Form »؛ أي شكل أو صورة معينة، يضع فيها الأديب فكرته؛ فهو لا يسرد تحليلاته كما يفعل رجل المنطق؛ أعني أن الانتقال لا يكون بحيث تأتي الفكرة الثانية عن طريق الاستدلال من الفكرة الأولى حتى نصل إلى النتائج، بل الأديب محكوم بتداعي المعاني بحيث لا يكون لها ضابط من نظام، هي قطعة لا تجري على نسق معلوم، فقد تجيء على شكل «حلم»، يرى فيه الأديب نفسه مرة في القاهرة وأخرى في أوروبا، بل وفي أماكن لا رابط بينها سوى ما يريد أن يثيره في نفس قارئه من وجدان. (2)
الشرط الثاني أن يصدر المقال عن قلق يحسه الأديب مما يحيط به من صور الحياة وأوضاع المجتمع، على شرط أن يجيء السخط في نغمة هادئة خفيفة هي أقرب إلى الأنين الخافت منها إلى العويل والصراخ «فإن التمست في مقالة الأديب نقمة على وضع من أوضاع الناس فلم تجدها، وإن افتقدت في مقال الأديب هذا اللون من الفكاهة الحلوة المستساغة فلم تصبه، فاعلم أن المقالة ليست من الأدب الرفيع، في كثير ولا قليل، مهما تكن بارعة الأسلوب رائعة الفكرة.»
121 (3)
الشرط الثالث أن تعبر المقالة الأدبية عن ضرب من السمر بين الكاتب والقارئ؛ فهو صديق يحادث صديقه عن حادثة شهدها في الترام؛ ملاحظة هنا أو هناك مما يقع عليه البصر، بحيث لا يكون القارئ أمام «معلم» يعنفه، ولا أمام واعظ يخطب فوق منبره، يميل صلفا وتيها بورعه وتقواه، ولا مؤدب يصطنع الوقار حين يصب في أذن سامعه الحكمة صبا ثقيلا؛ ومن هنا فلا بد أن يشعر القارئ، وهو يقرأ المقالة الأدبية أنه ضيف استقبله الكاتب في حديقته ليمتعه بحلو الحديث؛ ولهذا لا بد أن يكون أسلوبها عذبا سلسا دفاقا بلا زخرفة!
أما من حيث المضمون فإن كاتب المقالة الأدبية على أصح صورها، هو الذي تكفيه ظاهرة ضئيلة مما يعج به العالم من حوله، فيأخذها نقطة ابتداء، ثم يسلم نفسه إلى أحلام يأخذ بعضها برقاب بعض، دون أن يكون له أثر فوري في استدعائها عن عمد وقصد وتدبير؛ ومن هنا فلا يجوز أن تبحث المقالة الأدبية في موضوع مجرد، كأن تبحث فضل النظام الديمقراطي أو معنى الجمال أو قاعدة في علم النفس أو أصول التربية. بل لا بد أن تعبر عن تجربة معينة مست نفس الأديب، فأراد أن ينقل الأثر إلى نفوس قرائه؛ أما الموضوعات الاقتصادية أو السياسية أو العقلية، فلها أنواع أخرى من المقالات الخاصة بالدراسات الأكاديمية، تقربها من البحوث بقدر ما تبعدها عن «المقال الأدبي»، الذي يميل فيه الأديب الحق إلى أن يخدع القارئ كي يمعن في القراءة، وكأنه هو يسري عن نفسه المكروبة عناء اليوم، وهو كلما قرأ تسلل إلى نفسه ما شاع في سطور المقالة من نكتة خفيفة وسخرية هادئة، وقد يعجب القارئ: كيف يمكن أن يكون في النفوس البشرية مثل هذه اللفتات واللمحات؟ ولكنه لن يلبث حتى يتبين أن هذا الذي عجب منه إنما هو جزء من نفسه أو نفوس أصدقائه، فيضجره أن يكون على هذا النحو السخيف، فيكون هذا الضجر منه أول خطوات الإصلاح المنشود.
122
رابعا: نماذج من أدب المقال
علينا الآن أن نستعرض بعضا من المقالات الأدبية؛ لنرى كيف كان يطبق الشروط السابقة، ويتقيد بها فيما كتب من مقالات أدبية ، كان يطلق عليها هو نفسه اسم القنابل المتفجرة؛ لأنه أراد لها أن تنسف جزءا من ألف جزء من الإطار الثقافي العتيق الذي كنا وما نزال نعيش فيه يقول: «صورت في إطار أدبي، في أوائل الخمسينيات ما انطبعت به نفسي حينئذ من فوضى القيم في حياتنا، بحيث انقلبت أعلاها على أسفلها، فيعاقب المحسن ويكافأ المسيء، وربما أكون قد أسرفت في القسوة، لكنها قسوة المواطن يحب وطنه، ويثيره أن يراه قد تنكب عن جادة الطريق ...»
123
سوف أسوق أمثلة قليلة «للمقالة الأدبية»، وإن كان علينا أن نضع في ذهننا ملاحظتين: الأولى أن المقالات التي كتبها زكي نجيب محمود، وهي تبلغ المئات ليست كلها مقالات أدبية، تنطبق عليها الشروط السابقة، بل فيها المقالات التي تعالج «أفكارا» أو «مفاهيم اجتماعية»، وتقوم بتحليلها تحليلا عقليا مستخدما الفاعلية الفلسفية، على نحو ما أشرنا من قبل. والملاحظة الثانية أن المقالة الأدبية يصعب تلخيصها؛ لأن المهم في القطعة الأدبية إنما هو الأثر الذي يخرج به القارئ؛ ولهذا لا بد أن يقرأها في مكانها وكما عرضها صاحبها، لكننا سوف نسوق نماذج قليلة على النحو التالي: (أ) بيضة الفيل
صفحة غير معروفة