا، وهذا أمر طبيعي؛ فالفيضان لم يأت بعد، والمحاصيل الرئيسية التي لاحظها بوركهارت هي الذرة والدخن، ويتعجب لعدم زرع البرسيم برغم غمر الفيضان للأراضي الزراعية. الزراعة لا تتم إلا بري السواقي؛ مما يستدعي وجود الأبقار لإدارتها، وتتغذى الأبقار على قش الذرة والكشرنجيج، الحقول مقسمة إلى أحواض صغيرة - 3 × 3 أمتار - تدخلها مياه المساقي. ويقول: إن الأرض تزرع بعد حصاد الذرة عدة محاصيل: منها الشعير والكشرنجيج والفول واللوبيا وتبغ رديء النوع، أما القمح فهو نادر وينضج في شهر مارس، وعلى مقربة من الدر تزرع محاصيل أخرى هي العدس والحمص والترمس والبطيخ، وإن هناك زرعة ثالثة بعد الشعير هي الذرة الصيفية التي تزرع في أبريل، ولا تتم إلا في الأرض الجيدة ولا بد من ريها بالسواقي. ولا يجب أن يفوتنا أن نؤكد أن المساحات الزراعية التي وصفها بوركهارت هي بالضرورة صغيرة؛ لأنه كان يمر وقت انخفاض النيل؛ مما يستدعي جهدا كبيرا في رفع المياه، ومن ثم كانت قدرة الناس محدودة في الزراعة، حتى لو كانوا من الذين يمتلكون أعدادا وفيرة من الأبقار.
وقد لاحظ بوركهارت كثرة النخيل ابتداء من كورسكو، لكن أشهره في مصر هو تمر الدر وإبريم - المعروف باسم البلح الإبريمي - الذي يشتريه تجار إسنا وأسوان وينقلونه في المراكب في الخريف، حين يساعد تيار الماء القوي على سرعة النقل إلى الشمال.
أما إدوارد روبل
3
فقد كان ملاحظا متميزا، ولم يركز روبل كثيرا على موضوع الكشاف، باستثناء ذكره أن الخراج السنوي الذي يدفعونه لحكومة القاهرة كان في حدود 180 بويتل
Beutel
أو ما يساوي 9000 تالر
Thaler - البويتل عملة عثمانية = 500 قرش، وفي مصر = مائة قرش = 101 مارك أو تالر في تلك الفترة. والأمر الهام الذي أورده روبل أن ما يتحصل عليه الكاشف سنويا من الضرائب التي يفرضها على النوبيين، يعادل 400 بويتل أو 20000 تالر؛ مما يعني أن الكاشف يتحصل على قيمة تزيد على ما يدفعه للدولة، وهو ما يعطينا فكرة عن القوة المالية للكشاف في تلك الفترة، ولا بد أنهم كانوا يستثمرون جزءا من هذه القوة المالية في تجارة الرقيق، التي كانت تتجمع في دنقلة وبلاد المحس، ثم تتجه غربا لتلحق بدرب الأربعين بعيدا عن النوبة الشمالية.
4
هذا بالإضافة إلى المشاركة في تجارة السودان ومصر عبر وادي العرب.
وحول الزراعة يذكر روبل أن البرابرة - يقصد الكنوز - يزرعون الأرض العالية عن مناسيب الفيضان ليؤمنوا سلامة المحصول إذا جاء الفيضان مبكرا، ولهذا فهم يروون الأرض صناعيا، وفي حالة حدوث فيضان منخفض، فإن الكنوز يعانون أزمة غذاء حقيقية، وهناك محصولان سنويا: الأول في سبتمبر بعد هبوط الفيضان وينضج في يناير، والثاني في يناير وينضج في مايو، والمحاصيل المهمة هي الذرة والدخن والكشرنجيج والشعير والقمح، وتزرع اللوبيا على ضفة النهر والقنوات صغيرة الامتداد، وهناك محاصيل ثانوية تزرع في مساحات صغيرة من البصل والتبغ والقطن، وتحتاج الساقية في إقليم الكنوز إلى ستة رءوس من الأبقار، كل بقرتين تعملان معا نحو خمس ساعات.
وكانت العوائد في النوبة أيام الكشاف لا تحسب على المساحة الزراعية، بل تحتسب على الساقية، ويرى روبل أن كبار الملاك القادرين على حيازة عدد كبير من الأبقار والثيران يستطيعون زراعة مساحات كبيرة، بحكم إمكان تشغيل الساقية فترة طويلة، بينما الفقراء الذين لا يمتلكون أكثر من بقرتين أو ثلاثة أبقار لا يستطيعون زراعة مساحات كبيرة، ومع ذلك يدفع الفقير نفس الفئة من العوائد على الساقية الواحدة، وفي عهد الإدارة المصرية أصبحت العوائد على الأرض والساقية معا، والعوائد ليست كلها نقودا، بل هناك جزء يدفع عينا من المحصول ومن الثروة الحيوانية والدواجن.
أما أنتون فون بروكش-أوستن
5
فقد وجد النوبة مقسمة إداريا إلى أربعة أقسام تابعة لمديرية أسوان هي: من أسوان حتى كلابشة، ومن كلابشة إلى الدر، ومن الدر إلى إبريم، والأخيرة من إبريم إلى وادي حلفا، وقال بروكش-أوستن إن في النوبة مدينتين هما الدر وإبريم و94 قرية و21 حلة منعزلة و15 جزيرة مأهولة، وقدر عدد السكان بنحو 50 ألفا، والنخيل 145 ألفا، وعدد السواقي التي تدفع ضرائب 836 ساقية - مقابل 3698 ساقية عدها روبل جنوب الشلال الثاني.
وقد ذكر الأمير بيكلر-موسكاو
6
ثلاثة موضوعات هامة هي: (1)
أنه لاحظ التشويه المتعمد لدى بعض الشباب النوبي لتجنب تجنيدهم في الجيش المصري. (2)
وهو أيضا أول من ذكر صناعة السياحة عند النوبيين: فقد رأى أهل كورسكو يبيعون التذكارات السياحية من دروع ورماح وسياط من جلود أفراس النهر إلى المسافرين والمرتحلين في سياحة. (3)
وكذلك سجل رؤيته لقرى هجرها أهلها بالكامل بحثا عن مواطن جديدة في دارفور.
وهنا يجب أن نضيف ما كتبه العلامة المصري علي باشا مبارك عن منطقة الدر في موسوعته الضخمة «الخطط التوفيقية»،
7
التي أصدرها في الثمانينيات من القرن الماضي، ويتضح لنا من قراءة ما كتبه عن مدى الغنى لتلك المنطقة التي اتخذها الكشاف مقرا للحكم في النوبة زمنا طويلا، يقول علي مبارك ما يلي:
الدر ... بلدة من بلاد إبريم، وهي رأس قسم بمديرية إسنا، واقعة على الشط الشرقي للنيل، وأبنيتها باللبن وأطواف الطين، على دور واحد ما خلا منازل أكابرها كمنزل المرحوم حسن كاشف.
وفيها جامع ينسب لحسن كاشف له وقف نحو ثلاثين ساقية بأطيانها، يصرف عليه وعلى خدمته من ريعها، ويطعم منه الفقراء الواردون إليه.
وفيها محل لنائب القاضي ومحل لناظر القسم، وفيها أثر سوق كان مبنيا باللبن والطوف، وفيها سويقة أخرى عامرة يباع فيها: الغلال والتمر والأقمشة المصرية والنطرون وحب الخروع والدخان البلدي.
وفي شرقيها في سفح الجبل بربا خربة تسمى باسمها، وتجاه البربا مقام ولي يدعى الشيخ عكاشة، عليه قبة.
وفيها بساتين كثيرة مسورة، أكثر شجرها النخل وشجر الليمون المالح، وبهذه البلدة نحو سبعين ساقية ونخيلها نحو خمسة عشر ألفا وستمائة وعشرين نخلة، وفيها شجر اللبخ وشجر السنط أمام منازل أكابرها.
وأطيانها العالية أربعمائة واثنان وعشرون فدانا، والمنخفضة نحو مائة فدان، ويزرع فيها القمح والشعير والفول والعدس والذرة الصيفية والدخن واللوبياء والكشرنجيج ... والترمس وأنواع الخضروات والخروع؛ وهذا النوع كثير هناك إلى حدود مديرية دنقلة ويستخرجون منه الزيت.
ويقال: إن أكثر أهلها من نسل الأتراك الذين صعدوا إلى هناك في أوائل مدة العزيز محمد علي باشا؛ ولذلك إلى الآن يوجد في أسماء رجالهم فلان كاشف كثيرا، وفي أسماء نسائهم السيدة فلانة، وهم متميزون عن باقي أهل البلد؛ فإنهم طويلو القامات ضخام الأجسام ...
ويلبس أغنياؤهم ثياب القطن وقفاطين الحرير والجوخ، وأغنياء نسائهم يلبسن الملاءات الحرير وأساور الفضة، ويعلقن في ضفائرهن قطع الذهب والكهرمان والودع كل بحسبه، ويدهن شعورهن بزيت الخروع ؛ تارة وحده، وتارة يضاف إليه القرنفل أو الفتنة أو غيره من العطريات.
ويصنع فيها المرجونات وبروش الخوص النفيسة، وهي أصناف: منها الغجري؛ يعمل من خوص مصبوغ أحمر وأسود ... ومنها التتري؛ خوص أبيض وأحمر وأسود ... ومنها السلطة ملطة؛ خوص أبيض وأحمر وأسود وأصفر. ومنها الكشومة؛ وهو من الخوص غير المصبوغ.
وفيها الغنم والبقر والإبل، وقد يخصون الخرفان ويسمونها الطواشية، ويرغبون في تربيتها ويعتنون بكلفتها، وثمن الخروف الطواشي إذا كان ابن ثلاث سنين جنيه مصري، وبين هذه البلدة وإبريم نحو أربع ساعات.
ولا شك في أن هذا الوصف الدقيق يعطينا صورة جيدة عن أحوال النوبة بعد ضمها للإدارة المصرية، بديلا عن الصورة القاتمة التي أعرب عنها الرحالة الأوربيون في مطلع القرن الماضي، صحيح أن حكم الكشاف كان استبداديا، وهو أمر كان شائعا في معظم العالم في تلك الأزمان، لكن دقائق الحياة الإسلامية كانت مرعية؛ فإن وقف نحو نصف سواقي الدر بأطيانها على المسجد وأعمال البر بالفقراء، أمر لا يمكن أن يفوتنا، وإن فات على الكثير من الرحالة لأسباب عديدة، ربما كان على رأسها جهل الرحالة الأجانب باللغة المحلية من ناحية، وعدم القدرة على التمييز بين أرض موقوفة أو غير موقوفة، وإلا لعلهم جعلوا ذلك موضعا للتساؤل والسؤال، والأغلب أن مثل هذه الأوقاف كانت موجودة بالنسبة لمساجد وكتاتيب كثيرة في أرجاء النوبة من أجل التعليم والبر والحياة الروحية. (3) الاقتصاد النوبي في الفترة 1933-1963:
اشتمل اقتصاد النوبة خلال عهود طويلة على الموارد المحلية المحدودة، والموارد الخارجية التي تأتي في صورة تحويلات نقدية من النوبيين الذين يعملون في مدن مصر والسودان.
أولا: المصادر الخارجية
لا توجد دراسة شاملة عن نسبة إسهام التحويلات المالية إلى الدخل العام للنوبيين، لكنها لا شك تكون جزءا هاما من الدخل؛ لأنه عبارة عن النقود السائلة التي تقضي بها الأسر احتياجاتها؛ كشراء الدقيق والشاي والسكر والزيت، وتفي بتكاليف حياتية أخرى كالسفر والنقوط في الأعراس، وتجهيزات بيتية عديدة من أقمشة وأوعية ومواقد ... إلخ.
وتتضح أهمية المصادر الخارجية بالنظر إلى عدد المهاجرين جزئيا، كما وضح من الجدول (
4-2 ) والشكل (
4-1 ) الذين تبلغ نسبتهم نحو نصف سكان النوبة، ولو قسنا عدد المهاجرين جزئيا الذكور إلى الذكور المقيمين، سوف نجد أن هناك مهاجرا لكل مقيم على وجه التقريب؛ علما بأن الكثير من المقيمين من الذكور هم أطفال وشيوخ، وكنموذج لهذه الحالة ما قمنا بدراسته في كورسكو في شتاء 1963، فقد كان سكان كورسكو حسب تعداد 1960 كان 408 أشخاص، منهم 247 شخصا يعملون في الخارج، منهم 119 في مصر و128 في السودان، والكثير من العاملين في السودان تصحبهم زوجاتهم، بينما كثرة العاملين في مصر يعيشون فرادى، وحسب سجلات مكتب البريد فإن قيمة التحويلات الواردة إلى كورسكو في المدة من شهر نوفمبر 1961م إلى أكتوبر 1962م كانت كالآتي:
تحويلات العاملين في مصر في السنة المذكورة 1912 جنيها،
تحويلات العاملين في السودان في ذات السنة 713 جنيها،
مجموع التحويلات في سنة كاملة 2625 جنيها.
وهذه التحويلات ليست ثابتة القدر كل شهر، فأقصى تحويل كان 305 جنيهات في شهر مايو من مصر، و99 جنيها من السودان في فبراير، بينما كانت أقل الشهور 116 جنيها في نوفمبر من مصر و22 جنيها في سبتمبر من السودان، وربما كان سبب تدني التحويلات من السودان أن كثرة العاملين هناك هم - كما ذكرنا - بصحبة أسرهم، هذا فضلا عن أن بعض التحويلات المصرية هي جزء من ثمن أبقار أو فحم نباتي يشتريه تجار من أسوان أو الصعيد من كورسكو.
نظريا يمكن أن نقول إن أقل من 200 شخص مقيم في كورسكو كانوا يستفيدون من قيمة هذه التحويلات بواقع نحو 18-20 جنيه سنويا، وقد كان في كورسكو عام 1962 نحو 160 أسرة، ولو افترضنا أن المقيمين منهم هم مائة أسرة، فإن ذلك يعني أن كل أسرة تنال نحو 25-30 جنيها سنويا من هذه التحويلات، وسواء كان هذا الرقم أو ذاك، فإنه في النهاية يدل على النقص البالغ في السيولة النقدية في كورسكو وغيرها من قرى النوبة.
ولكن ذلك النقص كان يعوضه شيئان؛ أولهما: الهدايا العينية التي يحضرها الوافد إلى أسرته، أو يرسلها بالبريد، من أقمشة ومواد غذائية. والثاني: الإنتاج المحلي الذي يكاد يقيم أود الأسرة معظم السنة.
ثانيا : الموارد المحلية
تتعدد الموارد المحلية كثيرا، لكن معظمها قيمته محدودة قليلة، وذلك شأن البيئات الفقيرة التي يحاول أصحابها تشغيل الممكن من الموارد، حتى لو كانت القيمة المضافة ليست بالقدر الكبير، ولهذا فإننا كنا نرى في النوبة مجموعة من الأنشطة الاقتصادية هي: الزراعة التقليدية مع بعض الحيوان، والسماكة والنقل النهري، وعمل الفحم النباتي، والتجارة الصغيرة، وبعض النجارة والحدادة وبعض الحرف المنزلية. (4) قوة العمل المختلطة
نظرا للنقص الملحوظ في قوة العمل النوبية من الرجال بسبب هجرة العمل، وبخاصة في إقليمي الكنوز والعليقات وبعض مناطق النوبيين، فإن الكثير من الأعمال تقع على عاتق النساء النوبيات والأطفال، ومن يتواجد من الرجال القادرين، ولكن هناك مساعدات يقدمها عدد من سكان الصعيد الجنوبي، الذين يفدون بصفة مستمرة إلى بلاد النوبة في فترة معينة، هي غالبا فترة ري الحياض في محافظة قنا - قبل السد العالي - حين يقل العمل في أراضيهم، ويساهم هؤلاء الصعايدة في زراعة الأرض النوبية وفي صيد الأسماك وعمل الفحم النباتي، كما سيأتي ذكره فيما بعد، وليس الصعايدة هم وحدهم قوة العمل الإضافية في النوبة، بل هناك نشاط جانبي يقدمه بدو العشاباب والبشارية، ومعظمه يتمثل في شراء قش المحصول لترعاه إبلهم وأغنامهم، والمساعدة في نقل بعض المنتجات من الوديان الجبلية إلى القرى النوبية أو إلى أسواق شمال أسوان. (5) الزراعة
أنواع الأرض والملكية
بالرغم من أن الزراعة تشغل حيزا مساحيا واضحا في النوبة، وتعطي محاصيل لا غنى عنها للنوبيين، إلا أنه لا توجد ملكية زراعية في النوبة بصورة عامة؛ فقد سبق أن عوضت الحكومة السكان عن الأراضي التي كانوا يملكونها تحت منسوب 122 مترا بعد تعلية سد أسوان للمرة الثانية في سنة 1933.
8
وبالتالي فإن الأرض التي تزرع هي من النوع الذي يسمى قانونا زراعة الخفية أو زراعة منافع، وكانت الحكومة تتقاضى عنها مبالغ زهيدة قدرها 15 قرشا للفدان الواحد سنويا، فمثلا كانت قسائم زراعة المنافع التي يدفعها أحد كبار الممارسين للزراعة في كروسكو شرق على النحو الآتي: 113 مليما عام 1936 عن زراعة 16 قيراطا، و16 سهما في حوض سند، وتراوحت القسائم التي كان يدفعها بين 135 مليما (1937)، و202 مليم (1956)، و146 مليما (1960 و1961)، و114 مليما (1962). وهذه الاختلافات غالبا ما توضح أن الزراعة لا تستغرق نفس المساحة سنة بعد أخرى.
ولكن زراعات النوبيين لم تقتصر على أرض التعويضات السابقة، بل كانت هناك محاولات ناجحة من جانب السكان ومن جانب الحكومة على اكتساب أراض جديدة فوق منسوب 122 مترا، وهذه يطلق عليها أراض مستجدة بالنسبة لما يستصلحه السكان، وأراضي المشروعات بالنسبة لما تقوم به الدولة من استصلاح، وبرغم أنها كلها تقع ضمن تسمية أراضي المنافع، إلا أن الدولة قامت بتعويض السكان عما كانوا يمتلكونه من أراض مستجدة وأراضي المشروعات، وكان هذا التعويض في شكل عيني؛ أي يعطى المالك مساحة مماثلة لما كان يملكه في أراضي المهجر في منطقة كوم أمبو.
وقد بلغت مساحات الأراضي المستجدة وأرض المشروعات نحو 15,9 ألف فدان، قدرتها الحكومة بمليونين ومائة خمسة وخمسين جنيها في 1963؛ أي بواقع نحو 135 جنيها للفدان في المتوسط، وتتوزع هذه المساحة على النحو الآتي: (1)
كانت الدولة قد أقامت 13 محطة طلمبات للري، منها ست طلمبات تروي 4100 فدان ريا نيليا، وسبع محطات تروي 7500 فدان ريا مستديما، ومعنى ذلك أن مساحة أرض المشروعات كانت 11600 فدان، وربما كانت بلانة في أقصى جنوب النوبة من أكبر المشروعات الزراعية؛ فقد بلغت مساحتها نحو 2200 فدان، بينما كان مشروع الدكة متوسط الحجم - نحو 625 فدانا - والعلاقي في حدود 600 فدان، وكانت مثل هذه المشاريع في منطقة النوبيين أكبر من قدر السكان المحليين، بحيث إنها كانت تستوعب مهاجرين من البلاد التي تأثرت أراضيها بشدة نتيجة تعلية سد أسوان، ومن بلاد الكنوز بصفة خاصة. ويتضح ذلك من أسماء نجوع وسواق وأحواض هي استعارة من أسماء القرى التي وفدوا منها؛ مثل نجوع أمبركاب ومرواو وأبوهور في توشكى غرب، ونجع الدكة في توشكى شرق، ونجع وترعة كورسكو ونجوع أبو حنضل والديوان وقتة وإبريم في بلانة. أما مشاريع الدكة والعلاقي فقد استفاد منها الكنوز من سيالة جنوبا إلى جرف حسين شمالا بتملك أراض في صورة ملاك غائبين. (2) «أراضي العلو» الواقعة في بعض مناطق النوبة مثل العلاقي والدكة والمضيق ، وخاصة تلك التي توجد خلف جسور الوقاية في نواحي بلانة وقسطل وأدندان، والتي بلغت مساحاتها نحو 2300 فدان. (3)
كانت المساحة التي استزرعها الأهالي بين 1934 و1963 نحو ألفي فدان تروي بالسواقي أو الشواديف أو بصفائح الماء، ومعظمها عبارة عن أرصفة تقام بواسطة حائط حجري أعلى من منسوب 122 مترا، يملأ خلفه بالطين لتسوية السطح، وبما أن ذلك يتم بالجهد البشري دون آلات، فإن معظم هذه الأرصفة عبارة عن مربعات صغيرة نحو 3 × 3 أمتار، كما شاهدها بوركهارت من قبل قرن ونصف القرن، فلعلها إذن تقليد قديم ظل يمارس ربما مئات السنين من قبل، ولكن هناك أرصفة ذات مساحة لا بأس بها قد تصل في حالات قصوى إلى نحو 60-70 مترا مربعا، وذلك في الأماكن المناسبة للري بالشادوف، أو الشادوف المزدوج. ونتيجة لصغر مساحات الأرصفة هذه، وصغر مساحات الري بالسواقي إلى فدان أو ثلاثة أفدنة كحد أقصى للساقية نتيجة قلة الأبقار من ناحية، والرغبة في عدم إجهادها من ناحية ثانية لضعف قيمة الناتج الزراعي، وارتفاع ثمن البقر عند بيعه لتجار الصعيد من ناحية ثالثة؛ فإن كل هذه المدخلات قد أدت إلى صغر المساحات الزراعية المكتسبة بواسطة الأهالي خلال 30 سنة إلى 2000 فدان أو نحو ذلك.
وقد نتخذ دليلا على ذلك ما يأتي:
أولا:
أنه كانت في النوبة مساحات لا بأس بها صالحة للزراعة سنويا بعد انحسار مياه خزان أسوان، مثلا كانت في منطقة قرشة نحو 260 فدانا صالحة للزراعة، وفي سيالة مائتي فدان ، وفي كورسكو 150 فدانا، لكن المزروع في هذه الجهات لم يكن يتعدى ربع المساحة المتاحة، والسبب واضح في قلة الأيدي العاملة من ناحية، وفي كفاية المنتج لاحتياجات السكان المقيمين - إذا تذكرنا أنهم لم يزيدوا عن ربع مجمل سكان بلاد النوبة. وهنا لا بد أن نضيف سلعا تموينية كانت تأتي من الشمال نتيجة تحسن وسائل النقل النهري، وهو ما لم يكن متيسرا في القرن الماضي، ولعل هذا، مع كثرة هجرة العمل للرجال، قد أدى إلى قلة واضحة في الاهتمام بغلة الأرض المحلية.
ثانيا:
كان ملاك الأراضي الزراعية في النوبة يشكلون 43٪ من مجموع الأسر، وبقية الأسر لا تملك أرضا، ومن هؤلاء الملاك 53٪ يمارسون الزراعة، وكان بين غير الملاك أسر تعمل بالزراعة غالبا عند الملاك الذين لا يمارسون النشاط الزراعي، أو هم ملاك غائبون، وأكثر الملاك المزارعون هم بين النوبيين، بينما أكثر الذين لا يمتلكون أرضا هم بين الكنوز، ومن ثم فإن النشاط الزراعي استمر كتقليد تاريخي في حدود المتاح من الأرض دون عناء استثمار في استصلاح جديد من الحقول، إلا في النذر اليسير، ومن ثم كانت الإضافات في صورة الأرض المستجدة صغيرة على مر جيل بأكمله.
والملكيات - أو حق الانتفاع - متوارث منذ أنشأ الجد الأكبر الساقية أو اختط الحقل، ويستمر اسم صاحب الساقية أو الحوض الأصلي برغم أن التوارث الشرعي قد فتت الملكيات إلى مساحات صغيرة قد تبلغ جدولا - نحو قيراطين - أو بضعة أسهم. وحيث إن ماء النهر وفيضانه هما أساس الزراعة، فإن الملكيات عادة تمتد من واجهة على النهر - أو خور يصله الفيضان - إلى الداخل المرتفع تدريجيا، وحين تقتسم الأرض بين الورثة تأخذ هذا الشكل الشريطي من النهر إلى الداخل، وقد تبلغ الأشرطة عرضا ضيقا يصعب معه تشغيلها، ومن ثم توكل إلى الجار أو الجيران لزراعتها مع أراضيهم، ثم يقتسم المحصول بحسبة معروفة لديهم، ومن لا يفعل ذلك تترك شريحته دون زراعة، وقد يكون لذلك مردود اجتماعي أيضا بمقتضاه قد يقلل الناس التعامل معه، وسبب هذه الشرائح العرضية أن الأرض بجوار النهر غيرها في الداخل، ومن ثم لا يجوز لأحد من الورثة الحصول على الأرض الجيدة وحده، ويجوز أن يمتلك الشخص عدة شرائح في عدة أحواض نتيجة لميراث الزوجة أو الخئولة، وهذه الحالة توضح صعوبة تشغيل الملكيات الزراعية؛ مما قد يساعد على إهمالها، وهو ما يفسر عدم زراعة كل الأراضي الصالحة للزراعة - فضلا عن إغراءات العمل الخارجي. وإذا كان هذا ينطبق على معظم النوبة، إلا أنه لا ينطبق بنفس القوة على جنوب النوبة؛ حيث تشترك عوامل متعددة هي خصوبة التربة وسهولتها، والتساند الاجتماعي مع نمط الملكية في تكوين نويات المجتمع المرتبطة بالعائلة، أو ما يسمى «نوج»، بينما تلعب العشيرة دورها في تكوين نويات المجتمع في بلاد الكنوز.
