إذا تركت أقلامك وكتبك مبعثرة في أرض غرفتك، ثم عدت بعد حين فوجدتها صعدت إلى ظهر المكتب منظمة، أتقول إن قانون الجاذبية قد انقلب رأسا على عقب؛ لأن الكتب والأقلام قد صعدت إلى أعلى بدل أن تستقر على الأرض منجذبة إليها ... «أم أن نجزم في هذه الحالة أن شخصا بشريا قد تدخل في الأمر بإرادته، وحال بين قانون الجاذبية وبين تنفيذه حينا، فأمكن للكتب بذلك أن تفلت من يده، ولكن القانون لا يزال قائما لم يخدش ذلك من قوته وشموله؟! ... فلا شك أن الإرادة البشرية تستطيع أن تتوسط بين القانون وبين تطبيقه فتعطله دون أن تبطله، أفلا نقول إن لله إرادة حرة كهذه التي للإنسان، يستطيع بها أن يعطل قانون الطبيعة حينا قد يقصر أو يطول، لكنه يظل قائما معمولا به لا يصيبه عطب ولا خسارة؟!»
ثالثا:
لقد وضعت كتابا بالأمس على مقعد إلى جانبي، فجاء الكلب يتحسس ويتجسس ويشم الكتاب، وأظنه قد حسبه قطعة من الجماد لا خير فيها، فترك الكلب الكتاب وانصرف، فإذا افترضنا أن التفاهم مع الكلب ممكن ، ثم جئت تقسم له أن في الكتاب ما ليس يدرك بالشم واللمس، وأن فيه معنى إذا كان لا يدركه هو فليس عجزه دليلا على عدم وجوده نفر وسخر، وأكد لك أن حواسه مقياس للحقيقة لا تخطئ، وإني لأحسب الكون كتابا مفتوحا فيه من المعاني السامية، ما يمكن فهمه وإدراكه لذوي البصيرة السليمة، فهناك طائفة من الناس تمد أيديها وأنوفها إلى جانب الطبيعة، تتحسسها ثم تجزم في يقين لا يعرف الشك ولا التردد، أن هذه الطبيعة جماد في جماد، يسيره هذا وهذا من القوانين في طريق مرسومة معلومة لن تشذ فيها خارقة ولا معجزة ... وأعجب العجب أن تكون هذه الطريقة الكلبية علما، وأن يكون كل ما عداها تخريفا وجهلا ...!
رابعا:
كيف جاز لنا أن نقطع أن ليس في الكون من الحقائق ما تعجز عقولنا وحواسنا عن إدراكه؟ ولم لا يكون في هذا الكون الفسيح من هو أكبر منا عقلا، وأحد ذكاء، فيستطيع أن يقرأ في كتاب الكون ما لا نستطيعه؟ ترى لو أتانا الله حاسة سادسة وسابعة وثامنة، فماذا عسانا نعرف بهذه الحواس الزائدة، أم تظل أبوابا مغلقة لأن العلم قد نفذ؟!
خامسا:
وهو يهاجم في هذا المقال الماديين من أصحاب النظرة الضيقة العتيقة، الذين يرفضون التسليم بأن الكون ألوفا وألوفا من الظواهر التي يقف أمامها العلم مكتوف الأيدي، ولا يمكن فهمها إلا أن تكون «خوارق» فوق العلم وقوانينه.
والواقع أن الماديين، في رأي مفكرنا، يشهرون سلاح التسويف والوعد بأن العلم سيتمكن في المستقبل مما لم يتمكن منه اليوم، ويمكن استخدامه في كل حي، وليس بيننا وبينهم موعد يبطل بعده التسويف، ولكنها مماطلة متجددة، لا تنقطع ولا تفرغ، فماذا يمنع أن نفترض أن هناك قوى غير مادية تفعل فعلها، وتؤثر في مجرى الطبيعة فتنتج كل هذه الخوارق والمعجزات؟!
سادسا:
الماديون يركبون رءوسهم، ويحاولون أن يحللوا بقوانين العلم كل شيء، فإن عجزت أمهلونا إلى المستقبل القريب، أو البعيد، والعجيب أن لهؤلاء الماديين «شطحات» في التفكير تدعو إلى التأمل، فأنت إذا سألتهم مثلا : كيف نشأت هذه الخلائق؟ أجابوك: تسلسلت نوعا عن نوع وجنسا عن جنس، وأصلها كلها خلية واحدة ... حسن، وكيف نشأت هذه الخلية الواحدة؟! أجابوا: أنها ولدت بطريقة تلقائية آلية من الجماد! فانظر إليهم كيف تجيز لهم عقولهم صدق هذا النبأ؛ مع أنه، على فرض أنه صحيح، فقد حدث في ماض بعيد سحيق ولم يشهده شاهد ولا سجله مسجل، ولكنهم مع ذلك يقبلونه راضين مختارين! ثم إذا عرضنا عليهم خارقة من خوارق الطبيعة؛ مما يقع في مرأى منا ومسمع، أنكروها في حمق مع أنها حاضرة بين أيديهم، وليست بالماضي البعيد، وهي مشاهدة مسجلة فكانت أجدر بالتسليم والقبول من تلك «الخارقة» البعيدة، ونسميها خارقة لأنه ليس من قوانين الطبيعة، فيما نظن، انبعاث الحياة من الجماد، ولكن القوم يختارون من الآراء والعقائد ما يتفق مع مذهبهم.
صفحة غير معروفة