وفضلا عن ذلك فإن سيطرة الماضي على الحاضر قريبة الشبه، مما أطلق عليه فرانسيس بيكون «أوهام المسرح»، وصور فيها ما للموتى من تأثير قوي في نفوس الأحياء، بما لهم من شهرة واسعة تملأ النفوس بالرهبة؛ مما يحول دون تقدم الفكر أو تبديل أوضاع الحياة، لا سيما إذا توهمنا أن كل ما هو قديم «معصوم من الخطأ»، فعندئذ تنسدل الحجب الكثيفة بين الإنسان وبين ما قد جاءت به الأيام من تطورات العلم والمعرفة، وماذا يضيف الأحياء إلى كتب التراث التي علتها مسحة من قداسة سوى شروح واجترار؟ ... وهكذا نكسو هذه الكتب بالجلال والرهبة، بحكم أنها تراث هبط على الناس من أسلافهم الميامين: «ولم يكن على المفكر، عندئذ، إلا أن ينكب على تلك الصحف انكبابا حتى يحللها لفظا لفظا ...»
48
وهي في معظمها لا تضيف في النهاية حرفا واحدا جديدا، بل تكتفي بالشرح، فهي، كما قلنا، شروح ثم شروح على الشروح، وتعليق، وتعليق على التعليق: «ولقد عني القوم، وما نزال في أثرهم نعنى، بعمليتي التلقن و«التلقين»؛ لأنها هي عندنا سلف وخلف على حد سواء، التعلم والتعليم ...»
49
فالعلم كله عندنا «يلقن» للمتعلم، فإذا نبغ هذا المتعلم ليصبح، مثلا، أستاذا بإحدى الجامعات «أذنوا له بالتلقين»، على نحو ما كانوا يفعلون مع مشايخ المساجد في العصور الوسطى؛ فالحفظ والتلقين الذي لا يزال يسيطر على مناهج التعليم عندنا حتى الآن، أثر من سيطرة مناهج الماضي وطرقه على الحاضر.
ثالثا: تعطيل القوانين الطبيعية بالكرامات
ثالث العوامل المعطلة لتقدمنا، والمقيدة لعقولنا، والمكبلة لأرجلنا، هو الميل الشديد الذي نحسه نحو أن تكون قوانين الطبيعة في أيدي نفر من «الصالحين»، الذين ينصرف «صلاحهم» إلى تعطيل أي قانون من قوانين الطبيعة حسب مشيئتهم. والخطير في الأمر أن هذا الاعتقاد لا يقتصر على سواد العامة، بل ينصرف إلى العلماء أنفسهم، علماء الكيمياء، والفزياء، والنبات، وطبقات الأرض ... إلخ في قلب جامعاتنا «فأسلافنا السذاج إبان عصور الضعف، وأقراننا المعاصرون في عصر العلوم، كلاهما سواء في قبول ما يحكى لهم من أن من ذوي النوايا الطيبة، والقلوب المؤمنة، من يطير في الهواء بلا أجنحة، ومن يسير على الماء بلا حوامل. كلاهما سواء في قبول تصديق ما يحكى لهم من قدرة أصحاب الكرامات، على أن يغرفوا من وعاء صغيرة على النار طعاما، يكفي ألفا من عباد الله الجائعين، وأن تخرج لهم الطيور الخضر من العدم؛ لتظلل رءوسهم إذا اشتد بهم الهجير ... كلاهما سواء في تصديق ما يحكى لهم من القوة السحرية، لكلمات تكتب أو تقال فإذا العليل صحيحا معافى، وإذا المهزوم غالبا منتصرا ... وإذا الرزق كثير والخير وفير بغير عناء العمل ...»
50
ولا بأس هنا أن نورد اعتراضا للزميل د. حسن حنفي، على النظر إلى هذا العمل على أنه معوق للانطلاق، يقول: «إن تعطيل القوانين عن طريق الكرامات صحيح عند فريق خاصة الأشاعرة، لكنه غير صحيح عند فريق آخر وهم المعتزلة خاصة أصحاب الطبائع، وعند ابن رشد ... إلخ، فلماذا الانتقاء حتى نبدو غير علميين، لصالح التراث الغربي العلمي الذي يربط بين الأسباب والمسببات ...؟»
51
صفحة غير معروفة