والخلاصة أنه برغم تقسيم الملكية أو حق الانتفاع بين الورثة الشرعيين، إلا أن النوبيين لا يقسمون الأرض فعلا برغم أنها مقسمة نظريا، والوارث الذي يزرع كل الأنصبة له نصف العائد أو أكثر قليلا، ويوزع الباقي على بقية المستفيدين؛ كل حسب نصيبه من الأرض. وكان لهذا الشكل من الاتفاق العام نتيجتان؛ الأولى: أنه يحفظ العلاقات بين الناس، ويحافظ على استمرارية الزراعة بشكل له عائده الحدي، والثانية: أنه إما أن يكون انعكاسا لاستمرارية هجرة العمل خارج النوبة، بحيث يأتي بمصادر خارجية تعين على استمرار الحياة للمقيمين من الأقارب، وإما أن استحالة ممارسة الزراعة لكل في أرضه الصغيرة قد أدت إلى نظام هجرة العمل، وفي الحالتين فإن التكافل الاقتصادي قد أصبح سدى التلاحم والتكافل الاجتماعي الذي ميز النوبيين طويلا.
أدوات الزراعة
لا توجد كثير من الأدوات التي تستعمل في الزراعة النوبية، وأكثرها تعقيدا هي أدوات الري، سواء كانت الساقية أو الشادوف.
والأغلب أن إقامة الساقية بالذات تقتضي تساند عدة أشخاص، ويصبح لهم حقوق انتفاع بمياه الساقية، ولا بد من حفر قناة تصب فيها مياه الساقية لتتوزع على الأرض التي تعتمد عليها، وتبنى السواقي على قواعد حجرية ليست لصق ضفة النيل، بل على مبعدة يسيرة، وتحفر لها بئر يصل منسوبها إلى المياه الجوفية، كما هو الحال في الشمال حيث موارد الحجارة قريبة، ومن ثم فإن الكثير من أبنية هذه السواقي القديمة ما زالت موجودة بصورة متهدمة تحت مياه الخزان، وهي تشكل بعض المخاطر للملاحة لمن لا يعرف المناطق التي كانت تكثر فيها السواقي قديما، وهناك إلى جانب القواعد أعمدة خشبية قوية غالبا من جذوع أشجار السنط وأفلاق النخيل، وكلتاهما متوفرة في معظم أرجاء النوبة، يقوم نجار السواقي بربطها رأسيا وأفقيا، ثم هناك الدواليب الأفقية والرأسية والتي تعلق فيها القواديس. هذه الأعمال كلها تحتاج إلى تشارك أقرباء أو غرباء يمتلك الواحد منهم حصة بقدر ما أسهم به من عمل وخامات.
ولا تقف مشكلة الساقية عند هذا الحد من التشييد وتوزيع الأنصبة، فإدارة الساقية تحتاج إلى أبقار ومراقب عمل، ولهذا فإن هناك أنصبة أخرى تنبني على إمداد الساقية بالأبقار اللازمة لإدارتها، وهكذا نجد تساندا كثيفا بين ملاك الأراضي والساقية والأبقار والأشخاص الذين يوكل إليهم أمر إدارة الساقية وتوفير الماء، وقد يكون هناك مستثمرون أو ملاك كبار، لكن نشاطهم قد يتعدى القيام بهذه الأعمال الزراعية إلى أعمال أخرى كالتجارة، ومن ثم فهم في حاجة إلى إسهام الكثيرين في صورة شراكة متشعبة تربط أعضاء العائلة أو عائلات المجتمع في المحلة الواحدة.
ويجدر بنا أن نذكر هنا أن سكان النوبة يطلقون اسم الساقية على كل الأرض التي تروى من الساقية الواحدة، سواء كانت مساحتها فدانا أو أكثر.
الشادوف ليس أداة صعبة في تشييدها، لكن الأغلب أن هناك مشاركة في إقامته بين المستفيدين من تشغيله. وحيث إنه يعتمد على الجهد البشري في إدارته، فإن الأرض المعتمدة على الشادوف هي بالضرورة أصغر كثيرا من أرض الساقية، والواقع أن استخدام الشادوف قاصر على الأرصفة الصغيرة من أجل ري الأشجار المثمرة أو الخضراوات الشتوية.
ولصغر الاستثمار في عمل الشادوف بالقياس إلى الساقية، فإننا نرى عدد الشواديف في المحلة الواحدة يفوق عدد السواقي - بل ربما لا توجد ساقية مقابل عدد من الشواديف - ففي كورسكو ثلاث سواق كلها تقع في حوض الريقة - كورسكو غرب - بينما يوجد أحد عشر شادوفا في كورسكو شرق وغرب معا.
أما أدوات الزراعة فهي تتكون من عدد بسيط من الأدوات، على رأسها الفأس أو الطورية، كما تسمى هناك، وفي دنقلة توجد السلوكة بديلا للفأس؛ وهي عبارة عن عصا حفر على أحد جوانبها موطئ للقدم يضغط به العامل من أجل تعميق الحفرة التي توضع فيها البذور، ولكن في النوبة المصرية فإن الفأس هو المستخدم في نقر الأرض، ومن ثم تسمى الزراعة بهذه الطريقة «زراعة النقر». وإلى جانب الطورية توجد «الجرافة» التي هي قطعة من الخشب تستخدم لتسوية الأرض، و«الواسوق» لإقامة الجسور الطينية داخل الحوض الزراعي، وهو أيضا آلة خشبية، وأخيرا «المنجل» الذي يتكون من قبضة خشبية وسلاح مسنن من الحديد، وقد سبق أن ذكرنا أن المحراث لم يكن موجودا في النوبة في الماضي أو إلى الستينيات من هذا القرن، ربما عرفوه ولكن مقتضيات الزراعة النوبية لم تكن تستدعي استخدامه.
العمل الزراعي
حينما تهبط مياه الخزان كاشفة الأرض الفيضية، يبدأ الأهالي في العمليات الزراعية، إما بأنفسهم أو باستخدام عمال من الصعيد يفدون بانتظام إلى نفس المكان سنة بعد أخرى، ذلك أن الأهالي يكونون قد ألفوا وجود نفس الأشخاص وأمنوا إليهم، ويعتمد ذلك على مساحة الأرض والقدرة المالية لأهالي النجع على استئجار عامل من العمال، ويمكن للعامل الواحد أن «ينقر» نحو ربع فدان في اليوم مقابل نحو عشرة قروش في اليوم، ويمكن أن تصبح الأجرة الضعف إذا كان الاتفاق على النقر ووضع البذور وتغطيتها، ويمكن الاتفاق على نقر وزراعة فدان مقابل نحو ثمانين قرشا، بغض النظر عن إتمام العمل في أيام محدودة، وفضلا عن الأجر فإن العمال يبيتون في مضيفة النجع، ويتزودون بالطعام على حساب المستأجرين.
وإذا كانت القدرة المالية محدودة، أو أن هناك من النساء والصغار ما يكفي للمشي وراء العامل لوضع البذور في الحفر وتغطيتها؛ فإن العامل يؤجر على النقر فقط. وهنا تظهر بعض المشاكل؛ فالعامل يسرع في النقر من أجل القيام بعمل في حقل آخر، والنساء والصغار لا يلاحقونه، فإذا تأخروا كثيرا جف الطين عن النقر، بحيث لا يعطي البذور الرطوبة الأولية الضرورية للنمو، وسرعة جفاف الطين أننا هنا في شهري يونيو ويوليو شديدي الحرارة، ومن ثم يلجأ الكثيرون إلى القيام بعملية النقر في الصباح الباكر؛ بحيث يتوقف العمل عند قرابة الضحى، ثم يعاودون بعد العصر؛ بحيث يمكن للناس وضع البذور في جو معقول الحرارة.
وحيث إن الأرض تكون قد أخذت حظها من الرطوبة طوال فترة مكوثها تحت ماء الخزان، فإن الأمر في مثل هذه الزراعة الصيفية لا تحتاج إلى ري، ولأن المحاصيل الصيفية من الأنواع التي لا تحتاج إلى رعاية كثيرة ، فالمتوقع أن أعمال رعاية النبات تكون عند الحد الأدنى.
ومع نضج المحصول بعد نحو ثلاثة أشهر، يبدأ عمل جاد في الحصاد تساهم فيه النساء بقدر كبير، ثم ينقل المحصول على الحمير، أو يكوم في ربطات ترفعها النساء على رءوسهن إلى البيت؛ حيث يخزن الحب في قدور فخارية كبيرة في فناء المنزل.
وبعد الحصاد تأتي مساعدة خارجية أخرى، تتمثل في حضور بدو العبابدة والبشارية الذين يشترون بقايا المحصول في الأرض من قش وعيدان يتركونها مرعى طيبا للإبل، والأغلب أن هؤلاء البدو يدفعون نحو نصف جنيه ثمنا لقيمة ما في الجدول - نحو قيراطين - من مخلفات المحصول، أو الحشائش التي تنمو طبيعيا في الأرض غير المزروعة، ولهذا فإن العبابدة ينزلون من الصحراء إلى نجوع عرفهم أهلها بين يونيو ويوليو ويمكثون إلى أكتوبر، ثم يغادرون المكان إلى الصحراء أشهر الشتاء للاستفادة من المراعي الطبيعية، وجمع بعض النباتات الطبية وبيعها في أسوان أو دراو، وقد يجمع الأهالي كل أو بعض بقايا المحصول ويجففونه ليصبح دريسة للماعز والغنم خلال الشتاء في حالة عدم وجود البدو.
بقي أن نقول إن الأجزاء من أراضي السهل الفيضي التي لا تزرع تنمو فيها الحشائش والنباتات البرية، وهذه تكون مراع جيدة لحيوانات النجع خلال الصيف، وتجمع النساء بعضها وتحزمه وتنقله للبيت أيضا دريسة للحيوان في الشتاء.
طقوس المحصول الجديد
يمارس كثير من سكان النوبة بعض الطقوس احتفالا بالمحصول الجديد، وتدور هذه الطقوس حول ذبح أضحية من الماعز، غالبا تيس يسمى «عتوت»، وهو حيوان يعلم وهو صغير، ولا يضره أحد حتى وقت الحصاد، كذلك تتمثل الطقوس - غالبا لمن لا يملك عتوتا - في بعض الإسراف في الغذاء من مخزون حبوب العام الفائت، ويشرك السكان العمال الزراعيين فرحتهم في مزيد من الخبز والغذاء واللبن.
ومما يزيد الأجواء فرحة أن الكثير من الزيجات تعقد في نفس الموسم، يصاحبها أمسيات طرب ورقص، وتردد جنبات النوبة دقات الطبول في أمسيات الصيف، وهو ما يجعل الصيف موسما للنشاط الحق بعد ركود الشتاء، فهناك حركة دائبة بين المساكن والحقول ولقاءات كثيرة مع الغائبين في أعمالهم خارج النوبة، واستعدادات للأفراح وطقوسها العديدة؛ كل ذلك في ظل وفرة في المأكل والمشرب. إنها حقا السعادة والبهجة في صورة البراءة والبساطة.
المحاصيل الرئيسية
الذرة والكشرنجيج واللوبيا هي المحاصيل الرئيسية التي تدور حولها الزراعة الصيفية في النوبة، والتوزيع المكاني لهذه المحاصيل هي: الذرة تزرع على الجرف؛ أي الأراضي الملاصقة لضفة النهر أو الأخوار المتعمقة، بينما تزرع الأراضي الداخلية كشرنجيج ولوبيا، تاركة بينها وبين أرض الذرة مساحات خالية تنمو فيها أعشاب وحشائش برية، وتوضح الخريطة (8) نمط استخدام الأرض الشائع في النوبة.
خريطة (8): نمط استخدام الأرض صيفا في النوبة. نموذج كورسكو شرق.
وعلى الأغلب فإن مساحة الذرة تحتل نحو ثلث مساحة الأراضي المزروعة، أما لماذا كانت الذرة هي المحصول الأساسي فلا شك أنه راجع إلى عوامل بيئية تحبذه كمحصول وفير الإنتاج، وراجع أيضا إلى تفضيل الناس - كميراث حضاري - لخبز الذرة غالبا لسهولة طحنه وخزنه فترة طويلة، ولكن ربما السبب الأهم أن زراعته لا تستلزم عملا زراعيا شاقا مثل القمح أو الذرة الشامية، ولا تستلزم ريات متعددة، كما أنه ينمو في تربات عديدة ليست بالضرورة غنية، وإذا تذكرنا أن المحراث لم يدخل النوبة قط طوال تاريخها، وأن الذرة والدخن يمكن زراعتها بالنقر أو الحفر بالفأس، فإننا نعرف لماذا كانت هناك أفضلية له كمحصول خبز أساسي في النوبة، وليس معنى هذا أن السكان لا يستخدمون دقيقا غيره، بل الأغلب أنه يخلط مع دقيق القمح والذرة بنسبة صغيرة، وهم يشترون الدقيق من التجار المحليين الذين يشترونه بدورهم من تجار أسوان والصعيد.
أما الكشرنجيج واللوبيا فهما غذاء للإنسان والحيوان معا، وإن كان أكثر الكشرنجيج موجها إلى الحيوان، وهذا المحصول لا يحتاج الكثير من العمل الزراعي ونموه الخضري كبير، وهو ينمو في شهرين ويحش ثلاث مرات.
وإضافة إلى هذه المحاصيل الرئيسية فقد كان السكان يزرعون مساحات محدودة من الخضروات في الصيف، وإنتاج لا بأس به من الخضر في الحدائق والأرصفة الصغيرة خلال الشتاء، وهي بطبيعة الحال تحتاج إلى الري بالشادوف أو السواقي، وأهم الخضروات البامية والكوسة والجرجير والقليل من الطماطم والبصل والثوم والفول والترمس والحمص وفول السوداني والملوخية ... إلخ، وكل ذلك في مساحات صغيرة، ولا يزرع النجع الواحد كل هذه الخضر، بل يقتصر على عدد قليل منها حسب جودة الأرض والقدرة على السقاية وتوجه الناس نحو طعوم محببة.
وإلى جانب ذلك فهناك الزراعة في أراضي المشروعات الزراعية التي تنتج أيضا المحاصيل التقليدية وغير التقليدية، حسب نوعية الري إن كان نيليا أو دائما.
أما المحاصيل الشجرية فقد كان معظمها أشجار فاكهة، على رأسها نخيل البلح والقليل من الدوم وفواكه أخرى وليمون بأعداد قليلة، تزرع فرادى في أحواض صغيرة تروى بالشادوف أو بالصفيحة، أما النخيل فهو ينمو على الأرض الغنية المجاورة للنهر، أو تلك التي تغرق تحت مياه خزان أسوان فترة طويلة من السنة، وبذلك يعطي النخيل بطوله السامق المكون الأساسي لصورة بلاد النوبة؛ فهو الإطار الأخضر الذي يحف بالنهر معطيا دليل الحياة وسط القفار الجبلية أو الرملية التي تحد الوادي منذ قديم الأزمان، وقد سبق أن ذكرنا أن أنتون فون بروكش قال إن هناك 145 ألف نخلة، ولكن عند دفع التعويضات للسكان قبل عملية التهجير إلى منطقة كوم أمبو كان عدد النخيل أكثر قليلا من مليون نخلة، وهو رقم يدل على أهمية النخل كفاكهة أولى في النوبة، ومصدر مهم للدخل نتيجة بيع المحصول إلى باقي مصر، وفضلا عن ذلك فإن سعف النخيل هو مادة خام للكثير من مشغولات السلال، من أسبتة وحصر وشعاليب. (6) الثروة الحيوانية
لم تلعب الثروة الحيوانية شأنا كبيرا في حياة السكان، وذلك لضيق الأرض وقلة المرعى الطبيعي، ومع ذلك فقد كانت هناك أعداد لا بأس بها من الماعز والأغنام،
9
ومعظمها موجه للاستخدام المحلي، وهناك مناسبات عديدة تذبح فيها الأغنام والماعز، على رأسها مناسبات الزواج والختان والوفيات، والقادرون يذبحون أيضا عند جمع المحصول الجديد، وكذلك إذا حلت أضياف من الرجال بالمنزل - ويمكن أيضا ذبح الطيور في مثل هذه المناسبة - ويلاحظ أيضا ذبح خروف أو عنزة وبيعها لحما لمن يريد الشراء؛ وذلك للحاجة إلى نقود سائلة، وخاصة لدى الفقراء والعجائز من النساء، وربما تكثر هذه الممارسة عند وجود عمال الزراعة أو غيرهم من العاملين الغرباء.
وكانت رعاية هذه الحيوانات من وظائف المرأة والأطفال، سواء في الصيف على ما ينمو من نباتات في أرض السهل غير المزروعة، أو بقايا المحصول بعد جمعه، أو في الشتاء حيث تكون الدريسة الغذاء الأساسي وتكون حركة الحيوان محدودة. وأهم أوجه الاستخدام هو اللبن الذي يدخل كغذاء يومي وحده أو مع الشاي أو في صورة لبن مخمر أو رايب، وكذلك يستخدم الصوف لعمل البرد والأغطية إذا كان في الناحية من يتقن هذه الصنعة.
وإلى جانب ذلك كانت هناك أعداد من الأبقار بلغ عددها عند حصر التعويضات نحو ثمانية آلاف وسبعمائة رأس، وربما كان هذا العدد كبيرا نسبيا بالنظر إلى ضيق المرعى، لكنه كان أمرا لا بد منه لمن يستخدمون السواقي، كما لا يفوتنا أن بعض السكان كانوا يربون الأبقار لبيعها لتجار الشمال، وبرغم قلة المرعى فإن محصول الكشرنجيج، بما فيه من نمو خضري وفير وإمكانية حشه ثلاث مرات وسرعة نضجه، كان بلا شك المصدر الأساسي لغذاء الحيوان في النوبة، والأغلب أن معظم الأبقار كانت توجد في القسم الجنوبي من النوبة لاتساع الزمام الزراعي بالقياس إلى شمال النوبة، وعلى وجه العموم فإن وجود البقر هو جزء من النشاط الزراعي كأداة في إدارة السواقي، وكمنتج حيواني له فوائده المعروفة.
وفي كورسكو يعرف تجار الماشية باسم «البشاتة»، وبعضهم من وادي العرب، لكن الغالبية من الصعيد الأعلى وأسوان، وبعض البشاتة ينزلون النوبة في يناير-فبراير، لكن أكثرهم يأتون في نوفمبر حين تكون الماشية قد سمنت بعد المرعى الأخضر من حشائش وكشرنجيج خلال الصيف، فإذا نزلوا بالبوستة كورسكو على سبيل المثال، فإنهم يشترون ما يستحسنون من الأبقار ثم يتركوها في رعاية شخص ما، ثم يتحركون إلى أبي حنضل ويفعلون مثل ما فعلوا، ثم الديوان ... إلخ، وحين يستوفون غرضهم يؤجرون مركبا شراعيا لتوصيلهم من بلد لآخر، ينقلون فيها ما اشتروه من أبقار إلى كورسكو ، ثم ينقلون ما جمعوه في البوستة إلى الشلال.
أما حيوانات الركوب فقد اقتصرت على الحمار كوسيلة شائعة في كل نواحي النوبة، ويتراوح عددها بين عشرة حمير في النواحي الصغيرة إلى نحو مائة حمار في القرى الكبيرة التي تمتد نجوعها امتدادات كبيرة، وليس معنى هذا أن حركة راكبي الحمير كانت تملأ النجوع، بل هي مقتصرة على الانتقال إلى نجوع بعيدة، وهي على الأغلب حركة محدودة، ذلك أن معظم حركة الناس كانت تدور في مساحات صغيرة داخل النجع، وإلى جانب ذلك فإن الحمير كانت تستخدم في نقل الحصاد وقش المحاصيل من الحقول إلى البيوت، وربما أيضا في نقل السلع التي تأتي للتجار بطريق النهر، لكنها لم تكن كثيرة أو ذات أوزان ثقيلة في أغلب الأحيان.
وعلى الرغم من وجود الإبل في بعض النواحي ولفترات محدودة، إلا أنها كانت ملكا للعشائر البادية من العبابدة والبشارية، وقد يحدث استخدام الإبل في نقل المحصول مقابل أجر نقدي أو عيني يدفع لصاحب الجمل.
أما الخيل فلم يكن لها وجود في بلاد النوبة؛ لعدم الحاجة إليها، ولتكلفة إعاشتها الباهظة، لكنها كانت موجودة في زمن الكشاف الذين كانوا يستخدمونها كرمز للقوة الحربية، ولسرعة الحركة وقتال الذين قد يشقون عصا الطاعة عليهم، وكل هذا زال بعد استتباب الأمن منذ أن حلت الإدارة المصرية محل إدارة الكشاف للنوبة في مصر وشمال السودان، ولم تعد هناك حاجة للإبقاء على هذا الحيوان المكلف، لا للوجاهة ولا لأي احتياج عملي له. (7) صيد الأسماك
على الرغم من أن بلاد النوبة تمتد طوليا بحذاء نهر النيل، إلا أن الأسماك لا تلعب دورا مهما في الحياة الغذائية في كثير من القرى والنجوع النوبية، ويرجع ذلك إلى وجود نوع من «التابو»؛ أي التحريم ضد أكل السمك، وأبسط تفسير يعطيه أولئك الذين لا يأكلون السمك هو أنه الحوت الذي ابتلع جدهم يونس، والحوت لدى الكثير هو السمك، والحواتة هم السماكة أو صيادو السمك، وبعض القرى تقتصر في تحريمها على سمك القرموط الذي يخصونه باسم الحوت.
وقد رأى الرحالة إدوارد روبل أن «الحواويط» - اسم الحواتة - عشيرة غير نوبية، وهو في هذا الرأي قد مس الحقيقة أن السماكة حكر على غير النوبيين حتى الآن، سواء كانوا من الصعيد أو من غيرهم، ذلك أن الكثير من الأنثروبولوجيين يرون أن تحريم أكل السمك هي عادة من عادات الشعوب الحامية متأصلة فيهم - آراء ليو فروبينيوس
Leo Frobenius
1954، وشتور لاجركرانتس
Sture Lagercrantz
1953 - وربما إذن أن تحريم السمك يعود إلى عصور قديمة في النوبة وشمال السودان وشرقه، ولكن برغم أن أصول قدماء المصريين حامية، فإنهم كانوا يأكلون السمك في كل العصور، وربما كان التحريم قاصرا على الحاميين الشرقيين مثل البجة، بينما الحاميين الغربيين الذين يسكنون كل شمال أفريقيا من مصر إلى المغرب، ويعرفون عند الأنثروبولوجيين باسم السلالة البربرية أو اختصارا البربر
Berberide - الذين منهم أصول قدماء المصريين - لا يحرمون أكل الأسماك. وعلى أية حال فإن الموضوع يحتاج إلى دراسات ليس هذا الكتاب مجالها.
ويكفينا هنا إثبات أماكن تحريم السمك، وتلك التي تأكله دون تحفظ في النوبة المصرية، فالقرى التي تمتنع عن أكل السمك معظمها في شمال بلاد الكنوز من دابود حتى أبوهور، وفي الجنوب من محرقة إلى سيالة والمضيق، ويمارس سكان السبوع وأبو حنضل وتوماس هذا الامتناع أيضا، أما بقية النوبة فإنها تأكل الأسماك، وإن كان ذلك بقدر أيضا.
وبناء على إحجام النوبيين فإنهم لا يشاركون في صيد الأسماك الذي كان بالتالي حكرا على أهل الصعيد، ويبدأ نزول الصعايدة إلى النوبة بمراكبهم في شهر أبريل، وما إن يأتي شهر مايو إلا ويكون النهر قد امتلأ بالصيادين، وعلى سبيل المثال يكون في بحر كورسكو في تلك الفترة نحو عشرة مراكب صيد عليها 40-50 صيادا، معظمهم من بعض قرى المنطقة الممتدة من قوص إلى نجع حمادي في قنا، وأبنوب في أسيوط.
حقوق الصيد
لكل مجموعة من الصيادين منطقة يصيدون فيها العام تلو العام، ويعرفهم أهل المنطقة، وإذا حدث أن وفد على المنطقة جماعة أو قارب جديد، فإنه إما أن يبعد بواسطة جماعة الصيد ذات الحق، ويساندهم في ذلك أهل المنطقة إذا لم يرتدع الغريب، وإما أن يسمح له بالصيد برضى الجماعة ذات الحق في تلك المياه.
أنواع مراكب الصيد
هناك نوعان؛ الأول: هو فلوكة الصيد العادية التي تسير بالمجداف، وعدتها أربعة رجال؛ اثنان للتجديف والآخران للصيد بالشباك أو المحايرة، وهذه الفلايك هي التي تقوم بعمليات الصيد الفعلي، وتضع الصيد في صفائح تتركها على شاطئ منطقة الصيد. أما النوع الثاني: فهو مركب الشراع من النوع الكبير الذي يسمى مركب نقر، وعدته ثلاثة رجال، وهذه المركب هي سفينة المخزن للصفائح التي تجمعها من الشاطئ، ولذلك فهي تتحرك بين الحين والآخر في منطقة الصيد بين الفلايك التي تتبعها لتجمع الصفائح المعبأة، وأثناء تحركها تقوم ببعض الصيد الذي يستخدم كغذاء يوزع على رجال الفلايك، بالإضافة إلى ما يشترونه من دقيق من محلات القرى لعمل خبز الدوكة، وما لديهم من تموين جلبوه معهم كالعدس والأرز والعسل الأسود، كما أن مالك أو ريس سفينة الشراع هو الذي يتكفل بمصاريف الصيادين، ويمدهم بعدة الصيد من شباك وسنانير وخيوط وصفائح التعبئة والملح المستخدم في حفظ الأسماك المصطادة، فهي بذلك السفينة الأم، وتقسم الأرباح مناصفة بين صاحب الشراع والفلايك، وإذا كان الصيد وفيرا فإن الصفائح يمكن أن تنقل من سفينة المخزن إلى أي سفينة مبحرة إلى أسوان، ويتوقف طول موسم الصيد على كمية الملح التي في حوزة السفينة الأم، فإذا فرغت يمكن أن يتوقف الصيد، أو يستمر إذا حصل على كمية أخرى من الملح.
