شكلت السنوات من 1957 إلى 1965 فترة انتقالية في حياة ريتشارد فاينمان. على المستوى الشخصي، تحول من زير نساء إلى رب أسرة، ومن متجول وحيد إلى زوج مستأنس وأب (مع أنه لم يتوقف قط عن السعي وراء المغامرات، لكنها صارت الآن مع أسرته). وعلى المستوى المهني، تحول من شخص يعمل بصورة ملحة - من أجل تحقيق متعة فورية خاصة له في الأساس - عند قمة علم الفيزياء إلى شخص بدأ يعيد للعالم الحكمة التي اكتسبها من سنوات تفكيره في أمور الطبيعة (مع أنه على الأرجح لم يزعم مطلقا أن ما لديه يعد حكمة).
في هذه الأثناء كان قد صار واحدا من أشهر شارحي ومدرسي الفيزياء وأكثرهم تألقا، وإلى حد ما، ضمير علم الفيزياء. لقد ظل واعيا، وحريصا على التأكيد في كل مناسبة على ضرورة أن يميز زملاؤه وعامة الناس بين العلم الحقيقي وبين ما لا يعد علما، وأن يدركوا الإثارة التي يمكن أن يستمدوها من دراسة العلم، وأن يميزوا الهراء الذي يمكن أن ينتج عن المبالغة في تفسير إشارات العلم، أو عن المزاعم التي لا أساس لها، أو ببساطة من جراء فقد الاتصال به تماما. كان لديه شعور قوي بأن العلم يحتاج إلى أمانة فكرية معينة، وأن العالم سيصير مكانا أفضل مما هو عليه لو شاع هذا المعتقد أكثر ورسخ في الأذهان وطبق عمليا.
ليس معنى هذا أن فاينمان تغير على المستوى الشخصي تغيرا جذريا من أي نوع. فقد ظل شغوفا بشدة بجميع ميادين الفيزياء. وكما ذكرت منذ قليل، فقد واصل بحثه الدءوب عن المغامرات، ولكن مغامرات من نوع مختلف. فعلاوة على رحلاته العجيبة بصحبة زوجته، شرع في نشاطين يمكن أن نطلق عليهما اسم «التسامي»؛ أحدهما كان يعكف فيه على إجراء عملياته الحسابية كل يوم تقريبا عند وصلة شريط باسادينا، حيث كان يستطيع مشاهدة الفتيات كلما سارت حساباته على نحو خاطئ، وتعلق الآخر بالجمع بين اهتمامه الدائم بالرسم واهتمامه الدائم بالنساء العاريات اللاتي يستطيع رسمهن. وقد صار بالفعل بارعا إلى حد كبير في هذا، وهو ما يبدو متناقضا إذ إنه حين كان شابا كان يسخر من الموسيقى والرسم، إلا أنه وهو في منتصف العمر صار شغوفا بالاثنين. والأمر الذي لا يقل تناقضا عن ذلك افتتانه الحديث في الستينيات بزيارة مختلف منشآت ما يطلق عليه «العصر الحديث» مثل «إسالن»، حيث كان يستمتع بالمناظر وبالفرصة السانحة له كي يزيل عن المشاركين معتقداتهم في الروايات الخيالية أو «الخرافات»، حسبما كان يسميها. وربما فاقت جاذبية حمامات العراة، وسحر التعامل مع نوعية مختلفة من البشر، عدم احتماله لأولئك الذين كانوا يسيئون استغلال مفاهيم علم الفيزياء، مثل ميكانيكا الكم، لتبرير تفكيرهم بطريقة «كل شيء جائز».
وفي حياته المهنية، مع تزايد شهرته، تحول فاينمان بشراسة نحو حماية وقته. كان يرغب في أن يضمن ألا يتحول إلى «رجل مهم» بالمفهوم التقليدي، مثقلا بالمسئوليات الإدارية، التي كان يتهرب منها متى أمكنه ذلك. بل إنه راهن فيكتور فايسكوبف، عندما زار المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية «سيرن» في جنيف عقب حصوله على جائزة نوبل، على أنه في خلال عشر سنوات لن يتولى «منصبا مهما»؛ أي منصب «بطبيعته يرغم من يتولاه على إصدار تعليمات لأشخاص آخرين كي ينفذوا إجراءات معينة، على الرغم من أن متوليه لا يفهم أي شيء عما يلقيه من تعليمات للأشخاص السابق ذكرهم». ومن نافلة القول إنه فاز بالرهان.
