8
ذلك لأن بذور هذه الثنائية كانت قائمة في أعماق وجوده متغلغلة في تفكيره طوال حياته على نحو متوازن بين العقل والوجدان، وهو يرجو أن يحدث هذا التوازن في ثقافتنا العربية، ونحن عندما نقول إنه يجسد في شخصه هذه الثنائية المتوازنة والمرجوة لمجتمعنا، فإننا نقصد المعنى الحرفي لهذه العبارة، فهو عندما أراد مثلا، أن يكتب سيرته الذاتية لم يجد أمامه مفرا من تصويرها في قالب «ثنائي واضح»، فيكتب كتابين منفصلين: «قصة نفس» يحكي أعماق الجانب الذاتي الباطني غير المرئي، ثم «قصة عقل» الذي يروي تطوره العقلي في فترة تزيد على ستين عاما! وإنك لتلمس هنا وهناك، داخل كل كتاب من هذين الكتابين ضربا واضحا من الثنائية لا سيما ثنائية «العقل والوجدان» «ثنائية العالم والفنان» ... وهو عندما يريد، مثلا آخر، أن يصور نفسه من الداخل، في «قصة نفس» يختار لها شخصيتين رئيسيتين تمثلان هذه الثنائية بوضوح كامل: شخصية الأحدب «رياض عطا»، صاحب الوجدان الملتهب، وشخصية «إبراهيم الخولي»، صاحب العقل الواضح والأسلوب العلمي.
9
ويدور حول أحيانا - ينقلب إلى صراع أحيانا أخرى - بين هاتين الشخصيتين بحثا عن الكيفية التي يمكن بواسطتها التوفيق بين «العقل والوجدان»، بحيث يكون هناك انسجام أو توازن بين هذين الجانبين، فلا يطغى جانب على جانب، يقول الثاني للأول توضيحا لموقفه: «لست أقل منك حرصا على مشاعر الإنسان وآماله ومثله العليا، هذه المشاعر والآمال والمثل التي زعمت لي في خطابك الأخير، أنني سائر بمذهبي نحو هدمها ، كل ما هنالك من أمر في هذا الصدد، هو أنني أفرق بين لغة العقل ولغة الشعور، فمن لا يريد أن يتحدث عما يقع في حسه مما يتاح للآخرين أن يراجعوه فيه بحواسهم؛ فهو لا يريد أن يتحدث بلغة العقل، وليس في ذلك رفع ولا خفض للغة المشاعر، بل الأمر أمر تفرقة بين نوعين مختلفين من الكلام، فإذا كان المجال مجال علم فلا يجوز للشعور أن يتسلل إلى سياق الحديث بألفاظه الدالة على وجدان، أما إذا كان مجال أدب وفن فليختر ما يشاء من لفظ ليثير في سامعه المشاعر التي يقصد إلى إثارتها فيه ... فلنعط ما للعقل للعقل وما للشعور للشعور ...»
10
ولعلك تلمح في هذه الوقفة الفلسفية الأثر الواضح الذي تركته الوضعية المنطقية في طريقة تفكيره: فهناك شروط ينبغي مراعاتها في أية جملة يريد لها صاحبها أن تكون ذات معنى مفهوم عن الطبيعة الخارجية، أو أي جزء محدد من تلك الطبيعة؛ ذلك مجال واحد من مجالات الكلام ألا وهو المجال العلمي، أما ما عداه من ميادين القول؛ كالشعر وغيره من ضروب التعبير الفني، فلها شروط أخرى خاصة بها يعرفها المشتغلون بتلك الميادين.
11
ومن ثم فلا يجوز أن يكون هناك خلط بين فلسفة ودين، وبين عقل وإيمان، بين منطق وفن ... إلخ، وهذا هو الموقف الذي أراده لأبناء أمته أن يستخلصوه من تراثهم، شكلا لا مضمونا، وهو ألا يجعلوا بين العقل والإيمان تعارضا، بل أن يجعلوا بينهما تعاونا للوصول إلى هدف واحد، فلكل من الأداتين قسطها من الفهم وتنظيم السلوك.
12
فيكون موقفنا كمن استكثر أن يترك العقل وحده حكما في الميدان فقالوا: نجعل للإيمان قسطا وللعقل قسطا ...
صفحة غير معروفة