وسائل الصيد وأنواع السمك
يتم الصيد بأنواع من الشباك غالبها من النوع ذي العيون العادية لصيد الأسماك الكبيرة، ونوع صغير العيون يسمى «شق» لصيد الأسماك الصغيرة التي تستخدم كطعم للسنانير، أما المحايرة فهي طريقة صيد بالسنانير الكثيرة تثبت في خيط طويل يوضع عند فتحات الأخوار الضيقة، ثم يضرب شخص ثالث في آخر الخور الماء بعصا أو حجارة، فتهرب الأسماك في اتجاه المصب ليعلق كثير منها في السنانير، وكذلك يمكن الصيد في النهر بالسنارة والشبكة. وأنواع الأسماك هي: بياض، مشط، جرجور، ساموس، بقرة - في الغالب هي ما نعرفه باسم البلطي - وقرموط، وشلبة، وخشم النبات واسمه بناني وهو نوع سمين، وأكبر الأنواع الساموس والبقرة والبياض، وربما بلغ الواحد منها مترين طولا، بينما معظم الأسماك تكون في حدود نصف المتر، والجرجور في حدود 30سم، ويصطادون أيضا سمك السير الذي يشبه السردين والراية، وهما بالإضافة إلى الشلبة سمك الملوحة الجيدة، أما الأسماك الكبيرة فتصلح للقلي، وترسل مع البوستة إلى أسوان، كما يباع جانب منه في الأسواق المحلية، وبعض أسماك الراية الكبيرة الحجم تنظف وتملح وتعلق في الهواء والشمس، ويباع مجففا في النوبة أو ينقل إلى أسوان.
موسم الصيد
يستمر موسم الصيد نحو خمسة أشهر من مايو إلى سبتمبر يعود بعدها الصيادون إلى الصعيد، وبعضهم يعودون مرة أخرى بعد بضعة أسابيع يقضونها مع ذويهم في الصعيد، وهؤلاء يتركون قواربهم عند سكان المنطقة التي يمارسون فيها السماكة ليعاودوا الصيد مع ارتفاع منسوب بحيرة الخزان، وفي هذه الحالة يكون معظم الصيد شاطئيا، وهم في الأغلب مرتبطون بمتعهدي توريد أسماك طازجة للمدارس ومعاهد المعلمين وبعض المؤسسات الحكومية في النوبة. (8) صناعة الفحم النباتي
صناعة الفحم النباتي هي من الحرف الجانبية التي لا يقوم بها سكان النوبة، بل هي أيضا حكر على أبناء الصعيد، مثلها في ذلك مثل صيد السمك ونقر الأرض وإعدادها للزراعة. ولأنها حرفة ثانوية فإننا نرى القائمين بها من الصعايدة يقومون بأعمال أخرى في مواسم العمل، وخاصة الزراعة سواء كانت في الأراضي التقليدية أو أراضي مشروعات الري المنتشرة في أماكن مختلفة من النوبة.
مثال ذلك أحد العاملين في صناعة الفحم في كورسكو، هو أصلا من المطاعنة مركز إسنا، وجاء إلى كورسكو قبل 17 سنة - من تاريخ دراستنا في كورسكو يناير-فبراير 1963م - ثم تزوج سيدة من شاتورمة - شمال كورسكو بعدة كيلومترات - ولا تزال تقيم هناك وهو يتردد بين الحين والآخر على شاتورمة، لكنه يقيم معظم السنة في كورسكو، هذا الشخص يقوم بعمل الفحم النباتي في كورسكو وأبو حنضل والسنجاري، ويذهب أحيانا في الشتاء إلى أرض الري الدائم في المشروعات الزراعية في الدكة أو العلاقي، أو مشروعات الزراعة في الجنوب مثل أرمنا، وهو في الصيف يمارس إعداد الأرض للزراعة في كورسكو، وأثناء ذلك يقوم بعمل الفحم.
يبدأ عمل الفحم بالاتفاق على شراء أشجار السنط من ملاكها، ويتحدد ثمن الشجرة على عدة أسس، منها حجم وعمر الشجرة، وما إذا كانت نابتة في تربة جيدة أو حجرية؛ لأن هذا يؤثر على نوعية الخشب وقابليته بعد الاحتراق على إنتاج كمية كبيرة أو صغيرة من الفحم، ولهذا يتراوح تقدير سعر الشجرة بشدة بين حدين: أدناه عشرة قروش، وأعلاه مائة وخمسون قرشا!
من الذي يشتري الأشجار؟ إنهم مجموعة من التجار المتخصصين، يأتون من أسوان والصعيد إلى بلاد النوبة للاتفاق على شراء أعداد من الأشجار في نواح متعددة، ثم يتفق مع عدد من الصعايدة، سواء المقيمون أو من يأتون من قرى الصعيد بالاتفاق، وهؤلاء هم الذين يقومون بقطع الأشجار وعمل الفحم، وربما ساهم بعض النوبيين في عملية قطع الشجر إذا كانوا قد تعودوا على ذلك من قبل - لكن الأغلب أنهم لا يساهمون في عملية الحريق.
الشجر المستحب دائما لعمل الفحم هو أنواع السنط المختلفة التي تعطي أجود أنواع الفحم وأكثرها كمية. النخيل والدوم لا يستخدمان إطلاقا، وقد يضطر الأمر إلى استخدام أشجار الجميز والطرفا؛ لأن فحمهما قليل النار، وقد يلجأ الصانع إلى خلط بعض أخشابهما مع خشب السنط، يقطع الشجر بالبلطة والمنشار، ويراعي البائع والمشتري عدم قطع أشجار متجاورة؛ لكي تعطى الفرصة للأشجار المتبقية للنمو القوي بعد تقليمها وتنظيفها من النباتات الفطرية والنمو السرطاني للشجرة، وبهذا الحس التقليدي كان البائع والمشتري يطبقان نظام المحافظة على «الغابة»، التي تنادي به الهيئات العلمية الآن - ويضرب به أصحاب المصالح عرض الحائط.
يقطع الخشب بعد ذلك إلى قطع متساوية الطول، بين مترين ومترين ونصف المتر، وترص القطع من الجذوع إلى جانب بعضها، وتلك من الفروع إلى جانب آخر، ثم تحفر حفرة بطول أقصاه عشرة أمتار - والأغلب أنها أقل من ذلك بعض الشيء - وعمق حوالي متر، ويلاحظ أن أحد طرفي الحفرة يكون مدببا ضيقا، بينما الطرف الآخر فهو عريض بمقياس معين هو ثلث متر عرضا لكل متر طولي في الحفرة؛ أي إن الحفرة التي طولها ستة أمتار، يكون طرفها العريض أقل من مترين قليلا، ويراعى عند الحفر أن يكون الطرف المدبب في مواجهة الريح؛ لكي يساعد على انتشار النار تدريجيا في كل جسم الكتلة الخشبية المرصوصة، وترص الأخشاب في الحفرة بنظام معين: الخشب الصغير في الأسفل، ثم المتوسط فوقه، والكبير في الأعلى؛ بحيث يرتفع الكوم كله بمقدار متر ونصف فوق سطح الأرض، وبذلك يصبح سمك «الكابينة» 2,5 متر، يغطي الجزء فوق الأرض بقش من النباتات الصحراوية وأجولة قديمة وروث الماشية، وتترك فتحات صغيرة في أجزاء مختلفة لكي يخرج منها الدخان. يترك الخشب عند الطرف المدبب عاريا دون غطاء، ويشعل فيه النار، وحين تسري إلى الداخل يلقى فوق النار طبقة من القش كي تخمد النار وتترك الفرصة للجذوة أن تتقد وتسري في الخشب بهدوء وبطء، والجذوة البطيئة تساعد على تحول بطيء لكل العناصر التي تجعل نوع الفحم جيدا وثقيلا؛ بحيث يزن الجوال نحو 150كجم، أما إذا كانت الجذوة سريعة فجوال الفحم الناتج لا يزيد عن مائة كيلوجرام، وتستمر الجذوة في الكابينة الواحدة الكبيرة نحو شهرين. الصانع الذي يقوم بالعمل يتقاضى نصف الفحم المنتج، وكان سعر الكيلو نحو قرشين في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات. (9) أنشطة أخرى
هناك مجموعة من الأنشطة والحرف اليدوية لكنها نادرة، والكثير منها صناعات منزلية؛ كالسلال وعمل الشعاليب، وطلاء البيوت ورسم الزينات بالألوان على حوائط المنازل والغرف، فضلا عن طحن الذرة بالمهراكة في أحيان، كذلك عمل اللبن الرايب والسمن وخياطة الملابس.
أعمال النجارة والحدادة وخياطة الملابس يقوم بها أشخاص قليلون موزعون في قرى متباعدة؛ بحيث يخدم الواحد من هؤلاء الحرفيين سكان مجموعة من العمديات، يأتون إليه كلما احتاجوا إلى إنتاجه، أو يأتي إليهم حسب الطلب.
التجارة المحلية محدودة في صورة دكان في النجع أو عدة دكاكين، حسب عدد السكان، بالإضافة إلى الجمعية التعاونية التي كانت تصرف للسكان السلع التي تدعمها الدولة في ظل النظام الناصري، وليس للدكاكين مواعيد عمل معينة، إنما هي تفتح حين يأتي شخص يريد سلعة ما. البيع بالآجل حتى تأتي التحويلات الشهرية، وبعض التجار ينقلون سلعهم في مركب ينتقل من قرية إلى أخرى، والغالب أنهم يحملون سلعا بعضها كبير الحجم كالدقيق وصفائح الكيروسين. (10) «البوستة» وسيلة الانتقال الأساسية
شريان الانتقال في النوبة هو النيل، وتسير فيه عدة خطوط ملاحية، المنتظم منها هو السفينة «الإكسبريس»، التي تسير مباشرة بين الشلال ووادي حلفا، وسفينة البوستة التي تخدم كل القرى النوبية مرة كل أسبوع، وهي ذاهبة من الشلال إلى الجنوب، ومرة أخرى في عودتها إلى الشلال، وهذه هي وسية الانتقال الأساسية في النوبة المصرية بالنسبة للأشخاص وكثير من السلع المجلات، والأهم البريد والتحويلات المالية؛ ومن ثم سميت البوستة نسبة إلى أكثر ما يهم السكان المقيمين في بلاد النوبة، وتتوقف البوستة نحو شهرين هما يونيو ويوليو؛ ربما لضحالة الماء في النهر وتيار الفيضان المحدود في هذين الشهرين، وحينما تتوقف البوستة تنقطع صلة النوبة المنتظمة بالخارج، ويسعى الناس إلى تدبير أمورهم العاجلة قبل توقف البوستة، لكن المضطر يركب أحد الصنادل التي تمخر عباب النيل باستمرار والتي تسمى «دلتا»، وإلى جانب السفن المنتظمة، وهي تابعة لسكك حديد السودان، هناك أنواع أخرى من السفن الخاصة، منها صنادل الدلتا التي تعمل أساسا في النقل التجاري بين مصر والسودان وقرى النوبة المصرية، وهناك سفن وزارة الصحة التي هي عبارة عن عيادات متنقلة ترسو في مواقع معينة لمدة معينة ؛ لتخدم سكان مجموعة من القرى، وهناك عائمات حكومية تجرها وابورات قوية تابعة للتعليم أو الآثار أو الإدارة، فضلا عن لنشات كثيرة مختلفة الأحجام والقوة.
لكن أقدم وسائل النقل النهري هي القوارب الشراعية بأنواعها وأحجامها المختلفة، وهذه موجودة بكثرة، ولا تنتقل بالضرورة مسافات طويلة إلا فيما ندر، وهناك قوارب شراعية متوسطة الأحجام، وقوارب تجديف، في معظم القرى والنجوع النوبية؛ نظرا لأن معظم القرى تقع على الضفتين؛ مثل أمبركاب أو سيالة أو توشكى شرق وغرب، ويحتاج الأمر إلى اتصال بين جناحي القرية من حين لآخر، وخاصة في المناسبات المهمة: الميلاد والختان والزواج والوفاة.
الفصل السادس
بعض أشكال الحياة الاجتماعية
بنية المجتمع
الأسرة هي المكون الأساسي للمجتمع في كل أرجاء النوبة المصرية، سواء كان ذلك عند الكنوز أو العليقات أو النوبيين، لكن نظام الانتماء إلى شكل من أشكال العشيرة التي تنتسب إلى جد كبير، والتي يغلب سكنها في محلة واحدة، هو نظام شائع بين الكنوز والعليقات، يعلو فوق نظام الأسرة. أما عند النوبيين فإن مثل هذا النظام العشائري غير واضح وضوحه بين الكنوز والعليقات.
ولعل هذا راجع إلى أن منطقة النوبيين تعرضت لاستقرار جماعات وافدة متعددة، أكبرها مجموعة الكشاف وأقدمها مجموعة الغربياب - في توماس وعافية «وقتة؟» - وأحدثها مجموعات الكنوز الشماليين الذين هاجروا إلى منطقة النوبيين بعد إنشاء سد أسوان. وقد اختص الغربياب بإقليم محدود، وربما كانوا منتظمين في تركيب عشائري من قديم، أما الكنوز المهاجرون فقد عاشوا في نجوع خاصة بهم، ولم يمض وقت كاف لاندماجهم مع النوبيين، ولعلهم احتفظوا بتركيبهم العشائري السابق، وإن كان هذا التركيب قد تخلخل بحكم تغير مكان الانتماء الأصلي، وبحكم أن هذه الهجرة كانت اختيارية، فبالتالي لم تشمل عشائر بكاملها، بل خليطا من عدة نجوع وعدة عشائر.
أما الكشاف فقد تغلغلوا لمدة ثلاثة قرون بين النوبيين بكثرة التزواج من النوبيات وبقاء النسل المختلط في قرى ومحلات الأمهات وبين أخوالهم، وهكذا تكونت في معظم القرى النوبية مجموعات نسب «كشافية» بحكم النسب الأبوي، ونوبية بحكم صلات الرحم النوبية. ولأن نظام المواريث الإسلامي يجعل جزءا من الميراث للنساء، فقد صار النسل المختلط مرتبطا بالأرض، وربما ازداد هذا الارتباط في الماضي ببعض بقايا النظام الأموي القديم، الذي كان بمقتضاه أن يرث أبناء الأخت خالهم، وهو النظام الذي كان سائدا في كل النوبة وبين الحاميين الشرقيين بوجه عام، وهو الذي مكن للعروبة والإسلام الانتشار بحكم أن أبناء العرب من أمهات النوبة القديمة يرثون أخوالهم، خاصة إذا كان الخال زعيما لعشيرة أو قبيلة، وبهذا فإن النسل المختلط بين الكشاف والنوبيات قد زاد التصاقا بالقرية، بما لديه من ميراث من الأم والخال معا.
وبهذه الطريقة تلاحم الكشاف مع النوبيين في نسيج اقتصادي مشترك، ولكنهم ظلوا سياسيا واجتماعيا شبه منفصلين، وبالتالي لا يستطيعان الانتماء إلى جد واحد بعيد كما هو الحال عند الكنوز والعليقات، ومن ثم تغلب النسيج الاقتصادي على نقص النظام العشائري، وأصبح ما يسميه النوبيون بالمصطلح «نوج» - أو نج - هو حجر زاوية البنية الاجتماعية بين النوبيين، ومن الصعب إدراك معنى «نوج» على وجه الدقة، فهو في تفسير يساوي معنى «البيت» بمدلول الأسرة وممتلكاتها، من البيت إلى أي شكل عقاري آخر كالمحل التجاري أو الأرض الزراعية، سواء داخل النجع الواحد أو منتشرا في عدة نجوع؛ وبعبارة أخرى كل ما يعول العائلة ويؤويها، وإذا تصادف أن رب الأسرة في «نوج» ما متزوج بزوجة أو زوجات أخر، فإننا نرى عدة «نوجات» منفصلة، بحكم ما لكل زوجة من ميراث أملاك، لكنها كلها مترابطة بواسطة الزوج متعدد الزوجات وما يمتلكه من مقومات الحياة، وفي تفسير آخر يصبح «النوج» أكبر من التفسير السابق، فربما يتكون من أسر عدد من الأشقاء أو الشقيقات، لكل منهم أو منهن دوائرهم من الممتلكات، وفي هذه الحالة نجد أنفسنا أمام تنظيم قرابة متشابك الملكيات، ومن ثم لا بد من نشأة شكل من التحكيم من كبار السن، لفض المنازعات التي تطرأ بالضرورة من هذا التشابك.
وقد نظن أن الملكيات في النوبة واضحة واسعة، لكن الأغلب أنها مشتتة ومشتركة مع عدد كبير من الورثة، فملكية أرض ساقية في الجنوب - النوبيون - هي في الأصل ملك لكل الذين ساهموا بالعمل أو المال في بناء الساقية، وتتجزأ الملكية وتتفتت مع تعدد الورثة جيل بعد جيل، أما في الشمال - الكنوز - فالأغلب أن منشئ الساقية هو شخص يشتري جهود العاملين في إنشاء الساقية، وبذلك تصبح الأرض ملكا للشخص وورثته، ثم تتفتت الملكية جيلا بعد جيل، ومثل هذا في ملكية الأشجار وملكية الحيوان، وبعبارة أخرى فإن الشركة هي سمة أشكال الملكية بين أهالي بلاد النوبة على الإطلاق؛ فهناك من يملك وهناك من لا يملك، ولكنه يزرع أو ينمي الأشجار أو يربي الحيوان، وله من جراء ذلك حقوق ملكية متعارف عليها، ومثل هذا النظام شائع بين سكان الواحات في ملكياتهم الأصلية، التي لم تتأثر بعد بالأشكال القانونية الجديدة للأرض المستصلحة، وخاصة في الفرافرة المنعزلة لفترة طويلة بالقياس إلى غيرها من الواحات الأقرب لوادي النيل، وهذه الظاهرة كثيرة الوجود بين النوبيين في جنوب النوبة المصرية، وأقل ظهورا بين الكنوز، وباختصار فإن وجود نظام التداخل في الملكية بين النوبيين كان يعني وجود آلية لاندماج الغرباء في المجتمع بواسطة الضوابط الاقتصادية.
وإذا كانت الروابط الاقتصادية ذات تأثير كبير في ترتيبات الحياة بين النوبيين، فإننا نلاحظ عند الكنوز بصفة خاصة أشكالا من الروابط عدا رابطة الانتساب للعشيرة، ولعل من أهم هذه الروابط الاحتفالية الكبيرة بأولياء الله الصالحين، وبخاصة موالد هؤلاء الأولياء، سواء كان تاريخ الولي معروفا أو غير ذلك، ومن الأمثلة على ذلك ما سبق ذكره في القسم الأول من هذا الكتاب في فصل
العلاقي ، فالشيخ يوسف تاريخه يعتريه الكثير من الضباب، ولم يعرف عنه ولايته إلا بحادثة عند الانتقال إلى المساكن الأعلى عام 1933، حين أقيمت له القبة الكبيرة. وأصبح مولد الشيخ يوسف وسيلة من وسائل ربط الكنوز ببعض الذين يفدون إلى العلاقي للبركة - وربما للتعارف أو رؤية الغائبين - لمدة الأسبوعين الأخر من شهر شعبان، وهي فسحة كافية من الوقت ليأتي إليه القادرون من مسافات بعيدة، ويعطون ما يستطيعون من النذور التي يصرفها نقيب الشيخ على إعالة الزوار مجانا كل أيام المولد، ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل إن المولد وغيره من الموالد - كأم رايد في سيالة، والفاوي وعويس في كورسكو - فرصة للتجار أن يبيعوا أشكالا من الهدايا للنساء والأطفال، مما يجعل الموالد مصدرا للفرح والسرور البسيط في مجتمع أغلب حياته تتسم بالجفاف، وفي كثير من العمديات أضرحة بسيطة البناء لأولياء محليين، يتبرك بهم الناس في سفراتهم وزيجاتهم، والنذور القليلة التي تترك عند نقيب أو شيخة الضريح تساعده أو تساعدها على الحياة، وقد تساعد أيضا بعض العجائز ممن لم يعد لهن عائل، وبعبارة أخرى يمكن تطبيق المثل الشعبي «اللي مالوش كبير يشتريلو كبير.» فنقول إن الكنوز في بلادهم كانوا يبحثون عن ولي أو شيخة للتبرك بها، والكثير من الكنوز ينضوون في إحدى الطرق الصوفية ويتلون أوردتها في أحيان بصورة جماعية.
وليس الاهتمام الديني والعصبية العشائرية هي كل مميزات البنية الاجتماعية لدى الكنوز، فهناك أيضا التشارك الشديد في ملكية الأرض الزراعية والأشجار على النحو الذي رأيناه عند النوبيين، مما يساعد على التلاحم بين أبناء النجع والعشيرة، كما أن كثرة العمل المهاجر بين الكنوز من فترة طويلة قد أدى إلى نشأة آلية خاصة في المدن التي تستقبل المهاجرين؛ هي النوادي التي ينشئها أبناء قرية ما لاستقبال العاملين الجدد، وإيجاد مأوى مؤقت لحين إيجاد عمل لهم، ومع طول إقامة بعض المهاجرين، زادت وظائف النوادي إلى مكان لعقد الزيجات، أو التكفل بجنازة المتوفين وإقامة مقبرة لهم في المدينة، فلا طاقة لهم بتكلفة شحن الجثة إلى القرية الأصلية.
بعض المعتقدات
تدور معظم المعتقدات بالقوى الخارجية حول محاولة توظيفها لأغراض حياتية، وبالذات موضوعات الحمل والمشاهرة والحسد، وغالب هذه القوى مرتبطة بالمشايخ والأولياء، وإن كان بعضها مرتبطا بكائنات كالثعبان والتمساح، أو أرواح الخير والشر في النهر والصحراء، وهم يرون أن أرواح النهر خيرة، بينما أرواح الصحراء والجبل شريرة، وهذا أمر يبرره واقع حياة الناس؛ فالصحراء والجبل مليئة بالمخاطرة، سواء كان ذلك الوحوش الضارية أو بعض البادية الذين كانوا يغيرون على النوبيين في الماضي البعيد، ومن ثم كان وصف أرواح الصحراء بالشر. بينما يعيش النوبيون على كرم وعطاء النيل: ماء وزرع وانتقال هين واتصال بالعالم الخارجي. والتفاؤل بالنيل يبلغ مداه في بعض مناطق النوبة؛ حيث يخرج العريس والعروس صبيحة زفافهما إلى شاطئ النيل، يغسلان وجههما بماء النيل، ويرشهم بالماء من تصادف حضوره في مثل هذه الباكورة.
وحول الثعابين، فإنها كلها خطرة - وخاصة الطريشة والحنش أبو درقة - ويجب أن تقتل فور رؤيتها بالعصي والحجارة - المفروض أن يلف الشخص أنفه بقطعة قماش؛ لأن أبا درقة ينفث مادة سائلة قاتلة أو كاوية - لكن هناك نوع صغير غير سام لونه مخطط أسود وأحمر، يسمى الشيخ أو الفقير، لا يقتل ولا تقرأ تعازيم لطرده، وتقول له كبيرات السن «جار ولا تجار ولا تعادينا ولا نعاديك»؛ أي امض في سلام. وإذا قتل ثعبان من الفقير خطأ، يحزن الذي قتله ويشعر بذنب كبير، ولم نعرف مبررات هذه التسمية: فأل حسن أو ممارسة بيئية بمقتضاها لا يقتل ما لا يضر؟ وأي ثعبان بعد قتله ينفع في فك المشاهرة؛ إذ تمر عليه المرأة المشاهرة عليه سبع مرات، وفي كل مرة تسر لنفسها أقوالا محفوظة لفك المشاهرة، والتمساح المصطاد ينفع أيضا في فك المشاهرة، وأحيانا يعملون من الطين ثعبانا أو تمساحا للغرض ذاته.
والمشاهرة لها أسباب عديدة؛ منها أن يأكل أحد من لحم ذبيحة الفرح قبل أن يأكل العريس من الكبد بعد شيها، وفأل سيئ أن يأكل أحد مسبقا، ليس فقط لأن ذلك قد ينتهي بالمشاهرة وعدم الإنجاب، ولكن قد يؤدي إلى الربط، أو على أقل تقدير ألا ينتهي الفرح بسلام. وإذا تصادف أن كان هناك عرسان في يوم واحد في نفس القرية، فإن الذي يدخل على عروسه قبل الآخر يؤدي - طبعا دون قصد - إلى مشاهرة العروس الأخرى. وكذلك أن تدخل امرأة على امرأة والدة بشكل معين يؤدي إلى المشاهرة بعد ذلك المولود ... إلخ.
الندور ممارسة شائعة بين النساء، والقليل جدا من الرجال، والمرأة تندر لشيخ كبير المقام في القرية إذا كانت مريضة بداء عضال أو لا تحمل، أو أنها تلد مواليد أموات. والندر يتراوح بين ثلاث «برادات» شاي إلى رأس سكر، إلى ذبيحة توزع عند مقام الشيخ، وفي هذه الحال يذهب فخذ الذبيحة وأحشاؤها إلى نقيب الشيخ، والبعض يضع نقودا على تابوت الشيخ، لا يمسها أحد سوى النقيب أو النقيبة، وبعد تقديم الندر تأخذ صاحبة النذر قليلا من التراب من الأركان الأربعة للضريح وترشه على رأسها.