شجعته شهرته المتزايدة على أن يسلك اتجاها آخر آتى ثماره في الماضي، مع أنه على المدى البعيد كلفه ما كان يمكن أن يمثل له نجاحا أكبر بكثير في مواصلة ريادة الاكتشافات الحديثة في الفيزياء. صار أكثر اقتناعا بأنه لكي يكون رائدا متألقا في مسارات جديدة، فإنه بحاجة إلى تجاهل الكثير مما كان يفعله الآخرون، وبالتحديد عدم التركيز على «المشكلات الحالية».
إن الفيزياء، على أي حال، نشاط اجتماعي إنساني، وفي أي وقت من الزمن، يكون هناك في أغلب الأحوال إجماع على المشكلات «الساخنة»، وعلى الاتجاهات التي يرجح أن تقودنا نحو رؤى مستنيرة جديدة. ويعتبر البعض هذا الهوس بالبحث عن الجديد مشكلة، ومثال ذلك، افتتان قسم كبير من المجتمع على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية بنظرية الأوتار، وهي مجموعة أفكار خلابة من الناحية الرياضية لا يفوقها في افتقارها للاتصال المباشر بالعالم العملي سوى الالتباس المتزايد بشأن ما يمكن أن تتنبأ به عن الطبيعة. (لكن مع هذا، فإن رياضيات نظرية الأوتار أدت إلى ظهور عدد من الأفكار المستنيرة المشوقة حول كيفية إجراء الحسابات وتفسير نتائج الفيزياء الأكثر تقليدية.)
من المحتم أن مجموعات الناس ذوي الاهتمامات المتشابهة تثيرهم عادة أمور متشابهة. وفي نهاية المطاف، لا تعد الموضة في العلوم أمرا مهما، وذلك يرجع أولا إلى أن جميع الأنشطة تكشف حتما عن العيوب مثلما تكشف عن الروائع مبهرة الجمال بأسرع ما يمكن، وثانيا لأنه بمجرد أن تشير الطبيعة نحو الاتجاه الصحيح، فإن العلماء يقفزون من السفينة الغارقة أسرع مما تقفز الفئران من سفينة في قلب عاصفة.
وحتى يكون العلم صحيحا وسليما، من المهم ألا يسير «كل» العلماء في نفس الاتجاه، وكانت هذه هي النقطة التي ركز عليها فاينمان، حتى وصلت إلى ما يشبه الهاجس له. لقد بلغت به الموهبة والتنوع أنه كان قادرا، عند الضرورة، على إعادة ابتكار الغالبية العظمى من الابتكارات وكان عادة ما يطورها ويدخل عليها التحسينات من خلال ذلك. ولكن على نفس النهج، فإن إعادة اختراع العجلة يستغرق وقتا ونادرا ما يكون جديرا بالجهد المبذول.
لم يكن الأمر أنه قادر على أن يسلك هذا الطريق فحسب، وإنما كثيرا ما شعر أن من واجبه أن يفعل ذلك. كانت تلك نقطة قوة ونقطة ضعف في الوقت نفسه. لم يكن حقا يثق بأي فكرة ما لم يبحثها بنفسه من مبادئها الأولى بأساليبه الخاصة. وكان معنى ذلك أنه كان يفهم ما لا يعد ولا يحصى من المفاهيم بصورة أعمق وأدق من معظم الآخرين، وأنه كان يمتلك جرابا رائعا من الحيل يخرج منه الحلول السحرية لكثير من المشكلات المتنوعة. غير أنه كان يعني أيضا أنه لم يكن على علم بالتطورات العبقرية التي توصل إليها آخرون والتي كان من الممكن أن تضيء الطريق أمام أبحاثه بطرق جديدة، فتوصله لأبعد مما كان يستطيع الوصول إليه وحده.
عبر سيدني كولمان - وهو فيزيائي لامع من هارفارد ويحظى باحترام ومكانة رفيعة وكان من تلاميذ جيلمان في كالتك في الخمسينيات وتعامل من قبل مع فاينمان طيلة مساره المهني والعلمي - عن ذلك بقوله: «إنني على يقين من أن ديك اعتبر هذا ميزة، وشيئا نبيلا. وأنا لا أعتقد أنه كذلك. أعتقد أنه خداع للذات. فالآخرون ليسوا جميعا مجموعة من الدمى التي لا قيمة لها ... إنني أعرف أناسا هم في الحقيقة شديدو الأصالة وليسوا معاتيه غير أنهم لم يحققوا شيئا يوازي ما كان يمكنهم تحقيقه في الفيزياء لأنهم عند نقطة ما كانوا أكثر اهتماما بالأصالة من اهتمامهم بأن يكونوا على صواب. وقد أمكن لديك تحقيق الكثير لأنه كان بارع الذكاء بحق.»
صفحة غير معروفة