ويتفرع عن الاستخدام الجيد للعقل بعيدا عن أي سلطة نتيجتان هامتان:
الأولى:
الاهتمام بالعلم الطبيعي، والاعتماد عليه وحده في تفسير ظواهر الطبيعة؛ وبالتالي محاربة الخرافة في شتى صورها، ويمكن أن نقول إن هذه النتيجة ليست جديدة تماما، لا سيما إذا عرفنا أن العلم «عقل» في نهاية المطاف.
أما النتيجة الثانية:
فهي سياسية واجتماعية؛ إذ من البديهي أن تؤدي الدعوة السابقة إلى نتائج سياسية واجتماعية كثيرة، وأن يكون من بين هذه النتائج مناهضة الحكم المستبد، ومحاربة الظلم الاجتماعي في شتى صوره لتحقيق العدالة بين الناس، والدعوة إلى المساواة والديمقراطية، والحرية السياسية لا سيما حرية التفكير والتعبير، فليس هناك شيء اهتم به فلاسفة التنوير قدر اهتمامهم بالحرية، وذلك لارتباطها الواضح بالاستخدام العلني للعقل في جميع المجالات!
والحق أن المتتبع للجهد الهائل الذي بذله زكي نجيب محمود لأكثر من ستين عاما يجد هذه الأفكار المحورية للفكر التنويري مبثوثة في جميع كتاباته، بل إنه ليزيد عليها كثرة كثيرة من الأفكار التي وصل إليها من تأملاته الخاصة في مشكلات مجتمعه؛ ومن هنا كان التنوير الذي تشيعه كتابات هذا المفكر الكبير ليس شعاعا واحدا، وإنما هو حزمة من أشعة تتجه نحو كتل الظلام الهائلة، التي رانت على نفوسنا أجيالا طويلة، وهو في ذلك كله «لا يعظ» و«لا يدعو» ولا يكتفي بأن يقول للناس استخدموا عقولكم! وإنما يضرب بمبضع التحليل في أعماق المشكلات الاجتماعية ليخرج الخبء منها وليصل إلى جذورها، بل وبذورها أيضا، ملقيا الضوء الكاشف على ما في حياتنا من جوانب «لاعقلية»، وما في تفكيرنا من أساليب منافية للعلم وحضارة العصر، مؤمنا بأن الفكر ليس ترفا يلهو به أصحابه، وإنما لا بد له أن يرتبط بالمشكلات التي يحياها الناس حياة يكتنفها العناء، فيريدون لها حلا حتى تصفو لهم المشارب، وبمقدار ما تكون للفكرة صلة عضوية وثيقة بإحدى المشكلات تكون فكرة بالمعنى الصحيح.
2
ولنبدأ من البداية لنراه يحدد بوضوح اللبنة الأولى التي يقوم عليها صرح المجتمع الجديد، الذي يريد لنا بناءه؛ ألا وهي «الفردية العاقلة المسئولة»، التي يتفرع عنها كل شيء آخر؛ فالفرد الذي يستخدم عقله بحرية ويكون مسئولا عما يفعل هو الأساس في كل نهضة، فلا أحد يفرض عليه رأيا، ولا هو بدوره يتهرب من مسئولية عمله؛ ومن هنا نرى مفكرنا الكبير يرسم الخط الذي سار فيه تفكيره بكلمات لا لبس فيها ولا غموض ... «الخط الفكري الذي تنطوي عليه كتاباتي على اختلاف موضوعاتها، وعلى طول الأمد الذي امتدت خلاله هو الإيمان بأن الفرد الإنساني مسئول عما يفعل، وأن هذه المسئولية لا تعني شيئا إذا لم يكن العقل وحده هو مدار الحكم في كل المسائل التي تطلب فيها التفرقة بين الصواب والخطأ. أما الموقف الذي تسوده عاطفة فلا خطأ فيه ولا صواب؛ لأن المرجع فيه إلى القلب وما ينبض به ...»
3
وها هنا نراه يلتقي مع المضمون المحوري للفكر التنويري لكنه يضيف إضافة جديدة، وهي التفرقة الواضحة بين المجال الذي يستخدم فيه العقل، والمجال الذي يستخدم فيه الوجدان والخيال سوف نعود إليها بعد قليل، ومرة أخرى نراه يلخص مضمون التنوير كله في عبارة جامعة «... كل دعوة تدعوني إلى أن أترك غيري يفكر لي نيابة عني، وما علي إلا التنفيذ، هي دعوة تدعوني إلى إهدار آدميتي والتفريط في حق نفسي ...»
صفحة غير معروفة