وفي أحيان تأخذ سيدة ترابا من الضريح ترشه في بيتها لأسباب عديدة؛ منها التخلص من العقارب - تقول: ببركة الشيخ تنتهي العقارب - أو إذا حدثت سرقة ترش التراب وتدعو أن ينتفخ بطن السارقة أو تنكسر رجلها، أو يوضع التراب في كيس ويعلق عند باب حديقة أحدهم بنية مرض من يختلس ثمرة بدون إذن ... إلخ.
موجز طقوس الزواج
الزواج أحد أهم طقوس الحياة في كل المجتمعات، وفي النوبة تتشابه الطقوس مع اختلافات محدودة، ويمكن تلخيص خطوات الزواج على النحو التالي:
الكلام:
تذهب والدة العريس إلى والدة العروس لجس النبض، فإذا كان الأمر بالإيجاب، يذهب الوالد أو الخال أو العم إلى والد العروس للتقدم الرسمي بطلب العروس فلانة لابنه فلان، وبعد مهلة قليلة يستشير فيها أبو العروس أهله - وربما عشيرته كلها - يعطي الأب موافقته وبها تبدأ مراسم عديدة، رأي البنت والأم استشاري غالبا، ولكن ربما كان وراء الكواليس سابق اتجاه إلى شخص معين يقتنع به الأب، ابن العم له أولوية مطلقة عند العبابدة.
ويمكن أن نلخص الكثير من مراسم وطقوس الزواج من خلال مصطلحات معينة بعضها الآتي:
الوجاهة:
هي الخطوة المادية الأولى في مراسم الزواج عند الكنوز، وليس لها نظير لدى العليقات والنوبيين، وهي على الأغلب جزء من الصداق لا يزيد عن ثلاثة جنيهات، يقدمه أحد أقرباء العريس إلى والد العروس.
الشيلة:
قبل الزواج بنحو أسبوع يرسل العريس هدية من الغلة والدقيق والشاي والسكر وكبريت وشحم وزيوت لدهان الشعر، وقبل الظهيرة يحمل أهل النجع، رجالا ونساء، الشيلة على رءوسهم ويتجهون بها إلى بيت العروس، ويحتفل أهل العروس بالشيلة ويذبحون ذبيحة لغداء حاملي الشيلة، وفي نفس اليوم يحدد يوم الدخلة والكتاب، وهي غالبا بعد أسبوع من الشيلة عند الكنوز، وبذلك فإن طقوس الزواج عادة ما تتم خلال أسبوعين بعد الموافقة على الخطبة. والسرعة في إتمام الزواج غالبا مرتبطة بمدة إجازة العريس، التي قد لا تزيد عن شهر، كما أن المدة إذا طالت قد تأتي بأخبار سيئة؛ كوفاة شخص في النجع أو في المهجر؛ مما يؤدي إلى تأجيل الزفاف أسبوعا أو أسبوعين حسب سن وقرابة المتوفى، وفي مثل هذه الحالة قد يأذن أهل المتوفى بإقامة العرس، خاصة إذا كان محددا لإقامته بعد يوم أو يومين منذ حدوث الوفاة، خوفا على الأطعمة المعدة من الفساد - وهي كما نعلم مكلفة - وفي كورسكو لم تعد الشيلة طقسا منفصلا عن الدخلة وحفل الزفاف، ولذلك كانت تشتمل على أقمشة وملابس للعروس.
المهر:
معروف قيمته التي تتراوح بين عشرة وعشرين جنيها، يدفع نحو نصفها مقدم صداق، ولهذا فإن المهر لا يعلن. في حالة زواج المرأة للمرة الثانية، فإن المهر عادة أقل.
الحنة:
قبل الدخلة بيوم، وتسمى ليلة المولد عند بيت العريس؛ لأنها تشتمل على قراءة قصائد الطريقة المرغنية، وذكر بعد العشاء الذي يقدم فيه أهل العريس لحم ذبيحة، وتكتمل الليلة عند أهل العريس بالصقف والرقص، ويراعي الكنوز دائما انفصال الجنسين في هذه الاحتفاليات. أما عند العروس فالحنة تغطي كل جسمها ويدهن شعرها بالشحم والزيوت. وفي نفس اليوم تزور أضرحة المشايخ مع بنات من أصحابها، وتلبس شالا مشابها للبس البنات، فهي بعد لم تنضم إلى فئة السيدات، وتحرص مجموعة البنات ألا يلتقين مع العريس الذي يزور المشايخ أيضا مع جمع من أقرانه طلبا للبركة.
النقوط والحلاقة:
في بيت العريس رقص ومغنى وغداء، وبعد الغداء يجلس العريس في الساحة أمام البيت بين يدي الحلاق، وعلى المائدة وعاء به ماء يضع فيه الناس نقوطهم التي هي غالبا عملة معدنية أو فضية، عند الكنوز تكون أم العريس أول من يضع نقوطا - غالبا قرط ذهبي - ثم الأب والأعمام ... إلخ، وهناك دائما من يدون قيمة النقوط التي يدفعها أهل النجع والقرى المجاورة؛ لأن ذلك هو بمثابة دين يجب أن يرد في مناسبات مماثلة، في الماضي كان أهل كورسكو يدورون على البيوت في زفة العريس إلى بيت العروس، فيخرج أهل البيت ويسقون الشربات ويدفعون النقوط.
الدخلة:
يصل موكب العريس إلى بيت العروس في زفة وطبل ومعهم ملابس العروس في حقيبة. أهل العروس منشغلون منذ الصباح في الذبائح وإعداد العشاء، ويستقبلون موكب العريس بالزغاريد. في كورسكو قديما كان العريس أثناء الموكب يتعرض للضرب غير المؤلم من قبل بعض الشبان العزاب على أمل اللحاق بالزواج سريعا، ولكن كان يوجد بعض الناس الذين يحاولون حماية العريس من ضرب العزاب. عند الكنوز يركب العريس جملا ومعه بعض أصدقائه على الجمال أيضا، وكان الأمر كذلك بالنسبة للعليقات في المالكي قديما. يتوجه العريس إلى المضيفة هو والرجال، بينما تتوجه النساء إلى داخل البيت، وفي المضيفة يكتب المأذون العقد، وفي الأغلب يكون خال العروس هو وكيلها لدى الكنوز، وبعد الكتاب - أيضا عند الكنوز - يحاول شخص حاملا صينية خوص كبيرة، عليها تمر وفشار تسمى «الوليلة»، الوصول إلى مكان العريس ليسكب ما فيها عنده، لكن الناس يتخاطفونه، ونادرا ما يفلح في الوصول إلى العريس. بعد ذلك توضع الأقمشة وملابس العروس في الصينية دون إعلان، ولكنها تصبح مجالا للإعلان بصوت عال، ولفرجة النساء حين تصل إلى قاعة العروس.
وبعد الوليلة والعشاء يبدأ الطرب والرقص، ثم يذهب العريس إلى باب غرفة العروس، وحوله من الرجال من يقرءون القصائد الدينية، وأمام الباب يشهر العريس سيفا - غالبا يوجد عدد قليل من السيوف القديمة في القرية تستعار لمثل هذه المناسبة - ويضرب الباب بالسيف ثلاثا، ويدخل ومعه كرباج وسكين. عند الكنوز يصلي العريس ركعتين عند دخوله الغرفة، ثم يمسح على شعر العروس ويخرج، وتأتي الداية لتخطف العروس إلى الداخل، بينما يرشها بعض الحاضرين بقليل من الملح الماء.
وبعد ذلك يجلس الناس مع العريس يسمرون ويغنون وينشدون القصائد إلى أن يغلبهم النوم، وفي الصباح الباكر يتوجه العريس مع وزيره - رفيق أو شاب صغير يقوم بخدمة العريس سبعة أيام - إلى النهر، وطوال الصباح يأتي المهنئون إلى العريس، وبعضهم يحضر وليمة العشاء. وفي المساء تحضر الداية العروس لحجرة العريس، والعروس لا تتكلم حتى يعطيها مبلغا من المال في حدود ثلاثة جنيهات، ولأن الكنوز والعليقات حريصون على ممارسة الختان التقليدي القاسي - المسمى فرعوني وهو منه براء - فإن الجماع صعب، ولا يتم مرة واحدة، بل يكون فض البكارة أولا بمساعدة الداية، وهي عملية شبه جراحية مؤلمة.
يظل العريس عند الكنوز أسبوعا يخرج صباح كل يوم للنهر، بينما تخرج عروسه من غرفة العرس إلى داخل البيت، أما في كورسكو فيخرج العروسان صباحا إلى النهر مع جمع من الأصحاب من الجنسين، ويغسلون وجوههم بماء النهر، ويملأ كل من العريس والعروس فمه بالماء يحاول أن يرش أحدهما الآخر، وإذا أفلحت العروس تصبح نكتة أن الست غلبته! وبعد الأسبوع يمكن أن يمارس أعماله ونشاطه، بينما تظل العروس أربعين يوما قبل أن تتحرك خارج البيت، غالبا بإذن زوجها. في الماضي كان العريس لا ينتقل بعروسه إلى بيته إلا بعد ميلاد الطفل الأول، لكن المدة قصرت كثيرا إلى نحو شهرين، والغالب أن الزوج يكون قد سافر بعد أسبوعين من الزواج، وبالتالي ربما كانت إقامة الزوجة في بيت أهلها أوفق لحين المولود الأول.
ويمكن أن نستخلص من طقوس الزواج بعض الموضوعات الهامة الآتية: (1)
دور خال العروس لدى الكنوز هام؛ لأنه هو الذي ينيخ الجمل الذي قدم عليه العريس إلى بيت العروس ليلة الزفاف، وهو وكيل العروس عند عقد القران، وربما له أدوار أخرى لم نتبينها، فهل هذا هو استعادة تاريخية للماضي، حين كان يأتي العربي بجمله يتزوج إحدى النوبيات اللاتي يرث أبناؤها خالهم، كبقية من نظام الخئولة في النسب الأموي، الذي كان سائدا لدى الكنوز في الماضي؟ (2)
الإلحاح على دور النيل في طقوس ما بعد دخلة العروسان: مشاهدة النهر سبعة صباحيات، غسل الوجه بماء النهر، ألعاب رش الماء. هل هذه بقايا بركة إله النيل عند الفراعنة، يضاف إليها إدراك أهمية النهر، باعتباره مصدر الحياة والخير وسط القفار المحيطة بالنوبة؟ وهل يمكن إضافة بعض المعتقدات الفلكلورية عن الأرواح الخيرية التي تسكن مياه نهر النيل؟ (3)
يلعب اللبن دورا هاما في طقوس دخول العريس إلى غرفة العروس، كأن يشرب قليلا ويعطي رشفة منه للعروس، وكأن يغمس طرف السيف في إناء اللبن قبل الدخول إلى الغرفة، وواضح دور اللبن، فهو التيمن بحياة صافية منجبة للزوجين. (4)
الرقم السحري «سبعة» يلعب دورا عند سكان النوبة، مثلهم في ذلك مثل بقية مصر؛ حيث السبوع يمارس في كثير من المناسبات الحياتية، وعلى سبيل المثال نجد عند مجموعة النوبيين في حالة أنه لم يتم عام على وفاة والد العريس، فإن موكب العريس لا بد أن يتوقف عند سبع بيوت تقرأ أمامها القصائد الدينية، ويوزع كل بيت هدية من تمر وذرة وأحيانا قماش «بفتة» أبيض على المنشدين، وفي مثل هذه الحالة لا يقام رقص وغناء، وإنما يقرأ القرآن وتتلى قصائد من أوراد الطرق الصوفية، وفي حالة أن يكون بيت العريس جوار بيت العروس يتوجه الموكب إلى النهر أو آخر النجع، ثم يتوقف عند سبع بيوت - غالبا يكون عند أهل هذه البيوت علم بذلك حتى يتجهزوا للموقف. (5)
الحماة هي أخت الزوج، بينما أم الزوج أو الزوجة هي «نسيبة»، وعند بعض الشعوب كان زوج البنت يتجنب أم زوجته «حماته» ولا يتكلمان معا إلا من وراء ساتر، لكننا لم نلحظ هذه الظاهرة في النوبة، وكل ما لاحظناه هو الاحترام الشديد تجاه الحما والحماة من قبل العريس والعروس. (6)
تعدد الزوجات أمر نادر إلا في حالات معروفة؛ كعدم الإنجاب أو سوء الطباع، والطلاق كذلك نادر، ولعل هذا أو ذاك راجع إلى الفقر البيئي من ناحية، وإلى قلة فرص المشاحنات بين الزوجين؛ لتغيب الزوج في العمل خارج النوبة أشهرا طوالا. (7)
لا يستحسن المجتمع زواج الأرملة التي لديها أبناء، وفي حالة كون الأبناء صغار السن، ربما تزوج شقيق الزوج بأرملة أخيه؛ غالبا من أجل رعاية الأطفال وحسن تربيتهم. (8)
لا توجد محارم عند أهل النوبة يمتنع معها عقد الزواج إلا المحارم التي نصت عليها الشريعة الإسلامية.
وإلى جانب طقوس الزواج هناك طقوس أخرى لمناسبات هامة في الحياة؛ هي مناسبة الختان للولد والبنت، مناسبة الميلاد، وحالات الوفاة، وكلها تستدعي تشاركا من أهل النجع أو القرية، وتذبح فيها الذبائح وتصبح مجالا للفرح والغناء والرقص، أو قراءة آيات من الذكر الحكيم، وأوراد من الطرق الصوفية أكثرهم شيوعا الطريقة المرغنية.
بيت عبد الكريم محمد يونس، قرشة.
بيت محمد حسين، سيالة.
بيت عبد العزيز محمد آدم، توشكى غرب.
بيت خليل بيومي، كورسكو.
شكل 6-1: نماذج من خطة البيوت: تتشابه مخططات بيوت أهل النوبة من الشمال إلى الجنوب، فهناك دائما الحوش السماوي، تتحلق حوله الغرف وأماكن الظل لزير الماء وجلسة السيدات، وفي أحد الأركان المطبخ، ولا بد من وجود غرفة تستخدم مخزنا أو حاصلا، وفي معظم البيوت مضيفة الرجال لها باب إلى خارج البيت، وهناك أيضا أماكن للحيوانات وزريبة للبقر لها باب خلفي، باستثناء بيوت أهل توشكى الذين لهم زرائب جماعية خارج النجع، وكما نرى هناك اختلاف بين البيت البسيط من سيالة إلى البيت كثير التداخل في كورسكو، وأخيرا نلاحظ أن الحوش واسع لدى الكنوز أكثر مما نجده عند النوبيين في الجنوب.
القسم الثالث
مؤشرات حول مستقبل إقليم النوبة
الفصل الأول
منطقة بحيرة ناصر
النوبة كما رأيناها من الفصول السابقة ليست كينونة قائمة بذاتها، وإنما هي مكانيا وجغرافيا شخصية مكملة لتداعي كل الأحداث في حوض النيل.
فالنوبة مكانيا هي الطريق المزدوج الاتجاه بين مصر وأفريقيا حضاريا سياسيا، والنوبة جغرافيا هي منطقة التحكم في مسار النيل قبل دخوله واديه الأدنى في مصر.
لهذا كان هناك دائما توجه سياسي مصري نحو الجنوب منذ أقدم عصور التاريخ الفرعوني، وقد بلغ هذا التوجه مبلغا أدى إلى نشأة وظيفة حكام الجنوب أو أمراء أسوان منذ عصر الدولة القديمة، تمتد مهامهم من تأمين حدود مصر الجنوبية، إلى تأمين طرق التعدين والتجارة عبر صحراء الجنوب الشرقي، إلى المناجم العديدة ومواني البحر الأحمر. وكذلك كانت من مهام هذه الوظيفة فتح طرق التجارة إلى البلاد المدارية السودانية في صورة بعثات، هي خليط بين الحملة العسكرية والوفد التجاري. مقر حكم الجنوب كان في أسوان، لكن المراسلات مع العاصمة لا تنقطع، والخطط ترسم لمد النفوذ السياسي والتجاري والعسكري في شكل قلاع حصينة في النوبة.
مصر والنوبة في العصور القديمة كانت تجتاحها حركات كبرى للشعوب الزنجية الوافدة من الجنوب - غالبا نتيجة لتغيرات مناخية أدت إلى تغيرات بيئية - لهذا كان واجب حاكم الجنوب حماية النوبة، باعتبارها المدخل الجنوبي لمصر، والسعي إلى تجميد هذه الحركة من حركات الشعوب في العالم، والغالب أن هذه المساعي قد لاقت نجاحا لا بأس به، وإن لم تمنع أشكال التسرب البطيء، ومن هنا ظهرت بعض المؤثرات السلالية الزنجانية
1
في النوبة وجنوب الصعيد؛ مثل البشرة الداكنة والشعر الأسود الأكرت، وقد تضاعفت بعض هذه الصفات الزنجانية على مر الزمن نتيجة تجارة الرقيق بضعة آلاف السنين.
هذا التوجه السياسي نحو الجنوب استمر دون انقطاع، وإن شابه في أحيان فترات سلبية، إلا أنه أنجب ما نسميه في مصر والسودان بالعلاقة الخاصة جدا، برغم فترات من الجفاء على السطح وعلى المستوى الرسمي فقط، بينما التفاعل بين الناس في البلدين مستمر يأخذ مجراه العادي، وليس أدل على ذلك من حركة السودانيين الحالية من مصر وإليها عبر بحيرة ناصر، والتي تقدر سنويا بنحو ربع مليون شخص.
2
ولأن الزراعة في مصر والسودان الشمالي معتمدة اعتمادا كليا على النيل، فقد كان تنظيم استخدام مياه النيل غالبا أمر يتعلق بمصر والسودان، والاتفاقية السائدة للآن هي الاتفاقية المصرية السودانية، التي تحدد إمدادات كل منهما من مياه النيل، وفي الوقت الراهن ظهر على السطح في كل بلاد الجفاف، وبخاصة الشرق الأوسط، الأهمية العظمى للمياه كاستراتيجية قومية قد تتسبب في نزاعات وحروب، ليس فقط بين العرب وإسرائيل، بل هي كامنة كمشكلة بين الكثير من بلاد الشرق الأوسط، ومن بين هذه المشكلات اهتمامات إثيوبيا بتنظيم استخدام الروافد النيلية في الهضبة الحبشية، ومن ثم فإن استراتيجية المياه المصرية السودانية يجب أن تدخل اختبار التفاوض من أجل اتفاقية جديدة للمياه بين كل دول حوض النيل. (1) أين النوبة في كل هذا؟
إنها في صميم وقلب الموضوع؛ فبحيرة ناصر أو بحيرة السد العالي في مصر والسودان هي الآن المنظم المعتمد لتوزيع المياه، وستظل البحيرة كذلك في ظل أي اتفاقية جديدة للمياه بين مصر والسودان وبقية دول النيل لفترة زمنية تمتد بضع عشرات السنين.
إذن النوبة، كإقليم بحيري الآن، هي حقيقة جغرافية واقعة يجب التعامل معها لتنميتها بشريا واقتصاديا، وعلينا أن نستفيد من معرفة كيف تأقلم النوبيون على الحياة في بيئتهم الخشنة، بصيغة تلقائية ناجمة عن التحاور مع الظروف الطبيعية والبشرية التي كانت تطرأ باستمرار.
شكل 1-1: وتذبذب المنسوب بين الحد الأعلى والأدنى لكل سنة لفترة 30 سنة (1964-1994).
وخاصة خلال كل النصف الأول من القرن العشرين، بعد إنشاء سد أسوان، المهم أنهم استطاعوا التكيف والمحافظة على التراث اللغوي والشعري والغنائي والمعماري ... إلخ، كل ذلك داخل الإطار الجغرافي لإقليم النوبة.
لكن حين انتقل النوبيون إلى مهجر بعيد عن مواصفات بيئتهم نتيجة لنشأة بحيرة السد العالي، فإنهم لم يستطيعوا التكيف، أو ربما لم يجدوا آلية لإعادة صياغة حياتهم، كل شيء كان جديدا، كل شيء مادي ونفسي، لم يكن هناك النيل الذي ورثوه.
فترة امتدت آلاف السنين، لم تكن هناك مجموعات الناس التي اعتادوا عليها كأبناء الصعيد من زراع وصيادين، والعبابدة والبشارية بإبلهم يستقرون ويتعايشون معهم، ويتبادلون المنفعة بضعة أشهر كل عام. لم يعد لديهم مزارات أوليائهم التي كانت تجمع الناس على تباعد قراهم في الموالد مرة كل عام، ربما أيضا لم يعد عندهم خبز الدوكة، وافتقدوا أيضا بعض أنواع الطعام التقليدية، وفوق كل هذا افتقدوا بيوتهم ذات الأحواش الواسعة التي كانت مملكة النساء، وافتقدوا أخيرا الشعور بالأمان رغم ضباع النوبة القديمة وذئابها وتماسيحها وزواحفها، ربما في النهاية افتقدوا روح النوبة. لقد كان الإنشاد والغناء، والضرب على الطار والطمبورة، والشعر والرقص أشياء تلقائية احتفالية بمناسبات حياتية، لكنه الآن أصبح متحفيا لا يظهر إلا على مسرح يقال له تراثي، يدفع أجرا للمنشدين والراقصين، ويجمدهم في حركات محدودة من هز الأذرع والدق بالقدم والإنحاء للناظرين!
نستطيع أن نمضي في هذه المفارقات كثيرا، لكن ما نريد أن نقوله: إن حياة المهجر في النوبة الجديدة في كوم أمبو هي فترة لا يرتاح لها النوبيون كثيرا، صحيح هناك ميزات أهمها إنهاء عزلة النوبة وسهولة الحركة بالقطارات إلى أي مكان، لكن ما إن ينفتح الكلام مع كثير من النوبيين عن هذا الموضوع، إلا أبدوا حسرة على النوبة القديمة، مع كثير من الرغبة في العودة إليها من جديد، على أن تكون هناك ركيزة لإقامة معايشهم: زراعة أو عمل في السياحة، أو غير ذلك من الأعمال التي قد تظهر حين يعرك الإنسان الطبيعة وأرض الواقع.
ولكن علينا أيضا أن نتبين بدقة ووضوح عدة مواضيع أهمها:
أولا:
هل ما زالت حياة النوبة القديمة، بما فيها من كفاح ومعاناة في أحيان، قائمة كرغبة ودافع بين النوبيين الحاليين في المهجر؟ بعبارة أخرى يجب أن تكون العودة إلى منطقة البحيرة طواعية اختيارية.
ثانيا:
لعل بعض النوبيين قد أقام أسس حياة جيدة في كوم أمبو، وأصبحت له مصالح لا يضحي بها مقابل مستقبل بداياته صعبة، وربما غير مأمونة، مثل هؤلاء هم الزراع الناجحون، أو الموظفون والتجار المحليون. (2) الموارد الأرضية والبشرية
ولكي نكون موضوعيين في تبين شكل التنمية المرغوبة، فإن علينا أن نحدد المقومات التي يمكن أن يتأسس عليها أي اتجاه أو فكر تنموي، المقومات هي الموارد الأرضية والبشرية، تفصليها على النحو الآتي: (2-1) الموارد الأرضية
الموارد الأرضية تتكون من أرض وماء، والأصح في حالة إقليم النوبة أن نرتب الأمور على أنها ماء - بحيرة ناصر - يتمحور حوله أرض دائمة التغير نتيجة لتزايد وتراجع منسوب الماء بصفة مستمرة، تتضح هذه الحقيقة من دراسة شكل (
1-1 ) الذي يوضح التذبذب السنوي لمنسوب البحيرة بين حدود عليا وأخرى دنيا خلال أشهر السنة، وتغير تلك الحدود سنة بعد أخرى على مدار الأعوام الثلاثين، التي يغطيها الرسم البياني في الشكل المذكور (1964-1994).
هذا التذبذب في سطح ماء البحيرة لا يأتي من مجرد ميكانيكية الفيضان والسحب السنوي فقط، بل هو أيضا نتيجة متغيرات البخر السنوي الشديد ، ومن المتفق عليه أن كمية الفاقد السنوية من مياه بحيرة ناصر يبلغ نحو عشرة مليارات من الأمتار المكعبة، منها سبعة مليارات نتيجة التبخر، وفي دراسة حديثة
3
أن التبخر السنوي من سطح بحيرة ناصر، يساوي 11٪ من حجم المياه على منسوب 170 مترا فوق سطح البحر، بمعدلات تبخر تتراوح بين:
5,18 مليمترات/ يوم في يناير.
10,31 مليمترات/ يوم في سبتمبر - قياسات 14 سنة.
ويوضح الشكل (
1-2 ) اختلاف درجات الحرارة القصوى والدنيا عند السد العالي، والرطوبة النسبية على مدار أشهر السنة - متوسط 14 سنة - ومنه يتضح تراكم درجات حرارة قصوى +40 مئوية خمسة أشهر متتالية - مايو-سبتمبر - مع انخفاض الرطوبة النسبية، وهو ما يؤدي إلى كمية كبيرة من التبخر اليومي. ولا شك أن كمية التبخر تزداد كلما ارتفع منسوب البحيرة فوق 170 مترا، وترامت مياهها على مساحة أكبر وعمق أقل، مما يساعد على التسخين الأكبر في المناطق الضحلة غالبا؛ لعدم وجود حركة تبادلية مع مياه الأعماق الباردة نسبيا في المناطق العميقة من البحيرة.
شكل 1-2: بحيرة ناصر، الحرارة القصوى والدنيا والرطوبة النسبية، متوسطات 14 سنة.
