ويفند مفكرنا «عمومية» الرأي العام بقوله: «إن وجود فرد واحد لا يرى الرأي الذي هو عام، ينفي عن الرأي العام عموميته ، وحتى لو كان من حق الرأي العام أن يضغط بقوته العددية في اتخاذ القرارات، وفي انسحاب النواب الذين ينوبون عنه، وهو حق للناس لا شك فيه، فليس له الحق نفسه في منع الآراء والأفكار التي لا تعجب جمهوره.»
99
إن الذي يربط أفراد الجمهور بعضهم ببعض في تكوين رأي عام، يغلب أن يكون هو «الانفعال» لا «العقل»؛ فالانفعال ينتقل من فرد إلى فرد بالعدوى، أما الفكرة العقلية فينقلها صاحبها إلى متلقيها بالإقناع، والإقناع بحكم طبيعته عملية فردية وليست عملية جماعية.
100 (ج) العلمانية
من المفاهيم التي شاعت في مجتمعنا أيضا، وتعرض لها مفكرنا بالتحليل العقلي، مفهوم «العلمانية». وهو يرى أنه ينطق بفتح العين لا كسرها، وأنه في هذا التحريف في النطق يكمن معظم الخلط؛ ولهذا يكتب مقالا عنوانه، «عين، فتحة، عا»، ليشد انتباه القارئ إلى أن الكلمة لا تنسب إلى «العلم» بل إلى «العالم»، وأنها جاءت بهذا المعنى من اللغات الأوروبية، بعد أن خرجت من العصور الوسطى، حيث أقام رجال الدين من حياة الرهبان مثلا أعلى؛ فالزهد في الدنيا، لا الإقبال عليها، هو ما ينبغي للإنسان الكامل أن يهتدي به؛ وذلك لأن عقيدتهم تسمح لهم بأن يفصلوا بين الأرض والسماء، بين الدنيا والآخرة، في الأولى تكون السيادة لقيصر وفي الثانية يكون الأمر لله، فما لنا نحن بهذا كله وليس في عقيدتنا ما يدعونا إلى إهمال هذا العالم ...؟! بل العكس هو الصحيح، فقد أمرنا بأن نحتفل بالدنيا وكأننا نعيش فيها أبدا، وأن نعمل للآخرة كأننا منتقلون إليها غدا!» تلك هي العلمانية التي لم تكن تحتاج منا إلا أن نفتح لها العين، فإذا هي جزء من حياتنا، ومقوم جوهري من مقومات تاريخنا في فترات عزه ومجده، فمن الذي يحاربه أولئك الذين ركبوا جيادهم، وحملوا قسيهم ورماحهم ليقاتلوا «العلمانية» حتى يقتلوها ...؟!»
101
لكن إذا كانت مقاومة من يقاوم العلمانية بفتح عينها مصيبة أعظم فيمن يقاومونها بكسر العين؛ لأن عينها إذا كسرت كانت الإشارة عندئذ إلى العلم وإلى الحياة التي تقيمها العلوم: «فهل يرضيكم، أيها السادة، أن نزرع أرضنا بغير علم، وأن ندير مصانعنا بغير علم، وأن ننشئ مدارسنا وجامعاتنا بغير العلم، وأن نعد عدتنا العسكرية بغير العلم؟! هل يرضيكم أيها السادة أن نمحو أسماء العلماء من تاريخنا، فلا يكون فيهم بعد اليوم جابر بن حيان ولا الخوارزمي ولا ابن الهيثم ولا ابن النفيس؟! وإذا رأيتم في هؤلاء موضع فخر لنا، فلماذا لا تريدون لأحفادهم المعاصرين أن يعيدون سيرتهم الأولى؟!»
102
ويمكن أن نسوق، فضلا عن هذه المجموعات التي ذكرناها، أمثلة تفوق الحصر لأفكار ومفاهيم قام مفكرنا الكبير بوضعها على مائدة التشريح العقلي، منها فكرة «التراث»
103
صفحة غير معروفة