قام رفاعة بهذه الجهود الشاقة خير قيام، وبذل لها كل وقته وتفكيره. وكان يدفعه إلى الإخلاص في عمله والتفاني في أداء واجبه وازع قوي من ضميره الحي، وحب لوطنه وبنيه، وتشجيع مستمر من «ولي النعم» محمد علي باشا وأولاده؛ ففي سنة 1260ه أنعم على رفاعة برتبة القائمقام، وفي 14 ذي الحجة 1263ه أنعم عليه برتبة أمير آلاي لمناسبة انتهائه من ترجمة مجلد آخر من جغرافية «ملطبرون». وبهذا الإنعام الأخير أصبح يدعى رفاعة بك، بعد أن كان يدعى فيما مضى بالشيخ رفاعة، أو مسيو رفاعة (وذلك في باريس)، أو رفاعة أفندي.
وقد أنعم عليه محمد علي بمائتين وخمسين فدانا، وأقطعه إبراهيم باشا حديقة نادرة المثال في الخانقاه تبلغ ستة وثلاثين فدانا، وأنعم عليه سعيد باشا بمائتي فدان، وإسماعيل باشا بمائتين وخمسين فدانا.
في السودان
في 13 ذي الحجة سنة 1264ه/10 نوفمبر 1848م توفي إبراهيم باشا. وفي 27 من نفس الشهر تولى عرش مصر عباس باشا الأول، وكان محمد علي لا يزال حيا يعاني من مرضه الأخير، فلم يجرؤ عباس على تغيير ما يريد تغييره من الأوضاع القديمة. وفي 12 رمضان سنة 1265ه/2 أغسطس 1849م انتقل محمد علي إلى الرفيق الأعلى، فاستقل عباس بالأمر.
ولم يكن عباس كجده وعمه، بل لعله كان على النقيض منهما؛ ولهذا يكاد يجمع مؤرخو عصره على وصفه بالجمود والرجعية. فالأستاذ عبد الرحمن الرافعي بك يرى أنه كان «قبل ولايته الحكم وبعد أن تولاه خلوا من المزايا والصفات التي تجعل منه ملكا عظيما يضطلع بأعباء الحكم ويسلك بالبلاد سبيل التقدم والنهضة ... وبالجملة فلم تكن له ميزة تلفت النظر سوى أنه حفيد رجل عظيم أسس ملكا كبيرا، فصار إليه هذا الملك دون أن تئول إليه مواهب مؤسسه، فكان شأنه شأن الوارث لتركة ضخمة جمعها مورثه بكفاءته وحسن تدبيره وتركها لمن هو خلو من المواهب والمزايا ...»
ويرى المؤرخ الإيطالي «ساماركو»: «أن أظهر ما تتسم به حكومة عباس عداؤه الوحشي للحضارة الغربية، وكرهه العنيف لجميع الأعمال التي كونت مجد جده، والتي بذل هو كل الجهد في تحطيمها شيئا فشيئا ...»
ويرى الدكتور عزت عبد الكريم أن عباسا «أظهر منذ تولى الحكم في مصر أنه لن يكون الحاكم الذي يتابع سياسة جده ويحنو على مؤسساته ويؤيد نظمه.» وأن «سيرته في الإصلاح الداخلي كانت فشلا متصلا. ولا يشفع له في ذلك أن حكمه كان قصيدا ...» والسبب الأساسي لهذا كله في نظره يرجع إلى أن «سياسة عباس قامت على تسفيه الجهود التي بذلها محمد علي وإبراهيم في ميدان الإصلاح الداخلي، والسياسة التي اعتقد أنهما كانا يتمسكان بها ويدعوان إليها في تقريبه علاقات مصر بالدولة العثمانية والدول الأوروبية ...»
فإذا فهمنا سياسة عباس الأول على هذا الأساس، لم يكن من العسير إذن أن نفهم لم أقفلت معظم المدارس الخصوصية في أول عهده. وكانت مدرسة الألسن أول مدرسة ألغيت؛ وذلك أن مؤسسها وناظرها كانا من المقربين لمحمد علي وإبراهيم الحائزين لثقتهما؛ لهذا نشأ بين عباس ورفاعة نوع من الكراهية وسوء التفاهم.
لم يوضح رفاعة نفسه ولم يوضح المؤرخون المعاصرون أسبابه الحقيقية، مما دعا المؤرخين المحدثين إلى أن يذهبوا في تفسيره مذاهب شتى؛ فالأستاذ الرافعي بك يرى أن لكتاب رفاعة «تخليص الإبريز» «سببا يتصل بنفيه؛ إذ لا يخفى أنه طبع للمرة الثانية سنة 1265ه، أي في أوائل عهد عباس باشا. والكتاب ... يحوي آراء ومبادئ لا يرغب فيها الحاكم المستبد. وعباس باشا الأول كان في طبعه مستبدا غشوما، فلا بد أن الوشاة قد لفتوا نظره إلى ما في كتاب رفاعة بك مما لا يروق عباس، فرأى أن يبعده إلى الخرطوم ليكون السودان منفى له. ولا غرابة في ذلك، فلو أن هذا الكتاب ظهر في تركيا على عهد السلطان عبد الحميد لكان من المحقق أن يكون سببا في هلاك صاحبه، فمن الجائز أن يكون عباس باشا قد رأى نفي رفاعة وأمثال رفاعة إلى السودان ليبعدهم ويبعد أفكارهم وثقافتهم عن مصر، واتخذ لنفيهم صورة ظاهرة وهي إنشاء مدرسة بالخرطوم ...»
أما الدكتور عزت عبد الكريم فيرى أن هناك احتمالين لإبعاد رفاعة إلى السودان، أولهما: سعي علي مبارك «الذي عاد من أوروبا مليئا بالأطماع والذي كان يحقد على رفاعة ما أصاب من مكانة. وقد قرب عباس إليه علي مبارك وأبعد رفاعة إلى السودان، فلما خلفه سعيد قرب إليه رفاعة وأبعد علي مبارك إلى القرم. والثاني: ما يحتمل أن يكون رفاعة قد لقيه من معارضة بعض المشايخ المتعصبين الذين ربما عدوه متطفلا على ميدانهم في دراسة الشريعة والفقه ...»
صفحة غير معروفة