على أية حال يبرز سؤال لدى العقل الناقد: لماذا تختار منطقة هي أحر مناطق العالم - وبالتالي أكثرها بخرا - لإنشاء سد وتكوين مسطح بحيري واسع (+ 5000كم
2 ) من أجل تخزين مياه نحتاج إلى كل قطرة منها؟
وبطبيعة الحال فإن الإجابة طويلة ومتداخلة، ولكن أكثر عناصرها واقعية وموضوعية هي:
أولا:
إن أكبر تجميع لمياه فيضان النيل هي أي منطقة شمال التقاء نهر العطبرة بالنيل، وبالتالي تكون لدينا الفرصة للتحكم في مياه الروافد الحبشية في أحرج أوقات السنة، حين ينخفض الإيراد من المنابع الاستوائية، وتحتاج المحاصيل الصيفية إلى مقنناتها المطلوبة. ومن هنا كانت أي منطقة بين الشلال الأول في مصر والشلال الخامس في السودان، هي أصلح مناطق إقامة مشروع تخزيني كبير، وقد درس المتخصصون في هندسة المياه في مصر، في الأربعينيات والخمسينيات من هذا القرن، إقامة مثل هذا المشروع الذي أطلق عليه آنذاك «التخزين القرني»، واختيرت أماكن كان على رأسها موقع عند الشلال الرابع. لكن كل المنطقة المشار إليها، من جنوب أسوان إلى شمال عطبرة، هي منطقة شديدة الجفاف عالية الحرارة وعالية التبخر، وبذلك يستوي أن يقام مشروع التخزين في أي مكان من المنطقة، مع تفضيل المكان الذي يتميز بالحجم الأدنى من الخسائر في الممتلكات الزراعية والعمرانية التي ستغرق تحت مياه المشروع، وفي هذا كان التنافس واضحا بين منطقتين لأقل الخسائر؛ هما منطقة النوبة جنوب أسوان، ومنطقة المناصير والربطاب شرق الجندل الرابع في السودان. وبالمناسبة فإن التفكير في ضبط مياه النيل منذ أول القرن لم يكن قوميا بمعنى مصري أو سوداني ... إلخ، بل كان الهيدرولوجيون ينظرون إلى النهر ككل متكامل؛ لأنه كذلك، وسيظل كذلك من هنا للمستقبل.
ثانيا:
كان القرار السياسي حاسما في اتخاذ مكان مشروع التخزين «القرني»، حيث هو الآن داخل الحدود المصرية. وقد سارع بظهور أهمية العامل السياسي في الموضوع اختلاف النظم السياسية بين مصر والسودان ابتداء من أواسط الخمسينيات؛ ليس بسبب استقلال السودان، ولكن لاختلاف التوجهات في البنية الاقتصادية السياسية في كل من الدولتين، وتأثير الكتل السياسية العالمية على بلاد الشرق الأوسط بصفة عامة. لهذا كانت الذبذبة في شكل العلاقات السياسية بين مصر والسودان، هي واحدة من أهم أسباب تفضيل أن يكون مشروع التخزين ضمن نطاق السيادة المصرية، ومما شجع على ذلك أن المشروع أضيف إليه مشروع آخر لتوليد طاقة هائلة - بمفهوم الوقت - من أجل كهربة مصر، فأصبح المشروع رمزا للفكر الناصري التنموي متعدد الاتجاهات؛ ليس فقط ضبط مياه النيل لتعويض السنوات العجاف، بل زاد على ذلك إمكانية التوسع الزراعي أفقيا ورأسيا، وتوليد الكهرباء من أجل التنمية الصناعية. من أجل هذا كان على السياسة أن تتدخل في تحديد مكان ووظائف المشروع، وبذلك انتقلنا من مدرسة الري التقليدية إلى مدرسة متعددة الاتجاهات الاقتصادية من بينها الري.
4 (2-2) الموارد البشرية
لا تنحصر الموارد البشرية في مجرد أعداد الناس وقوة العمل فقط، بل يجب إضافة حسابات أخرى؛ مثل نوعية الناس، وحالتهم الصحية والتعليمية، وتدريبهم المهني، وقدراتهم الادخارية، وتوظيف المال في أنشطة غير تقليدية ... إلخ، وبرغم ذلك تظل للقوة العددية أهميتها؛ حيث إنها الإطار الذي تنضوي تحته مجموعة المقومات والصفات السكانية الأخرى.
لقد كان يسكن النوبة القديمة قبل التهجير أربع مجموعات من السكان هم:
سكان النوبة الأصليين - كنوز وعليقات ونوبيون - وهم الأغلبية الساحقة، وينقسمون إلى مقيمين ومهاجرين بعض الوقت، أو مهاجرين بصفة دائمة، ويضاف إليهم بعض العبابدة المستقرين بصفة دائمة في نجوع عدد من عمديات الكنوز والعليقات، وهؤلاء صاروا من السكان الدائمين في النوبة.
أبناء الصعيد وخاصة من محافظة قنا، وهؤلاء يترددون على النوبة لفترات عمل محددة، خاصة وقت امتلاء حياض قنا بالمياه أثناء الفيضان - وذلك قبل أن تتحول إلى ري دائم بعد السد العالي - والقليل منهم كان يقيم بصفة دائمة أو شبه دائمة في النوبة، وخاصة في أراضي مشروعات الري النيلي والدائم بالطلمبات.
العبابدة والبشارية من سكان البادية الشرقية، وهؤلاء كانوا يقيمون في بعض مناطق النوبة؛ لرعي الإبل خلال الصيف، حين يصبح المرعى والماء مستحيلين في الصحراء، وبذلك لم يحسبوا ضمن قوائم الهجرة.
مجموعة من الموظفين والإداريين من أصول مختلفة من بقية مصر، وهم نادرا ما يستقرون تماما في النوبة، إنما يخدمون مدة محدودة، وبالتالي فإنهم أيضا لم يحسبوا ضمن قوائم المهاجرين.
ويتراوح عدد الذين تم تهجيرهم بين 45 ألف إلى 50 ألف، فالأمور يكتنفها غموض ملحوظ، وإن كانت قوائم وزارة الشئون الاجتماعية آنذاك قد عدت المهاجرين ب 16066 أسرة، عدد أفرادها - حسب المتوسطات المختلفة لكل عمدية على حدة - 44969 شخصا.
5
ويمكن أن ندرك أن أفرادا يعملون خارج النوبة قد التحقوا بأسرهم خلال عملية التهجير، وبالمثل فإن بعض المهاجرين لم يقيموا بصفة دائمة في قرى النوبة الجديدة.
وسواء كان عدد المهاجرين نحو 45 ألفا أو 48 ألفا، فقد جاء في تعداد 1986م أن سكان النوبة الجديدة في مركز نصر-كوم أمبو بلغوا 51545 شخصا، وإذا أضفنا لهم نحو عشرة آلاف شخص يعيشون في أماكن متفرقة حول بحيرة ناصر، يصبح لدينا نحو ستين ألف نوبي يعيشون بين كوم أمبو وبحيرة ناصر. وهؤلاء ليسوا كل النوبيين؛ فهناك أكثر من هذا العدد يعيش في المدن المصرية المختلفة. ومع استمرار النمو السكاني من 1986م إلى الآن، فإنه يمكن القول أن أعداد أهالي النوبة الإجمالي هو الآن في حدود 200 ألف شخص أو أكثر.
هل نتوقع أن يكون بعض هؤلاء هم الركيزة الأولى لتعمير مناطق جديدة حول بحيرة ناصر؟
القادرون على الهجرة والمغامرة هم في كل الحالات نسبة صغيرة من أصل أي مجموعة سكانية، لهذا ربما نتوقع أن يبلغ عدد المهاجرين إلى مناطق بحيرة ناصر نحو 10 إلى 15٪ من مجموع أهالي النوبة، سواء في كوم أمبو أو غيرها؛ بمعنى أن يكون العدد في حدود 20 ألفا أو 30 ألفا في حدوده العليا من النوبيين، وهؤلاء ليسوا جميعا قوة عمل، بل أسر كاملة ، وإن كان الأغلب أنها ستتكون من الأسر الفتية، القادرة نفسيا على خوض تجربة الهجرة، وهذا يعني أنهم سيتزايدون بسرعة خلال فترة ليست كبيرة من عودتهم إلى منطقة بحيرة ناصر.
وعلى وجه العموم فإن أعداد العائدين إلى النوبة القديمة - أي منطقة بحيرة ناصر - سوف ترتبط بإقامة مشروعات حياتية، عمرانية واقتصادية، لاستقبال العائدين.
والمتوقع أن المستوطنين الجدد حول بحيرة ناصر لن يكونوا فقط من أهالي النوبة؛ فإمكانات المنطقة - زراعية وصناعية وسياحية - أكبر من أن يستوعبها النوبيون وحدهم، ويمكن أن نتصور أن الكثير من أهالي الصعيد، وبخاصة من محافظتي قنا وسوهاج، سوف يكونون أوائل المستفيدين من فرص الحياة في المنطقة، بحكم ارتباطات بعضهم السابقة بالنوبة القديمة، وبحكم ارتباط بعضهم الحالي كصائدي سمك في بحيرة ناصر، وكعاملين في الكثير من مشروعات الإقليم، من إنشاء الطرق إلى حرف البناء والتشييد.
ومرة أخرى سيعتمد العدد على القدرات الاستيعابية للمشروعات التنموية في إقليم بحيرة ناصر، ولا شك أن بعض هذه المشروعات سوف تجذب عناصر مهاجرة من مناطق أخرى من مصر، وبخاصة من الحرفيين والعاملين في الإدارة والخدمات.
وبعد فقد آن لنا أن نتصور أن عجلة التنمية لن تبدأ إلا بعد أن تتعدد أشكال النشاطات وتتكامل معا؛ أي لا يمكن أن نتصور أن تكون التنمية أحادية التوجه؛ كالزراعة فقط أو السياحة فقط أو صيد السمك كما هو الحال الآن، لهذا فالتنمية الحالية تسير مثل كائنات منفصلة، كل يدب أعرج في طريق منفصل داخل إطار مركزية الحكم والإدارة في مصر، ثم هم لا يلتقون!
الأغلب أن مائة ألف من السكان هو عدد معقول، لكي تتكون ذاتية لحركة تنمية تنجح في بناء قاعدة انطلاق استيطانية متكاملة، بين ريف وحضر وزراعة وصناعة - إصلاح وصيانة كبداية - وسياحة بأنواعها المتعددة، وتربية حيوان، وسماكة، وتجارة محلية، وعمالة في المال والنقل والاتصالات ... إلخ، ولا شك أن ذلك سيجر إلى استثمارات أكثر وهجرة أوفر في حالة نجاح المشروعات الأولى، بشرط ألا نبني مدينة طموحة تصرف السكان عن الأعمال الإنتاجية إلى أعمال الوساطة التجارية والمهنية، كما هي العادة في مدننا الجديدة الخالية على الأغلب من مقومات اقتصاد إنتاجي ذاتي، وأصعب المراحل هي مرحلة التكوين الأولى، التي يجب أن تكون تدريجية مع مرونة في التوجه التنفيذي. (3) محاور التنمية المتوقعة
لكي تكون التنمية المرجوة في منطقة بحيرة ناصر ناجحة، فإن محاور التنمية يجب أن تكون متعددة ومتكاملة، بحيث تستوعب الأعداد السكانية المطلوبة لإعادة الحياة إلى هذه المنطقة الهامة اقتصاديا واستراتيجيا، ولهذا يمكن أن تدور التنمية حول المحاور الآتية، على أن تكون درجة الاهتمام بكل منها على نفس القدر؛ من حيث التخطيط السليم للمواقع، والإدارة الحسنة للمشروعات، وتكاملية كل المشروعات مع بعضها: (1)
الزراعة. (2)
السماكة. (3)
السياحة. (4)
تعدين وصناعات خفيفة وصناعات منزلية. (3-1) الزراعة وتربية الحيوان (أ)
زراعة أراضي العلو بين مناسيب 180 و190 مترا، وبحد أقصى 200 متر، وتبلغ المساحة المقدرة للمناسيب 180-190 نحو 130 ألف فدان، يمكن أن يضاف إليها نحو 25 ألفا أخرى للمنسوب حتى 200، (انظر الشكلين
1-3
و
1-4 )، وتزرع هذه الأراضي زراعة دائمة باستخدام طلمبات عائمة؛ حتى تتوافق مع انخفاض وارتفاع منسوب البحيرة. (ب)
الزراعة الشاطئية حسب اختلاف مناسيب البحيرة بين الحد الأدنى والحد الأعلى خلال السنة، والذي يتراوح - حسب السنوات 89-1994 - بين 164 و177 مترا، بفارق منسوب ثمانية أمتار كحد أعلى، وخمسة أمتار كحد أدنى في السنوات المذكورة. وتبلغ مساحتها تقديرا نحو ربع مليون فدان، تزرع على نظام ري الحياض القديم محصولا واحدا سريع النمو؛ لأن هذه المساحة تنكشف عنها مياه البحيرة بين ثلاثة وخمسة أشهر فقط - الأشهر من يوليو إلى أكتوبر.
والمقترح زراعة خضر وأنواع من المحاصيل سريعة النمو، الصالحة أعلافا للحيوان كنبات الكشرنجيج - الذي يمكن أن يحش مرتين إلى ثلاث مرات في أربعة أشهر - بالنسبة للزراعة الشاطئية، تماما كما كان يفعل النوبيون قبل 1963. أما الزراعة الدائمة في المناسيب العالية، فيمكن أن تكون أعلافا وأشجارا مثمرة، وبخاصة نخيل البلح النوبي، وعلى الأطراف أشجار للحصول على الخشب، هي في نفس الوقت مصدات للرياح وسفي الرمال.
ويقترح المتخصصون أن تكون هناك دورة زراعية ثلاثية في أراضي المحاصيل، يتبادل فيها البرسيم وفول السوداني والشعير، مع قليل من السمسم والبصل والثوم والترمس والحلبة. أما دورة الزراعة الشجرية، فتبدأ بأعلاف وشعير، ثم أشجار فاكهة يحمل عليها علف وفول سوداني وبرسيم.
أين توجد الحقول الملائمة للزراعة في الإقليم؟
تتمركز أفكار التنمية حول مناطق محددة من أجل الزراعة الدائمة في المناسيب العليا - 180-190 مترا - فالواضح من الشكل (
1-4 ) والخريطة (10) أن هناك مناطق معينة للتنمية الزراعية، أكبرها في الشمال حول خليجي وادي كركر ووادي كلابشة - 67 ألف فدان - ثم خمس مناطق متفرقة في الوسط والجنوب متشابهة المساحة - بين 11 ألف فدان و15 ألفا - والملاحظ أن معظمها في الجانب الغربي من البحيرة؛ لسبب بسيط هو أن المنطقة الشرقية كانت دائما جبلية أو هضابية وعرة التضاريس، باستثناء منطقة سيالة-العلاقي المنبسطة، أما غرب البحيرة فكان أكثر انبساطا وأقل وعورة وأقل تقطعا بالأودية والأخوار، إلا في مناطق أودية كركر وكلابشة وتوشكى غرب وسارة في أقصى الجنوب، وهذه هي مناطق الخلجان البحيرية الواسعة، والأرض حولها منبسطة قليلة التعقيد، ومن ثم هي أماكن ملائمة للزراعة إذا توافرت ظروف أخرى، وبخاصة أنواع من التربات الجيدة.
شكل 1-3: مساحة الأراضي المحيطة بسواحل بحيرة ناصر على مناسيب مختلفة.
أما الزراعة الشاطئية فهي حول معظم سواحل البحيرة وأذرعها وخلجانها الكثيرة، وتعتمد مساحتها على قدر تراجع مياه البحيرة من ناحية، وعلى مرونة وقدرة المزارعين على الانتشار إلى تلك الأراضي وزراعتها بالفأس، كما كان الحال في النوبة القديمة. ذلك أن استخدام المحراث والجرار أو حيوان جر يستدعي استعدادات للنقل قد لا تتوافق مع قصر مدة الموسم الزراعي.
ولكي تكون الزراعة ناجحة، فالواجب تضافر جهود إرشاد زراعي مع مهندسي المياه؛ للتنبؤ القريب بحالة الفيضان، وكميته المتوقعة، والأراضي التي قد تطغى عليها المياه بسرعة، وابتكار وسيلة اتصال قوية مع المزارعين لإعلامهم بحالة المياه والأرض؛ لكي يتجنبوا الزراعة في أرض مهددة بالغرق القريب.
ونظرا لكثرة ترجيح زراعة الأعلاف في المستقبل، فإن الزراعة هنا يجب أن تكون من النوع المختلط؛ أي زراعة وتربية حيوان معا، أو ربما تكون منطقة إنتاج حيواني تقدم لها الأرض أعلاف التسمين. ولا شك أن أصلح حيوانات التربية في هذه البيئة شديدة الحرارة هي الأغنام والماعز من السلالات التي كانت سائدة في النوبة القديمة، كذلك يمكن الاستفادة من سلالة الأبقار النوبية وتهجينها وتدريجها من أجل اللحم - والقليل من اللبن - والجلود. وفي هذا المجال يمكن إنشاء بعض المراعي الجافة في أعالي الأخوار من أجل رعي الجمال، خاصة أعالي الوديان الشرقية، من خور رحمة إلى وادي أور، مرورا بأودية أبوسكو والعلاقي وكورسكو، وبالتالي نكون قد حفزنا بعض العبابدة والبشارية من البدو الرحل على الاستقرار وتنمية ثروتهم من الإبل؛ تمهيدا لدخولهم اقتصاديات السوق، بدلا من الشكل التقليدي للرعي البدوي الذي يمارسونه للآن.
كذلك تخصيص مناطق لتربية حيوان معين كالماعز والأغنام في مزارع من المنطقة الجنوبية (أدندان وقسطل) ومن المنطقة الوسطى (جرف حسين - الدكة) وذلك من أجل إنتاج كمي من نوع واحد، وتجنب انتقال عدوي أوبئة من حيوان لآخر، أما الأبقار فيشيع تربيتها في معظم المزارع المقترحة. (4) البيئة والتلوث
بالنسبة للتنمية الزراعية في الإقليم هناك تحفظ بيئي ومشكلة ري.
التحفظ البيئي منطلقه أن بحيرة ناصر هي مصدر المياه المصرية، ومن ثم يجب الحفاظ على نقائها من الملوثات، وهذا منطلق يتفق عليه الجميع، ولكن المبالغة فيه قد تؤدي إلى الإحجام عن القيام بأي نشاط اقتصادي. يقول البيئيون إن الزراعة ستفسد مياه البحيرة بما يعود إليها من الماء الباطني من الحقول، حاملا معه الكثير من أملاح وبقايا الأسمدة الكيميائية والمبيدات السامة. وكذلك هناك اقتراح بتغيير جميع أشكال المحركات في سفن السياحة وسفن النقل السلعي وقوارب الصيد ولنشات النزهة وطلمبات ضخ المياه، من محركات تعمل بالديزل والبنزين إلى أخرى تعمل بالكهرباء أو الطاقة الشمسية المتوافرة بوفرة لا مزيد عليها، لكن مثل هذه التخوفات مبالغ فيها؛ فالأراضي الشاطئية يمكن أن تزرع في صورة ري الحياض ولا تحتاج لأسمدة لسببين:
الأول:
أن هذه الأرض تتجدد خصوبتها سنويا - أو كل عدد قليل من السنين - نتيجة لإرسابات بعض الطمي خلال فترة ارتفاع منسوب الماء، أو إضافة الطمي الناتج عن تطهير البحيرة.
الثاني:
أن الأرض غالبا ستستمد خصوبة متزايدة من السماد العضوي، الناجم عن ترك الحيوان يرعى الأعلاف الخضراء وقتا من الزمن في الحقول دون الحاجة إلى أسمدة كيماوية.
أما مشكلة الري، فهي الفارق الرأسي بين محطات الطلمبات العائمة وحقول أراضي العلو (180-190 مترا) فإذا كان منسوب الخزن 175 مترا، فالمشكلة ليست كبيرة، لكنها تصبح عويصة في السنوات التي ينخفض فيها منسوب الخزن إلى ما دون 170 مترا، فحين يكون الفارق الرأسي بين رأس الطلمبات والأرض المزروعة 20-25 مترا أو يزيد، فإن المسافة بين الحقول وماء البحيرة تزيد مما يستدعي إطالة أنابيب ضخ المياه الأفقية، وعدم الإفادة منها في حالات ارتفاع مناسيب البحيرة، لهذا فربما يكون من الأوفق حفر آبار ليست عميقة عند أراضي العلو، تأخذ من المياه الجوفية على أعماق مناسبة، وبالتالي لا نعود في حاجة إلى طلمبات عائمة. والأمر يحتاج إلى رأي الخبراء في هذا المجال، أما مشكلة التلوث الناجمة عن الزراعة في هذه المناطق العالية نسبيا، فربما تكون مشابهة للموضوع سابق الذكر عن الزراعة الشاطئية، من حيث استخدام السماد العضوي من مخلفات الحيوان، وتقنين استخدام الأسمدة الكيميائية، بمعنى أن مخاطر التلوث محدودة.
وعلى أية حال نحن هنا نتكلم عن زراعة نحو ربع مليون فدان، ولا تصل إلى نصف مليون فدان إلا تحت ظروف استثمارية مناسبة، ومع ذلك نخشى التلوث، فما بالنا بمشاكل التلوث متعددة المصادر: الزراعي والصناعي، وذلك الناجم عن سوء سلوكيات الإنسان على طول مسار النيل في الصعيد والدلتا! فالصعيد الشمالي يستخدم مياها ملوثة من الصعيد الجنوبي، والقاهرة تستخدم مياها ملوثة من كل الصعيد، وتضيف إلى التلوث أضعافا مضاعفة تستخدمها الدلتا في سد مختلف الاحتياج للماء!
شكل 1-4: الأرض القابلة للاستصلاح والزراعة في النوبة - بحيرة ناصر - بين مناسيب 170-210 أمتار فوق سطح البحر مقدرة بنحو 235 ألف فدان. ملاحظة: أبوسكو تشتمل على أراضي أودية أبوسكو ورحمة والأبيض.
وبوجه عام يجب أن ننظر إلى بحيرة ناصر على أنها جسم حي، تختلف فيه صفات المياه من حيث التجدد والتغير حسب أعماق البحيرة، فللمياه في متسعات الأخوار والخلجان صفات هيدروليجية مختلفة عن المياه العميقة، التي تكاد أن تلتزم بمسار النيل القديم قبل السد العالي، والتي تحدث فيها تبادلية بين المياه السطحية الدافئة ومياه العمق الأكثر برودة.
6
والمياه الساكنة في أطراف البحيرة ربما تكون موطنا مشجعا لنمو الطحالب وورد النيل، مما يساعد على فقدان كمية من المياه بالامتصاص والبخر، أما الأجزاء الوسطى بطول البحيرة، فإنها ذات مياه متجددة مع كل فيضان. الخلاصة أنه لا يمكننا أن نطلق الكلام بصفة عامة على كل أجزاء البحيرة، وما نخشاه من نمو للطحالب مثلا لا ينطبق على كل البحيرة، وما نخشاه من تلوث لا يؤثر على كل أجزاء البحيرة، ومن ثم يجب أن تكون هناك دراسات متجددة سنويا عن هذا الجسم المائي الكبير لتلافي المخاطر ما أمكن. (5) أين يسكن المستوطنون الجدد؟
منذ النصف الثاني من السبعينيات أخذ المسؤلون عن منطقة بحيرة ناصر في التفكير عن الهجرة المرتدة المحتملة وأين تقيم، وانتهى التخطيط إلى ضرورة إنشاء ثلاث قرى: هي دابود ودهميت في الشمال وتوشكى في الجنوب، وهي ليست بعيدة عن التجمع العمراني النامي في أبو سمبل وقرية السلام القريبة منها، واقتضى التخطيط أيضا إنشاء مورد اقتصادي لسكان هذه القرى في صورة استصلاح نحو ألفي فدان زماما لكل قرية.
خريطة (9): اقليم النوبة وبعض مقترحات التنمية حول بحيرة ناصر.
وكان رأي مركز تنمية بحيرة ناصر في الثمانينيات إنشاء عشر قرى (الخريطة 9)؛ هي دهميت ومرواو والعلاقي قبلي وبحري - أو علاقي جنوب وعلاقي غرب - ومحرقة/سيالة في إقليم الكنوز القديم، والسبوع وكورسكو في إقليم العليقات القديم، وعنيبة/إبريم وتوشكى وأبوسمبل في إقليم النوبيين القديم.
وسواء كان العدد خمس أو عشر قرى، فالأغلب أن هذه غير كافية لاستقبال حركة الاستيطان المتوقع في حالة التنمية الجادة لمنطقة البحيرة، فإذا عدنا إلى القول أن مائة ألف مستوطن، هو الحد الأدنى لكي تتكون لعمليات التنمية ذاتية انطلاق وتسيير، فإن معنى هذا عشرة آلاف شخص لكل قرية، وهذا عدد كبير لسكان القرى في مثل هذه المناطق، ويؤدي إلى ظهور مشاكل الخدمات فوق مشاكل البنية الأساسية، وفوق هذا وذاك مشكلة إيجاد الموارد الملائمة لمثل هذا العدد ، والمقترح إذن ألا يزيد عدد السكان في مثل هذه القرى الريفية عن ألفين أو ثلاثة آلاف نسمة، موزعين على عدد من النجوع المتجانسة، على نحو ما كان في النوبة القديمة، وعلى نحو ما نجده في قرى ونجوع مركز أسوان.
ومثل هذا التوزيع هو توزيع عادل متوازن للزراعة وصيد الأسماك على طول أماكن كثيرة من شواطئ البحيرة،
7
بدلا من تركيزها في أماكن محدودة عدديا، مثيرة للكثير من المشكلات.
وفي هذا المجال ربما كان من المرغوب إنشاء قرية مركزية أو مدينة رئيسية ذات تحديد محجم، تجمع وظائف إدارية وخدمات مركزية للمنطقة.
