وهو ينبهنا إلى أن الثنائية التي يقترحها عن ثنائية أفلاطون التي بلغت حدا من التجريد ألغت معه وجود الأفراد الجزئية، أو على حد تعبير هيجل أن أفلاطون سدد طعنة قاتلة للشخصية الحرة اللامتناهية.
78
بصفة خاصة أفراد البشر، فليس للفرد الإنساني الواحد من حقيقة عنده إلا بمقدار ما يشارك في الإنسانية بمعناها المجرد. وهذا الإلغاء لحقيقة الأفراد لا يتفق مع عقيدتنا التي تلقي على أفراد الناس تبعات خلقية عما يعملون أفرادا، لا أنواعا ولا أجناسا ولا جماعات، وهناك كثير من الآيات القرآنية التي تجعل الإنسان الفرد مسئولا عن معتقداته: فالإيمان فردي، والمسئولية فردية
ولا تزر وازرة وزر أخرى [النجم: 38، الزمر: 7، فاطر: 18، الإسراء: 15 ... إلخ]، ويستخف بالذين يقولون
إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون [الزخرف: 23].
79
وذلك يعني اعترافنا الصريح بالوجود الحقيقي لهؤلاء الأفراد، في حياتهم الدنيا، وفي حياتهم الأخرى على حد سواء.
النظرة الثنائية التي تناسبنا هي، إذن، نظرة متميزة وفريدة، تجعل الكائن الحي الواحد المطلق في جهة، وتجعل الأفراد الجزئية في جهة أخرى، ثم تقسم عالم الأفراد هذا إلى كثرة من عناصر، بالنسبة لأفراد الناس، على الأقل، لأنها نظرة تأبى أن ينطمس الفرد الإنساني الحي المسئول في عجينة واحدة مع سائر مفردات العالم الطبيعي. فكأنما هي نظرة تجمع بين الثنائية والكثرة: ثنائية بالنسبة إلى الله الخالق والكون المخلوق، والكثرة بالنسبة إلى أفراد الناس الداخلين في هذا الكون المخلوق، تتضمن نوعين من التفرقة والتمييز، أحدهما تفرقة تميز الخالق، عن مخلوقاته بشرا، كانت تلك المخلوقات أم غير بشر: ثم تفرقة أخرى تميز، في عالم المخلوقات، بين البشر وسائر الكائنات ؛ وذلك لتجعل الإنسان، دون سائر الكائنات، ضربا من الإرادة الحرة المسئولة التي لا تخضع لقوانين الطبيعة كل الخضوع، لكنها في مقابل هذه الحرية، كان عليها أن تحمل عبء الأمانة، أمانة الحرية في شجاعة وإقدام، ويترتب على هذه النظرة الثنائية أربع نتائج على النحو التالي: (1)
أننا لا نطمئن بالا حين يقال عن الإنسان إنه ظاهرة تخضع كلها للقوانين العلمية، ونحرص على أن نبقي جانبا منه يستعصي على ذلك التقنين لأنه جانب فريد خلاق، مسئول عن خلقه وإرادته.
80 (2)
صفحة غير معروفة