من أمتع المقالات الأدبية التي كتبها أستاذنا الكبير مقالة بعنوان «بيضة الفيل»، يسخر فيها من المناقشات «البيزنطية»، التي تحتد بين بعض الناس في موضوعات في غاية التفاهة من ناحية، ثم هي تخلق مشكلات من عدم من ناحية أخرى، يبدأ المقال على النحو التالي: «قال الشيخ: الفيلة تلد ولا تبيض، والمشكلة المراد حلها هي هذه: لو كانت الفيلة تبيض فماذا يكون لون بيضها؟
124
لاحظ أن أول سطر في المقال يقرر حقيقة علمية واقعة هي «أن الفيلة تلد ولا تبيض»، لكنا اعتدنا أن نخلق مشكلات من عدم: فافرض أنها تبيض فماذا يكون لون بيضتها؟ يستمر المقال فيقول: «في الجواب عن هذا السؤال اختلف العلماء: يقول عمارة بن الحارث بن عمارة: تكون بيضاء، واستدل على صحة قوله بدليل من القياس ودليل من اللغة.
125
أما دليل القياس فهو أن كافة مخلوقات الله التي تبيض بيضها أبيض ، وليس في طبيعة الفيل ما يدل على أنه لو باض أخذت بيضته لونا آخر غير البياض ... أما دليل اللغة فهو أن البيضة مشتقة من البياض، وإذن فالبياض أصل والبيضة فرع منه ... وأخيرا تساءل عمارة: ما حكم الشرع في بيضة الفيل، أيحل أكلها للمسلمين أم يحرم عليهم؟ وهنا أجاب بدقته المعهودة أن بيضة الفيل حلال أكلها بشرط، حرام بشرط ...» على هذا النحو الجميل يصور الأديب مشكلاتنا التافهة التي نخلقها من لا شيء، وهو يخدع القارئ بأن يذكر أسماء العلماء كما لو كانوا من التراث فعلا؛ ليشعر القارئ أن مناقشاتنا لا تزال هي نفسها مناقشات العصور الوسطى، انظر مثلا إلى المقال يستمر جادا مع أنه يسخر سخرة مريرة، «وتصدى معسرة بن المنذر لتفنيد ما قال عمارة بن الحارث في بيضة الفيل من حيث لونها، فقال عن دليل القياس الذي ساقه عمارة ... إنه ليس صحيحا أن كافة الحيوان الذي يبيض لونه أبيض؛ فبيض البط فيه خضرة خفيفة، وبيض الدجاج في بعضه حمرة خفيفة، ومن الطير ما بيضه أرقط، ومنه ما بيضه أزرق ... أما دليل اللغة فهو استنتاج معكوس ومغلوط في آن معا ... إلخ»، وكان من بين تلاميذ ابن الحارث تلميذ نجيب، فتصدى للرد على نقد معسرة، فقال إنه زل زلة ما كان ينبغي أن يقع في مثلها رجل مثله، وهو شيخ المناطقة في زمانه ...» وتستمر المحاورة، وهذا هو «الفورم» أي الشكل الذي اتخذه المقال، بأسلوب ساخر لاذع عن إهدار القدرات العقلية في مناقشات لا معنى لها؛ لأنها تتناول موضوعات نخترعها من ناحية، وهي أتفه من أن تكون موضوعا لحوار من ناحية أخرى. ويختتم المقال بما يريد الكاتب أن يفتح عين القارئ عليه، وهو بعدنا من مشكلات العصر، فيقول إنه حدثت رجفة عنيفة «وزلزلت الأرض زلزالها، وقال الشيخ ما لها؟ فقيل: يا مولانا قنبلة ذرية، في لمحة تقضي على الأصل والذرية، فعجب الشيخ أن كان في الدنيا علم غير علمه!»
126 (ب) جنة العبيط
وفي استطاعتك أن تقول الشيء نفسه عن مقالة «جنة العبيط»، التي تعالج فكر العصر الوسط الفج، الذي ما زلنا نعيش فيه فضلا عن عادته الاجتماعية البالية، ويبدأ المقال: «أما العبيط فهو أنا، وأما جنتي فهي أحلام نسجتها على مر الأعوام عريشة ظليلة، تهب فيها النسائم عليلة بليلة، فإذا ما خطوت عنها خطوة إلى يمين أو شمال أو أمام أو وراء، ولفحتني الشمس بوقدتها الكاوية، عدت إلى جنتي أنعم فيها بعزلتي، كأنما أنا الصقر الهرم تغفو عيناه، فيتوهم أن بغاث الطير تخشاه، ويفتح عينيه، فإذا بغاث الطير تفري جناحيه، ويعود فيغفو لينعم في غفوته بحلاوة غفلته ... إلخ.» لاحظ السجع الواضح ذا الدلالة. (ج) نفوس فقيرة
من أمتع المقالات التي تهزك هزا عنيفا مقاله عن «النفوس الفقيرة»، الذي يبدأ تصوير الأنواع المختلفة للفقر:
الفقر صوره شتى ... منها اليباب القفر الذي تلتهب رماله بوقدة الشمس، حتى لتنقلب حبات الرمل على سطحه جمرات من نار ...
ومنها الصخر الأجرد الذي صلد عوده وتصلبت أطرافه، فلا يتفجر جوفه عن قطرة أو نبته ...
صفحة غير معروفة