وفضلا عن هذا فالغالب أن تكون هناك مستوطنات في مناطق السياحة والآثار، تدور حول أشكال من الفندقية والمخيمات وقرى الخدمات للسياح، وذلك في أبو سمبل والسبوع وعمدا وكلابشة الجديدة؛ حيث توجد تجمعات آثار النوبة. (6) مشروع توشكى
ولا يفوتنا أن نذكر هنا المشروع الضخم الذي تتبناه الدولة لحفر ترعة طويلة من مأخذ يقع شمال توشكى بقليل، تتجه إلى منخفض الواحات الخارجة عند باريز، وذلك من أجل استصلاح زراعي واسع يسمى شعبيا دلتا جديدة - وهو مصطلح خاطئ علميا - وسيصاحب هذا المشروع طريق جيد - لكنه مضطر إلى عبور تجمعات شاسعة من الكثبان الرملية المتحركة - يصل نوبة بحيرة ناصر بالواحات الكبرى. وبالقطع ستظهر لهذا الطريق ميزات كثيرة فوق الهدف المرسوم له حاليا، وكذلك ستكون للمحطة الكهربائية الضخمة المنوي إقامتها لرفع الماء من البحيرة إلى الترعة؛ فوائدها التي ستعمم الطاقة على جزء من منطقة بحيرة ناصر أو كلها، وعلى أية حال فإن هذا المشروع هو خارج عن إطار المنطقة التي نتكلم عنها، برغم أنه يمس النوبة من حيث إنها هي بداية الماء والكهرباء لهذا المشروع الكبير. وبصورة عامة فإن المشروع من الضخامة بحيث يستغرق استكماله سنوات طوالا، ويعتمد أساسا على كمية الاستثمارات التي تصب في المشروع، ولا ينبغي التقليل من العقبات التي تواجه التنفيذ؛ عقبات طبيعية ناجمة عن فيزيقيا الأرض وتكوينها الجيولوجي؛ من حيث وجود الكثير من الفوالق والانكسارات والمسامية الكبيرة للمكونات الصخرية من الحجر النوبي الرملي، وعقبات جيومورفولوجية؛ من حيث أشكال ومناسيب سطح الأرض - مرتفعات ومنخفضات في مسطحات كبيرة - ومن حيث كثرة الرمال السافية والكثبان الرملية المتحركة، وعقبات مناخية أخطرها درجة التبخر الكبيرة ودرجات الحرارة العالية وأثرها على المحاصيل والأبنية وأسفلت الطرق، ولكل أو بعض هذه العقبات حلول من تكنولوجية العصر المكلفة، ولكن حسن اختيار المشروعات العمرانية في النهاية هو الحكم النهائي في مردود العمل سلبا أو إيجابا، وأخطر المشاكل تكمن في الإنسان ذاته؛ فهو في ظل إدارة جيدة تعطي الفرص الكاملة للحقوق والحريات يصبح سندا لنجاح المشروعات، ومن أهم مقومات الإدارة الجيدة أن تكون المشروعات قد مرت بدراسات ما قبل الجدوى ثم دراسات الجدوى، ثم قدر كبير من المرونة يترك أثناء التنفيذ من أجل التعديلات الضرورية التي تواجه مشكلات تطرأ على أرض الواقع.
وعلى أية حال ما زال مشروع أو مشروعات توشكى في المراحل الأولى، وأمامها بضع سنوات اختبارية لمدى التصميم والتمويل، ودراسة آنية للأشكال الملائمة من التنمية المكانية والاقتصادية والبشرية ضمن استراتيجيات التنمية المصرية للقرن القادم. (6-1) مشروع توشكى المعدل تعديلات «مرحلية؟» في المشروع
في ضوء دراسات جغرافية وطبوغرافية وجيولوجية، مع استخدام صور الأقمار الصناعية، وبخاصة قمر «سبوت» الفرنسي، تمت خلال عدة أشهر تالية للإعلان الرسمي عن البدء بمشروع توشكى، ظهر للمخططين ومسئولي الأشغال والري أن المشروع يمكن تنفيذه بنجاح في المنطقة الممتدة من توشكى البحيرة إلى توشكى المنخفض، باختصار أن المشروع سيقتصر على المنطقة المجاورة للبحيرة والمنخفض، فهل هذا تعديل بديل لمشروع القناة الطويلة «جدا» إلى جنوب منخفض الخارجة، أم هو تعديل مرحلي؟ بطبيعة الحال، الأمور غير واضحة في هذا الصدد، لكن المشروع المعدل يدخل ضمن نطاق موضوعنا عن منطقة النوبة القديمة.
خريطة (10): كروكي ترعة الشيخ زايد، مشروع توشكى المعدل.
شكل 1-5: أحدث صورة للقمر الصناعي الفرنسي سبوت لمشروع جنوب الوادي في توشكى، توضح أن المساحات المنزرعة في المرحلة الأولى سوف تزيد على 540 فدانا.
حسب التقارير المعلنة في جريدة الأهرام في أكتوبر ونوفمبر
8
عن وزير الأشغال العامة، وعن رئيس قطاع تخطيط الموارد والاستخدامات المائية بوزارة الأشغال، فإن القناة الرئيسية ستبدأ من خليج توشكى على بحيرة ناصر - بدلا من الموقع الذي اقترح في البداية شمال توشكى - وتسير في اتجاه الشمال الغربي، وعند الكيلو 30 تبدأ تفريعة جانبية في اتجاه شمالي شرقي مواز لطريق أبو سمبل-أسوان تسمى المخرج (1)، وعند الكيلو 50 تبدأ تفريعة مخرج (4) في اتجاه الغرب، شمال طريق شرق العوينات، وبعد بضعة كيلومترات تتفرع القناة الرئيسية إلى المخرجين (2) و(3) غالبا في اتجاه منخفض توشكى، وأطوال هذه التفريعات الأربعة تبلغ 175كم؛ بحيث يتراوح طول التفريعة بين 30 إلى 60كم، حسب ظروف الأرض ونوع التربة (انظر الخريطة 10 وصورة القمر «سبوت»).
خريطة (10ب) توقيع مشروع توشكى المعدل على الخريطة
شكل 1-6: منسوب بحيرة ناصر في هذه الخريطة تقريبا عن صورة القمر «سبوت» أواخر 1997.
وحسب تصنيف التربة - غالبا من تحليل صور القمر «سبوت» - فإن الأراضي التي يمكن زراعتها بواسطة هذه الترع الأربعة، تبلغ 447 ألف فدان، تقع معظمها على جانبي طريق أبو سمبل وبداية طريق العوينات - وفي قول آخر 540 ألف فدان.
وهناك دراسات أخرى لتحديد مساحة ومحتوى منخفض توشكى الذي تنصرف إليه مياه الفيضان إذا زاد عن نحو 178 مترا في البحيرة، والدراسة المبدئية تقول إن مساحته نحو 6500كم مربع - أكبر من مساحة بحيرة ناصر في مصر والسودان معا - وهناك فكر في استخدامه كخزان ثان سعته نحو 120 مليار متر مكعب، ومبدئيا يمكن زراعة أطرافه المرتفعة في الشمال والشرق ، ولكن يجب توخي الحذر الشديد؛ لأن مثل هذه المنخفضات الكبيرة هي بالوعات للمياه، بما تحت سطحها الرملي والحجري من عيوب وفوالق وصخور مسامية.
على أي الحالات فإن المشروع المعدل أقرب إلى التنفيذ، مع استثمار عال في إنشاء محطة رفع المياه من سطح البحيرة إلى مناسيب أعلى من 200 متر، وفي التجهيزات الحديثة التي تسهل الحفر الصعب في المناطق الصخرية، وتلك التي تقوم بتبطين مسارات الترع لحفظ الماء من التسرب، ولو أنه لا توجد طريقة للحماية من التبخير الشديد في هذه المنطقة من قطب الحرارة العالمي، سوى الالتجاء إلى نقل المياه في أنابيب بدلا من الترع المكشوفة لتوفير المياه.
9
ثم هناك المنشئات العديدة لإقامة السكن القروي وتجهيز الناس وإمدادهم بالمعايش، إلى أن تصبح الأرض منتجة بالمحاصيل والأعلاف؛ من أجل إقامة إقليم عماده الاقتصادي الرئيسي تربية أنواع الحيوان الصغير والكبير على نحو ما أسلفنا القول سابقا. (6-2) الثروة السمكية
بالرغم من أن بحيرة ناصر قد أصبحت مكانا ممتازا لنمو أعداد السمك - وأحياء مائية وبرمائية أخرى - وبالتالي كان يجب أن تكون مصدرا جيدا من مصايد الأسماك النهرية في مصر، لكننا نجد أن تدخل الكثير من المخططات والمصالح غير المتناسقة بالنسبة للثروة السمكية، يعطينا نموذجا لمدى الإحباط الناجم عن البيروقراطية والتضارب.
في البداية كانت هناك هيئة واحدة تمارس حقوق الصيد في البحيرة، ثم قسمت حقوق الصيد على ثلاث جمعيات، هي:
10 (1)
جمعية الصيادين التي تمثل أكبر الجمعيات ومصالح الصيادين من أبناء الصعيد. (2)
جمعية أبناء أسوان التي تركز احتكارها لقسم من شمال البحيرة. (3)
جمعية أبناء النوبة التي تحتكر القسم الجنوبي من البحيرة.
شكل 1-7: كمية الأسماك المصيدة من بحيرة ناصر ومنسوب سطح البحيرة للفترة 1980-1992.
وكانت جمعيتا أبناء أسوان والنوبة ضعيفتي التجهيز والإنتاج، بالقياس إلى جمعية أبناء الصعيد عدة وإنتاجا - 7000 صياد مقابل نحو 600 صياد للجمعيتين 2 و3، وإنتاج عشر مرات قدر إنتاج الجمعيات الأخرى.
ثم قسم الاحتكار على خمس جمعيات هي: (1)
شركة الشمال تحتكر ما بين السد العالي ودهميت، بما في ذلك خور كركر. (2)
الجمعية التعاونية لأبناء أسوان، وتحتكر الصيد فيما بين دهميت ومرواو. (3)
الجمعية التعاونية لصائدي الأسماك، وتحتكر أكبر مسطح من البحيرة من مرواو إلى إبريم. (4)
الجمعية التعاونية لأبناء النوبة، وتحتكر مسطح البحيرة من إبريم/الجنينة إلى وادي أور جنوب أبو سمبل، ثم الجانب الغربي من البحيرة من أبو سمبل إلى الحدود مع السودان.
11 (5)
جمعية التكامل التعاونية، ومنطقة احتكارها هي الجانب الشرقي من وادي أور إلى أدندان.
وقد أنشئ غرب السد العالي مصنع لإعداد وتجميد الأسماك بطاقة قدرها 40 طنا/يوم، لكنه لا يجد ما يكفيه لتشغيله يوميا نتيجة لتذبذب الإنتاج وتناقصه، ويوضح الشكل (
1-7 ) تناقص الإنتاج بصفة مستمرة من 34 ألف طن عام 1981م، إلى 15 ألف طن عام 1989م، ثم ارتفاعا مفاجئا إلى نحو 31 ألف طن في 1991م، ثم هبوطا مرة أخرى. ويحاول الشكل إيجاد نوع من الارتباط بين منسوب بحيرة ناصر وكمية السمك المنتج، لكن ذلك ليس متوافقا بالضرورة. والسبب في تدني إنتاج أسماك البحيرة هو الصراع بين الصيادين وإدارة الشركات، بالرغم من المعونة النرويجية والمساعدة اليابانية في إنشاء عدة مزارع سمكية، ولكن في آراء أخرى أن التدني في الإنتاج ليس حقيقيا؛ إذ إن هناك كميات من السمك تهرب إلى الشمال دون تدوينها في السجلات الرسمية، فأين الحقيقة في مثل هذا الموضوع؟ (6-3) السياحة
الكلام عن السياحة وأهميتها كلام معاد، غير أنه يمكن أن نعيد التأكيد على أن السياحة هي «صناعة لا قدم لها»؛ أي إنها غير ثابتة، بل قابلة للتحول من مكان أو دولة إلى أخرى لمجرد وجود ظروف من عدم الاستقرار المالي أو الأمني أو التحول التنظيمي بتغير أيديولوجية الحكم ... إلخ.
فالسياحة إذن، وبرغم وجود ثوابت الجذب السياحي كالآثار أو الجمال البيئي، أو مقومات الطبيعة كالشواطئ والجبال كمصايف ومشات، برغم كل هذا إلا أنها صناعة غير إنتاجية، وبالتالي ليس لها قاعدة تمكنها من الاستمرار كنشاط مربح للعاملين به، ومخاطر السياحة أنها من الأنشطة التي تمتص عمالة كثيفة من الأعمال الفندقية إلى مكاتب السياحة إلى النقل السياحي بأشكاله، وفوق هذا خدمات السياح في مختلف المجالات من النزهة إلى المطعم إلى العروض المسرحية في المسرح والكازينو، وكل هذه الأعمال تتأثر بشدة إذا ما حدث اختلال في عدد السياح؛ لأنها أشبه بحلقات سلسلة واحدة.
شواطئ بحيرة ناصر وجزرها الجبلية الكثيرة يمكن أن تصبح مواطن لكثير من الأنشطة الرياضية، يقوم بها السياح بعد أن يكتفوا بزيارة المناطق الأثرية المتعددة في النوبة، وعلى رأسها أبو سمبل والسبوع. ولكي نستبقي السياح مدة أطول من مجرد الزيارة الخاطفة لأبي سمبل بالطائرة أو السفينة السريعة أو قارب الهيدروفيل - إذا كان لا زال موجودا - يجب أن تكون هناك أشكال فندقية غير تقليدية؛ أي يجب أن نبتعد تماما عن شكل الفندق الذي نجده في أي مكان في العالم، ونتجه إلى فندق بيئي على نسق البيت النوبي القديم، الذي كان يتآلف مع البيئة من حيث مادة البناء والشكل المعماري ووظيفة الحوش، والمضيفة كصالات يتجمع فيها النزلاء للطعام والدردشة، والسهر في طلق الجو دون مكيفات هواء.
إن الكثير من السياح سوف يدفعون الكثير للاستمتاع ببيئة وجو أقرب إلى الطبيعة والبرية، هذا الاتجاه قد أصبح الميل العام الجديد للسياحة العالمية؛ فقد مل البعض السياحة التقليدية في فنادق السواحل الإسبانية أو جزر الكناريا وجزر الكاريبي، واتجه إلى عوالم الظلال الدائمة في الغابات الاستوائية في أمريكا اللاتينية، أو عوالم الضوء المبهر والرمال الساخنة في بلاد الصحراء الكبرى من المغرب إلى مصر.
ليست هذه أفكارا من ابتكارنا، لكنها أصبحت شائعة، بل هي تراود بعض النوبيين الذين يعرفون بحسهم ماذا يمكن أن يجذب السائح. السائح هنا ليس فقط الأجنبي غير عربي اللسان، بل هو أيضا المصري أو العربي الذي اعتاد الحركة في أرجاء مصر من الساحل الشمالي إلى البحر الأحمر وسيناء والصعيد، هؤلاء سوف يضيفون الكثير من التنشيط السياحي لمنطقة جديدة مثل نوبة بحيرة ناصر، وهم أيضا الذين يستطيعون أن يوازنوا المواقف في حالة تراجع السياحة الأجنبية.
المناطق المرشحة لمثل هذا النوع من السياحة غالبا ما نرجح له بدايات قريبة من منطقتي الآثار في أبو سمبل والسبوع وعند نهاية خور كركر ووادي العلاقي، وتحتاج السياحة - إلى جانب الفنادق البيئية والبنسيونات التي هي تعايش مع عائلات نوبية (أو غير نوبية) مقيمة - إلى عدة أشكال من الأنشطة الترويحية والرياضية، التي تتمثل في رياضات الملاحة الشراعية أو الانزلاق على الماء وصيد الأسماك، ويمكن لهواة المغامرة تنظيم مجموعات لصيد الضباع والذئاب والتماسيح - بأعداد محدودة من أجل ضوابط البيئة - فضلا عن بعض الممارسات الصحية المعروفة؛ كالدفن في الرمال الساخنة، أو جمع بعض الأعشاب ذات الفوائد الطبية ... إلخ.
وكذلك يمكن تنظيم رحلات «سفاري» بالإبل أو السيارات المجهزة، تنطلق من السبوع والعلاقي عبر جبال البحر الأحمر إلى منطقة جبل علبة ونباتاته البرية الشهيرة، ومن ثم إلى البحر، وقد تعود السفاري أدراجها أو تكمل الرحلة برا أو بحرا إلى مرسى علم والغردقة. وبالمثل يمكن تنظيم سفاري تتجه غربا من أبو سمبل أو توشكى إلى بير كسيبة، حيث تلتحق شمالا بدرب الأربعين إلى باريز والخارجة ثم الأقصر، أو من كسيبة غربا إلى شرق العوينات وهضبة الجلف الكبير، لتعود إلى الوحات الداخلة بعد أن تسير على الأطراف الجنوبية لبحر الرمال الأعظم. وفي هذه الحالات سيقوم العبابدة بدور الأدلاء للسفاري الشرقية إلى البحر الأحمر، وأدلاء آخرين للرحلات الغربية إلى الواحات. (6-4) إمكانات الصناعة
في إقليم النوبة عدة مصادر للخامات المعدنية؛ هي الكاولين والتلك والرخام والجبس والجرانيت والحديد، وربما كان أهمها الآن خام الحديد الذي اكتشف في شرق منطقة دهميت بكميات صالحة لإقامة صناعة استخراجية، وليس من المتوقع إقامة صناعات كثيرة وبحجم كبير في النوبة القديمة، باستثناء صناعة الزجاج والسيراميك قرب السد العالي لتوافر الخامات والطاقة.
الأكثر توقعا هو إقامة عدد من ورش الإصلاح لمحركات السفن أو ميكانيكا السيارات، وورش نجارة وترسانة صغيرة للقوارب، وورش أخرى لإصلاح الأدوات الكهربائية والإلكترونية ... إلخ، وكذلك نتوقع تشجيعا للصناعات الجلدية والصناعات الريفية التقليدية والمبتكرة. (7) ختام الختام
النوبة: التعمير والسيادة الوطنية
12
من منطلق السيادة الوطنية على أرض الوطن، ومن منطلق دعوة رئيس الجمهورية للاهتمام بالنوبة، ومن منطلق حرية ما تفعله الدولة على أراضيها من تنمية وإعمار، ومن منطلق عواطف الحنين لدى النوبيين للعودة إلى إقليمهم ، ومن كافة المنطلقات الاستراتيجية والأمنية والتنموية من أجل الرفاهة؛ أكتب هذه الأسطر من أجل إعادة الحياة إلى بلاد النوبة، التي كان مصير سكانها الهجرة ثلاث مرات خلال هذا القرن: الأولى والثانية إلى أراض مرتفعة بعد إنشاء سد أسوان 1902م وتعليته الكبرى 1933م، والثالثة الهجرة خارج النوبة تماما إلى حوض كوم أمبو شمالي أسوان بعد إنشاء السد العالي في الستينيات، وغرق كل النوبة القديمة تحت مياه بحيرة ناصر.
شعب النوبة الأصيل من حقه العودة إلى منطقة الديار القديمة، ولعل الجيل الذي عاش النوبة القديمة قد انتقل إلى السماء، ولكن يبقى الشعور بأن هذه هي النوبة، وإن امتدت بعرض بحيرة ناصر: هي الأرض التي تتداخل فيها كتل المياه العظيمة مع جبال الصوان والجرانيت والصخر النوبي، باختصار سمة النوبة من القدم إلى الآن هي الماء والجبل، يتركان فراغات كالجيوب الصغيرة، يشق فيها النوبي أسس حياة وحضارة مستديمة قليلة التغيير.
إلى متى تظل مساحة كبيرة من الوطن فارغة من السكان والسكن الدائم؟ إلى متى يحلم بعض النوبيين بالعودة إلى بلادهم؟ إلى متى نعيد صورة سيناء حينما كانت قاصرة على أعداد قليلة من البدو، محظورة على سكان بقية مصر إلا بإذن مسبق، فكان ما كان من الضعف الاستراتيجي والاقتصادي لسيناء عشرات السنين، وكان ما كان من اجتياحها المرة تلو المرة في الحروب الأخيرة؛ لأنه لا يوجد مرتكز شعبي يدعم الجبهة استراتيجيا وتكتيكيا؟! وقد تنبه المسئولون إلى ضرورة إعمار سيناء، وفعلا حدث إعمار ويحدث إعمار أشد كثافة كل يوم، ومشروعات التنمية تدرس وجدواها تبحث عن استثمار، والحكومة ضالعة بمشروع خارق للتنمية، أساسه شق قناة السلام لجلب مياه النيل من فرع دمياط من أجل زراعة نحو نصف مليون فدان.
فما بالنا بالنوبة؛ حيث الماء جاهز حاضر دون عناء شق قنوات وترع، الماء قريب المنال من كتلة بحيرة ناصر، وهناك أرض غنية التربة تكونت من فيض البحيرة وتراجعها تاركة غرينا خصبا. الأرض ليست كأرض سيناء الرملية أو السبخية، إنما هي أرض غرينية ذات سمك متفاوت، لكنه بكل المقاييس صالح للزراعة دون أن تعوقه نفاذية الرمال الشديدة وتسرب الماء، أو دون وجود ملوحة عالية تتسم بها تربة السبخات، والأرض النوبية الداخلية البعيدة عن مسطح التربة الفيضية صالحة لاستزراع أنواع خشنة من العشب والحشائش بواسطة الري بالرش، من أجل اتخاذها مراعي لحيوان البيئة من إبل وأغنام وماعز وأبقار تدرج وتهجن لتتعايش مع البيئة القاسية، إذن الأرض بأنواعها، بالإضافة إلى مصايد الأسماك، جاهزة لتنوع إنتاجي زراعي رعوي في مساحات معقولة، قد تبلغ عشرات الآلاف من الأفدنة في نواح متعددة، وخاصة حول أذرع البحيرة الضخمة في كلابشة والعلاقي وتوشكى ... إلخ.
هذا فضلا عن الثروة الأثرية التي تشكل ركيزة السياحة الحالية في النوبة، والتي يجب أن تتطور هي الأخرى إلى أشكال غير تقليدية من الجذب السياحي.
والإنسان هو العنصر الآخر في الإنتاج، وهو موجود بكثرة ووفرة، متمثلا في بعض النوبيين الذين يرغبون العودة، وعدد أكبر من أهل قنا وسوهاج الذين لهم دراية سابقة بالنوبة القديمة، ويشكلون قوة الصيد السمكي الحالي في بحيرة ناصر، وليس متوقعا إقامة مشروعات تهجير كثيرة في وقت واحد، بل المطلوب إقامة عدد قليل من المشروعات الصغيرة على أساس هجرة تطوعية، بحيث تكون هذه مشروعات رائدة يستفاد منها لتجنب بعض الأخطاء في المشروعات التالية، وليس من المستحسن البدء بالمشروعات الأولى بالكثير من الطبول، بل يكون كل شيء متواضعا في البداية؛ حتى لا يحس الناس بالهزيمة إذا ما جاءت النتائج الأولية على غير المتوقع.
وربما كان الخوف كامنا في أن حصة مصر من مياه النيل - 55,5 مليار متر مكعب سنويا - مخصصة كلها للأراضي المصرية شمال السد العالي، وهذا في حد ذاته ظلم وإجحاف بأرض النوبة، فهي مخزن المياه المصرية ولا تستفيد منها، وهي مصدر الطاقة الكهربائية من السد العالي ولا تستفيد منها، أي ظلم فادح هذا؟! هل هي كالعيس يقتلها الظمأ وهي تحمل الماء على ظهرها؟! وعلى أية حال فإن جانبا من الزراعة لن يكلف مياها كثيرة، بل ستكون زراعة حياض على النسق الفرعوني العظيم في الأراضي التي تنسحب منها مياه البحيرة سنويا، ثم ما ضرنا لو خصصنا مليارا واحدا من الماء، ومليارا آخر من الجنيهات أقساطا على عدة سنوات؛ من أجل تعمير النوبة؛ تلك الأرض العظيمة التي تمتد نحو 350 كيلومترا جنوبي أسوان؟! ما ضرنا لو نشأت قرى متعددة تثبت الهوية المصرية، وتنتج ما يمكن أن تسهم به في مجال الاقتصاد الوطني، وتشكل مرتكزات استراتيجية على طول بحيرة السد، وأخيرا تشكل همزة الوصل الضرورية لمصر جنوب أسوان في اتجاه أشقاء الجنوب؟!
القسم الرابع
مع الناس بالأغنية والصورة
الفصل الأول
من أغاني النوبة
ترجمة بالعامية بتصرف عن ترجمة قام بها بعض شباب النوبة بعد الغناء مباشرة. ***
الشعر والأغاني والإيقاع النغمي هي ترجمة حقيقية لحياة ومشاعر المجتمع وممارساته اليومية، وتسجيل لأحداث مهمة كالزواج والمولد والسبوع والنذور والموالد المرعية لبعض الأولياء، فضلا عن الأعياد الدينية والرسمية وأعياد المحصول الجديد وغير ذلك من شئون الحياة، وعلى رأسها أغاني الحب والعاطفة. وفيما يلي مقتطفات من أغاني المناسبات في النوبة، لعلنا نصل إلى بعض أعماق الإنسان في النوبة آنذاك، فغني عن البيان أن البيئة الطبيعية والمجتمعية في النوبة القديمة قد أصبحت تراثا في المهجر الجديد في حوض كوم أمبو، وقد لا يجد الشباب الجدد في كوم أمبو معنى للأناشيد القديمة، والأغلب أن أناشيد جديدة ملائمة للبيئة قد ظهرت بين النوبيين بمدخلات لغوية عربية كثيرة، وهذا أمر يحتاج إلى فحص ودرس جديد.
