لكن هل الصورة الكونية للعلاقة بين السماء والأرض هي التي نقلناها إلى المجتمع، فانعكست على تصورنا للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، كما يقول مفكرنا الكبير، أم أن العكس هو الصحيح، بمعنى أن الواقع الماثل أمامنا هو التصور الأقوى، والصورة الحية التي ننقلها إلى السماء، وليس العلاقة «المتخيلة» بين صاحب السلطان في علياء سمائه هي التي ننقلها إلى المتربع على كرسي الحكم من أفراد البشر، أيهما أقوى وأشد أثرا: دنيا الواقع التي نعيش فيها أم دنيا المثال التي نتخيلها؟
ومن هنا فلا يجوز أن نقول إن العلاقة بين الله والإنسان التي تصورها العربي في تراثه، هي الشكل المستتر للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، ذلك لأن العكس، في رأينا، هو الصحيح؛ فالإنسان يرتفع من الأرض إلى السماء فيتصور السماء على غرار ما هو على الأرض؛ ولهذا كان المصري القديم يصور السماء على هيئة نهر عظيم أشبه بنهر النيل، ولم يجد غضاضة في تصوير السفن التي تسير في السماء بين الكواكب، وكما كان اليوناني في ديانته القديمة يصور كبير الآلهة «زيوس» على غرار الرجل اليوناني الذي يستمتع بحياته ويجري وراء النساء، ويخون زوجته المخلصة الوفية، وأما زوجته «هيرا» فقد كانت راعية الزواج والأسرة تمثل المرأة اليونانية المتهورة المغلوبة على أمرها. (9)
فليس صورة السماء (أو العلاقة بين العبد وربه) هي التي انعكست في النظام السياسي، وإلا فماذا نقول في أمر الآيات القرآنية الكريمة، التي تذهب إلى أن هذه العلاقة تقوم على الحب:
يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم [المائدة: 54]، وفي الحديث القدسي: «لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به»، وغير ذلك كثير مما بنى عليه صوفية الإسلام مذهبهم في الحب الإلهي بنوعيه: حب الله للإنسان وحب الإنسان لله. (10)
أما الفلسفة الثنائية المقترحة فهي ليست مستقرة عند مفكرنا الكبير؛ فهو يعتقد أنها ثنائية لا تسوي بين الشطرين، بل تجعل للشطر الروحاني (الله، الخالق، الروح ... إلخ) الأولوية على الشطر المادي (الكون، المادة، الجسد ... إلخ)؛ فهو الذي أوجده، وهو الذي يسير ويحدد له الأهداف «وواضح أننا هنا أمام واحدية؛ إذ يمكن أن يرد الشطر المادي إلى الشطر الروحاني! ثم يقول أحيانا أخرى أنها نظرة تجمع بين الثنائية والكثرة، ثنائية بالنسبة إلى الله الخالق والكون المخلوق، وكثرة بالنسبة لأفراد الناس الداخلين في حدود هذا الكون المخلوق، ثم نراه يميل، بصراحة ووضوح، إلى الواحدية لا سيما في المقالات التي كتبها تحت عنوان «من إشعاعات التوحيد». (11)
الفلسفة الثنائية، بصفة عامة، تعتمد على عنصرين لا يمكن رد أحدهما إلى الآخر، وها هنا تكمن صعوبتها الرئيسية، التي تجلت في ثنائية ديكارت في العلاقة بين النفس والبدن، والغدة الصنوبرية الشهرية التي اتضح أنها خاطئة بعد ذلك. ولقد بذلت المدرسة الديكارتية بعد ذلك جهودا مضنية لحل المشكلة باءت كلها بالفشل، والصعوبات التي واجهت ثنائية القرن السابع عشر ، سوف تطل برأسها من جديد، مع أي ثنائية تتحدث عن «المادة والروح» أو النفس والبدن ...إلخ. (12)
في ظني أن هذه الفلسفة الثنائية المتقرحة ليست فلسفة تضرب بجذورها في تراثنا، بقدر ما هي مشكلة كان يعانيها زكي نجيب محمود نفسه طوال حياته: فهو يحمل في شخصه حس الفنان وصرامة العالم، وهو يجمع في أعماقه بين شفافية الوجدان، وجفاف العقل الخالص ... إلخ؛ ولهذا كانت المشكلة أساسا هي مشكلة، وزكي نجيب محمود الأديب الفنان صاحب المقال الأدبي الشهير، وعالم المنطق العقلاني الجاف، فكيف يدخل الاثنان في إرهاب واحد؟ (13)
صيغة «الأصالة والمعاصرة» أو «العقل والوجدان» وهي الصيغة المقترحة لحل مشكلاتنا تصطدم بعقبات كثيرة: فهل المعاصرة «هي العقل» والأصالة هي «الوجدان»؟ في هذه الحالة نكون قد حكمنا على التراث كله، بأن أشبه ما يكون بالعمل الفني الذي لا تستطيع أن نتعامل معه إلا بوجداناتنا؛ مع أننا كثيرا ما نعود إليه بوصفه يشتمل على نماذج كثيرة من ثنائية العقل والوجدان معا! (14)
كيف يستقيم القول بأن وقفة العربي من الأمور «وقفة عقلية»، وأن الشعب العربي يتميز بالنظرة العقلية، مع تأكيدنا في الجانب السلبي من المشروع أن هناك عاملا مكبلا لأرجلنا من السير «وهو ذلك الميل الشديد الذي نحسه في نفوسنا نحو أن تكون قوانين الطبيعة لعبة في أيدي أصحاب القلوب الورعة الطيبة» ...؟
96 «ألم نقل أن تعطيل القوانين الطبيعية بالكرامات عقبة بالغة الخطورة في طريقة تقدمنا، وأننا نحس بميل دفين إلى الإيمان بها؟ وأن اللاعقلانية في جماهيرنا مغروزة في طبائعها كألوان جلودها، فجماهيرنا دراويش بالوراثة، ولا عجب أن تروج فيهم الخرافات والكرامات والخوارق.»
صفحة غير معروفة