وفي الأصل النوبي للأغاني نلحظ تكرار كلمات ومصطلحات ونداءات وقفلات للأغاني، وفيما يلي نورد بعض هذه المصطلحات على قدر ما فهمنا من المترجمين:
إس دو يا نوبة = نداء للنوبة فيه شيء من الحسرة. سكرا أو ساه = خسارة. الهوى آي لنج هايلنج = تعبير عن الحب. سنجر تود اير بوري = يا بنت يا حلوة. زميلاني = رفيقة أو رفيق. صبرينه = اصبري. سمرة = اللون المفضل للبنات الحلوين. دسي لمونة = الليمونة الخضراء، وربما هو تعبير عن الفتاة تبدأ في النضج. الوز الطاير «الإوز» = رمز للفتيات. الموزة = تشبيه شائع عن الرشاقة للبنات ملفوفة القد. الضابط أو العسكري أو السوداني = تطلق على مشية البنات منتصبة القوام. لمبة أو كلوب أو شمس أو قمر= صفات جمال البنت أنها منيرة ومتألقة. الشقة = الطرحة غالبا من السودان، لكن في كثير من الأغاني هدية الطرحة من قماش مشترى من جدة - السعودية - هي أغلى ويحسن التنويه بها.
يا سلام = بداية ونهاية كوبلية، تشبه وظيفة يا ليل يا عين في الأغاني التراثية. (1) أغاني العاطفة
أسمر اللونا
تقولي إني ما باصلي
مع إني صليت الصبح ويا أبوكي
وقعدنا نتحدت في ظل الجامع
تملي الجرة وتسقي الزرع
وتشيلي السبت وتمشي تتخايلي
أقول أنتي زي الشمس
ولا القمر المنور
يا فاطمة نورك زي الشعلة
يا سليلة الأنبيا
جمالك يفتن يخلي الكافر مسلم
كم مرة سقيت شجرة المانجة معاكي
يا أسمر اللونا
دا كان زمان
كبرت الشجرة
واستوت المانجة
لكن النيل العالي جه وشال الشجرة •••
دلوقت أنا مريض
راقد في السرير
الكل جم زاروني
لو كان فيهم واحد يخاف الله
كان راح لأسمر اللونا يقول لها
حرام تسيبي العيان
ما تسأليش عنه!
مقتطفات من أغاني العاطفة
يا حلوة
إنتي كلتي حاجة حلوة
إنتي طويلة ورشيقة
تمشي زي العسكري ولا الخيال
تعالي نجري نتسابق
يالا ورايا
إنتي ليه زعلانة
ليه بتفكري
الله الرحيم في سماه
إللي خلقنا ما ينسانا
وشك منور
زي القمر
تعالي ورايا الليلة يا حلوه
يا أنعم من النايلون •••
استغرب وأتعجب
كيف تمشي عالرمله
وتطلعي الدرب الحجر
وإنتي شايله الميه
برشاقة وجمال •••
تعملي شاي الصباح
وتحطي البراد على جمر النار
والشاي يغلي على مهل
إيه رأيك لو ربطت عمتي بشالك
ولما الشاي يجهز
شدي الشال
آجي على طول •••
على البر الغربي
حبيت بنت حلوة
وعلى البر الشرقي
حبيت كمان واحدة
عملت مركب
وقعدت أبص شمال ويمين
لحد ما الشمس طلعت
أغنية «دسي لمونة» (أبيات مقتطفة)
الليمونة الخضراء
خدي إيدي يا حلوه
أنا بقيت أعمى
حاستنا لما تخدي إيدي
ونقعد تحت السنطه •••
أنتي تربيتي عالكريمه
إنتي ما فيكي عضام
كنت أشوفك بين الشجر عند الساقيه
سمرا زي النجم في الليل
دلوقت أروح عند الساقية مالتاكيش
ما خطرش في بالي حيجي يوم تسافري
راسي بتلف تدور عليكي في بيتك العالي •••
الدرب اللي سكنا فيه
هو والبحر زي بعض
لكن السمك في البحرين مش واحد
فيه سمك هادي
وسمك تاني رعاش •••
الميه وصلت للركب وقفت أفكر
أمشي لحد ما أغرق ولا أرجع
الغريق مش حيخاف من الموج
والجدار اللي يقع ما يرجعش عالي تاني
ما تمشيش متكبرة ومغرورة
إللي يقع ينكسر ما يقفش تاني!
يا وز يا طاير
يا سلام يا وز يا طاير
يا سلام يا جو معاه طاير
أي والله صياد أنا لا
أي والله بندكه ما معاه [بندكه = بندقية]
أسمر اللونا
يا سلام يا اللون
سمرا يا اللونا
قولي تديني
إيا
اتكلمي حتديني
إيا
تمر ورطب
إيا
أنا مسافر
إيا
في البوستة السودانية
إيا
كل مرة أروح وآجي
إيا
يسافر معي زميل
إيا
إزاي أتحمل
إزاي أتحمل أنك تمشي من هنا
سوا بعيد أو قريب
ربنا شاهد على حبنا
فاكرة النجع إللي كبرنا فيه
وإنتي مشيتي
وربنا شاهد على حبنا •••
بعتوني للطبيب
ما لقاش عندي مرض
بعتوني للفقيه
لكنه ما لقاش دوا
كافي البلا
وربنا يعلم حبنا
قعدت أنادي على الرايح والجاي
أنا مريض لما سافرتي للشمال •••
مريتي علي وما ودعتيني
إزاي أتحمل وربنا وحده شاهد حبنا
إنتي البنت إللي طلعت لفوق
ناديت عليكي لما نزلتي شايلة الميه
ناديت ست مرات
لكن ما جبتيش الميه
اللي يشرب منها يخف العيان
يا زميلاني
يا زميلاني يا زميلاني يا زميله
يا أول زميله يا أول حبيبه
إنتي ناسياني ولا فاكراني يا إللي زي الحلاوة
يا إللي في جسمك التوب عامل زي قطن المستشفى
لابسة التوب والشبشب بتاع السودان رايحة فين ليكي غيري؟
تقول أنا ما ليش لا فقبلي ولا فبحري غيرك (2) من أغاني وأناشيد الأفراح
عيلة كبيرة
يا عريس
عيلة كبيرة
يا سلام
ومين يقدر
على المقدر
يا سلام
وإللي أراده الله يكون
ويفارق العريس أمه
يا سلام
في مدح ضيوف الحفل يذكر الضيوف نجعا نجعا - مثلا:
دايما شبان كورسكو
دايما خليل عريس البيت
دايما شبان الريقة
جايين تفرحوا معايا يا خواتي (... إلخ) •••
إنشاد باللغة العربية في مناسبة الزواج:
وكمان الورد كان فيه شوك
من بركات النبي فتح
حلالك حلالك حلالك
أنشودة صوفية تقال عند باب بيت العريس
مولاي صلي وسلم دائما أبدا
على حبيبك خير خلق الله كلهم
محمد سيد الكونين والثقل
ين والفريقين من عرب ومن عجم
هو الحبيب الذي ترجى شفاعته
لكل هول من الأهوال مقتحم
دعا إلى الله فالمستمسكون به
مستمسكون بحبل غير منفصم
وما حوى الغار من خير ومن كرم
وكل طرف من الكفار عنه عم
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على
خير البرية لم تنسج ولم تحم
يا خير من يمم العافون ساحته
سعيا وفوق متون الأينق الرسم
سريت من حرم ليلا إلى حرم
كما سرى البدر في داج من الظلم ... إلخ
أغنية زفاف عبده سعيد وسميرة
كورسكو يناير 1963 (أصل الأغنية بالعربية) وهي كالآتي:
سميرة أن جيتلك الليلة أبارك
وأشاهد الحفل يوم زفافك
عبده سعيد سد ليكي مالك
وتسعدي بيه ويهنى بالك •••
من كورسكو عبينا السيره
نزف عبده على سميره
فاق النسيم الزهور عبيره
على البلاد عامة على أميره •••
من كورسكو للدر شدو
لسميرة تزف على عبده
زعيم شباب زي بدر جدو
يوم الزحام ليى براه يسدوا •••
نجف قصور نور الليالي
زي قمر في سماه يلالي
عبده قال رب هني بالي
حلال بقت لي بنت خالي •••
ليلة محفوفة بالمحبه
والشموع قايده فيها حسنه
فيها أحلام المهنى
عريسنا هام لعروسه حته •••
سميره ريله حلاتها زينة
الظبية يا جوهر الخزينه
تامة الجمال والعقل رزينه
مع العريس زي قطا أوزينه •••
الجميلة فلوه وكفلها داخر
حشاها قبضه وصدرها نافر
مهيرة الروض خيالها ماهر
ليها مشتاق تملي ساهر •••
عبده سعيد اللي مناه ناله
الرب كريم هناله باله
أحبابه جو للزفه شالو
سيروه لبنت خاله •••
سميره زي بدر نورها غامر
عريسها بالحب قلبه عامر
ليلة كانت زفاف وسامر
إللي ما يصلي قلبه كافر •••
يا حبيبة الفرح عم
للجميع يوم مناكي تم
قريب نهنيكي في ملمه
باللي يقول يا بابا يمه
معاني بعض المصطلحات في هذه الأغنية: سد المال = دفع المهر. عبينا السيره = أعددنا الزفاف. قطا أوزينه = أنواع من الطيور المهاجرة. فلوه = المهر الصغير. حشاها قبضه = خصرها نحيل. ملمه = جمع من الناس. الشد = موكب العريس لعروسته. (3) أغاني وداع النوبة
الوداع يا نوبه
أقولها تاني الوداع يا نوبه
باقولها من قلبي يا نوبه
الزمان بتعنا كان أد إيه جميل في النوبه •••
بلادنا الطيبة الحنونه
كام مرة دورنا الساقيه
وكام مرة اتشاركنا في زراعة حقلاتنا
وكام مرة شربنا شاي الصباح •••
إزاي أنسى إزاي
ولما يكبروا ولادنا مش حيلاقوا شيء مهم
مش حيشوفوا صورة تشبه حياتنا
أغنية الأمل في الوطن الجديد
تعيشي يا نوبة بزعيم الثورة يا نوبة
ح نبني السد ح نبني السد بمالنا
وفي النوبة الجديدة بيت ونزرع النخل
الله الله على النوبة الجديدة •••
يا الله يا مسير الأقدار
يا الله ارزقنا الصحة والعافية
ساعدنا يا رب في كوم أمبو
يا رب أد ايه عشنا الجبل سنوات مع الضباع
وقدامنا شوفنا البحر يعلى ووارانا الجبل
والبحر لم يعطينا رزق يا رب عاقب فاروق وأبوه بما ظلموا
يا رب ناصر جمال منصور دائما
في الأول القناة وتاني يبني السد عشان يكتر الزرع
ويودينا كوم أمبو يكون لنا أرض نزرع فيها القطن الأبيض «كورس» من طلاب معهد معلمين قورتة
خسارة يا نوبة
حانسيبك إزاي
لا إله إلا الله يا نوبة
إزاي ننساك يا نوبة
السما والأرض
بتبكي عليكي
السما حزينة
والجبل كمان
النخل بيبكي
والبلح كمان
سرك وجهرك
وياكي يا نوبة
حزننا بالسر
وبعد ما نمشي
حنسيبك لوحدك
يا نوبة
يا للونا (4) مساجلة أوبرالية في سيالة
في سيالة سجلنا غناء لسيدات وشابات صعب ترجمتها لإلمامهن القليل بالعربية، لكن جوهر الموضوع أنه كان مساجلة بين كبيرات السن وصغيرات السن، فيما يشبه الغناء الكورالي لكل مجموعة على حدة: فالكبيرات متخوفات من الهجرة إلى كوم أمبو، ويصعب عليهم مفارقة سيالة «جنة الدنيا » على حد التعبير الغنائي، والشابات الصغيرات يتطلعن بلهفة إلى الموطن الجديد.
تقول كبيرات السن: في سيالة الأمان والأقارب، ونقاء المجتمع من الغرباء، واتساع الأفق حول محور الحياة بما يجلبه من مفاجئات سارة بقدوم المغتربين ... إلخ.
وترد الشابات أن العزلة في النوبة مضنية، بينما في كوم أمبو تسهل الحركة بالقطار والسيارة إلى مهاجر أزواجهن، وتتطلعن إلى معرفة العالم بالراديو والتلفاز والجرائد والمجلات ... إلخ.
وتدور المساجلة كما لو كانت عملا أوبراليا، تصدح فيها أصوات الميزوسوبرانو (الكبيرات) والسوبرانو (الشابات) على مصاحبة من الدفوف (وإيقاع على صفائح معدنية وخشبية) بصورة مدهشة من التلقائية والإبداع.
وربما جاز لبعض المؤلفين الموسيقيين تطوير هذه «التيمة» الفطرية في قالب لا يتعدى مكون الحضارة البريء للنوبة.
الفصل الثاني
مذكرة عن بعض أنواع الرقص في النوبة
معظم الرقص مرتبط بالمناسبات السعيدة، وخاصة في حفلات الزواج، لكن هناك نوع من الرقص «المحتشم» في مناسبة موالد الأولياء والشيخات.
الرقص في مولد الشيخة أم رايد في سيالة: «يقال إنها جدة الكنوز»
تذهب السيدات والبنات إلى ضريح الشيخة ومعهن الدفوف يضربن عليها أثناء الطريق، وعند الضريح أخذت البنات يلعبن وينشدن ويرقصن رقصا بسيطا على إيقاع بسيط على النحو الآتي: تنقسم الراقصات إلى مجموعتين متقابلتين، ثم تتقدم مجموعة تجاه الأخرى بخطوات عادية كالمشي البطيء على إيقاع الطار والزغاريد، ثم تتقدم المجموعة الثانية صوب المجموعة الأولى، التي تتراجع إلى الخلف بنفس حركات المشي البطيئة، وفي مرة ثانية تتقدم المجموعتان تجاه بعضهما ثم تتراجعان إلى الخلف وهكذا. ويصاحب الخطوات هز الأذرع إلى الأمام والخلف، وخلال ذلك هناك من ينشد أغاني في مدح الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وأغاني المناسبات مثل التهجير وإنشاء السد العالي ... إلخ. ولا بأس أن يقوم بعض الفتيان الذكور بالدق على الدفوف، لكن الجميع يكره وجود أجانب من الذكور - مصريين أو غيرهم - أثناء هذه الاحتفالية.
بعض أنواع الرقص في مناسبات الزواج «معظمها مسجل في كورسكو» (1)
رقصة السيرة أو العبولي، وهي من أنواع ما يسمى الرقص السوداني؛ ترقصها الفتيات يوم الحنة، سواء في بيت العريس أو بيت العروس، وتتميز هذه الرقصة بأن الرأس تكون مشدودة إلى الخلف مع تحريك الرقبة للأمام والخلف وبقاء الذراعين مشدودتين إلى الخلف، المشي بخطوات قصيرة جدا؛ فالقدم تنقل إلى الأمام بحيث تظل ملتصقة بنصف القدم الثانية وهكذا. ثم إذا اقتربت من العريس أو أخيها أو قريب لها ترمي شعرها عليه، فيقول لها أبشر أبشر مع «طرقعة» السبابة بالوسطى وانطلاق الزغاريد الحادة الطويلة، وكل ذلك بمصاحبة الغناء المناسب لحفلة الزواج وإيقاع الدفوف. (2)
الرقص السوداني السامبا: بمصاحبة الغناء والدفوف تخطو الراقصة خطوة وراء خطوة مع تحريك الجسم مع الخطوات، وكذلك تحرك الأيدي برشاقة متناهية للأمام والخلف، عند الخطوة يلف القدم للداخل مع تحريك الأكتاف والأذرع. (3)
الرقص البربري أو النوبي الذي يسمى «دس براما»، وهو بالطار والغناء وحركة الأذرع في انسياب تام، مع رفع الكعبين إلى أعلى ثم إلى أسفل، والمشي في خطى قصيرة بطريقة رفع القدم ثم إنزالها بعد التقدم مسافة قصيرة، يليها رفع القدم الثانية وإنزالها جوار الأولى، ثم يحدث نفس الأسلوب مع التراجع خطوة بدلا من التقدم. وهذا النوع من الرقص ليس انفراديا، بل هو جماعي؛ بحيث تقف الراقصات صفا أيديهن متشابكة وأكتافهن متلاصقة، وبالتالي يعطي الصورة التقليدية عن الرقص النوبي المتشابك الأيدي والمتحرك إلى الأمام والخلف صفا واحدا، واستكمالا لهذه الرقصة يتحول صف الراقصات إلى خلفية مستمرة في الإيقاع، بينما تدخل راقصتان إلى الأمام بخطوات قصيرة؛ بحيث لا تكاد ترتفع الأقدام عن الأرض، وتسيران في شكل دائرة وتلفان مرتين أو ثلاثا لتخرجا وتدخل راقصتان أخريان وهكذا. (4)
رقصة الرومبا السوداني، وفيها ترفع المرأة جسمها بخفة مع الضرب بالقدمين بالتبادل حوالي خمس ضربات، ثم فترة سكون قصيرة ثم خمس ضربات مع رفع الجسم ثم سكون ... إلخ. مع ملاحظة أن الأذرع تتحرك طول الوقت إلى الأمام وإلى الخلف.
رقصة الأطفال البنات ضمن ألعاب التسلية
تتشابك أيدي بنتين وتدوران تقفزان قفزا خفيفا وتغنيان:
شعري طويل يا ماما
وقع في البير يا ماما
رحت أجيبه يا ماما
لقيت البيه يا ماما
إداني جنيه يا ماما
جبتيله بطة يا ماما
الفصل الثالث
سياحة بالصورة في النوبة القديمة
باب إلى النوبة التي كانت، مع نظرة طويلة من أجل العودة. ***
من أعماق التاريخ في النوبة: في مغارات جبل كورسكو نقوش صورها إنسان العصور الحجرية، ربما تعود إلى ما قبل ثمانية آلاف سنة مضت، الصورة العليا رسم لنوع من البقر الوحشي، وحيوانات أخرى انقرضت بعد التغير المناخي إلى ظروف الجفاف منذ نحو خمسة آلاف سنة، الصورة السفلى من مغارة على السفح الشرقي للجبل المطل على خور عويس، وهي لقارب مصري الطابع، ربما رسمه سكان المنطقة بعد اتصالهم مع مصر الذي استمر دون انقطاع للآن.
بوابة كلابشة: يسير النيل لمسافة نحو خمسة كيلومترات في مجرى شديد التعرج بين الصخور الجرانيتية العالية الجرداء، وينتاب المجرى الضيق بعض الانفراجات كالتي تظهر في الصورة. وفي الجزء الجنوبي من البوابة كتلة صخرية غاطسة، يسميها البحارة حجر السلامة، يقرءون قبلها الفاتحة وآيات أخرى تيمنا بسلامة العبور.
على عكس تباعد الجبال على الجانب الغربي، نجد جبال شاترمة والسنجاري تمتد بلا انقطاع على النهر مباشرة، ولا تترك سهلا كالذي نراه في مقدمة الصورة السفلى يستغله أهل المالكي في الزراعة ورعي الحيوانات صيفا (سبتمبر 1962م).
بانوراما لكورسكو غرب (يناير 1963م): النهر عريض تنعكس على صفحته الساكنة ألوان البيئة الطبيعية والبشرية نتيجة ارتفاع مياه خزان أسوان، والنجوع أصبحت قريبة من النهر، مع كثير من الأشجار التي لا يظهر منها إلا رءوسها. الرمال الحمراء تغطي مساحة كبيرة صاعدة إلى كتل الجبال البعيدة مكونة حافة المعمور وقفر الفلاة.
منظر عام لعمدية المالكي (سبتمبر 1962م)، يوضح أنواع الأراضي في النوبة القديمة: شريط طويل من الزراعة الشاطئية تقع وراءه منطقة غير مستغلة، تنمو فيها أشجار السنط والأعشاب الطبيعية، ثم نجوع المالكي ومنازلهم على مرتفع واضح تمتد خلفه مسطحات من الرمال، ثم حافة الهضبة قطعتها سيول الأزمنة القديمة إلى كتل جبلية متفاوتة الارتفاع حسب صلابة الصخور.
جبل كورسكو بشكله المخروطي أحد معالم الطريق الملاحي؛ ففي نواحيه يقلب النهر مساره في قوس كبير. نجوع كورسكو شرق تقبع تحت سفح الجبل، وعلى القمة طابية صغيرة، أقامها الجيش في ثمانينيات القرن 19 لرصد حركة دراويش المهدية.
ثنية النيل عند كورسكو، ومصب وادي كورسكو (يناير 63) بحيرة خزان أسوان على أعلى مناسيبها، فتوغلت المياه في الجزء الأدنى من مصب الوادي الذي يسمى محليا فم خور العطمور، الصورة من قمة جبل كورسكو ناظرا في اتجاه الغرب، وإلى أسفل نجوع كورسكو شرق، وتبين رءوس الأشجار الغارقة اتساع الأرض التي يغطيها مياه الخزان.
السبوع غرب: بعد أن غادرت باخرة البوستة المحطة النهرية أخذ الناس يتفرقون. السيدات في ملابسهن السود يبتعدن في طريقهن للنجع غالبا لأداء واجب العزاء. بعض الرجال أمام أمتعتهم، ثم مجموعة التفت لتحية القادم وتقديم العزاء، ومركب شراعي جلب مجموعة معزين من قرية قريبة، لاحظ الكثيب الرملي غطى الحافة الصخرية ونزل حتى ضفة النهر (يناير 63).
صخور إبريم العالية التي تقع في سفحها معابد فرعونية صغيرة منحوتة، وقلعة أغا إبريم، ولإبريم شهرة تاريخية في العصور الفرعونية والمسيحية والعثمانية، وباسمها نوع من التمور الجيدة. على الضفة الغربية خليج صغير رسونا فيه بقاربنا الصغير «لندا» أثناء الرحلة جنوبا إلى توشكى، وجنوب الشجرة الوارفة بنحو كيلومتر. كانت عنيبة مركز النوبة قبل الهجرة.
سكان النوبة
يتكون سكان النوبة من مجتمعات متعددة مختلفة اللغة، لابس تاريخها اختلاط بمجموعات وسلالات بشرية مختلفة على مر آلاف السنين، ونجم عن ذلك أنماط متعددة من الناس لكل بعض مواصفات مختلفة. والجماعات التي كان لها الدور الفعال في التشكيل السلالي لسكان النوبة هم من السلالة الشرقية؛ أي الحاميون الشرقيين، الذين نعتبرهم أساس السكان، تداخل فيهم مجموعات زنجية من الجنوب في صورة ضغوط قاومها فراعنة مصر زمنا طويلا، لكنهم تداخلوا بعد ذلك في صورة الرقيق الذين كان يقتنيهم أغنياء النوبة وحكامها في عصور مختلفة، وقد أثروا سلاليا على مستوى الأفراد نتيجة التزاوج المستمر في مناطق النوبة المختلفة، والمجموعة الأخيرة التي ساهمت في تشكيل النوبيين هم قبائل عربية مشرقية ومغربية في القرون 10-14م، وأفراد من جنود الدولة العثمانية من الأناضول والبلقان ابتداء من القرن 17م، لهذا يختلف السكان على مستوى الأفراد في النجوع النوبية، وإن كانت بعض السمات العربية تظهر عند الكنوز وسمات البشناق - البوسنة - ظاهرة عند النوبيين، إضافة إلى استقرار عرب العليقات في وسط النوبة، وعدد آخر من عشائر قبيلة العبابدة التي تسكن الصحراء الجنوبية الشرقية المصرية، وقد أصبحت اختلافات اللغة هي العامل المميز بين الكنوز والنوبيين والعليقات.
صورة أخذت في القاهرة في أول الخمسينيات لشخصين من الكنوز «عيسى ومرسي» يتوسطهما شخص من النوبيين سكان أبو حنضل أو الديوان «جمال»، ويظهر الاختلاف واضحا في قسمات الوجه وتكوين الرأس، وربما كانت هناك مؤثرات البشناق «كشاف» عند جمال، وتظهر مثل هذه المؤثرات عند بعض النوبيين.
يحتل عرب العليقات أوطانا بين الكنوز والنوبيين واستقروا هناك منذ بضع قرون، الصورة تمثل الأستاذ محمد هلالي (إلى اليمين) ناظر مدرسة السنجاري، وعوض أفندي الموظف السابق في السودان، في بيت الأخير في نجع الحمداب بعمدية المالكي.
الشيخ مختار هاشم من تجار نجع أباشاب عمدية توشكى يظهر على ملامحه الكثير من تأثير البشناق «الكشاف» من حيث حجم الجسم والرأس والتركيب العظمي العريض للجسم، ولون البشرة الأفتح قليلا عن غيره من النوبيين.
حسن عبد البخيت من عبابدة سيالة، لكنه نموذج جيد لسلالة بقايا الرقيق أتباع العبابدة في وقت مضى، حسن كان يعمل في شبابه في صياغة المشغولات الذهبية والفضية.
عمدة العبابدة في سيالة شاذلي حسين منشتح، عائلة منشتح كان مقرها الرئيسي في ضواحي الأقصر، ومن ثم كانت هناك زيجات مع أهل الصعيد، وتظهر المؤثرات عند السيد شاذلي بجلاء بحيث لا يكاد يفترق عن أبناء الصعيد.
سيدة من العليقات ذات الأصول العربية في كورسكو وإلى جوارها سيدة كبيرة السن من أصول مختلطة ببقايا الرقيق، الملاحظ الفرق الكبير في لون البشرة وتقاطيع الوجه، وإن كانت الاثنتان تنتميان إلى نفس المجموعة الثقافية.
سيدات نوبيات من توشكى غرب، لاحظ الثوب الأسود وأشكال من المصاغ الذهبي على الرأس والصدر.
تصفيف الشعر وصبغه بالحناء، كورسكو.
أنماط السكن النوبية
في شمال ووسط النوبة تقترب حافات الهضبة المقطعة بواسطة الأودية إلى ما يشبه السلاسل الجبلية من حافة النهر تاركة جيوبا صغيرة من السهول التي يمكن زراعتها، لذلك يبني الكنوز والعليقات بيوتهم على المنحدرات الجبلية؛ توفيرا للأرض التي يمكن أن تزرع، أما في إقليم النوبيين في الجنوب فإن الحافة الصخرية تتراجع تاركة سهولا جيدة، ولهذا فإن قرى النوبيين غالبا تبنى على مسطحات سهلية.
وتوضح الصورة أحد النجوع في أقصى شمال النوبة وقد بنى السكان بيوتهم على المنحدرات في البر والجزيرة الصخرية المجاورة، وحين ينخفض منسوب الخزان تظهر بعض الأراضي التي يمكن زراعتها - الصورة في يناير 1962م.
نجع البوستة في عمدية قرشة حيث تؤدي الوعورة إلى بناء البيوت على مستويات متعددة حسب تواجد مساحات مسطحة تصلح لبناء البيت.
مساكن أحد نجوع عمدية مرواو توضح البيئة الصخرية الجرداء الوعرة التي عاش عليها السكان وبنوا فوقها بيوتهم، وهذه البيوت تندمج مع المظهر الطبيعي بصورة خلقها الحس والذوق المعماري التلقائي يحسدهم عليه مهندسو المعمار المعاصرون، وأضاف البناء النوبي من روائعه تلك المشربيات الجصية البسيطة الشكل في أعلى واجهة البيت ودهن الجدران بالجير الأبيض؛ لكي يبرز للرائي أن ها هنا إنسان!
بيوت نجع أباشاب بعمدية توشكى مبنية على أرض سهلية رملية، والبيوت كما نرى منتظمة المعمار متصلة ببعضها، وقد سمح هذا الانبساط الأرضي بامتداد البيوت في صفوف متوازية تفصلها شوارع عريضة، مما يعطي انطباعا بالسكن المركز غير المبعثر عكس ما كنا نراه في النوبة الشمالية.
صف من البيوت صغيرة الحجم في نجع قناوي بعمدية أمبركاب، وفوق كل باب ثلاثة صحون بيضاء ربما كانت وظيفتها منع الحسد، والبيوت غير مطلية الجدران وغير مزينة بأية رسوم أو أشكال.
بوابة ضخمة في نجع قناوي توضح فن الرسم التلقائي لدى الفن النوبي، والفنان غالبا سيدات موهوبات.
بوابة وسور منزل عوض أفندي في نجع الحمداب بعمدية المالكي، توضح صلادة المبنى ووقعه على المشاهد كأنه حصن متين، وبطبيعة الحال ليس كل شخص بقادر على مثل هذا البناء المكلف، لكن وجوده يعبر عن أحاسيس وفروق فردية.
مضايف النوبة
تختلف مضايف النوبة في الحجم والتأثيث وخامة البناء والشكل المعماري، لكنها تتفق في وظيفتها في استضافة الرجال سواء كانوا من خارج النجع أو النوبة، وتتكون غالبية المضايف من قسمين: الأول غرفة، والثاني متسع سماوي - تراس - محدد بسور خفيض أمام الغرفة، ويجلس الناس في هذا القسم أو ذاك حسب المواسم، فالغرفة لأيام القيظ في النهار وليالي الشتاء الباردة، والتراس السماوي لأيام الشتاء المشمسة وليالي الصيف، والمضيفة هي بحق نادي الرجال، لكنها أيضا مدرسة التنشئة الأولى للصغار؛ يسمعون أخبار الأجداد وتجاربهم الحياتية في المهجر وتصرفهم إزاء مواقف معينة.
مضيفة الشيخ عثمان يونس في نجع العلياب في قرشة، السقف الأسطواني وإلى اليسار مزيرة تحت سقف قبابي.
مضيفة عمدة العبابدة في سيالة شاذلي حسين منشتح. لوجود المضيفة على مرتفع فإن الدرج قد زاد في مهابتها، وتتكون المضيفة من القسمين السابق ذكرهما، ويضاف إليهما قسم ثالث بين الغرفة والتراس السماوي، عبارة عن سقيفة قائمة على أعمدة مما يساعد على الجلوس فيها مستمتعا بالظل ونسمات الهواء معا. إلى الخلف بيت العمدة وهو من أكبر البيوت التي شاهدناها في النوبة - ربما أكثر من نصف فدان لكن معظم المساحة حوش سماوي ضخم حسب الخطة المعتادة - وإلى اليمين بناء خاص بالمزيرة، وفي يسار مقدم الصورة تحويطة بسور منخفض، تستخدم مناخا للجمال حين كانت الإبل مهمة للعبابدة حتى أوائل القرن الحالي.
نجع الحمداب بعمدية المالكي: مضيفة بيت عوض أفندي مبنية على حافة عالية يقول إنها أعلى من منسوب 180 مترا؛ أي ستظل عالية فوق مياه بحيرة ناصر إذا قاوم البناء ضغوط المياه. لاحظ السقيفة المحمولة على أعمدة بسيطة، لكنها تعطي انسجاما معماريا فائق الجمال، أما المنزل فيقع خلف المضيفة، وكذلك المحل التجاري الذي يملكه عوض أفندي بعد أن تقاعد من عمله الطويل في حكومة السودان.
في داخل البيوت
في حوش أحد البيوت في شمال النوبة د. كوثر مع النساء في حديث عن الحياة والمجتمع. المصاطب شيء أساسي ويحل محل الكراسي النادرة الوجود. الرسم بألوان عديدة قوية على خلفية الجدران طميية اللون.
تفصيل لموضوعات الرسوم الجدارية من الصورة السابقة.
المقابر
تنتشر المقابر على مسطحات كبيرة في الأراضي غير القابلة للسكن أو الزراعة، والقبر هو غالبا لحد لا يزيد عمقه عن نحو المتر، وطوله وعرضه على قدر الجسد، ثم تغطى بحجارة مسطحة. عند بعض الكنوز تبنى مصطبة حجرية غالبا من درجتين فوق القبر مع شاهدين حجريين - الحجارة متوفرة ببلاد الكنوز - وعند النوبيين يهال الرمل والثرى فوق اللحد؛ بحيث يكون ظاهرا فوق سطح الأرض، ثم يوضع شاهدان من الحجر عند رأس ونهاية اللحد، كما توضع زبدية - إناء فخاري - يشطف جزء من حافتها - كما لو كانت قد انتهت حياتها العملية مع وفاة الشخص - ويسكب فيها قليل من الماء. والقليل يقيمون بناية فوق اللحد على نحو مقابر القاهرة له شاهد مرتفع عند الرأس. وتوضح الصورة جبانة في توشكى غرب، وفي أعلى يسار الصورة ضريح أبيض عال عن بقية القبور، وبالمناسبة فإن توشكى غرب كانت ميدانا للمعركة التي هزم فيها الجيش المصري جيش دراويش المهدية، بقيادة «ود النجومي» أحد أبطالهم عام 1889م، وكان هناك نصب تذكاري للمعركة.
النشاط الاقتصادي
تحتل الزراعة المرتبة الأولى في الأنشطة التي يمارسها سكان بلاد النوبة، وبالرغم من التغيير الجذري الذي أحدثه إنشاء سد أسوان في أوائل القرن، إلا أن الزراعة بقيت تقليدا متبعا ورمزا للحياة.
صورة أخذت من مضيفة عوض أفندي في عمدية المالكي في سبتمبر 1962م، توضح السهل الفيضي المزروع أسفل الحافات الصخرية التي بنيت عليها بيوت النجوع، ويبدو النيل في أعلى يمين الصورة يليه الحافة الشرقية للمنطقة.
صورة أخذت من نفس مكان الصورة السابقة، ولكن في يناير 1963، حيث طغت مياه بحيرة الخزان على كل الأرض السهلية، ووصلت حتى الحافة الصخرية، فأغرقت الكثير من الأشجار عدا رءوسها.
الحقول الواسعة التي ميزت مناطق جنوب النوبة تمثله هذه الصورة في منطقة توشكى غرب (سبتمبر 1962م)، من لا يعرف أين هذا المكان يظن أنه في الصعيد الأعلى: الترعة والطريق الترابي والغنى النباتي والامتداد المنبسط وحافة الهضبة في الأفق.
خور مليء بماء النهر في الدر، عمل الناس جسورا حجرية وزرعوا ما وراءها بعناية؛ حيث إنها مساحات صغيرة، والواقع أن سهل الدر-الديوان خصب وغني؛ ومن ثم اختاره الكشاف قاعدة لحكمهم قرونا طويلة. الصورة السفلى لإحدى مزارع الشتاء في كورسكو أمام مصب وادي كورسكو، الصورتان في الشتاء حين تكون مياه الخزان عالية، مما يسهل زراعة هذه الأرصفة الصغيرة وريها بالشادوف في حالة هبوط منسوب النهر.
قوارب الصيادين من أبناء الصعيد في مياه كورسكو في الشتاء، بعض الصيادين يصطحبون زوجاتهم للمساعدة في السماكة: إعداد الشباك وخيوط الصيد وإعداد السمك المصطاد في الأوعية وتمليحه ... إلخ؛ ذلك لأنهم قد يمكثون شهورا بطولها في النوبة. الصورة السفلى لمركب الشراع التي هي المركب الأم بالنسبة لمجموعة من قوارب السماكة، وهي التي تمونهم بالملح وتجمع صفائح الملوحة، وفوق هذا تعطيهم مؤنا غذائية ومالية.
ماعز وخراف ترعى في سهل سيالة الفيضي في سبتمبر 1962م.
قطع من إبل البادية من عبابدة العشاباب ترعى في جيب سهلي صغير أسفل الحافة الجبلية العالية في أبو هور خلال الصيف وذلك بموافقة السكان، والغالب أن نفس المجموعة تعود كل صيف إلى المنطقة ذاتها نظير بعض الخدمات للأهالي.
يقوم الصعايدة بعمل الفحم النباتي - فضلا عن احتكارهم السماكة ومساعدتهم في زراعة النقر - وتوضح الصورة الفحم بعد أن اكتمل صنعه من أخشاب من السنطيات، يلاحظ أن الطرف النحيف في مهب الريح والطرف السميك في المنصرف؛ لكي تتقد جذوة النار ببطء تحت غطاء من التراب، (مصمص سبتمبر 1962م).
الفحم معبأ في أجولة معد للشحن في مرسى كورسكو شرق (يناير 1963م).
النقل وخدمات التجارة الصغيرة
أيسر طرق الانتقال في النوبة هو بواسطة النهر الذي هو بحق الطريق الرئيسي الذي يلم شمل البلاد جميعا، ولهذا قلما تخلو عمدية من وجود قارب أو أكثر يتفاوت حجمه بين الصغير الذي لا يتسع لأكثر من خمسة أفراد إلى الفلوكة الكبيرة التي تسع عشرات الناس، ويتفق جميع أشكال القوارب في وجود الشراع للاستفادة من طاقة الريح في الرحلة جنوبا ضد التيار القوي أثناء الفيضان، أو لسرعة الانتقال فوق سطح بحيرة الخزان شتاء ، وذلك عدا قوارب المجداف التي تتحرك مسافات صغيرة عبر النهر.
الصورة العليا لقارب مجداف ينقل الناس بين كورسكو شرق وغرب، والصورة السفلى فلوكة كبيرة لنقل الأشخاص والمؤن من مكان لآخر. «البوستة» الباخرة الأسبوعية التي تمر على كل بلاد النوبة من محطة الشلال جنوب سد أسوان إلى حلفا، وبالعكس، ويربط بالباخرة صندلان من يمين ويسار لنقل البضائع والحيوانات وركاب الدرجة الثالثة، وقد كانت في الواقع هي روح النوبة، وعند رسو البوستة في أي مرسى.
الأفراح والمناسبات الجماعية
الزواج هو واحد من أكثر المناسبات مرحا وسرورا، ليس فقط لعائلتي العرسان، ولكن لكل النجع والمعارف من نجوع وعمديات أخرى، تستمر ليالي الأفراح أسبوعا: مغنى وطرب وذبائح وطعام وفير، وطقوس مختلفة: كالخطبة والحنة والعقد والدخلة، وما بعدها من طقوس أخرى. وغالب الزيجات تقع في الصيف؛ حيث جو الحياة أكثر حيوية من رتابة الشتاء، وحيث يمكن للعريس وبعض الرجال الغائبين أن يحصلوا على إجازة السنة، ولهذا تدوي جنبات النوبة بإيقاع الطبول خلال الصيف.
يتشابه سكان النوبة في كثير من إجراءات الزواج وأفراحها، والصورة تبين العريس بين يدي حلاق القرية بصحبة عدد من أصدقائه، وتتم الحلاقة والتزيين في ميدان عام في النجع، وتأخذ وقتا طويلا - نحو ساعتين - وذلك لأن هذه هي المناسبة التي يقدم فيها الناس «نقوط» الفرح، وتسجل قيمة النقوط وصاحبها في دفتر خاص يحتفظ به لرد نقوط مشابه عند أفراح الآخرين. (كورسكو فبراير 1963م)
الزينة والحلي الكثيرة للرأس والأنف والأذن والرقبة تظهر في حفلات الزواج في النوبة، الصورة في كورسكو.
بعض حلي النساء (كورسكو) (الصورة على اليسار): من أعلى إلى أسفل (ولمزيد من وظيفة كل منها انظر الصورة السابقة) «رصة» أو «شيالة» توضع على الرأس؛ جزء من الشيالة يشبك عند المفرق؛ «سعفة»: عقد يربط في أعلى الرقبة؛ «شف»: (جنيهات ذهبية أو ما يشبه ذلك)؛ «نقار»: عقد مع أقراص ذهبية؛ خواتم.
حلي النساء (كورسكو) (الصورة على اليمين) من أعلى إلى أسفل: «بيبق»: عقد من الخرز والذهب [نظام قديم]؛ «حسناني» (ربما حناني): عقد من خيوط وأقماع فضية وسلاسل وخرز ... إلخ.
رقصة جماعية للنساء في حفل زواج في توشكى غرب، وقد وقف المغني يحمس الراقصات إلى أن ينتهي عازفو الدفوف من تسخين وشد الدفوف.
ختام حفل الزواج: حين يدخل العريس لأول مرة غرفة العرس يكون حاملا الكرباج وسكينا أو سيفا كرموز لحمل الزوجة على الطاعة، وفي قول آخر لإبعاد الأرواح الشريرة والشياطين، مع قراءة من آي الذكر الحكيم تيمنا بزواج سعيد.
مولد الشيخ عبد الله أبو يوسف في العلاقي: الضريح كبير نسبيا، وإلى جواره مضيفة مظللة، وناس كثيرون من الجنسين يردون المولد من أماكن وعمديات بعيدة، مولد الشيخ يبدأ في منتصف شهر شعبان وينتهي في آخره، الموالد وسيلة من الترابط والتعارف والتساند خاصة بين الكنوز.
في مولد «أم رايد» في سيالة التي يقولون عنها إنها جدة الكنوز، لاحظ كثرة الدفوف، وانفصال النساء خلف الرجال.
الفصل الرابع
المصادر والمراجع
أولا: المصادر العربية
أحمد لطفي السيد «قبائل العرب في مصر - العليقات والجعافرة وقبائل أخرى» جمعية عربان العليقات - القاهرة، 1935م.
الشاطر بصيلي «معالم تاريخ سودان وادي النيل» القاهرة، 1955م. «تاريخ وحضارة السودان الشرقي والأوسط»، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1972م. «جون لويس بوركهارت» رحلات بوركهارت في بلاد النوبة والسودان (عام 1819م)، ترجمة فؤاد أندراوس، الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، القاهرة (بدون تاريخ، المقدمة 959).
عبد المجيد عابدين «تاريخ الثقافة العربية في السودان»، الخانجي، القاهرة 1953م.
علي مبارك «الخطط التوفيقية لمصر القاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة»، الطبعة الثانية عن طبعة بولاق 1305 هجرية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1994م.
فاروق كامل عز الدين «دور النقل النهري في تنمية إقليم بحيرة السد العالي»، دراسات جغرافية، كلية الآداب، جامعة المنيا، عدد 12، سنة 1989م.
ماهر حسن محمد «خواطر نوبية»، مؤسسة دهب للطباعة، القاهرة 1995م.
محمد صفي الدين أبو العز «بنية مصر وتضاريسها» المضمن في كتاب «دراسات في جغرافية مصر» سلسلة الألف كتاب، العدد 139، القاهرة (بدون تاريخ).
محمد عوض محمد «نهر النيل»، لجنة التأليف والترجمة والنشر، الطبعة الرابعة، القاهرة 1956م. «السودان الشمالي: سكانه وقبائله»، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1951م.
مصلحة الإحصاء والتعداد: التعداد العام للسكان 1960م، ملحق «توابع محافظة أسوان».
وزارة الشئون الاجتماعية: «تهجير أهالي النوبة، أكتوبر 1963م/يونيو 1964م» إدارة المعلومات. «الموطن الجديد»، إدارة المعلومات (بدون تاريخ).
نبيل سيد إمبابي «مشكلات استغلال المياه الجوفية في الصحراء الغربية في مصر مع الإشارة بوجه خاص للواحات الخارجة والداخلة»، مجلة معهد الدراسات العربية، القاهرة 1977م.
ثانيا: مصادر باللغات الأجنبية
Breasted, J. H., Geschichte Ägyptens, German translation H. Ranke,
.
Gleichen, Count: The Anglo Egyptian Sudan, London 1905 .
Murray, G. N.,: Sons of Ishmael, Routledge, London 1935 .
Fairservice, W.,: The Ancient Kingdoms of the Nile, Mentor, New York 1962 .
Frankfort, H.,: Kingship And The Gods, University of Chicago Press, 1948 .
Fernea, R.,: Egyptian Nubians, S. R. C. of the American University, Cairo, & University of Texas, Austin 1973 .
Herzog, Rolf,: Die Nubier, Akademie Verlag, Berlin 1957 .
Hohenwart-Gerlachstein, A.,: Nubien Forschungen, Acta Ethnologica et Linguistica, Nr. 45, Wien 1979 .
Millet, N. B.,: Notes on the Linguistic Background of Modern Nubian, in Contemporary Egyptian Nubia, ed. Robert Fernea, New Haven Human Relations Area Files Inc. 1964 .
Rüppell, Eduard,: Reisen in Nubien, Kordofan und dem peträischen Arabien, Frankfurt 1829 .
Trigger, B.,: Meroitic and Eastern Sudanic: A Linguistic Relationship?, Kush Nr, 12, Khartoum 1964 .
ثالثا: منشورات المؤلفين عن النوبة
محمد رياض وكوثر عبد الرسول: سيالة، مساهمة في دراسة إيكولوجية النوبة المصرية، حوليات كلية الآداب، جامعة عين شمس، العدد السابع 1962م.
محمد رياض وكوثر عبد الرسول: كورسكو: دراسات في النوبة المصرية، حوليات كلية الآداب، جامعة عين شمس، العدد التاسع 1964م.
Abdel-Rasoul, K. & M. Riad,: Space Relations and Tribal Formation in Korosko (Egyptian Nubia) Wiener Völkerkundeliche Mitteilungen, Band 9-10, Wien (Vienna) 1967/68 . ---, K. & M. Riad,: Economic Activities of the Sa’iidies in Egyptian Nubia, Annals of the Faculty of Arts, Ain Shams University, vol. XI Cairo 1968 .
Riad, M.,: An Introduction to Nubia, Africa Quarterly, vol. 3 Nr. 1 (April-June) New Delhi, 1963 . ---,: The Ababda of Sayala-Egyptian Nubia, Annals of the Faculty of Arts, Ain Shams University, vol. VIII, Cairo 1963 . ---,: Patterns of Ababda Economy in Egyptian Nubia, Annals of the Faculty of Arts, Ain Shams University, vol. XI Cairo 1968 . ---,: Influence of space relations on the Tribal Groupings of Korosko, Egyptian Nubia, Annals of the Faculty of Arts, Ain Shams University, vol. XII, Cairo 1969 .
مراجع عامة
Almkvist, H., Nubische Studien im Sudan. Zettersteen, Uppsala 1911 .
Awad, M., some Aspects of the diffusion of Arab influences in the Sudan. Bul. Societe de Geographie d’Egypte, Tom. XXV, Cairo 1953 .
Batrawi, A., The racial History of Egypt and Nubia. J. Royal Anthropological Institute, Vol. LXXVI, London 1946 .
Baumann, H., Die Rassen Afrikas. Historia Mundi, herausgegeben von Valjavec, Band 1, Bern 1952 .
Belzoni, G., Reisen in Ägypten und Nubien. Ethnographisches Archiv, herausgegeben von Braun, 13 Band, 2 heft, Jena 1821 .
Bosayly, Ch., Greek Influence in the Valley of the Blue Nile. Sudan Historical Studies, No. 1, Wad Medani 1945 .
Breasted. J. H., A History of Egypt. New York, 2nd ed. 1909 .
Edwards, Amelia B., A Thousand Miles up the Nile. London 1877 .
Emery, W. B., Nubian Treasure. London 1948 . ---, A Master Work of Egyptian Military Architecture of 3900 years ago. Illustrated London News, September 12 1959 . ---, A Preliminary Report on the Excavations of the Egyptian Exploration Society at Buhen, 1957-58. Kush VII, Khartoum 1959 .
Griffith, F. L., Meroitic Inscriptions. Archaeological Survey of Egypt, No. 20, London 1912 . ---, The Nubian Texts of the Christian Period. Abhandlungen der
1913 . ---, Excavation At Kawa. Sudan Notes and Records (S. N. & R)., vol. XIV, Khartoum 1931 . ---, Nubian Languge and writing, Encyclopedia Britannica, vol. 16, 1945 .
Hillelson, S., Nubian Origins. S. N. & R. vol. XIII, Khartoum 1930 .
Junker, H., The First Appearance of the Negroes in History. J. Egyptian Archaeology vol. VII 1921 .
Kamil, Murad, Arabischer Einfluss auf die nubische Sprache, Zeitschrift der Deutschen Morgenländ-ischen Gesellschaft, Band 91, Leipzig 1937 .
Kirwan, L. P., Notes on the Topography of the Christian Nubian Kingdoms. J. Egyptian Archaeology, vol. XXI, 1935 . ---, A Survey of Nubian Origins. S. N. & R. XX, Khartoum 1937 . ---, The Ballana Civilization. B. Societe de Geographie d’Egypte, tom. 25 Cairo 1953 .
Lepsius, R., Briefe aus Nubien. Bericht Über die Verhandlungen der
1844 . ---, Briefe aus Ägypten, Äthiopien ... Berlin 1852 . ---, Nubische Grammatik mit einer Einleitung über die Vlker und Sprachen Afrikas. Berlin 1880 .
Murray, G. W., An English-Nubian Comparative Dictionary. Harvard African Studies, vol. IV 1923 .
1831 .
1844 .
Rafalowitsch, Ethnographische Bemerkungen über die Bewohner des niederen Nubiens. Archiv für wissenschaftliche Kunde von Russland, herausgegeben von Erman, Band XIII Berlin 1853 .
Reinisch, Leo, Die Nuba-Sprache. Wien 1879 . ---, Die sprachliche Stellung des Nuba. Schriften der Sprachenkommission der Akademie der Wissenschaften zu wien, Band 3, Wien 1911 .
Reisner, G. A., Outline of the ancient history of the Sudan. S. N. & R. I, Khartoum 1918 . ---, Excavations at Semna. S. N. & R. XII, Khartoum 1929 .
Samuel Ali Hussein, Klagen eines Nubiers über das Geschick seines Heimatlandes, Sudan Pionier 1909 .
Schaefer, H., Nubische Texte im Dialekt der Kenuzi. Abhandlungen der
1917 .
Seligman. C. G., Some aspects of the Hamitic problem in the Anglo-Egyptian Sudan. J. of the Royal Anthropological Institute, vol. 43, London 1913 . ---, Egyptian Ingluence in Negro Africa. Studies presented to Griffith, London 1932 .
Shinnie, P. L., Medieval Nubia. Sudan Antiquity Service, Museum
.
Tothill, J. D., Agriculture in the Sudan. Oxford University Press 1952 .
Westermann, D., Ein bisher unbekannter nubischer Dialekt aus Dar Fur. Zeitschrift für Kolonialsprachen, Band 3, Hamburg 1913 . ---, Beziehungen zwischen Völkerkunde und Sprachforschung. Beitraege zur Kolonialforschung, Tagungsband I, Berlin 1943 . ---, Sprachbeziehungen und Sprachverwandtschaften in Afrika. Sitzungsberichte der Deutschen Akademie der Wissenschaften zu Berlin, Jahrgang 1948, Berlin 1950 . ---, Geschichte Afrikas. Köln 1952 .
Winkler, H. A., Völker und Völkerbewegungen im vorgeschichtlichen Oberägypten im Licht Neuer Felsbildfunde. Stuttgart 1937 .
Zylarz, Ernst, Zur Stellung des Darfur-Nubischen. Wiener Zeitschrift für die Kunde des Morgenlandes, Band 35, Wien 1928 . ---, Grundzüge der nubischen Grammatik im christlichen Frühmittelalter. Abhandlungen für die Kunde des Morgenlandes, Band XVIII, Leipzig 1928 . ---, Das meroitische Sprachproblem. Anthropos, Band 25, 1930 . ---, Die Sprachreste der unteräthiopischen Nachbarn Altägyptens, Zeitschrift für Eingeborenensprachen, Band 25, Berlin 1930 . ---, Die Lautverschiebungen des Nubischen. Zeitschrift fuer Eingeborenensprachen, Band 35, Berlin 1949-1950 .
صفحة غير معروفة